الأربعاء، 30 يناير 2019

صلاح الدين وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس - د. علي الصلابي.


يعدُّ صلاح الدين الأيوبي من أشهر القادة المسلمين، وملأت شهرته التاريخ ووصلت لمختلف الأمم، لعديد الصنائع والأعمال التي أنجزها كان على رأسها تحرير بيت المقدس بعد أن احتله الصليبيون لمدة مئة عام تقريبا، وإنهاء حكم الدولة العبيدية (الفاطمية) التي اعتلت سلطة مصر بعد أن دخلها المعز لدين الله الفاطمي، والتي سرعان ما عملت على تثبيت حكمها في مصر ونشر الترفض ومحاربة عقيدة أهل السنة، وما جرى بعدها من تخاذل العبيديين (الفاطميين) من محاربة الصليبيين إذ ظنوا أنهم سيخلصونهم من أعدائهم السلاجقة، حتى وصل بهم الحال مثلما فعل الوزير شاور بمراسلة الملك الصليبي عموري الأول، ملك بيت المقدس، وبذل له المال والوعود وتحالف معه ضد الزنكيين وقاتلهم كما حدث في معركة البابين، ومما زاد من شهرته دماثة خلقه، وسماحته مع أعدائه كان أبرزها تعامله مع المستسلمين من الصليبيين في بيت المقدس بعد هزيمتهم في معركة تحرير بيت المقدس، ضاربا أطيب الأمثلة على خُلق كريم على العكس من نظرائه من الصليبين وفي الأخص أولئك الذي دخلوا بيت المقدس عام 1099 وذبحوا أهلها وخاضوا بدمائهم ولم يسلم منهم طفل أو امرأة، ومسلم أو يهودي. وبالإضافة إلى ذلك فإن سياسته الحكيمة ومقاومته الحملة الصليبية الثالثة التي جاءت بعد تحرير بيت المقدس عام 1191 اللتان أثبتتا مقدرة كبيرة وحنكة لا يستهان بها لهذا القائد الذي دعت بالنصر والتمكين له المنابر، ونُظمت في مدحه القصائد، وحكى عنه المعاصرون واللاحقون، وشهد له الأعداء قبل الأصدقاء المقربون، وبقي اسمه يمثل كابوسا وهاجسا لأعدائه، إذ يذكر لنا التاريخ أن الجنرال الفرنسي غورو حين دخلت القوات الفرنسية في عشرينيات القرن الماضي إلى دمشق، وقف على قبر صلاح الدين متحديا ومذكرا ومتوعدا وقال: ها قد عدنا يا صلاح الدين. لهذا وأكثر فإن هذا القائد والملك والناصر لدين الله، يتبر من أهم الشخصيات التي يجب الوقوف عندها كثيرا ودراسة حياته والاستفادة مما قام به وأنجزه، ونحن بأمس الحاجة لمثل هذه الدراسات والوقفات لتَكَرُّرِ الحال وعودة عجلة التاريخ بخيبات الماضي وحسراته، وأخطائه  وهفواته إلينا، إذ ألقى فوق صدورنا ثقل الأعداء وخيانة الأقرباء وفساد البلاد والعباد وانحرافهم عن الصراط القويم إلا من رحم الرب العليم، واحتلال الصليبيين من جديد أرض الآباء والأجداد، وعلى رأسها قيام المملكة الصليبية الجديدة المتمثلة بكيان صهيوني يدعمه حلف الأغراب والمتخاذلون من الأعراب.
هذا الكتاب الذي كتبه المؤرخ الليبي الدكتور علي الصلابي، كتبه بنَفَس المؤرخ المجاهد الفقيه المثقف، فهو لم يجعله كتابا يقص علينا حكايا التاريخ والماضي ويذكر الحوادث والخطوب والمعاهدات والحروب، بل جعله دراسة تاريخية وثقافية، مستلخصا من كل حدث عبرا ودورسا، ونافحا القرّاء بالمواعظ والعبر، والأفكار والمناهج التي مضى عليها الأولون الذين أعادوا الحق لأهله، واتبعوا أمر العلي القدير، فصدقوا الله وعده فصدقهم الله وكان حقا على الله نصر المؤمنين. ووافقا على أهم الأحداث في حياة صلاح الدين مدققا وموضحا وناقدا ومعللا كعلاقته مع الزنكيين وعلى رأسهم نور الدين، وحقيقة الخلاف والاختلاف بين الرجلين، ودوره في قيام دولة الأيوبيين بعد إنهاء خلافة الفاطميين، وعن سياسته في مصر بعد دخولها مع عمه أسد الدين شيركوه.
ويقسم الكتاب إلى ثلاثة فصول رئيسة: الأول تقديم للحروب الصليبية والوقوف على أسبابها التي ابتدأت بدعوة البابا أوربان الثاني عام 1095 وما لحقتها من حملة صليبية أولى انتهت باحتلال أراض كثيرة وإقامة مملكة بيت المقدس، ولتبدأ بعدها مرحلة المناجزة والمقاومة التي اتخذت شكلا جديا ومؤثرا مع عماد الدين زنكي عام 1127 الذي توّجها بفتح الرُّها عام 1144، وعمل على توحيد البلاد تحت رايته فوحد الموصل والجزيرة الفراتية وحلب في دولته وبقي يجاهد الصليبيين ويوحد البلاد حتى اغتياله عام 1146، ليخلفه ابنه نور الدين محمود وكان خير خلف لخير سلف، ليستمر بجهاد الصليبيين وتوحيد البلاد حتى استطاع ضم دمشق التي استعصت على والده ويتبعها بمصر، بعد أن أرسل قائده أسد الدين شيركوه ومساعده صلاح الدين الأيوبي في سني (1163-1169) إذ تم ضم مصر عام 1169، لتبدأ بعدها مرحلة جديدة من الصراع الإسلامي - الصليبي. وأما الفصل الثاني وهو الخاص بالدولة الأيوبية التي خلف فيها صلاح الدين عمه شيركوه بعد وفاته في مصر، والتي لحقتها وفاة نور الدين محمود عام 1174، ليؤسس صلاح الدين الدولة الأيوبية بعدها (1174-1175) مع الاختلاف بين المؤرخين حول أي العامين هما البداية لدولة الأيوبيين، وليعمل بكل جهد بعدها على الاستمرار في توحيد البلاد الإسلامية من الموصل والشام ومصر كما فعل سلفه نور الدين، لأجل هدف أسمى هو تحرير بيت المقدس وطرد الصليبيين. إن الفصل الثاني من الكتاب لهو عماد هذا الكتاب، إذ يقف فيه الصلابي على كل ما قام به صلاح الدين من جهود في إضعاف الفاطميين ومن ثم القضاء عليهم، من خلال عدة أعمال منها ما كان سياسيا كأخذ زمام السلطة وعزل المتعضد آخر الخلفاء الفاطميين وحبسه في بيته، ودينيا بوقف الخطبة للفاطميين وإعادتها للعباسيين والدعوة لهم والترضي على الصحابة، وعسكريا بعزل جميع من شك بولائهم للفاطميين كالسودان والأرمن، وتعليميا بإعادة تدريس المذهب الشافعي السني، وقضائيا بعزل القضاة الفاطميين وإبدالهم بقضاة من أهل السنة، لينهي بذلك حكما فاطميا استمر لمدة تسعين ومئتي سنة. ويلحق الفصل بكيفية تعامل صلاح الدين مع كل الحركات التي قام بها أتباع الفاطميين في مصر من أجل القضاء عليه، والتي استطاع بالقوة والسياسة إخمادها، ويشرع بعدها بمشروع إصلاحي نهضوي في مصر، وإعادتها إلى جادة الحق ونشر المذهب السني والقضاء على الترفض، لتدخل مصر عصرا شهد ازدهارا اقتصاديا ورزاعيا واجتماعيا وتعليميا ودينيا، إذ اهتمَّ صلاح الدين بالزراعة والصناعة وافتتاح المدارس الفقهية وإلغاء المكوس والاهتمام بالصناعة العسكرية، وتجهيز الجيش لمهمته الأسمى إضافة لعمله على ضم بلاد الشام بعد أن أصاب الأسرة الزنكية التشتت وتم له الأمر في النهاية، وخلع عليه الخليفة العباسي المستضيء إمارة هذه البلاد. فبعد أن أضحى ملكا على بلاد الشام ومصر وأجزاءٍ من العراق في عام ١١٨٦، أصبحت المواجهة الكبيرة مع الصليبيين حتمية. وهذا ما يتناوله الفصل الثالث والأخير من الكتاب والذي يشمل معركة حطين الخالدة والدور التخطيطي والإستراتيجي والسياسي والتعبوي والعسكري والإعلامي لصلاح الدين وأمرائه في جلب الصليبيين لمعركة مباشرة بعد أن خرق رينولد شاتيون أمير الكرك الهدنة التي وُقِّعت بين الصليبيين وصلاح الدين ليستغل صلاح الدين هذه الفرصة وينتهزها في معركته الحاسمة التي انتهت بهزيمة نكراء وأسر لملك بيت المقدس لوزينان، وقتله لشاتيون بيديه وأبر بقسمه نظرا لما ارتكبه هذه الصليبي المعروف بخبثه وجشعه ووحشيته وهمجيته وعدم احترامه للعهود والمواثيق ومهاجمته قوافل المسلمين رغم الهدنة وإبحار أسطوله في البحر الأحمر لمهاجمة سفن المسلمين والحجاج ووصوله إلى موانئ مكة إذ كان يخطط لمهاجمة الكعبة ونبش قبر النبي (صلى الله عليه وسلم)، كل هذه الانتهاكات دفعت صلاح الدين أن يُقسم بقتله بيده إن مكنه الله منه، وكان له هذا بعد أسر شاتيون. وبعد معركة حطين توجه صلاح الدين إلى بيت المقدس ويحررها ويدخلها في السابع والعشرين من رجب سنة ثلاث وثمانين وخمسمئة، الثاني من تشرين الثاني/ نوفمبر سنة سبع وثمانين ومئة وألف. ولحق فتح بيت المقدس قدوم الحملة الصليبية الثالثة وكان أبرز ما فيها الصراع الثنائي ما بين صلاح الدين والملك الإنجليزي ريتشارد قلب الأسد، إذ كانت معاركهم سجال، وشهدت هدنا توزعت على خمس مراحل انتهت بعقد صلح الرملة وفشل الحملة الصليبية الثالثة في تحقيق أهدافها، والتي كان لصلاح الدين بعد الله الفضل كله نظرا لسياسته الحكيمة لإدراة صراع سياسي وعسكري مع ريتشارد الذي عُرف بدهائه وشجاعته وعلى الرغم من سقوط عكا بعد حصار استمر سنتين إلا أن مجمل الحملة الصليبية كان فاشلا نظرا لضئل النتائج قياسا بعظم التجهيزات واشتراك ثلاث ملوك بها. وفي عام ١١٩٣م في ليلة السابع والعشرين من صفر سنة ٥٨٩ توفي صلاح الدين الأيوبي عن عمر يناهز السابعة والخمسين بعد أن مرض واستمر مرضه لاثنتي عشرة ليلة، ويروي القاضي الفاضل إن الشيخ أبو جعفر وكان يتلو القرآن لصلاح الدين لما بلغ آية "لا إله إلا هو عليه توكلت" تبسم وتهلل وجهه وأسلمها لربه. ولتطوى صفحة قائد عظيم كان له الفضل بعد الله في تحرير بيت المقدس وهزيمة الصليبيين والبدء في إجلائهم من أرض المسلمين.
ومن جميل مآثر هذا القائد العظيم:
وصيته لابنه الملك الظاهر: أوصيك بتقوى الله فإنها رأس كل خير وآمرك بما أمرك الله به، فإنه سبب نجاتك وأحذرك الدماء والدخول فيها والتقلد لها، فإن الدم لا ينام، وأوصيك بحفظ قلوب الرعية والنظر في أحوالهم، فأنت أمين وأمين الناس عليهم وأوصيك بحفظ قلوب الأمراء، وأرباب الدولة والأكابر، فما بلغت إلا بمداراة الناس ولا تحقد على أحد، فإن الموت لا يبقى على أحد، واحذر ما بينك وبين الناس، فإنه لا يُغفر إلا برضاهم، وما بينك وبين الله يغفره الله بتوبتك إليه، فإنه كريم.
وقد قرّب إليه العلماء والقضاة وكان القاضي الفاضل صديقه ورفيقه يقول عنه: لا تظنوا أني فتحت الأرض بالسيوف إنما فتحتها بقلم القاضي الفاضل.
لم يترك في خزانته بعد موته سوى دينارا واحدا وسبعة وأربعين درهما وقيل ستة وثلاثين درهما، ولم يترك دارا ولا عقارا ولا بستانا ولا أي شيء من الأملاك.
وكتب العماد الأصفهاني في رثاء صلاح الدين قصيدة طويلة استهلها:
شَمْلُ الهدى والمُلْكِ عمَّ شتاته *** والدهر ساء وأقلعت حسناته
أين الذي مذ لم يزل مخشيّة ***  مرجـــوّة هبّـــاته وهبــاته
أين الذي كانت له طاعاتنا ***    مبذولةٌ ولربِّــــه طاعـــاته
بالله أين الناصر الملك الذي ***    لله خالصة له نيَّــــاته

فرحم الله الناصر لدينه يوسف بن أيوب صلاح الدين الأيوبي وغفر له زلّاته وتجاوز عن سيئاته، وحشره وحشرنا في زمرة النبيين والشهداء والصديقين وحسن أولئك رفيقا.

السبت، 19 يناير 2019

كيف أضاع الأيوبية هيبة بيت المقدس.


وقع في التاسع عشر من شباط سنة ١٢٢٩ حدثٌ غريب تمثل بتسليم جزء كبير من مملكة بيت المقدس، التي حررها المسلمون بقيادة صلاح الدين الأيوبي عام ١١٨٧، إلى الصليبيين، وفق معاهدة يافا التي عُقدت ما بين الملك الكامل ملك مصر والإمبراطور الألماني فريدريك الثاني الذي قاد الحملة الصليبية السادسة.

وقبل الحديث عن هذا الحدث الجلل علينا أن نلقي نظرة سريعة على الأحداث التي وقعت وقتها:

تعتبر الحملة الصليبية السادسة بقيادة الإمبراطور الألماني فريديك الثاني من أغرب الحملات ويلخصها أ.د. محمد سهيل طقّوش بثلاث نقاط: ضئالة الأعداد المشاركة، إذ لم تتجاوز الستمئة جندي. وعدم تأييد البابوية. وساد أوساط الحملة الصليبية السادسة روح التسامح مع المسلمين عكس سابقاتها.

استلم الملك الكامل حكم مصر بعد وفاة والده الملك العادل بن أيوب، وهو أخو صلاح الدين، وشارك أخاه تحرير بيت المقدس. وقام الكامل بقيادة حملة الدفاع ضد الصليبيين في الحملة الصليبية الخامسة (١٢١٧- ١٢٢١) م في مصر، وانتهت بجلاء الصليبيين الذين توجهوا لأول مرة إلى مصر باعتبارها الحامية الحقيقية لبيت المقدس وسقوطها يعني سقوط بيت المقدس، وجدير بالذكر أنها حملة امتازات بدوافع اقتصادية أكثر مما هي دينية لذلك أدت إلى فشلها بطريقة قد كان سيُكتب لها النجاح في إسقاط مصر لو أنهم استغلوا الفرص التي أُتيحت لهم. وقد عرض الكامل في حصار دمياط الذي استمر لأحد عشر شهرا الصلح على الصليبيين وتسليمهم جميع ما حرره صلاح الدين لكن عجرفتهم وغباؤهم منعهم من القبول، وتكرر العرض وللأسف لأربع مرات! ولكن الصليبيين رفضوه نظرا لثقتهم بانتصارهم التي خيبتها النتائج.


وفي هذا الوقت قد بدأ جنكيز خان بحملاته ضد الشرق وغزوات المغول ضد الخوازرميين سنة (١٢١٩-١٢٥٨) م الذين كانوا لاعبا رئيسا في المنطقة الشرقية سيطر على الخليفة العباسي، مما جعل الكامل يفكر بالتهديد المغولي القادم من الشرق، وكذلك خلافه مع أخيه المعظم عيسى حاكم دمشق والأشرف موسى حاكم إقليم الجزيرة الفراتية. تزامن هذه الأوضاع جعلت الكامل يطلب من فريديك الثاني، الإمبراطور الألماني، القدوم وتسلميه ما حرره صلاح الدين شرط أن يسانده معه ضد المعظم عيسى. ويمكن القول إن هذه الصراعات الداخلية التي تلافاها أصحابها في الحرب الصليبية الخامسة عادت بعد انتهائها وهي من الأخطاء الإدارية التي ارتكبها صلاح الدين بتوزيع السلطات والإدارة على أفراد عائلته، لتثبت فشل الحكم الفيدرالي مع نزعة الأمراء على توسيع ما تحت أيديهم من ممتلكات.
**

جاء فريديك الثاني ونزل في عكا، وطلب من الكامل إيفاءه العهد بتسليم بيت المقدس، لكن الكامل رفض، نظرا لوفاة أخيه المعظم عيسى، وطلب من سفيره فخر الدين يوسف بن الشيخ بإطالة أمد المفاوضات والمساومات، وقد أدى استلام الناصر داوود بن المعظم عيسى الحكم في دمشق، ونيات جلال الدين الخوارزمي التوسع في الغرب (بلاد الشام ومصر) ووجود الصليبيين بعد أن أتمَّ فريديك الثاني تحصيناته في يافا، إلى زيادة مخاوف الملك الكامل مما دفعه إلى توقيع اتفاقية يافا تضمن تسليم الإمبراطور الألماني: مدينة القدس وبيت ولحم وشريط ضيق من الأرض ينتهي إلى يافا، إضافة إلى مدينة الناصرة ومدن أخرى! مع مزايا إضافية، هذه الشروط رفضها المسلمون والصليبيون على السواء، رفضها المسلمون إذ هي عار أن تسلم مدينة سفكت الدماء لأجلها ببساطة، ورفضها الصليبيون كون فريديك الثاني لم تؤيده البابوية ولأن المسلمون سيحتفظون بالمسجد الأقصى، إذ كانت المعاهدة تنص على اقتسام مملكة بيت المقدس بين الاثنين.


دخل فريديك الثاني مدينة القدس في السابع عشر من آذار سنة ١٢٢٩م مدينة القدس سوى عساكره من الألمان والإيطالين وبعض الأساقفة وتسلم مفاتيح المدينة من قبل القاضي شمس الدين، قاضي نابلس، نيابة عن الملك الكامل، وكانت المدينة خالية من المسيحيين والمسلمين الذين هجروها، وتوج نفسه في موكب صغير في اليوم التالي ملكا بعد أن رفض القساوسة تتويج ملك محروم، نظرا لموقف البابا والكنيسة الرومانية منه. وقد زاد الكامل الطين بلة حين طلب عدم رفع الأذان في المدينة أثناء وجود الإمبراطور احتراما له! الأمر الذي أثار استياء المسلمين وحتى فريديك الثاني نفسه لسخرية القدر، إذ يروي المقريزي أن فريديك الثاني قال لشمس الدين: "أخطأ فيما فعل، والله إنه كان أكبر غرضي المبيت في القدس وأن أسمع أذان المسلمين وتسبيحهم في الليل".
غادر بعدها فريديك الثاني نحو قبرص نظرا النزاعات التي حدثت في أوروبا وقتها.
بقيت مملكة بيت المقدس قانونيا في الأقل تابعة للإمبراطورية الرومانية إلى سنة ١٢٦٨م، لكنها لم تلقَ اهتمام الملوك ولم يمكث فيها أحدهم.


استمرت الخلافات بين الأمراء الأيوبيين، فقام الصالح إسماعيل الذي كان يحكم دمشق بالتحالف مع الصليبيين سنة ١٢٣٩م، ووعدهم بإعطائهم بيت المقدس! نتيجة لخلافه وخصومته مع الصالح أيوب الذي اعتلى عرش مصر بعد الكامل. لتستمر مسلسل وعد وتسليم بيت المقدس إلى الصليبيين كلما ضاق الخناق على الأيوبيين، واستمر الصراع بين الرجلين حتى وعدوهما بالسيطرة المطلقة على بيت المقدس بما فيها المسجد الأقصى وقبة الصخرة اللتين كانتا من ضمن حدود المسلمين في اتفاق يافا، فما فعله الأيوبي صلاح الدين وعمه أسد الدين شيركوه في جهاد الصليبيين ثم تأسيس الدولة الأيوبية قام خلفاؤهم بتشويهه وتخريبه.

وكان الخوارزميون (مسلمون) في الشرق قوة يمكن الاستعانة بها، ونتيجة لتحالف الصليبيين مع الصالح إسماعيل -تعسا له من لقب- دعا الصالح أيوب الخوازرميين وتحالف معهم وعبر عشرة آلاف مقاتل إلى بلاد الشام وتوجهوا إلى بيت المقدس فحرروه عام ١٢٤٤ م وقتلوا وطاردوا الصليبيين في الشوارع، وقدر عدد من قتلوه قرابة ألفي مقاتل ونهبوا الدور المسيحية وهرب ثلاثمئة مقاتل إلى يافا، وبهذا ضم الصالح أيوب بيت المقدس لملكه ولملك المسلمين من جديد، وبقي بيت المقدس تحت سيطرة المسلمون ولم يدخله جيش صليبي حتى عام ١٩١٤م إذ دخله الصليبيون الجدد (الجيش البريطاني).

الحروب الصليبية كما رآها العرب - أمين معلوف.



تعد الحروب الصليبية التي انطلقت بتحريض ودعوى البابا أوربان الثاني عام ١٠٩٥، بداية التحضير لهذه الحروب، حيث كان الناسك بطرس يدور على القرى والحقول يحرّضهم على السفر إلى المشرق وتحرير بيت المقدس الذي شهد موت المسيح- كما يؤمنون- من المسلمين المتوحشين، لتبدأ بعدها رحلة حروب ومعارك استمرت لثلاثة قرون من الزمن، وعادت بأشكال وأسماء متغيرة وإن استخدمها بوش الابن صريحة قبل غزو أمريكا لأفغانستان ولحقها العراق. وتشابه قيام كيان صليبي بعد احتلال بيت المقدس سنة ١٠٩٩ الكيان الصهيوني وإعلان دولة الكيان سنة ١٩٤٨ في فلسطين (المملكة الصليبية- كما يطلق عليها أستاذ التاريخ الإسرائيلي شلومو ساند) بدعم الإنجليز والفرنسيين وثم دعم الأمريكيين. ولهذه الحروب الأثر الكبير في خلق عالمين شرقي وغربي متعاديين ما زال العداء له سماته المستمرة حتى اليوم.

كتاب الحروب الصليبية كما رآها العرب، ومما يُشير له العنوان فهو سيحكي هذه الحروب من وجهة نظر عربية وكما شاهدها العرب الذين كانت أرضهم خصبة لهذه الحملات التي وصلت لثمانٍ. هذا العمل السردي التاريخي هو أول أعمال الأدبية التي نشرها الروائي اللبناني أمين معلوف عام ١٩٨٣ باللغة الفرنسية، ليستمر بعدها في نشر الأعمال الروائية السردية التاريخية ذات الطابع التخيلي، كروايات سمرقند وليون الأفريقي وحدائق النور، والذي مثّل ظاهرة أدبية في التخيّل التاريخي وقف فيها على أحداث مهمة في التاريخ المشرقي وانطلق منها لكتابة رواياته، ولا يختلف الحروب الصليبية كما رآها العرب عن غيره إلا أنه تمثّل بكونه كتاب سرد تاريخي اعتمد في تدوينه على المؤرخين المسلمين كابن الأثير مؤرخ الموصل والزنكية الشهير وابن القلانسي مؤرخ دمشق وبهاء الدين مؤرخ حياة صلاح الدين أثناء رفقته إياه، والرحّالة كابن جُبير الذي كان حاضرا في فترة تحرير بيت المقدس عام ١١٨٧م، كل هذا يُعطي للعمل الطابع التاريخي التوثيقي والمخاطب فيه هو الأوروبي في المقام الأول ليطلع عليها كما كانت في حقيقتها من قبل المغزو، وكما يشير الناشر أنها لتبين الحروب الصليبية التي لم يعرف عنها الأوروبيون -غير أولئك المتخصصين- إلا ما صدر عن المشاركين بها والتي قد تكون عن هوى وغرض، لذلك عمل أمين معلوف على قلب الصورة.

العمل مقسم على فصول متفرقة ليس بينها رابط عدا التسلسل الزمني، والتي اتخذت من حوادث مهمة كانطلاقة السرد، والذي كان عبارة عن قراءة في مصادر هذه الحروب الصليبية وهضمها ثم إعادة إنتاجها بأسلوب روائي شائق، والبناء على أحداث معينة تمتاز بطابع يُمكن الكاتب من جعلها متنا روائيا وتخيّلا تاريخيا، كما هو الأمر مع طقوس تنصيب بلدوين الأول وريثا لثوروس الأرميني على إمارة الرُّها، لم يكن العمل مُثقلا بتدخلات الكاتب، مما يجعله سردا تاريخيا أكثر من كونه سردا تخيلا تاريخا، وتبقى الهفوة الوحيدة عامدا لذلك أو ساهيا، إلا أن السهو في هكذا أعمال ليس أمرا معتادا أو مقبولا وعلى الكاتب أن يتحرى قبل أن يُدلس أو يستند على روايات ضعيفة أو مشكوك بصحتها أو ينفيها العقل والمنطق والواقع، وكانت هفوته حول مقتل عماد الدين زنكي، عماد الدين والذي كان قائد الصحوة والذي جاهد وعمل على توحيد الأمة في الموصل والجزيرة الفراتية وبلاد الشام لمدة تسعة عشر عاما حتى اغتياله على يد خادمه، وما فعله أمين هو ما كتبه بأن هذا القائد المجاهد الذي كان في أرض الرباط والجهاد محاصرا بجيشه قلعة جعبر، أنه ذات ليلة في الحصار نام متجرعا كمية من الكحول! ليقوم خادمه يرنقش باغتياله وليموت بعدها. فكيف يجتمع الجهاد والرباط مع المبيت وبطنه مملوءة خمرا! أنسي أو لم يعلم أمين أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كما روى الطبراني في الأوسط، قال: الخمر أم الخبائث، فمن شربها لم تقبل صلاته أربعين يوما، فإن مات وهي في بطنه مات ميتة جاهلية. إضافة إلى أن هذه الشبهة لا أصل لها ولا تجتمع في رجل قضى عمره مجاهدا موحدا جامعا للأمة في وقت عصيب وخطر شديد.
هذا لا ينفي قيمة هذا العمل السردي التاريخي لكنه يوضح لنا مدى تحري الصدق فيما قاله في كتابه قبل الأخذ به كتاريخ موثق. والمترجم لم يتوانَ أو يقتصد في جهده في تخريج الأحاديث الواردة في الكتاب وما وصل إليها ووضع في هوامش الصفحات مصادرا أحال إليها أصل المرويات المنقولة.
كما أنني لا أنصح بالبدء بهذا العمل دون الاطلاع وقراءة مستفيضة عن الحروب الصليبية في مصادر موثوقة وكتب تاريخ حتى يكون كتاب الحروب الصليبية كما رآها العرب ذات قيمة فنية سردية قبل أن تكون مصدرا للمعلومات والأخبار عن هذه الحملات والحروب، وحتى تكون قراءة وتدارس هذه المرحلة العصيبة من تاريخ الأمة ذا نفعٍ وفائدة.

تاريخ الحروب الصليبية في المشرق (1096-1291) - إ. د. محمد سهيل طقّوش.



تعد الحروب الصليبية أهم الأحداث التي كانت السبب في تشكيل عالمين متصارعين يكنان العداء بعضهما لبعض، والأساس في خلق الشرق والغرب بكل تناقضاتهما، وما لهما من جذور عقائدية ودينية مهدت الطريق لحروب دينية ما زالت آثارها حتى اليوم، وتعددت أشكال عودتها في الوقت الحاضر بمسميات مختلفة وكان من نتائجها غزو أفغانستان والعراق، وسبقهما بعقود تأسيس كيان صهيوني جديد، لا يفرق عن ذاك الكيان الصليبي الذي أقامه الصليبيون عند قدومهم في نهاية القرن الحادي عشر وتأسيس مملكة بيت المقدس بعد احتلالها وذبح أهلها الذين قدّر أعدادهم المؤرخون بعشرات الالآف من المسلمين ومن ضمنهم يهود أيضا كما في حادثة حرقهم بعد تجمعهم في معبد في الحي الشمالي، ويصف أستاذ التاريخ الإسرائيلي شلومو ساند في ثلاثيته حول أرض إسرائيل وشعبها هذا الكيان الصهيوني :"إنّ مستقبل هذه (المملكة الصليبية) الجديدة، وكيلة العالم الغربي في قلب الشرق، يكتنفه الشك". وهذا ما يجعلنا أمام كيانين متشابهين إلا أن ما يفرق بينهما كما يقول المؤرخ محمد طقوش، أن الكيان الصليبي كان كيانا طارئا إلا أن هذا الكيان الصهيوني يعتبره أهله أنه حق شرعي في أرض الكنعانيين. ولهذه الحروب تأثيراتها التي ألقت بثقلها في العصور الوسطى والعصور اللاحقة ولا سيما في مجال العلوم والفكر ويقول المؤرخ محمد طقوش في تقديمه لهذه الحروب في كتابه:
"وإذا كانت الحروب الصليبية تشكل صفحة في العلاقات بين الشرق والغرب في العصور الوسطى، فما السر في أنها انتهت بتدهور وركود وانحلال استمر طويلا في المشرق الإسلامي في حين صحبها وأعقبها مباشرة قيام نهضة شاملة في الغرب الأوروبي هي الأساس في نهضته الحديثة. ويبدو أن هذه الحروب مسؤولة عن الانهيار الذي تعرض له العالم الإسلامي الشرقي في أواخر العصور الوسطى من واقع أنها استنفدت جهوده وطاقاته في الدفاع عن كيانه، وكرّست كل موارده ونشاطه للقضاء على الخطر الصليبي الذي أصاب بقعة هي بمثابة القلب، وأخذ يسعى من هذا المركز إلى تهديد بقية المناطق في الشام والعراق ومصر والحجاز فضلا عن المغرب والأندلس".
وهذا أمر لا يمكن تجاهله والتغاضي عنه، وهو من العوامل الرئيسة والمسؤولة عما تعرض له المسلمون في الشرق من عوامل التراجع، وهذه الحرب لم تكن حرب قصيرة الأمد بل نحن أمام حرب استمرت لمدة ثلاثة قرون من الزمن تقريبا منذ (1099 - 1291)، وهي لم تتوقف عند هذا الحد بل عادت عبر الامتيازات التي أعطيت للإنجليز والفرنسيين من قبل العثمانيين في القرن السادس عشر، ومن ثم عودتها بقوة في نهاية القرن الثامن عشر بحملة نابيلون إلى مصر ومن ثم القرن التاسع عشر، والقرن العشرين والقرن الحادي والعشرين، أي أن الأمة الإسلامية ومنذ القرن الثاني عشر وحتى اليوم وهي في حالة صراع مستمر مع القوى الصليبية ومن ثم الغربية الإمبريالية ومن ثم أمريكا والصهيونية العالمية، على الرغم أن الحروب المباشرة ضد الصليبيين انتهت في القرن الثالث عشر حتى القرن الثامن عشر، إلا أنهم عرفوا كيف يعودون وبطرق لا تقل خطورة من الحروب والصراعات.
إن هذه الحروب الصليبية التي اجتاحت الأمة انطلقت من دافع عقائدي مسيحي إيماني، بتحرير بيت المقدس من أيدي المسلمين الذي عملت البابوية على تشويه صورتهم من أجل حث المسيحيين إلى الاستعداد والانطلاق إلى الشرق نحو بيت المقدس، المكان الذي مات في المسيح كما يؤمنون، ونجح البابا أوربان الثاني عام 1095 في تجهيز الحملات التي اتجهت نحو الأناضول حيث الدولة البيزنطية وألحقت الهزيمة بسلاجقة الروم (مسلمون) ومن ثم التوجه إلى بلاد الشام ومن ثم بيت المقدس، لتبدأ بعدها مرحلة الصراع الطويل.
إن دراسة تاريخ الحروب الصليبية من الأهمية بمكان لأنه تلك المرحلة التي شهدتها الأمة من التمزق والتشتت واختلاف الكلمة لهو شبيه بحالنا اليوم، فكانت مصر تحت سلطان الفاطميين وبلاد الشام مقسمة ما بين السلاجقة والفاطميين، والخلافة العباسية في العراق كانت تمر بمرحلة ضعف وشيخوخة وخلفاؤها مسلوبو الإرادة خاضعون لسلاجقة إيران، وحال السلاجقة ليس بأفضل إذ بعد اغتيال الحشاشين لنظام الملك انفرط عقدهم ودخلوا بصراعات فيما بينهم، خاصة تلك التي كانت بين دانشمند وقلج أرسلان التي تسببت باجتياح نيقية ثم قونية في الأناضول ثم الدخول إلى بلاد الشام وسقوط أنطاكيا بعد فشل توحد كلمة المسلمين والتي كان سقوطها مريرا مخزيا لأسبابه، إضافة للاختلاف المذهبي (السني - الشيعي) ومشاكل الأتراك والعرب والفرس، كل هذا يجعلنا أمام إعادة للتاريخ، إعادة لا يختلف اثنان ذوا عقل عليها. ورغم كل هذا الاختلاف إلا أن دراسة هذا التاريخ الممتد من عام 1099 وحتى تحرير بيت المقدس على يد الناصر صلاح الدين عام 1187 يجعلنا نبحث في كيفية النهوض من جديد، وتوحيد الكلمة ورأب الصدع، وتكوين دولة قوية تضم العراق والشام ومصر، فبعد ثلاثة عقود من الخذلان إثر سقوط بيت المقدس بيد الصليبيين ظهر عماد الدين زنكي وبدأ عملية التوحيد لهذه الأمة عام 1127م والذي كلل جهوده بتوحيد إمارة الموصل والجزيرة الفراتية وبلاد الشام خلا دمشق وفتح الرُّها التي تعتبر أول إمارة صليبية أقامها الصليبيون بعد اجتياحهم بلاد الشام، والتي قال عن فتحها المؤرخ ابن الأثير: "إنها فتح الفتوح حقا وأشبه ببدر صدقا" واستمر هذا القائد حتى تم اغتياله عام 1146 بيده خادمه الباطني يرنقش أثناء نومه، لكن استلام ابنه نور الدين محمود قيادة المسلمين من بعده تلافى حدوث الشرخ والصدع واستمر بالجهاد وتوحيد الصفوف حتى ضم دمشق ومصر لدولته سنة 1169 بعد أن أرسل القائد سيف الدين شيركوه وكان ضمن قادة جيش شيركوه ابن أخيه صلاح الدين، ولكن شيركوه لم يستمر كثيرا إذ توفى، ليستلم بعده صلاح الدين زمام القوم في مصر، ويعمل على الإطاحة بالفاطميين الذي كانوا يمرون بمرحلة ختامية نشأ عنها نفوذ الوزراء مثل الأفضل الذي كان حاضرا وقت الاجتياح الصليبي الذي تهلل له ظنا منه أنه بإمكانه القيام بحلف معهم ضد أعدائه السلاجقة الذين يسيطرون على أجزاء من الشام، حين كانت تنحصر أملاك الفاطميين في جنوب الشام. وبقي نور الدين محيطا بالصليبيين من الشمال وصلاح الدين من الجنوب، إلا أن الخلاف نشب بين الاثنين مما أدى إلى تأجيل فتح بيت المقدس الذي كان يمثل الحلم لدى نور الدين وقضى مع والده لمدة أكثر من أربعين عاما يوحدون الصفوف لأجله إلى أنه توفي سنة 1174، مما ترك المجال متاحا لصلاح الدين في توحيد الشام ومصر والجزيرة الفراتية تحت سلطانه ومن ثم تأسيس الدولة الأيوبية سنة 1175، لتبدأ بعد مرحلة التحرير لبيت المقدس التي تكللت بالنجاح بعد معركة حطين الشهيرة التي انتهت بهزيمة كبرى للصليبيين وتأتى عنها دخول المسلمين فاتحين لبيت المقدس في عام 1187. لتبدأ بعدها مرحلة من الصراع الطويل مع الصليبيين شهدت حالات إخفاق ونجاح حتى بدأ عملية التحرير الكاملة لبلاد الشام في نهاية القرن الثالث عشر وفتح عكا عام 1291. والتي شهدت هذه السنوات ثماني حملات صليبية ابتداء من الحملة الأولى عام 1096 حتى الحملة الثامنة بقيادة لويس التاسع التي توجهت إلى تونس عام 1270.
ومما يمكن أن نلاحظه من هذه الحروب الصليبية:
1- أنها ابتدأت بدعوى إيمانية لتحرير بيت المقدس كما في الحملات الثلاث الأولى (1096، 1147،1190)، لكنها كثيرا ما تحولت دوافعها إلى اقتصادية كما في الحملة الخامسة 1219  والسابعة 1249 اللتين توجتها إلى مصر باعتبارها الحامية الرئيسة لبيت المقدس، والحملة الثامنة 1270 التي توجهت نحو تونس واللاتي انتهين بالفشل، ونلاحظ توجه الحملة الصليبية الرابعة 1205 نحو القسطنطينية التي كانت تحت سلطان الدولة البيزنطينية نظرا للاختلاف بين الرومان الكاثوليك والبيزنطيين الأرثوذكس.
2- تعددت الدول التي نشأت في بلاد الشام ومصر اللذين كانا يمثلان الثقل الأكبر في مواجهة الصليبيين ابتداء من الدولة الزنكية فالأيوبية فالمماليك، الذين كان لهم دور مهم في مواجهة الصليبيين ومن ثم إجلائهم بصورة كاملة كما فعل الظاهر بيبرس ثم قلاوون ثم ابنه الخليل شريف.
3- التفكك الذي كانت عليه الأمة هو السبب في الهزائم التي مُنيوا بها في بداية الحملة الصليبية.
4- النصر لا يأتي دون توحيد الكلمة والصف، والقضاء على كل جيوب الخيانة والغدر.
5- التخطيط العسكري الفذ والصبر والجَلَد، كما لدى عماد الدين زنكي وابنه نور الدين وصلاح الدين.
6- وجود ملوك ضعاف أو طامعين في تأمين سلطانهم فقط يؤدي إلى نتائج كارثية كما فعل الملك الكامل محمد ابن الملك العادل، أخو صلاح الدين، من تسليم جزء كبير من بيت المقدس إلى الإمبراطور الألماني فريدريك الثاني في الحملة الصليبية السادسة سنة 1244م.
7- إن الصليبيين جاءوا من أماكن مختلفة كفرنسا وإنجلترا والنرويج وفلاندر وألمانيا وإيطاليا وقبرص، تجمعهم راية الصليب تارة وأطماع اقتصادية تارة أخرى.
8- إن الصليبيين لم يفرقوا بين عربي أو أعجمي، سني أو شيعي، إذ الحرب كانت حربا ضد المسلمين في عمومهم.
9- إن الذي يحكم الناس هو ميولهم العقائدية لا غير، إذ إن الكثير من الأرمن والمسيحيين تعاونوا مع الحملات الصليبية، وسهول اقتحام القلاع كما حدث في اقتحام أنطاكيا في الحملة الصليبية الأولى بعد أن قام الأرميني فيروز بتسهيل اقتحام المدينة.
10- قام الصليبيون وباسم الصليب بجرائم عرقية وتطهيرية تمثلت بقتل المدنيين المسلمين وفي حالات كثيرة لم ينجُ منهم حتى اليهود والمسيحيين، والأسرى عند اقتحامهم المدن، وقيامهم بأعمال وحشية باسم الدين والعقيدة، وهذا ما يحطم الأسطورة التي يشيعها البعض بأن المسيحية دين تسامح في حين أن الإسلام دين سيف، إذ ما أن الفتوحات الإسلامية لم ترتكب ما ارتكبته الحملات الصليبيين من قتل للمدنيين وتدمير للمدن.
**
هذا الكتاب الذي يؤرخ هذه الحملات الصليبية، يقسم إلى ثلاثة أقسام يتمثل القسم الأول بصعود الصليبيين ثم القسم الثاني بتوازن القوى ثم القسم الثالث والأخير تمثل بسقوط الصليبيين. وهو من الكتب المهمة التي تدون مرحلة مهمة من تاريخ الشرق السياسي والحربي والصدامي مع الغرب.

الأحد، 13 يناير 2019

تاريخ العراق الحديث والمعاصر - إ.د. محمد سهيل طقّوش.



يتناول هذا الكتاب للمؤرخ اللبناني محمد طقّوش تاريخ العراق السياسي الحديث والمعاصر. إذ يبتد التاريخ الحديث للعراق حسب المؤرخ اللبناني في القرن السادس عشر ميلادي والذي تمثّل في الصراع ما بين قوتين محيطتين بالعراق شرقا وشمالا، هما الدولة الصفوية والدولة العثمانية، وكان للعراق لموقعه الاستراتيجي وغياب السلطة الحاكمة وتنوع الهوية الدينية الأثر الكبير في هذا الصراع الذي انتهى بهيمنة العثمانيين عليه ودخول العراق فيما عرف بالخلافة العثمانية وتنصيب والٍ عثماني في بغداد. الصراع استمر بين هاتين القوتين إلى أن استقر الحكم في العراق بصورة كاملة للعثمانيين فيما بعد، وهذا الصراع مثّل الضلع الأول في التاريخ الحديث للعراق، فيما تمثل الضلع الثاني بحكم المماليك للعراق ابتداء من الوالي سلمان آغا إلى الوالي داوود باشا واستمر حكم المماليك للعراق قرابة قرن من الزمن. فيما كان للتمدد المصري في بلاد الشام والجزيرة العربية أثره في العراق نظرا لتفرد محمد علي بالسلطة وخروجه عن طاعة العثمانيين وتأسيسه لدولة مصر في القرن التاسع عشر، ليمثل تأثير هذا التمدد المصري الضلع الثالث في تاريخ العراق الحديث، ويكتمل مربع التاريخ الحديث للعراق، بعودة نفوذ العثمانيين في العراق وسيطرتهم عليه وحكمهم له بعد هزيمة المماليك وتنازل داوود باشا الوالي المملوكي عن الملك، وليصبح مدحت باشا الوالي العثماني الجديد، وله يُنسب تطور العراق الحديث، فيما يقول آخرون بأن اللملوكي داوود باشا هو قائد النهضة الإصلاحية في العراق الحديث، وتنتهي هذه المرحلة حتى احتلال البريطانيين للعراق في عام ١٩١٤ إثر الحرب العالمية الأولى ومساندة الأتراك للألمان، لتبدأ مرحلة جديدة في تاريخ العراق تمثلت بازدياد التغلغل البريطاني في العراق.

ينتقل المؤرخ لتناول تاريخ العراق المعاصر بعدها الذي تمثل بالانتداب البريطاني في عام ١٩٢٠، والذي سبقه تغلغل وسيطرة بريطانية على العراق بعد أن خاضت معارك ضد العثمانيين الذين دافعوا ضد هذا الاحتلال، لكن ظروف المنطقة العاصفة وظروف العثمانيين التي تمثلت بصعود أتاتورك وتأسيس دولة تركيا الحديثة أدارت الدفة تجاه تمزق الأمة العربية، ولم يكن العراق بمناص عن هذا التمزق الذي وقع وتمثل بنهاية مرحلة الخلافة ودخول مرحلة الدول. وعمل البريطانيون بعدها على تنصيب الحجازي فيصل الأول بن الشريف حسين أمير مكة ملكا على العراق، وشهدت مرحلة المملكة العراقية الكثير من التخبطات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في ظل الانتداب وكذلك ثورة العشرين الخالدة ضد المستعمر الإنجليزي ورفض أطياف الشعب العراقي لهذا الاحتلال والانتداب، فتشكلت الحكومات تلو الحكومات، لكنها كانت دائما ما تمثل بالولاء للتاج البريطاني، الأمر الذي يجعل العراق واقعيا تحت السطوة البريطانية، الأمر الذي دفع الضباط الأحرار بالبدء في تخطيط إنهاء هذه المرحلة والبدء بمرحلة جديدة ولهم في انقلاب مصر عام ١٩٥٢ أسوة حسنة، واستمرت مرحلة المملكة حتى قيام ثورة ١٤ تموز ١٩٥٨ بزعامة عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف، ليتفرد الأول بسلطة وينقلب على صاحبه، لكن حكمه لم يستمر إذ انقُلبَ عليه وقُتل عام ١٩٦٣، في حركة ٨ شباط، بقيادة  القوميين والبعثيين (حزب البعث) الذي تزعمه أحمد حسن البكر وكان من شركائه الرئيسين صدام حسين، لكن الانقلابيين أعطوا الحكم لعبد السلام عارف شريك عبد الكريم قاسم نظرا لشعبيته، واستمر عبد السلام عارف في الحكم حتى وفاته بعد أقل من سنتين بتحطم طائرة، فتسلم بعدها أخوه عبد الرحمن عارف رئاسة الحكومة
حكومة الأخير لم تستمر طويلا إذ تنازل مرغما إلى البعثيين في انقلاب ١٧- تموز ١٩٦٨. وشهدت هذه المرحلة استقرارا سياسيا تمثل بزعامة البكر وصعود صدام حسين في هذه المرحلة حتى تنازل فيه البكر لنائبه صدام حسين عام ١٩٧٩ الذي أصبح الرئيس الخامس في الجمهورية بعد ثورة ١٩٥٨، صدام حسين الذي شهد العراق في عهده أطول حرب في القرن العشرين مع إيران، والتي استمرت لثماني سنوات، ودخل بعدها نتيجة لنتائج حرب إيران الاقتصادية حربا أخرى بعد اجتياحه الكويت، ليدخل العراق بعدها نفقا مظلما استمر لأكثر من اثنتي عشرة سنة انتهى بالغزو الأمريكي للعراق عام ٢٠٠٣


يسرد الكتاب تاريخ العراق الحديث والمعاصر  إلى الغزو الأمريكي للعراق عام ٢٠٠٣ بالعرض إجمالا مختصرا أو تفصيلا لأهم الأحداث. وأسلوب المؤرخ شائق سلس، تشوب بعض المواضيع فيه اختلالات يجعل عرض المواضيع ناقصا، وغير مقنع، مما يكشف عن صعوبة أو عدم اكتمال المعلومات أو قلة المصادر التي يستعين بها لكشف الحقيقة الكاملة من بين ضباب كثيف خاصة تلك التي تخص التاريخ المعاصر في القرن العشرين فكيف بتاريخ العراق الحديث! لكن قراءة التاريخ تبقى للعظة والعبرة والانتفاع من أخبار القوم خاصة أولئك الذين ننتمي لهم

مذكرات عوليس

مذكرات عوليس   ١ أكتوبر . عوليس الرواية التي فصلت تاريخ الرواية إلى جزئين ما قبل عوليس وما بعد عوليس كما يصفها م...