الاثنين، 30 أبريل 2018

بغداد نيويورك - نهاد عبد.



الرواية الأولى للكاتبة العراقية نهاد عبد والتي تدور حول قصة حب افتراضية في عالم الفيس بوك، وهنا يخالج كل منا سؤال مهم أأومن بالحب الإلكتروني أم لا؟ نتفق ونختلف في مدى جدواه والثمار التي تؤتي أُكلها خاصة في بيئات لم يكتمل مفهوم الحب لديها بالصورة الصحيحة فالحب له صور نمطية مكررة ومشوهة في كثير من الأحيان يسقط الكثير في سرابه الكاذب ومن ثم يبني قصصا وأحداثا تأخذ مسارا دراميا عاطفيا وكله فوق أسس واهية وأحيانا غبية وتافهة، أن ترتبط وتحب إنسانا لم تره، ولم تجلس معه، لم تتشارك معه الهواء، وكثير من أبجديات الحب التي يجب أن تتوفر حتى تكون صادقا ومتيقنا من مشاعرك، أما أن تخدع نفسك وتتلقي بآخر يعاني نفس أمراضك النفسية والفراغ العاطفي، فهنا تشوه الحب في مجتمعاتنا أكثر وبدا مخزيا ومقيتا، ومن زاد في تشويهه هم الحمقى ذكورا وإناثا الذين كذبوا الكذبة وعادوا لتصديقها والبكاء على أطلالها، هل ننكر كل العلاقات؟ لا شك أن هناك الصادق والمثمر، لكننا لن نسمع كثيرا عنها، فهي قصص تغرق في موج آلاف القصص الساذجة والغبية والتي تصدر من كائنات مريضة لم تستطع كبح جماح شهواتها ونزواتها العاطفية.
تأتي هذه الرواية لتسدل الستار على المسرحيات الفارغة التي لا تحمل هدفا ولا مضمونا ولا غاية ألا وهو وهم الحب الكاذب، هذه الرواية أرى أنها من الخطورة بمكان وأن لا تتكرر مرة أخرى فموضوعها من المواضيع التي إن تكرر دخل في دوامة التكرار والممل والنمطية، نظرا للموضوع الذي لا يكاد يكون أي منا إلا ولديه قصة أو اثنتين عن هذه العلاقات، ربما ليس بذات السوء الذي وصلت له قصة أبطال هذه الرواية، والتي بذات الوقت لم تعالج قضية اجتماعية بل بقيت في حالة سرد ووصف للحالة النفسية، والقارئ لن يخرج بخطوات تعالج هذا المرض الاجتماعي بل يخرج بفائدة واحدة، احفظ نفسك ومشاعرك من مستنقع العالم الافتراضي، فالمرضى في كل مكان وينتظرون أي زلة منك ليقتاتوا منها ويمارسوا ساديتهم المبتذلة.


ناي وكريم وقصة حب مفترض مريض.

ناي العشرينية أو هكذا تُعرف نفسها لكريم الإعلامي، المثقف المتزوج الذي يعشق العراق، وهي التي تخرج من العراق مهاجرة وتشد رحالها إلى أمريكا لتستقر هناك، ونظرا للظروف الصعبة التي يواجها أي مغترب في أرض جديدة، تلجئ ناي إلى العالم الافتراضي لتقتل وقتها، لتبدأ بعدها رحلة حب مع كريم، تطبق من خلالها كل أمراضها النفسية وتمارس دور المحبة أو هكذا توهم نفسها، معطية لنا الصورة النمطية التافهة للحب، أن تحب فقط من خلال الكلمات أن لا تسمع ولا ترى الآخر، أي سذاجة هذه، أيسمى حب هذا؟ التمنع والصد عن شخص تدّعي حبه، وتناقض رهيب فهي تحبه وتريده لها وبذات الوقت تمنعه حتى الاستماع لصوتها، تحبه رغم معرفته أنه متزوج وبذات الوقت تطلب منه أن يضحي وتسأل نفسها لمَ أضحي وهو لم يضحِ لأجلي، متجاهلة البعد المكاني والفرق الزمني بين العراق وأمريكا، مع رجل يعيش في أرض هربت منها؟ كل هذه التناقضات تنم عن شخصية مريضة ومخادعة، تعترف بأخطائها تارة وتكابر تارة، لا تعرف ماذا تريد، تتخيل نفسها بين أحضانه تمارس شهوتها المحمومة وتُبرد نار شبقها وتتمنى لقاءه، وحين تحين الفرصة للقائه تهرب ملقية اللوم عليه بأنه شهواني يرغب بجسدها، لا لن يراني، كاذبة، مخادعة، متقلبة تصعد بنفسها لمصاف عاهرة حقيرة ثم تعود ممارسة تقوى وتمسكا بالتقاليد والشرف، الشرف هذه الكلمة التي رغم كل نبلها أعطتها ناي معنى وضيع لن يعيد له رونقه إلا ممارسة البغاء، لتعرف أن الشرف ليس فقط مضاجعة رجل. الشرف الذي سيبقى حبيسا ولن تعرف معناه أبدا.
على الجانب الآخر نحن بحضرة شخصية شرقية تافهة، سهلة الخداع، رغم كل صفاته وثقافته ومهنته التي تمنحه السفرات لدول مختلفة، ألا إنه أحمق وغر، ينجذب لأنثى لا يعرف عنها شيئا، لم تعطه شيئا، وهو المتزوج وصاحب العائلة، لكنه يهوي في مستنقعها ظانا منه أنه الحب، لم تسعفه كل خبراته وعلاقاته من أن ينقذ نفسه من حبائل هذه المرأة التي تمارس معه ساديتها، وهذا التي تبرزه العلاقة الفارغة والممارسات التي تقوم بها ناي، فهي تقوم بحظره تارة وترفعه تارة، حتى أصبح متعودا أن يستمر الحظر أسبوعين فإن طال كان هذا دليلا كافيا على أن معشوقته قد أصابها شيء ما، فقد حان موعد رفع الحظر، أي مازوخية وحب للإهانة التي عليها كريم، ليته كان كريما وأكرم نفسه بحفظ كرامته ولا يجعل نفسه مثل كلب ينتظر من سيده فضلات الطعام ليشكره بعدها نابحا. رغم كل شيء وكل الإهانة لكنه يصر على حماقته مدعيا حبه لها وحبها له.



كريم وناي وواقع مرير.

كنت أطمح وأتمنى بعد أن أنهيت قراءة هذه الرواية أن يكون هناك معالجة وطرح بصورة أكثر دقة في التوصيف للأسباب هذه العلاقة، أمور القارئ بحاجة لها تخص السيكولوجيا والتركيب النفسي الناشئ من هذه الحالة أو الأسباب التراكمية التي أنتجت مخلوقين مشوهين مشاعرًا لا يعرفون ما هو الحب ولا كيف يكون، والموضوع الآخر الذي كان يجب أن يُكمل رسم أسباب هذه العلاقة هو الذي يخص السوسيولوجيا، وإن ذكرت الكاتبة بعض الخصائص الاجتماعية التي أثرت على تصرفات ناي، ألا إن الرواية هذا العمل الإنساني ليس مجرد قصة تُسرد والسلام، بل يجب أن تكون ذات رسالة عميقة بعمق موضوعها الاجتماعي الإنساني المهم، وما أجادت به الكاتبة هو أن تجعل القارئ وأنا منهم أن يكره ويمقت هذا الكذب الذي يسمونه حب عبر العوالم الوهمية، فالكاتبة نجحت في جعلنا نكرهه لكنها لم ترشدنا كيف نتجنبه أو تُثرنا في معرفة أسبابه التي جعلت أبطالها والكثير منهم يصلون إلى هذه المرحلة.

اللغة والسرد.

لغة الرواية امتازت بالنسق الشاعري الرومانسي السلس والمنساب بتدفق رائق، بعيدا كل البعد عن الصعوبة والتعقيد خاصة وهي تتناول موضوعا لا يتحمل لغة ذات مستوى عال، ففي الأخير كثير من الحوارات هي محادثات فيس بوك، والسرد هو الآخر كان سردا نمطيا، بلسان الشخص الأول- السرد المتجانس- تقوم الكاتبة بسرد الحوادث الماضية وربطها بالحاضر دون أي جمالية أدبية، فهو سرد يتبعه سرد، يتخلله بعض الأحيان الإسهاب الذي يُشعر القارئ بالملل.
تعمل الكاتبة الاعتماد على وصف الأماكن التي توجد فيها ناي لكنها لا تتطرق إلى وصف الأماكن التي يوجد فيها كريم كثيرا، التباين واضح بين البيئتين الرئيسيتين، نعرف البيت الذي سكنته ناي والغرف والمطبخ والجارة الأفريقية وشجرة الخوخ والباحة الخارجية بينما كريم أين يوجد، يطوف في بعد لا علامة واضحة تميزه.
كان التركيز على حالة ناي النفسية، واتسمت المحاورات بين البطلين بالتكرار والملل والمبالغة، بلغة حب مستهلكة، عبارات وتشبيهات وأوصاف وأمنيات يستخدمها الجميع، بعض الفقرات النسوية مثل أن كل الرجال خائنون، ومحاولة جعل المرأة عيش دور المظلومية التي لا تنتهي، والتي لا أعرف متى ستحرر النساءُ النساءَ من هذه القيود، فكثيرا ما تظهر المرأة أنها الكائن البريء وأن مجرد حبها للرجل هو صك الملكية والعبودية التي تمن عليه به، الحب المشوه الذي يتم حجزه في قالب المشاعر والشوق والكلمات، هيكل فارغ لجوهر لم يتم تحرير فكر الشخصيات الأنثوية فيه، وسأبقى متشوقا لقراءة عمل أدبي، لا ترى المرأة نفسها مظلومة ولا تمن على الرجل بحبها، الحب الذي ينتهي غالبا بزواجها رجل لا تحبه، وتبقى في صراع لا تسلم نفسها لحبيبها، أو تسلم نفسها لزوجها وهي تفكر في حبيبها! فإلى متى تتغير هذه الصورة لا أعلم.



والجدير بالذكر أيضا هو البيئة الإلكترونية لشخصيات الرواية كلهم يكتبون فناي تكتب وتنشر ومنى صديقتها تكتب، وكريم يكتب وزوجته تكتب، ما هذه البيئة التي تكتب كلها، بيئة الأدباء الإلكترونية التي لا تفرق عن بيئة الحب الذي ينتهي بالحظر (البلوك).

رواية زينب وبداية الرواية العربية الحديثة – محمد حسين هيكل.



يقول محمد حسين هيكل في مقدمة الرواية في طبعتها الثالثة عندما نُشرت أول الأمر في مطبعة الجريدة دون عنوان أو إهداء وباسم مؤلف "مصري فلاح": 

"… وكنت ولوعا يومئذ بالأدب الفرنسي أشد الولع، فلم أكن أعرف منه إلا قليلا يوم غادرتُ مصر وبضاعتي في الفرنسية لا تتجاوز الكلمات عدّا، فلما أكببت على دراسة تلك اللغة وآدابها رأيت فيها غير ما رأيت من قبل في الآداب الإنكليزية وفي الآداب العربية. رأيتُ سلاسة وسهولة وسيلا، ورأيت مع هذا كله قصدا ودقة في التعبير والوصف وبساطة في العبارة لا تواتي إلا الذين يحبون ما يرون من التعبير عنه أكثر من حبهم ألفاظ عبارتهم. واختلط في نفسي ولعي بهذا الأدب الجديد عندي بحنيني العظيم لوطني، وكان من ذلك أن هممت بتصوير ما في النفس من ذكريات لأماكن وحوادث وصور مصرية، وبعد محاولات غير كثيرة انطلقت أكتب "زينب"…".

ومما ذكر في محمد حسين عن تأثره بالآداب الفرنسية بعد اطلاعه عليها، ما يُؤكد لنا التأثير الغربي الأدبي في روايته، ثم افتقاد عنصر الإبداع والابتكار الروائي والتحول إلى حقل التأثر والتقليد وإتيان شيء مشابه للرواية الأوربية والتي شهدت المرحلة التي سبقت هذه الرواية الانفتاح على الآداب الأوروبية والفرنسية خاصة بعد حملة نابليون على مصر وإرسال البعثات إلى فرنسا، يفرد الدكتور عبد الله إبراهيم في كتاب السردية العربية الحديثة فصلا عن الرواية بعنوان "إشكالية رواية زينب" يذكر فيه ويناقش ما ورد حول هذه الرواية من آراء وما كتب عنها في نقدها وتحليلها وريادتها للرواية العربية الحديثة ومن جملة ما ورد في الفصل الثاني

"ظهرت رواية زينب في نهاية مرحلة تاريخية انتقالية شهدت تداخلا كبيرا بين الأذواق الأدبية والأحكام والمعايير النقدية. وهي الحقبة التي اصطدمت فيها الأنساق الثقافية المختلفة، وكل ذلك جعل المتناقضات تتجاور في تلك المرحلة بحيث يصعب الانتهاء إلى رأي حاسم في ظواهرها الأدبية والفكرية، فكلما جرى تقليب التضاريس المكونة للثقافة الأدبية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين تباينت وسائل البحث، واختلفت وجهات النظر، وتعددت النتائج المستخلصة. ولا يخفى أن هذا الأمر جهّز "قراءات" رواية "هيكل" بتصورات متباينة، بلغت أحيانا درجة التضاد التام؛ لأنها صدرت عن معايير مختلفة لم يتفق عليها كل الاتفاق". ص 67








ويضيف في موضع آخر:

 "إذا كان التكوين الفكري والأدبي لـ"هيكل" قد تشكل بتأثير التبعية الكاملة للمؤثر الغربي، كما خلص إلى ذلك "البحراوي"، فالشك يحوم حول ريادة "زينب" التي كانت مرآة لذلك المؤثر، وعليه فمن الصعب أن تكون "رواية بالمعنى الدقيق" بل لا يمكن أن تكون "رواية حقيقية كما زعم النقاد". ص73


وبقراءة ما أفرده الناقد عبد الله إبراهيم في هذا الفصل حول ريادة هذه الرواية من عدمها وانقسام النُقاد بين مؤيد ومعارض حول أحقيتها في الريادة فإن ما يخرج به المهتم والقارئ هو تبلور أسس نقدية وقاعدة تنطلق منها القراءات المختلفة للرواية العربية في بداياتها والتي تختلف من أحد إلى آخر ولكل منهم أسبابه التي يبرر بها رأيه وموقفه، لكن المهم والجدير بالذكر أن الرواية العربية الحديثة هي نتيجة اختلاط الآداب الأوربية بالأدب العربي واتساع حركة التعريب فالترجمة ليطلع الأدباء إلى أكبر عدد ممكن من الآداب والروايات، ليثروا معرفتهم ولتتراكم بعدها مع الموروث الأدبي النثري العربي وتطوراته خلال العقود الماضية من أجل السعي إلى إبراز هذا الفن الأدبي الجديد على الأدب العربي والذي لم يكن يعرفه قديما، وفي نهاية الفصل يذكر الناقد عبد الله إبراهيم أهمية الخطاب الاستعماري وتأثيره في جدل ريادة رواية زينب قائلا

"وبالنظر إلى أن الخطاب الاستعماري قد رسخ فكرة زائفة حول موضوع الريادة، فسعي إلى عزلها عن مجمل الحراك السردي الخصب في القرن التاسع عشر، وأهمل تفكك الموروث السردي، وإعادة تشكيل رصيده السردي في النوع الروائي الجديد، وجعل من رواية "زينب" النص الذي تتجلى فيه السمات السردية بأفضل أشكالها، لتوفرها على بعض سمات الرواية الأوروبية، آثرنا ألا نتخطى هذه القضية، فجرى تحليل مجموعة من القراءات المتضادة التي دارات حول هذه الرواية، ليس بهدف خفض قيمتها، إنما من أجل تذويب السياج الدوغمائي الذي أحيطت به استنادا لاعتبارات متعددة، كثيرا منها لم يكن أدبيا". ص80

***










رواية زينب المكتوبة ما بين سني 1909-1911، والمختلف على التاريخ الحقيقي لنشرها، يذكر محمد حسين هيكل أنها نشرت لأول مرة في سنة 1914. تدور الرواية في الريف المصري، ويتصدر أبطال الرواية حامد ابن السيد محمود صاحب الأملاك والفلاحة بنت الأسرة الفقيرة زينب الواجهة، وما بين حياة الريف والزراعة وتنقية القطن والعمل اليومي من شروق الشمس حتى غروبها، يدفن الأحياء المملوكين أنفسهم في العمل من أجل لقمة العيش، تتقاطع الأقدار أحيانا لكنها تبقى دون مستوى الإثارة، تبرز شخصيات أخرى كحسن وإبراهيم وعزيزة، لكنهم يبقون ضيوف شرف لا تتعدى وظيفتهم إلا إبراز أسباب التغيير الذي يطرأ على حياة زينب وحامد العاطفية والنفسية والفكرية والتي تبدو في كثير من الأحيان طوباوية لا تُنتجها البيئة الريفية التي يعيشون فيها، وهذا بالدرجة الكبيرة في ما يخص زينب التي تقع في غرام إبراهيم وحبه، ورفضها الزواج من حسن، وهنا ما يتهم الكثير النقاد محمد حسين هيكل أنه حاول بث أفكاره من خلال شخصية زينب وحامد، فالرفض والوقوف في وجه القرار الأبوي في قبول الزوج أو رفضه هو بداية التغيير والمأساة التي تقع فيها زينب والتي لا تنتهي على خير في آخر المطاف ولا تشتكي زينب من حياة العمل والمملوكية المفروضة عليها رغم ذلك. وفي الوقت نفسه يبرز صوت المؤلف في الدفاع عن هؤلاء المغلوبين على أمرهم ويبرر سخطه من هذا الوضع الذي ينتفع فيه أصحاب الأقطان في حين أن من يجهد ويعمل طوال يومه، لا يتلقى إلا النزر اليسير

زينب الفتاة الريفية الجميلة والتي وقعت في حبائل حامد إثر إحدى فورات شهوات الشباب والملاك إلا أنها لم تترك في نفسها ذاك الأثر الكبير، خاصة بعد أن وقعت بغرام وحب إبراهيم

وتدخل في صراع نفسي تتقاذفها فيها أمواج بحر غاضب ما بين التزامها بواجبي الشرعي والأخلاقي تجاه زوج يحبها، ويداريها لتشعر بذنب التقصير تجاهه، لكنها تستلم لعاطفتها ومشاعرها الملتهبة لإبراهيم، وتبقى في صراع لا ينتهي ومأساة نفسية تودي بأصابتها بالمرض في آخر المطاف، لتحمل أمها وأسرتها مسؤولية ما ألمَّ بها بسبب تزويجهم إياها من لا ترغب وتحب. زينب رغم كل المشاعر المرهفة والأخلاق التي أكتسبتها من البيئة التي نشأت فيها فإنها تكسر تابو هذه العادات من خلال لقاءاتها مع إبراهيم رغم زواجها واستسلامها لحامد حين راودها عن نفسها، فتظهر بهيئة ركيكة وضعيفة ومغلوبة على أمرها أو متخبطة لا تعلم ماذا تفعل أو تريد، ولربما هذه الرسالة التي أراد أن يوصلها الكاتب من إعطاء صورة الفتاة الريفية الرقيقة المشاعر رغم قسوة البيئة وشظف العيش

على الجانب الآخر هناك حامد الفلاح المتعلم، الذي أضاع بوصلة قلبه واختلطت مشاعره بشهوته ورغبته الجسدية، فبعد أن وُعد أن يتزوج ابنة عمه حين يكبر، يجد نفسه في بداية شبابه ينجذب لفلاحة تعمل في أملاك أبيه ويجد نفسها بعدها مهتما بها، ويفكر في شأنها، ألا أنه لا يستمر أن يغير وجهته ويعود لغرام ابنة عمه الحب القديم، عزيزة الفتاة الريفية الأخرى التي بث الكاتب من خلال رسائلها التي تبادلتها مع حامد تلك النزعة إلى التحرر من الحبس الأسري في البيت لكن في ذات الوقت هناك خضوع وذلة تامة، لا يمكن من خلالها تغيير الواقع الذي تعيش في كنفه، غارقة في اليأس من تغيير الحال وتحسنه، وتطلب من حامد أن يعيش حياته ويتمتع بها فلهم الحياة والاستمتاع بغروب الشمس وشروقها والتنقل بين الحقول والأراضي بكل راحة دون رقيب، وهن اللائي سيقضين حياتهن حبيسات بين جدران أربعة وسقف، ينتقلن من سلطة أب إلى سطوة زوج حتى يأتيها الموت.

وبعد خسارته لعزيزة وقبلها فقدانه لزينب رغم محاولاته إعادة الماضي ومغامراته لكن رغباته تصطدم برفض زينب الغارقة في حب إبراهيم، يجد نفسه بعد ذلك في ضياع حيران كيف يداري رغباته أو ما يعلل كل تلك الدوافع التي تعتلج في صدره برغبة المحافظة على النوع كما يبين هذه الأفكار برسالته إلى أبيه بعد هربه إلى المدينة، علّه يجد هناك من تلتحم روحها بروحه، ويجد في أحضانها الخلاص، وبين شفاهها ماء يُطفئ لهيب رغبات جسده التي ثارت براكينها وتشتت بعد خسارته لعزيزة، يتقلب بين واحدة إلى أخرى يحب هذه ولا يستمر أن ينقتل إلى تلك ليجد نفسه بعدها أجبن من أن يواجه الواقع والحياة وذاته ويهرب مخلفا كل شيء وراءه، تاركا رسالة لأبيه يوضح فيها أسباب هربه، رسالة طويلة فلسفية غارقة في السيكولوجية لا تتناسب لغة خطاب مع أبيه الريفي قليل التعليم

شخصيات هيكل غارقة في كثير من التناقضات ويستخدمون لغة وفلسفة لا تنتمي لبيئة الريف وهذا ما يبرر للنقاد اتهام هيكل التأثر بالفكر الغربي والفلسفة الأوروبية ومحاولة تسقيطها على شخصياته؛ لتظهر الهوة واسعة بين البيئة والمصادر التي ينهل منها هؤلاء معرفتهم وبين لغة الخطاب والتفكير والتصرفات.


تسير الرواية بخط زمني واحد ومكان واحد، لتبدو عادية المظهر والإطار لا مزية أو لفتة إبداعية وتقل المحاورات بين الشخصيات حتى تكاد تكون معدودة، في الوقت الذي يغرقون في مونولوجات وصراعات فكرية ونفسية وعاطفية تعصف بهم، وتكاد الحبكة هي الأخرى تكاد تكون مفقودة في حين تُغيَّب شخصيات بعبثية لا نتيجة تصاعد نسق الأحداث كما هو الحال في إرسال إبراهيم إلى السودان أداءً للخدمة العسكرية. يحاول المؤلف أن يبرز صوته في التعليق على الأحداث أو ما يجري لشخوصه، وعرض ما يجول في نفوسهم ليبقي نفسه سيد السرد والعرض ومحاولة إذابة صوته في أصواتهم فلا يُعطي الانطباع بتفردهم بالقول والتصرف والاختيار. يعتمد الكاتب في سرده على الكثير من الوصف والتشبيهات والاستعارات وإدخال عنصر الطبيعة ومكوناتها في رسم الصورة التي يُدرج شخوصه فيها، لكنه يقع في الكثير من الإسهاب والإنشاء في التوصيف لتتكون صورة مليئة بالتفاصيل الدقيقة والتي إن تغاضى عنها أو تعامل معها بأقل كثافة لظهرت بمظهر أكثر خفة وتناسبا مع الحدث المسرود بدل أن يضيع القارئ في لغة شعرية مركبة العبارات وقوية المعاني، بدل أن ينشدَّ إلى الحدث ويبقى متماسكا في ذهنه ومترابطا في بنائه دون معوقات تعرقل انسياب فهم الحدث دون تأخر وتركيز في أمور أخرى أو خروج عن النص.