الأحد، 13 أكتوبر 2019

كيف هدمت الخلافة - عبد القديم زلّوم.


لم يمر على أمة الإسلام خيرٌ قط منذ أن أزيلت الخلافة نظاما وحكما وتشريعا وتنفيذا في بواكير القرن العشرين، إذ تظافرت عوامل كثيرة ما بين داخلية وخارجية، انتهت بإزالتها ومحاربة أي جهود أو محاولات لإعادتها، وهذا بلا شك أصل الشرور والمشاكل التي نمر بها والتي فاقمتها الحكومات الاستبدادية الحاكمة للمنطقة العربية والمدعومة من الغرب (إنجلترا وفرنسا وحلفاؤهما قديما، وأمريكا في الوقت الحالي). فلا يجهل امرؤ أو يغفل عن دور كل هؤلاء في إركاع الأمة الإسلامية وما نعيشه اليوم أكبر دليل من تسلط أمريكا ونفوذ إيران وتمدد الصهاينة وموجات التطبيع المجتاحة للبلاد رغم كل رفض وصد، إضافة فإن الجميع متحدٌ في سعيه لمنع أي إعادة هذا النظام إلى الحياة وقتله في النفوس لأن وجوده يعني خلخلة سطوة النظم الدولي وقضَّ مضجعه والتضييق عليه وهو الجاثم فوق صدر الأمة خانقا إياها ولا تكاد تلتقط أنفاس الصعداء حتى يعود مجددا لا يُفسح لها مجالا ولا يقيم لها اعتبارا ظاهرا كل يوم بحروب وتحالفات باسم محاربة الإرهاب والإرهاب الإسلامي والشر الإسلامي وتهديد السلم الدولي، إلخ من شرور تزداد لا تنقص وضحيتها المسلم والعربي، حتى أضحوا الحلقة الأضعف بل وكل من له مشكلة فإنه يُصفيها بأجساد وبلاد المسلمين، فما مسلمي آركان واضطهادهم من قبل البوذيين الوثنيين ببعيد ولا اعتقال أكثر من مليون إيغوري من قبل الصين الشيوعية الملحدة ولا جرائم الهندوس الوثنيين بحق إقليم كشمير، وما العراق والشام بمنأى عن جرائم الصليبيين بمقدمهتم أمريكا وحربها الصليبية التي أعلنها بوش الابن بعد أيام من تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر والتي ابتدأوها بغزو أفغانستان المسلمة، كل هذا والجرثومة الخبيثة والكيان السرطاني الصهيوني اللقيط يحتل الأقصى ومساحات كبيرة من فلسطين، ويزيد الطين بلة ويفاقم الوضع سوءا، حكومات عميلة ورؤساء طواغيت فمن عراق يحكمه أزلام الفرس الطامعين لإعادة أمجاد كسرى ولا كسرى بعد كسرى كما وعد النبي، إلى مصر يحكمها نذل خسيس عميل للصهيونية بل خادم وضيع لها، وبلاد الحرمين وجزيرة محمد الصادق الأمين تحكمها عوائل الشيطان من آل سعود وآل صباح وآل زايد وآل ثاني، الذين ما تركوا وسيلة للتذلل لأمريكا والصليبين إلا فعلوها، وما وجدوا سبيلا للمعونة في قتل المسلمين إلا وسلكوه فهذي قواعد الشيطان الأكبر أمريكا في قطر والكويت، فما أضرَّ الأمة أكثر من وجودهم يدعمون بالمال والنفط أعداءنا ليقتلونا. وما أمر دول المغرب خير من دول مشرقه، ففرنسا عدوة الإسلام الدائمة التي لم تجف أيدي جيشها من دماء المسلمين في الجزائر والمغرب ما زالت تُخضع تلك البلاد لصولجانها، فما أتعسه من حال وأخبثه من مرض نعاني منه منذ عقود بل وتجاوزنا قرنا من الزمن. وما شجّع أولئك الأغراب وعزز مكانة هؤلاء الحكّام إلا غياب حكم الخلافة الجامع لأمر الأمة الموحد البلاد في بلاد واحدة وجامع الرايات في راية واحدة، وما حربهم ضد داعش بعد إعلان دولة الخلافة حربا ضد إرهاب كما يزعمون ولا حفظا لحقوق الإنسان والحريات بل لأنهم يعرفون أن نظام  الخلافة يهدد مصالحهم وحكمهم وسيطرتهم، فما همَّهم إن كانت داعش بريئة أو مذنبة، خيّرة أو شرانية، فليكونوا إرهابيين وقتلة ومجرمين فكل شيء مسموح به إلا نظام الخلافة في السياسة والحكم والتشريع والتنفيذ، وإن لم تعلن داعش الخلافة ولم تتوجه إلى الإضرار بمصالح أمريكا والغرب لما اكترثوا لها ولا رفعوا بوجهها سكين مطبخ، بل هم يعلمون كل العلم ما الذي تعنيه خلافة توحد المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها. 
لطالما اهتممت بموضوع الخلافة منذ أن فتح الله عليَّ من هديه وفضله، وكانت الخلافة العثمانية موضع اهتمامي وشغلي الشاغل، باحثا عن أسباب إزالة الخلافة وهدم النظام الإسلامي في الحكم وتمزيق الأرض بحدود مصطنعة بعد أن كانت الأرض واحدة بسلطان ونظام واحد. 
لم أكترث لتلك التهم والطعون التي تصف العثمانيين بالسوء والعنصرية والإقصاء وكان لزاما عليَّ أن أجدَّ في البحث فقد قال جلَّ من قائل "إن أكرمكم عند الله أتقاكم" وقال "إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فأعبدون"، ويقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد وإن أباكم واحد؛ ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى، أبلغتُّ؟" فقال الصحابة بلَّغ رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد كانت أمتنا أمة قائمة على مبدأ التوحيد والإسلام ولا تمييز بين أحد وفقا لعرقه أو نسبه أو بلده إلا بعمله لذا فيقول النبي (صلى الله عليه وسلم) في الحديث الذي رواه مسلم: "يا فاطمة بنت محمد اعملي فإني لا أغني عنك من الله شيئًا، يا صفية عمة رسول الله اعملي فإني لا أغني عنك من الله شيئًا، يا عباس عم رسول الله اعمل فإني لا أغني عنك من الله شيئًا، لا يأتيني الناس يوم القيامة بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم، واعلموا أنه لن يدخل أحدكم الجنة بعمله»، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل»".
فهذه الآيات الكريمة والأحاديث النبوية تُعلمنا أن نحكم على الناس وفقا لعملهم، لذا فقد طرحت جانبا أي طعنٍ لا يتوافق مع آي القرآن الكريم وهدي النبي العدنان عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم. 
ولا شك إن إزالة الخلافة هو المنطلق الذي يجب أن ابتدئ فيه حتى أربط الحلقات بعضها مع بعض، ولا فهم للحاضر دون فك عقد الماضي ولا بناء مستقبل مشرق دون إصلاح الحاضر. 
فكان كتاب كيف هدمت الخلافة لعبد القديم زلّوم من آخر ما قرأت بخصوص هذا الموضوع وإن كنت قد سبقته بقراءات مثل الأسرار الخفية وراء إلغاء الخلافة العثمانية ومذكرات السلطان عبد الحميد الثاني وكتب أخرى فيما يخص تاريخ هذه المرحلة، إلا إن هذا الكتاب لخّص وأعطى صورا كاملة للمشهد الذي سبق هذه النكسة المتمثلة في إلغاء نظام الخلافة، وهنا لا أكتب مشتاقا لأطلال العثمانيين ولا غيرهم، بل أكتب تائقا لكشف الزيغ والطعون التي لفت هذه المرحلة الحرجة من تاريخنا المعاصر وكيف تحولنا من نظام خلافة يستمد قوانينه من الشريعة السمحاء إلى نظام حكم وضعي يلائم أهواء الصليبيين والملاحدة ممن الماديين المنكرين لله والأديان والمحاربين لهما أشدَّ الحرب بلا هوادة ولا كلل ولا ملل. 
فبعد تقديم للصراع بين الكفر والإسلام يوضّح فيه عبد القديم زلّوم أن الصراع بين الكفر والإسلام صراع دائم ولن ينتهي ومن الجهالة والسفالة والغباء الظن بنهايته بل هو باقٍ ما بقيت السماوات والأرض وما حدث ضد العثمانيين هو جزء من هذا الصراع إلا إن هذا الصراع قد بدأ قبل ذلك بعقود تزامنت مع وهن العثمانيين وتسلّط الإنجليز والفرنسيون والأوروبيون عامة وما فعلته الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر من قلب موازين القوى إلى صالحهم بشكل لا يُضاهى، لكن هذا وحده لم يكن كافيا إذ الغاية ليست الهزيمة الحربية فقط بل تدمير النظام الإسلامي كليّا من الألف إلى الياء، وهذه الغاية الخبيثة تحتاج إلى جهود متظافرة في جوانب متعددة ثقافية وفكرية وسياسية واقتصادية وعسكرية، فبدأً من محاولة استمالة خلفاء بني عثمان إلى إنشاء مركز إسطنبول ومركز بيروت لإثارة النعرات القومية والضرب على وتر العرب والترك، هذه الأمراض الاجتماعية التي نهى عنها النبي (صلى الله عليه وسلم) بل وحاربها أشد المحاربة وطالب الصحابة بهجرها، فقد كان العرب متناحرين والأمم متنازعة فوحّد الإسلام صفّهم ولمَّ شملهم وجعلهم أمة واحدة لا فرق فيها ولا تفاوت إلا بالعلم والعمل الصالح، ثم شرعوا بعدها بمحاولة إدخال القوانين الوضعية في القضاء إلى جانب الشريعة، ليحل الخراب تدريجيا ويبلغ أشده في إنشاء جمعية تركيا الفتاة أو ما يعرف لاحقا بحزب الاتحاد والترقي الذي تزعم هذه الحركة الثورية الجديدة -التي تأسست في باريس- أحمد رضا بك وشبّان أتراك آخرين ممن تشبعوا بالقيم والمفاهيم الأوروبية في السياسة والحكم، فكان دور الأوروبيين في نشأة حزب الاتحاد والترقي وضخِّه بالأفكار العنصرية والقومية، وبذر البذور القوميات والصراع العنصري بين العرب والأتراك ثم التواصل فيما بعد مع العرب وكان من بين تلك الشخصيات في منطقة الجزيرة العربية اللا شريف حسين وعبد العزيز آل سعود، حتى يكتمل الخلاف وتبدأ المرحلة الثانية في تمزيق الأمة الإسلامية التي تمثلت في الثورة العربية الكبرى عام 1916. لكن هذه الثورة سبقها صعود حزب الاتحاد والترقي وعزل السلطان عبد الحميد عام 1908، وبروز النعرة القومية وفرض سياسة التتريك والدعوى لها، وسوء معاملة العرب والتمييز لهم في المناصب وترقيات الجيش، كل هذا ساعد على نشوء جدار فاصل بين العرب والأتراك وهي من السياسات الخبيثة التي سعى فيها الإنجليز والفرنسيون، إضافة إلى إطلاق حملاتهم الاستكشافية والتنقيبية في الأراضي العربية دارسين وفاحصين وعاقدين الاتفاقات ومهيئيين الأجواء والأفكار لبذر القومية والاستقلال العربي عن الحكم التركي يسابقهم في هذا الفرنسيون والألمان فالكل يريد حصته في هذه الغنيمة. 
فكان اشتراك العثمانيين في الحرب العالمية الأولى، والسلطة شبه شكلية للسلاطين العثمانيين الذين خلفوا عبد الحميد، وزمام الأمور بيد الوزراء الذين كان أغلبهم معروف الولاء للإنجليز من أنور باشا وطلعت باشا وجمال باشا، وحتى الذي لا يواليهم فهو يداهنهم ويخطب ودهم، ثم جاءت هزيمة العثمانيين في الحرب العالمية التي دخلوها في خندق ألمانيا نذير شؤم النهاية وترافقت بصعود نجم مصطفى كمال أتاتورك ولا سيما بعد المعركة بالقرب من "أنا فورطه"، ليجد الإنجليز ضالتهم في شخصه، الذي كان سعيه مسعورا ومحموما في إلغاء نظام الخلافة والتنازل عن جميع الأراضي غير التركية، والتي ابتدأ الإنجليز والفرنسيين احتلالها في العراق والشام ومصر، وكان عبد العزيز وأمير مكة يتكفلون بمهامهم في الجزيرة العربية وبعد انسحاب العثمانيين منها، بدأ الصراع بين الاثنين وكانت الغلبة لمن كان ولاؤه للإنجليز أقوى إذ كان أمير مكة اللا شريف حسين متمسكا بالقدس عكس الأول الذي لم يكن يهمه سوى أن يثبّت سلطانه ويحظى بدعم الإنجليز بغض النظر عن الثمن المدفوع. 
يركز الكتاب بعد هذا على تسليط الضوء على صعود نجم أتاتورك واتصالاته مع السلطان وحيد الدين الذي كان يعرفه، ثم اعتزاله العمل العسكري، والبدء بالعمل السري من أجل إعداد العدة للهدف المنشود، ويمكننا القول وما يثبته الواقع إن العثمانيين انتهت سلطانهم مع عزل عبد الحميد وكان قد دخلوا عصر الانحطاط والانهيار في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لذا فقد هُييئت لأتاتورك الأرضية المناسبة للتوسع بمشاريعه بدعم الإنجليز الذين كان شغلهم الشاغل إلغاء الخلافة بعد أن مزّقوا البلاد العربية واحتلوها، فكانت خططهم أخطبوطية في العراق ومصر والشام وتركيا. 
بدأ أتاتورك باتصالاته وتكوين النواة في دولة تركيا الجديد كل هذا بإشراف الإنجليز ودعمهم ومساندتهم السياسية والعسكرية وكانوا قد احتلوا إسطنبول وأخضعوها لأمرهم وسمحوا لليونانيين بالتوغل والوصول إلى احتلال أزمير، فأقام أتاتورك المؤتمرات مثل مؤتمر أرضروم وسيواس، واتصل بالخليفة، وكان مصطفى يبث فكرة تحرير البلاد من سطوة الإنجليز ويشكك بموقف السلطان الذي كان خاضعا للإرادة الإنجليزية، لذلك فقد تحولت القضية من أرض خلافة تضم البلاد العربية والإسلامية إلى قضية بلد قومي للأتراك يجب أن يحرروه من النفوذ الإنجليزي، فيا لها من خطة ويا له من تغيير، انتهى به إلى تأسيس حكومة أنقرة واتخاذها مركزا له ونقل العاصمة من أسطنبول إلى أنقرة لاحقا بعد أن أعلن دولة تركيا الحديثة، وإنشاء برلمان، لتبدأ بعد سياسة الجذب والأخذ التي استمرت، وأصبح لحكومة أنقرة تمثيلها الرسمي الذي تخاطبه الدول الأوروبية وتعترف به تباعا إضافة إلى وجود سلطة الخلافة العثمانية التي يمثلها الخليفة كل هذا جرى بسنوات قلائل ما بين (1918-1922) حتى إعلان تأسيس دولة تركيا الحديثة في عام 1923.
هذا الإعلان سبقه شد وجذب، فقد كان الأتراك ما يزالون يؤمنون بنظام الخلافة ولا يرون له بديلا عكس أتاتورك وأعوانه، لذا فقد كانت حكومة أنقرة هي الحركة التي قصمت ظهر الخلافة العثمانية، وأخطر ما نراه والذي يكشف دور الإنجليز في هدم نظام الخلافة وإزالته هو ما وقع في مؤتمر لوزان المعقود في عام 1922 وحضره مبعوث وفد حكومة أنقرة الذي عُدَّ ممثلا وكان قد طلب رئيس الوفد الإنجليزي:
إلغاء الخلافة إلغاء تاما، وطرد الخليفة خارج الحدود، ومصادرة أمواله، وإعلان علمانية الدولة، حتى تنال استقلالها. وانفض هذا المؤتمر دون الوصول إلى اتفاق. 
أمست قضية استقلال تركيا مرتبط بإزالة الخلافة، ورغم الصعوبات والعواقب ورفض أعضاء البرلمان وحتى بعض أفراد حزب الاتحاد والترقي هذا الأمر لكن كان لأتاتورك ألاعيبه وسلطته وقوته التي فرضت هذه الإرادة وتمت الموافقة على إلغاء الخلافة وأعلن المجلس الوطني الكبير هذا القرار في الثالث من آذار/ مارس 1924. واعتقل جميع أفراد عائلة  السلطان والأمراء والأميرات ورحلوا إلى الخارج، وتحولت أوقاف المسلمين إلى الدولة، وتحولت المدارس الإسلامية إلى مدنية، وبدأ عهد جديد من عولمة الدولة بقيادة أتاتورك عدو الإسلام والمسلمين. 
وأعيد افتتاح مؤتمر لوزان ووافقوا على شروط الصلح واستقلال تركيا!



الثلاثاء، 8 أكتوبر 2019

طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد - عبد الرحمن الكواكبي.



عبد الرحمن الكواكبي (1855-1902) مفكر عربي وأحد قادة النهضة العربية، ولد في حلب لأسرة عربية قديمة، ذات علم ودين، فقد قيل أن والديه يعودان بالنسب إلى العائلة العلوية الشريفة، وكان والده أحمد بهائي مدير المدرسة الكواكبية في حلب. 
كفل الكواكبي خالته صفية آل النقيب بعد وفاة والدته عفيفة، فدرس في أنطاكيا بعد أن انتقل إليها رفقتها، فتعلم القراءة والكتابة والتركية وحفظ من القرآن، ليعود بعدها إلى حلب ليكمل دراسته، ثم انتقل إلى أنطاكيا مجددا ليدرس العلوم، كانت حياته حافلة بالمناصب التي تقلّدها لأجل أن تغري السلطة لسانه فيداهنها لكنه أبى إلا أن يكون صوت الناس مجاهرا بأخطاء الحكومة الأمر الذي عُرِّضَ بسببه إلى مشاكل مع السلطات العثمانية والولاة وصلت إلى حبسه والحكم عليه بالإعدام لكن استطاع الخلاص منهما مرَّة بالدفاع عن نفسه وكشف تزوير الوثائق الكيدية ومرة بالمظاهرات التي خرج بها إلى أهل حلب للإفراج عنها، لينتهي به المطاف هاربا إلى مصر في منتصف تشرين الثاني/ نوفمبر من عام 1899، ونشر فيها أهم مؤلفاته (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) في مقالات في صحيفة "المؤيد" في حينها "طبائع الاستعباد" الكتاب الذي كان كما مرجح السبب في اغتياله بفنجان قهوة مسموم في مقهى "يلدز" قرب "حديقة الأزبكية" في القاهرة.
وكان لموت صداه فقد رثاه الأدباء والشعراء مثل مصطفى صادق الرفاعي وحافظ إبراهيم الذي قال في بيتين:
هنا رجل الدنيا، هنا مهبط التقى     هنا خير مظلوم، هنا خير كاتبِ
قفوا، واقرؤوا (أم الكتاب)، وسلّموا      عليه، فهذا القبر قبر الكواكبي

من مؤلفاته الأخرى: أم القرى، والعظمة لله، وصحائف قريش. 

يقول في مقدمة كتابه طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد: 
"في زيارتي هذه لمصر، نشرت في أشهر جرائدها (المؤيد كما ذكرت أعلاه) بعض مقالات سياسية تحت عنوانات: الاستبداد، ما هو الاستبداد وما تأثيره على الدين، على العلم، على التربية، على الأخلاق، على المجد، على المال… إلى غير ذلك.
ثم في زيارتي مصر ثانية أجبت تكليف بعض الشبيبة، فوسعت تلك المباحث خصوصا في الاجتماعيات كالتربية والأخلاق، وأضفت إليها طرائق التخلص من الاستبداد، ونشرت ذلك في كتاب سميته (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) وجعلته هدية مني للناشئة العربية المباركة الأبية المعقودة آمال الأمة بيمن نواصيهم، ولا غرو فلا شباب إلا بالشباب.  
ثم في زيارتي هذه وهي الثالثة (الأخيرة التي اغتيل فيها عام 1902)، وجدت الكتاب قد نفد في برهة قليلة فأحببت أن أعيد النظر وأزيده زيدا مما درسته فضبطته، أو ما اقتبسته وطبقته. وقد صرفت في هذا السبيل عمرا عزيزا وعناءً غير قليل… وأنا لا أقصد في مباحثي ظالما بعنيه، ولا حكومة أو أمة مخصصة، إنما أردت بيان طبائع الاستبداد وما يفعل، وتشخيص مصارع الاستعباد وما يقضيه ويمضيه على ذويه… ولي هناك قصد آخر وهو التنبيه لمورد الداء الدفين، عسى أن يعرف الذين قضوا نحبهم أنهم هم المتسببون لما حل بهم، فلا يعتبون على الأغيار ولا على الأقدار، إنما يعتبون على الجهل وفقد الهمم والتواكل… وعسى الذين فيهم بقية رمق من الحياة يستدركون شأنهم قبل الممات". 


هذا الكتاب وإن كان حجمه صغيرا فإن علمه غزير وثقله كالصخور الجلاميد، فكأن كلماته معاولُ يهدم بها قصور الطغاة ويرميهم بطير فكره الأبابيل، فيخلفهم هشيما محتضرا لا تنفذ أكاذيبهم وأساليبهم بعدها إلا على عُمي البصائر والبصر، أعزة على ذويهم أذلة على المستبدين ممن ملكوا البلاد والعباد فما أقاموا شرعا ولا حفظوا عرفا ولا اتبعوا حكم إله أو إنسان ولم يروا غير طريق الغي والشيطان، وما أكثرهم في بلادنا العربية، فلا الحياة حياة كريمة ولا الموت موت شريف. 
عمل الكواكبي في كتابه هذا على تفصيل موضوع الاستبداد وتوزيعه في فصول ومقالات تنوعت بعد تعريف الاستبداد لغة وعرفا على تأثير الاستبداد وأسبابه ونتائجه في: 
الدين، والعلم، والمجد، والمال، والأخلاق، والتربية، والترقي، وكيفية التخلص منه. 
يجد القارئ النَبِه الفَطِن في هذه المباحث الثمانية علة العلل التي نعاني منها منذ بواكير القرن الماضي، وتفاقمت سوءا في العقود الأخيرة، فأينما تولي وجهك فوق هذه الأرض تصطدم بحاكم سوء طاغية أو حكومة فُجر باغية، لا يسلم فيها شريف من الذلة، ولا عزيز من المهانة، ولا غني من ذل السؤال، ولا عالم من قهر الإلجام، فالإرادة مسلوبة، والفكر مُعتقل، والحرية مُقيدة، وإن نادى بعضهم بامتلاكهم هذا، فما هي إلا نشوة سكران أو أحلام عبدٍ في الأصفاد، رضي بالقليل الذي تأباه الحيوانات، وتموت تحت شمسه النباتات. فهذا هو الحال من مشرق يطل على الخليج إلى مغرب مطل على المحيط، ولا تفاوت إلا في دركات السوء، ولا فضل في هذا إلا في أذهان البُله والمجّان من خدم ونعال السلطان. 

يخلص الكواكبي إلى علة العلل محددا تفاصيلها وكشف السبيل إلى معرفة الداء وكيفية الحصول على الدواء، فيقول لا يعود تراجعنا إلى جهل منتشر بين الناس، ولا ابتعاد عن الدين وتطبيقاته، ولا الاختلاف في الآراء والأفكار، بل في الاستبداد السياسي للطَغام الحاكمة فإن ملكوا الحكم أفسدوا الدين وأهله، واضمحلَّ بفضلهم العلم والعلماء، وشاعت الأخلاق الرديئة فيقول "أسير الاستبداد لا نظام في حياته، فلا نظام في أخلاقه، قد يصبح غنيا فيضحى شجاعا كريما، وقد يمسي فقيرا فيبيت جبان خسيسا"، ويشيع المجد الزائف المتوج بالظلم والطغيان، ويكثر المطبلون اللاهجون باسم ذاك وذاك فيما أسماه التمجد، وأما المال فيصفه بأنه دين وشرف وحياة الاستبداد، "فتكثر رؤوس الأموال في عهد  الحكومات المستبدة فيسهل تحصيل الثروة بالسرقة من بيت المال، وبالتعدي على الحقوق العامة، وبغصب ما في أيدي الضعفاء"، وأما التربية فلا تربية تحت ظل الاستبداد فيقول: "الاستبداد يضطر الناس إلى استباحة الكذب والتحيل والخداع والنفاق والتذلل، وإلى مراغمة الحس وإماتة النفس ونبذ الجدّ وترك العمل، إلى آخره. وينتج من ذلك أن الاستبداد المشؤوم يتولى بطبعه تربية الناس على الخصال الملعونة، وأما الترقي فلا ترقي في عهد الانحطاط، وأي انحطاط أكبر من حكومة مستبدة لا تحق حقا ولا تبطل باطلا، ولا شيء فيها إلا ما يهوى ويشتهي السلطان. 
والمبحث الأخير من كتابه فإن يشمل طرق التخلص من الاستبداد والتي كان من أبرزها نشر العلم بين الناس وتعريفها بعدوها الحقيقي، والشعور بآلام الأمة كاملة الغني بالفقير، والقوي بالضعيف، والعزيز بالذليل، ومقاومة الاستبداد بالتدرج واللين وإلا فإننا نستبدل طاغية جديد بالطاغية القديم، ثم والأهم تهيئ البديل، وبماذا سنستبدل حكومة الاستبداد. 

لا تكفي الكلمات والملخصات لإيضاح قيمة هذا الكتاب، ولي عودة مستمرة إليه إن شاء الله تعالى. 


الثلاثاء، 1 أكتوبر 2019

عالم صوفي - جوستاين غاردر.



"الذي لا يعرف أن يتعلم دروس الثلاثة آلاف سنة الأخيرة يبقى في العتمة" غوته. 

افتتح جوستاين روايته بمقولة غوته، لكن من ذاك الذي يستطيع أن يتعلم دروس آلاف السنين في سنين معدوات لا تعني شيئا من عمر الحياة على هذه الأرض، ولا أرى تعلم تلك الدروس لعجلة التطور البشري في جوانبه كافة إلا في مسك حبل العجلة والاستمرار في جرها وتحريكها والبدء من الموضع الذي توقف عنده الأقدمون، هكذا لن نتعلم دروس الثلاثة الآلاف السنة الماضية فحسب بل سنكون جزءا منها ونشترك في تدوين الألفية الرابعة التي تمضي بنا بسرعة في عصر الفوضى والانفجار السكاني والاحتباس الحراري والذكاء الاصطناعي والسياسات اللا محسوبة في ظل عوالم متناقضة أشد التناقض في العالم الواحد الذي نعيشه. فما الذي تعنيه الفلسفة من كل هذا؟ وما الذي يقع على عاتقها؟ هل الاستمرار في محاولة الإجابة عن الأسئلة التي بقيت شائكة ومستعصية الإجابة عن الحياة والموت والكون، ومن أين أتينا وأتى العالم وإلى أين يمضي، وهل هناك بداية لكل شيء؟ أو حتى نهاية؟ حاول جوستاين في عمله الأدبي هذا أن يقتفي كلام غوته ويعبّر عن أهمية تعلم الدروس الفلسفية الضاربة الجذور إلى ما قبل التاريخ الميلادي مع الإغريق الذي أسسوا لها القواعد وشيّدوا بنيانها ليتابع اللاحقون ما ابتدأه الإغريق وعلى رأسهم الثلاثة الكبار (سقراط وأفلاطون وأرسطو) الذين يبدو أن العالم الفكري لن يخرج من ظلالهم أبدا مهما بدا أنه يحاول ذلك، فحلقة الفلسفة التي كبرت يوما بعد يوم حتى ملأت مياه الأرض قد قذف حجرها أولئك الثلاثة في بركة الفكر الإنسانية. 
وفي معرض الحديث عن الرواية، أكمل مستقرئًا العمل من جانبيه الموضوعي والبنائي. 

موضوع الرواية.  
   
لا أذكر من القائل إن من يملك فكرة ولا يعرف كيف يطرحها فليكتبها في رواية، وسواء أكان القول لأحدهم أو أتوهم أنه لأحدهم، فإنه يوحي بحل منطقي لطرح التساؤلات والأفكار ويشيد بقيمة الرواية، التي دائما ما ارتبطت بالتطور الفكري والعقائدي والإنساني للجنس البشري، وكما توصف -وهذي حقيقتها- بأنها وريثة الأساطير والملاحم الشعرية للسابقين، فهي القالب الذي يعبّر الإنسان عن فكره ورؤاه وتطلعاته ويكشف مكنونات نفسه، معالجا قضايا ومسهما في زعزعة الأوهام والخرافات والأمراض وحاملا قنديلا مرشدا للجميع أن هلموا فمن هنا الطريق، لا يمكن للعالم اليوم أن يتخلى عن الرواية فقد أضحت مرحلة من مراحل التطور الإبداعي البشري. فما بعد عصر الأساطير والملاحم والأشعار والقصص؛ جاءت الرواية لتمثل إحدى القمم الإنسانية الفكرية التي منحت الإنسان كل القيم التي جهلها أو بحث عنها ووجدها ولم يجد بدًا من الكشف عنها إلا في رواية. لم يكن غاردر بمنأى عن هذا الإدراك لمفهوم الرواية، فاختارها قالبا لعرض تطور الفلسفة منذ نشوئها قبل آلاف السنين، وصعودا شيئا فشيئا إلى يومنا المعاصر، مستعرضا فيها أهم الفلاسفة والمذاهب الفلسفية، عن طريق حوارات ونقاشات وأسئلة وشروحات تكفل بها فيلسوف الرواية ألبرتوكنوكس والصبية ذات الخمسة عشر عاما صوفي، فيأخذ القارئ إلى عالم صوفي، الذي تشكّل من وحي الفلسفة وتطورها وفكر رجالها. 
ينصح الكثيرون أن تكون الرواية عملا إرشاديا للدخول في الفلسفة، لكن هذا الطريق يبدو شائكا بعض الشيء، فالرواية وإن كانت قالبا ضم بين أكنافه الفلسفة وعرضها، إلا إنها أيضا تبقى عملا روائيا ذا جودة لا تخفى، قد يضيع القارئ ما بين الفلسفة والرواية، ويتشتت فتضيع عليه متعة الاثنتين، لذا فلا بد أن يكون للقارئ اطلاع مسبقا وإن طفيفا على الفلسفة قبل الشروع في قراءتها حتى يجد المتعة الكاملة، مما لا يخفى على القارئ أن الكاتب اختار سن الخامسة عشرة ليوحي لقرّائه أنه السن المناسبة لتعليم النشء الفلسفة، وكشف الغطاء عن أعينهم ليبدأوا مهمة البحث عن الأسئلة الوجودية في هذا العالم بدءًا من سؤال الحياة ومصدرها مرورا بقيمة الحياة ومعناها انتهاءً بالاستعداد للموت وما الأثر الذي تود أن تخلّفه بعدك، وإن كان العمل لا يدرج العقائديات في الموضوع، إلا إني أجد أن من الضرورة أن تكون الفلسفة شريكة لاحقة للتنمية والتنشئة العقائدية، الموحدة لله، ثم بعدها تعرض الفلسفة ومذاهبها للنشء، فالفلسفة في الأخير لن تجيب عن كل شيء، وأن يتبع المرء الوحي الإلهي الحق خيرٌ له من اتباع أوهام، فالأول ينفعك ويضرك إن آمنت به أو كفرت إذا حقا موجودا، في حين الثاني قد يضرك ولا ينفعك بكل الأحوال إن كان الحياة عبثية ومنتهية إلى عدم، والبحث عن الأمان في المجهول لا يقارن بالمخاطرة في مجهول غير معروفة العواقب؛ ومهما بلغ الإنسان من العلم فسيبقى دون فهم الكون والحياة والتأكد من يقينات قاطعة للشك فيما يخص الدين والإله اللذين كانا موضوعين دسمين للفلاسفة على مر عصور الفلسفة المتنوعة ومذاهبها. 



بنية العمل

بنى جوستاين العمل ليكون متلائما مع الفلسفة وبعض الأفكار الفلسفية التي طرحها، فشكلت المراهقة صوفي الحقل الذي طُبِّقَت فيه الفلسفة تطبيقا جعلت الرواية تنتقل من الانتظام إلى الصدمة إلى الشك إلى العبثية إلى تداخل العوالم إلى اللا معقول غير القابل للتصديق إلا في الخيال الإنساني، مع استخدام تقنيات روائية ما بعد حداثية كوعي الشخصيات بأنها شخصيات خيالية وليست إلا مجرد أوهام في  وعي الكاتب أو حتى لا وعيه، ومحاولتها الثورة على هذه الحقيقة والهرب إلى عالم الحقيقة للكاتب المايجور -الذي هو أيضا خيال للكاتب "جوستاين"-. 
تتلقى صوفي رسائل ذات محتوى فلسفي وأسئلة فلسفية، يستمر من خلالها هذا المجهول بعرض الفلسفة وتطورها حتى مرحلة معينة يقرر فيها أن يلتقيا ويبدآ بالتدارس بعد أن يكشف ألبرتو -الفيلسوف المجهول- عن هويته ويكمل دروسه للفتية صوفي، التي كانت في ذات الوقت تستقبل رسائل معنونة إلى "هيلد موللر كناغ بواسطة صوفي أمندسون" لتكون هي حلقة وصل ما بين هيلد والدها المُرسِل "المايجور"، استغرق الأمر وقتا حتى كشفت صوفي حقيقة هذا الرسائل ودورها هي من هذه اللعبة الكبيرة -الرواية الهدية-. 
فمن هي صوفي وألبرتو وهيلد والمايجور، وما طبيعة العلاقة التي ربطتهم، وما دور الفلسفة في كل هذا؟ تساؤلات يطرحها القارئ أثناء القراءة، لتتضح لـه كل هذه العلاقات بصورة تدريجية متزامنة مع تطور الفلسفة، وأكاد أميل جازما أن قيمة الرواية هو في هذه البنية الروائية المتقنة، وهذا التداخل بين الشخصيات الحقيقة "خيالية من المرتبة الأولى" والخيالية "خيالية من المرتبة الثانية"، إضافة إلى وعي الجميع بدوره الحقيقي والخيالي والغاية منه، في رواية "يعيها القارئ" داخل رواية "تعيها الشخصيات بفضل ما بات يعرف اليوم بالميتا سردية أو ما وراء النص -التي عُكست إذ عملت الشخصية في طرح ما سيفعل أو يفكر بفعله كاتبها-. 
منذ البداية كان يعرف ألبرتو الفيلسوف بأنه ليس سوى شخصية خيالية خلقها الكاتب المايجور- والد هيلد- وخلق جميع الشخصيات في عالمه ومن بينهم صوفي، إلا إن تلك الشخصيات كانت في منأى عن إدراك هذه الحقيقة، ومع بدء الدروس الأساسية في الفلسفة، والتي كانت موجهة إلى صوفي إلا إنها في الحقيقة كانت موجهة إلى هيلد بواسطة صوفي، وهنا نعرف أن الرسائل التي كانت موجهة إلى هيلد بواسطة صوفي التي لم تكن سوى قارئة لها أو شاشة عرض له، للمستلِمة أو المتلقية هيلد، فكان لصوفي دورين دُمجا معا أخذ مقعد هيلد في تلقي الفلسفة -صوفي هي هيلد لكن في عالم الرواية- ووسيلة لتعليم الفلسفة لهيلد أكثر امتاعا عبر قرائتها ذاتها وهي تتعلم الفلسفة. 
شيئا فشيئا، تدرك صوفي حقيقتها ودورها وأنها ليست سوى شخصية داخل رواية، ليدخل إلى الحلبة، شخصية هيلد الحقيقة التي كانت تقرأ رواية "عالم صوفي" وهي ذات الرواية التي يقرأها القارئ. ونحصل هنا على مستويين من القراءة: الممستوى الأول المتمثل فينا نحن القرّاء، والمستوى الثاني متثمل في هيلد "القارئة الثانية"، والتي مثلت أيضا مستوى السرد الأول "مكانا وزمانا ووعيا" في حين مثلَّ ألبرتو وصوفي وعالمها "مستوى السرد الثاني "مكانا وزمانا ووعيا"، شعرتُ بالاحباط أول الأمر حين اكتشفت أن صوفي هي مجرد شخصية خيالية داخل عمل خيالي، وتعي أنها ذات مسلوبة، لكن الكاتب "جاستين" استطاع أن يمنحها سلطة أعلى من سلطة الكاتب الداخلي "المايجور" وغلبت الشخصيات الخيالية خالقها الذي هو بدوره شخصية خيالية، لنصل إلى مرحلة من تداخل العوالم السردية وتصبح سلطة الشخصيات "ذات المستوى التخييلي الثاني" أعلى من سلطة الشخصيات "ذات المستوى التخييلي الأول -الحقيقي في الرواية" تصل إلى حد تجد فيه الشخصية الخيالية رواية ذاتها "عالم صوفي" بعد أن تعبر إلى عالم كاتبها. هذه الثورة من الخيال على الحقيقة، كان في جزء منها رسائل لا مباشرة  وجهها الكاتب إلى القارئ حول إمكانية أننا مجرد شخصيات خيالية في لا وعي مخلوق آخر أو في لا وعي وعي شامل، أو كذلك إلى مدى العبثية التي قد تكون عليها الحياة في حقيقتها. 

العمل في مكنوناته وأفكاره وموضوعاته وتقنياته الروائية شائقٌ ويحمل في طياته ما لا يُكشف بسهولة الأمر الذي لا يجعل مجالا للشك عن مدى شهرة هذه الرواية سواء في موضوعها الفلسفي أو بنيتها الروائية، وتبقى قراءة هكذا أعمال نافعة ومفيدة للباحث عن مدخل إلى الفلسفة أو ذاك المهتم بالتقنيات الروائية والعوالم السردية.      

مذكرات عوليس

مذكرات عوليس   ١ أكتوبر . عوليس الرواية التي فصلت تاريخ الرواية إلى جزئين ما قبل عوليس وما بعد عوليس كما يصفها م...