الثلاثاء، 27 فبراير 2018

الحاج مراد - تولستوي


تدور أحداث هذه الرواية التي كتبها تولستوي ما بين سني (١٨٩٦-١٩٠٤) والتي نُشرت بعد وفاته سنة ١٩١٢م، في القوقاز وداغستان، حيث كانت الحرب ما بين القوقازين بقيادة الإمام شامل، والاحتلال الروسي الذي يحاول بسط نفوذه وسيطرته على هذه المنطقة منذ القرن الثامن عشر.


تتمحور الرواية حول شخصية الحاج مراد، الذي كان لديه صراعات مع الإمام الثاني للقوقاز، حمزة بيك، وقد اغتاله الحاج مراد أثناء صلاة الجمعة مع أخيه ومريديه بسبب اتهامه لحمزة بيك بقتل أبناء أخيه الست وزوجة أخيه، ولا توجد مصادر مؤكدة تُؤكد هذه التهمة، وقد اعتمد تولستوي في مصادره على مدونة أحد رجالات الدولة المهمين ووزيرا للحربية فيما بعد، الروسي ياور فورنتسوف، في ذكر أسباب الصراع بين حمزة بيك والحاج مراد. وبكل الأحوال لا يمكن الاعتماد على تقارير عسكرية للمحتل الروسي تشوبها الأكاذيب كما تهكم عليها تولستوي في إحدى فصول الرواية. أما صراعه مع الإمام الثالث للقوقاز "شامل" -المعروف بشجاعته وإقدامه ويعدُّ أحد أهم إن لم يكن أهم القادة الذين تصدوا للاحتلال الروسي لمناطق القوقاز وداغستان والمعروف بصقر الجبال وأسد القفقاس- لأنه اختطف عائلة الحاج مراد، وهذه المعلومة كذلك لا يوجد دليل عليها عدا المصدر الروسي، والذي لا يمكن الأخذ به بصورة مستقلة، نظرًا لسيرة الإمام شامل المعروف عبر القوقاس، والذي استمر لأكثر من عقدين في مقاومة الاحتلال الروسي حتى وقوعه في الأسر

وكما نوّه تولستوي في بداية الرواية على قلة مصادره ولجوئه للخيال حتى يُكمل بعض فصول وأحداث الرواية، فإن الرواية بطابعها التاريخي والوقائع الفعلية التي ذكرت فيها والأسماء الحقيقية للشخصيات الروسية العسكرية أو القوقازية، لا يمكن أن نعدها رواية متخيلة فقط، بل هي رواية تاريخية تنقل وقائع محددة تخص شخصية معروفة ألا وهي الإمام شامل، والحاج مراد، في حين  تشير بعض المصادر إلى أن الحاج مراد كان صاحب عصبة وشارك باغتيال الإمام حمزة بيك وركونه إلى جانب المحتل الروسي، فهو يظهر من وجهة نظر القوقازيين أنه خائن، ويصوّره تولستوي على أنه بطل وأن عائلته التي اختطفها شامل هي السبب في ركونه إلى الجانب الروسي، رغم أنه في آخر المطاف لم يحصل منهم على أي ضمان بإمكانه أن يعتمد عليه في تحرير أسرته المخطوفة كما تنقل الرواية

كثير من جوانب الرواية تلفها الغموض خاصة في آخر المطاف وهروب الحاج مراد من المعسكر الروسي، فكما يبدو فإن عدم حصوله على ضمانات الروس في مساعدته وتقاعسهم وعدم الاطمئنان له والوثوق بجانبه كلها أدّت إلى هروب الحاج مراد ومرافقيه، ولا يُفصح تولستوي عن هذه الأسباب التي دفعت الحاج مراد إلى الهرب، على الرغم من أن تولستوي كان قد سعى بجهد أن يجمع أكثر المعلومات الموثوقة حول حياة ونهاية الحاج مراد كما يذكر المحرر الروسي للرواية. فلا أرى أن مثل هذا التغاضي عن التوغل ونقل كل ما يخص الحاج مراد وذكر تفاصيل قصته ولو الإشارة بصورة يسيرة تُعطي للقارئ الثقة بهذا العمل من منظوره التاريخي

إضافة إلى ذلك هناك تشويه لصورة الإمام شامل الداغستاني، الطيب الذكر إلى اليوم في داغستان والذي وقع أسيرا كما ذكرت آنفا في آواخر سنة ١٨٥٩ وبقي أسيرا في الإمبراطورية الروسية يُقيم فيها بعد أن قابل القيصر ألكسندر الثاني، وبعدها نُفي إلى كالوغا، ثم إلى مدينة صغيرة في موسكو، وفي عام ١٨٦٩، سُمح له بالحج إلى مكة وبعدها انتقل إلى المدينة المنورة ليعيش فيها عامين وتُوفي في سنة ١٨٧١، بعمر يناهز الثالثة والسبعين

الرواية في المجمل تُلقي الضوء على الحرب التي دارت بين أهل القوقاز وداغستان ضد الروس، والسياسة الروسية في الحرب وتدمير وحرق القرى، في حين تبقى صورة الحاج مراد في الرواية ضبابية، لم نتعرف عليها بصورة واضحة وجلية، فكان يبدو في كثير من الأحيان يتصرف بغير سجيته، مع الروس، وأنه يحاول أن يتقرب منهم ليثقوا به، فيأخذ مراده ثم يُنهي اتصاله بهم، لذلك كان هناك شخصية حقيقية للحاج مراد وهي التي لم نعرفها حق المعرفة، وشخصية تمثيلية روائية هي التي رأيناها، وعشنا معها في فصول هذا الكتاب، مع نهاية درامية للحاج مراد لا أرى أنها تتناسب مع سيرة حياة عرّفها الكاتب لنا بالبطولية والإقدام وشهد لها العسكريون الروس

الأحد، 25 فبراير 2018

اعتراف تولستوي



كانت وما زالت محاولة فهم الحياة ولماذا نعيش وإلى أين سيكون المصير بعد سنين من العيش أو الإنجاز، أسئلة تدور في ذهون العظماء، يبحثون ليلا ونهارًا عن الحقيقة المتوارية خلف الغيم الذي لا يدرون أينه، حتى لتبدو المحاولة في كثير من الأحيان عبثية أكثر مما هي ذات فائدة ونفع يُرتجى من نهاية هذا الدرب الطويل، هذه الأسئلة التي جذبت وما زالت وستبقى تجذب إليها الساعين خلفها، ليثروا بتجاربهم بني جنسهم
وبما إن السعي خلف الحقيقة له مقام رفيع، فلا بُد أن تكون لسالكيه عظمة هم الأُخَّر، تولستوي وفي كتابه هذا الذي كُتب عام ١٨٧٩م، ينقل لنا تجربته في بعد تجاوزه سن الخمسين، مبتدأً من بداياته وكيف تلقى التعاليم الدينية المسيحية، وكيف وهو ما يزال شابًا لم يتجاوز الثامنة عشر رفضها، حيث رأى إنها بلا قيمة وفائدة وإنه يكذب على نفسه ويُنافق لو استمر بأداء ما لا يقتنع به ولم تتشرب روحه بنور هذه العبادات، لينطلق بعدها في عقد من الزمن في حياة مليئة بالشرور والسيئات على حد وصفه، من قتل لجنود في الحرب، وقمار وسُكر، وغرق في ملذات الحياة، ولهثا خلف الشهرة من خلال الكتابة، والتي نال منها وعاش في أروقة الأدباء والكُتّاب، لكنه تجلّى له الكثير من النفاق والزيف والمظاهر هنا، ليبدأ رحلة أخرى في خدمة الفقراء والمزارعين والسعي لكي يحصلوا على تعليم كافٍ
ومن جميل ما يذكره تولستوي هو تقسيمه البشر في فترة من حياته إلى أربعة أقسام:

١- هم الهاربون من الحقيقة ومعتنقي دين الجهل، ليعيشوا حياتهم بلا تعب، فكلما زادت معرفة الإنسان ازدادت أسباب كآبته، كما ينقل عن سليمان الحكيم

٢- هم الغارقون في الملذات والشهوات والذين يعيشون حياةً بهيمية.
٣- هم الشُجّعان والأقوياء، الذين اتضحت لهم الحقيقة بأن الحياة عبارة عن شر لا خير خلفها، واختاروا طريق الأقصر لإنهائها الموت

٤- هم الذين اتضحت لهم حقيقة الحياة البائسة وعديمة الفائدة وعرفوا طريق الخلاص لكنهم لم يملكوا الشجاعة لإنهاء حياتهم

ويضع تولستوي نفسه في الخانة الرابعة، ليبدأ بعدها بذكر الصراع الذي دار في حنايا نفسه ورغبته بالانتحار، والتي دائما ما يتراجع عنها ويتعجب من عدم إقدامه عليها، ولتبرز عظمة الصراع الذي كان ناشبا في روحه، بحثا عن الحقيقة، وفهم غاية الحياة ولمَ نعيش وإلى أين المصير بعد كل شيء في هذه الدنيا، فهذا الفكر الملتهب الباحث عن المجهول في دنيا المجهول، يؤدي به في لحظة صفاء إلى الالتجاء إلى الطريق الذي تركه منذ زمن بعيد، ليرى نفسه يعود إلى الإيمان ومحاولة فهمه للدين، وليجد في الإيمان الطريق الذي ينقذه من شرور نفسه، ويضعه في حضرة فهم الحقيقة، بعيدًا عن منطق العقل الذي لم ينجح في وصوله إلى نتيجة يرتضيها، رغم كل قراءاته ودراسته لأقوال الفلاسفة وكتبهم، ألا إن الإيمان هو ما أنقذ تولستوي وأرشده لفهم الحقيقة، ليبدأ بمسار جديد على درب الإيمان، لفهم العلاقة بين المحدود واللامحدود التي لم يستطع عقله أن يُنشئ علاقة بإمكانها أن تجمع بين النقيضين، لكن الإيمان استطاع أن يجمع ويؤلف بينهما، فكان الإيمان طود نجاة، يرتديه في غمرة البحر اللجي في الفجر الدجي، لكن ليس إيمانا مطلقا يتهرب به من فهم الحقيقة، بل إيمانا يُعطي للحياة معانيها ومسلكا يُوصل لمعنى الحقيقة والحياة والغاية منها، لذلك يرى أن الفقراء أصحاب الإيمان ليعيشون حياةً ذات قيمة، يفرحون بما يحصلون عليه من النزر اليسير، ويكدون في العمل، ولا يرتمون إلى أحضان الرفاهية المُتلفة لفكر وجسد الإنسان، والمدمرة لكل سجايا الصلاح التي يجب عليه أن يستغلها لينفع الآخر من بني جنسه.
إن طريق الإيمان الذي سلكه تولستوي للوصول إلى الحقيقة ليس مفروشا بالورد، بل شائكٌ هو الآخر لكثرة الطوائف في المسيحية، فيرى نفسه مكبوبًا فوق الكتب ليدرسها، ويناقش العلماء ليصل معهم إلى كلمة سواء، بدل التناحر وتكفير بعضهم البعض، ليقول في آخر الكتاب:

"وما لا شك فيه إن العقائد كانت تحتوي الكثير مما هو حق، ولكنها كانت أيضا بدون أقل ريب تحتوي على الكثير مما هو غير الحق، ولذلك رأيتني مضطرا أن أُفتش عما هو حق، وعما هو غير حق،...".

وفي كتاب حكم النبي محمد، الذي كتبه تولستوي وترجمه للعربية سليم قبعين، يوضح مدى تأثر فكر تولستوي في نهاية حياته، ودفاعه عن الإسلام وبعض شرائعه ضد التزييف والكذب الذي انتشر ضده، بينما تكشف مراسلاته مع مفتي مصر محمد عبده في بداية القرن العشرين عن عقيدة تولستوي، فيقول في رده على رسالة محمد عبده الثانية:


"آمل ألا أكون قد أخطأت إذا افترضت من واقع خطابك: أن الدين الذي أومن به، هو دينك الذي يرتكز على الاعتراف بالله وشريعته في حب الغير، وإن نتمنى لهذا الغير ما نتمناه لأنفسنا. وأعتقد أن جميع المبادئ الدينية تندرج من هذا المبدأ". 

ومما نستشفيه من هذه الكلمات عن عقيدة تولستوي ومدى إيمانه بالله قبل وفاته بخمس سنين، فمراسلاته مع محمد (١٨٨٩-١٩٠٥)، والرد الذي اقتبسته مؤرخ بتاريخ ١٢ مايو ١٩٠٤، أي قبل وفاة تولستوي ب٦ سنوات تقريبا

لا يُمكن الجزم بدين تولستوي الذي مات عليه، لكن الثابت أنه مات مؤمنا بالله وبشرائعه حسب كلامه، ولم يمت مُنكرا لله ووجوده

مذكرات عوليس

مذكرات عوليس   ١ أكتوبر . عوليس الرواية التي فصلت تاريخ الرواية إلى جزئين ما قبل عوليس وما بعد عوليس كما يصفها م...