الثابت والمتحول
بحث في الاتباع والإبداع عند العرب.
هو الكتاب الأول من أربعة أجزاء للشاعر السوري أدونيس، وهذا الكتاب في الأساس هو رسالة تقدم بها أدونيس إلى جامعة القديس يوسف ببيروت لنيل شهادة الدكتوراه في الأدب العربي.
يقدم أدونيس في هذا الكتاب موضوع جدلي ومهم ومؤثر في مسار المجتمع العربي الإسلامي بعد الرسالة المحمدية في إطار السياسة والدين وتأثيرهما على مسار الأدب العربي الشعر-. حيث يفصل أدونيس بحثه أو كتابه إلى قسمين يمثلان المحورين الرئيسين وهما: الاتباع والإبداع، منطلقا من الاتباع في الأدب ورابطا إياه بمفهوم الاتباع الديني -العقائدي المتمثل بتعاليم الإسلام، والسياسي الذي تمثّل بالخلافة-. بداية مع دور العقيدة الإسلامية وتحكّمها في مواضيع الشعر ودلائله وأغراضه، مبتدأً من النبي محمد ونزولًا لأصحابه والخلفاء. حيث تم الحكم على الشعر بمواضيعه وأغراضه، فمدحوا ما يتوافق مع رسالة الإسلام وأثنوا على شعرائه، وذموا ما خرج عن قيم الإسلام وأخلاقياته وذموا أصحابه والتي وصلت في مواقف شتى للقصاص من أصحاب وخاصة من هجو النبي أو من كتبوا في المحرمات.
أما السياسة التي استخدمت الشعر كنوع من الإعلام الذي يصب في خدمة السلطة والحاكم وهذا ما كان واضحا بصورة جلية في عهد الأمويين، حيث أصبح الشعر وسيلة للشعراء لدعم السلطة في سياستها، ومصدرا لرزق الشعراء، بمواضيع شعرهم ومدحهم للأمراء.
وينطلق الاتباع السياسي من خلافة النبي ومبايعة الناس للمهاجرين الذين تمثلوا بخلافة أبي بكر ومن ثم عمر وعثمان وعلي، رغم اعتراض الأنصار ورغبتهم بها وفي هذا المقام يرد أبو بكر الصديق بقوله "نحن الملوك وأنتم الوزراء"، وكانت سياسة هؤلاء هي اتباعية لنهج النبي، وكذا باقي جوانب الحياة الاجتماعية والثقافية التي تمثلت بالشعر، بمواضيعه والتي بقيت ذات المعايير التي تحكم على الشعر منذ حقبة ما قبل الإسلام عند العرب مع فرق نوع المواضيع التي تخدم مصلحة الدين والدولة.
يربط أدونيس ما بين الاتباع الديني والاتباع الشعري، وبما أن الدين موروث ثابت وأصيل غير محدود بزمن متجدد دائما لا يبليه عصرٌ ولا زمان، أبدي خالد، ولأنه نزل باللغة العربية متمثلا بالقرآن الكريم كأول مصدر تشريع ، التي هي لغة قريش، أصبح الشعر الجاهلي مرتبطا بالدين الذي رفعت رايته الخلافة التي تمثلت بقريش، فآخذ من الدين صفة التجدد الدائم والكمال المطلق، وأن أفضل الشعراء هم الأوائل وكل من يأتي بعدهم هو بمرتبة أدنى، وعليه أن يلتزم بالماضي، كونه هو الكمال للشعر، والقالب الذي لا يجب أن يحيد عنه، والشاعر مهما كان عصره وزمانه، سيكون مجبورا على العودة إلى الوراء، فالكمال يقبع خلفه لا أمامه، والمستقبل الشعري، كان في الماضي وبقي هناك، وبمرور الزمن يبقى هو النير الخالد المستقبلي الحاضر دائما، وإن أردت الكمال فعليك العودة إلى الوراء وليس التقدم إلى الأمام، واكتسب هذه الميزة لارتباطه بالدين والعقيدة الدينية الثابتة والكاملة في كل العصور.
وهذه نقطة مفصلية، الشعر أصبح مؤطرًا بإطار قُدسي، لا يُعّدل ولا يُرمّم وكل محاولة للخروج عن المسار الذي وضعه الأوائل -شعراء الجاهلية-، هي محاولة ثورة على الأصيل، وستبوء بالفشل، فالجديد لا يتجدد والخالد لا يموت، والكامل لا يكتمل، وأصبحت أي محاولة تجديد غير مجدية لأنه يُحكم عليها من قبل النُقّاد بأحكام الشعر المتعاهد عليها، ولا يُمكن الاحتكام إلى الجديد الذي يجب أن يُثبت قواعده أولا، ولا قواعد إلا بقوالب الشعر القديم.
وهنا يبدو الأمر أقرب للغز منه إلى محاولة التجديد، لأنه لا يُمكن لأي تجديد أن يرى النور إلا بحدود القديم، ولا يمكن للجديد أن يبني قواعده بذاته، إلا إذا ارتبط بالقديم الذي لا يسمح له بالتغيير؛ فيبقى حبيسٌ له أبد الدهر.
أما الإبداع، فهو كذلك مرتبط سياسيا ودينيا، كقاعدة انطلق منها الرغبة بالتغيير، ويستشهد هنا أدونيس بحركة الخوارج، وخروجهم على عثمان، بسبب فساد من ولّاهم على الأمصار وعدم معاقبته لهم وعزله للفاسدين، ومن ثم تمثّلت بالتعارض بين علي ومعاوية، وكل الحركات السياسية والثورية التي شهدتها تلك الفترة ضد نظام السلطة العام، من أجل تصحيح الأوضاع وتعديلها، وعزل الولاة الذي سرقوا مال العباد باسم مال الله، وظهور رغبة في الخروج على المتعارف عليه، والمقدس، الذي أخذ قدسيته من الدين -وهنا اقصد الخلافة-، ويناقش أدونيس مفهوم الخلافة والملوكية والإمامة -عند الشيعة- ليضع الأمر على حجر اختبار بين هذه المفاهيم الثلاثة وكيفية الخروج والتغيير واللذين ينبعان من مفهوم الإبداع، والتحرر من المتوارث، وبظهور هذه الحركات السياسية، ظهر الإبداع الشعري، وهنا خروجه عن مواضيعه التقليدية، ليعبر عن أهداف هؤلاء -واجهة إعلامية- التي صدحوا بها ضد النظام الفاسد -وفق إيمانهم-.
لكن الخروج عن المألوف في شعر العرب لم يبتدئ بالخروج عن الموروث من خلال الحركات السياسية والثورية ضد السلطة، فقد كان خروج امرؤ القيس بشعره هو البداية، في استحداث مواضيع جديدة، كانت تتميز عن المتعارف عليه، والتي جعلت أباه يقوم بطرده، لأسباب أخلاقية اجتماعية تمثّلت في شعره وأغراضه وكما وُصف (تعهّر بشعره)، وكذلك في معايير النقد الشعري السائد آنئذ، كالقياس من الواقع، ودنو الهمة التي تتعارض مع كون امرؤ القيس ملك وابن ملوك، والأوصاف التي كان يستخدمها في عرض صفات فرسه التي أراد بها مدحا، ولكن هذه الأوصاف تُظهر بشكل نقصية لا مزية، وهذا ما لم يعهده العرب في شعرهم.
وينتهي الكتاب بشعر جميل بثينة، ونظرته للمرأة، وتغير مفهوم المرأة ما بين السابق وما وصفه وبيّنه وعاشه جميل، حيث تمثل بثينة بالنسبة لجميل، الأنثى الخالدة التي لا تكبر ولا يصيبها الدهر بآفاته، فهي كالنار التي تضطرم في صدر جميل فتبقي حبه لها ملتهبا وتؤذيه بذات الوقت، فالنظرة إلى المرأة تغيّرت مع جميل، عن المنحى التي كانت تُوصف به في شعر الأقدميين، وهذا التجديد يمثل نقلة فريدة في الخروج عن المألوف والإبداع في الشعر. ويقارنه مع امرؤ القيس، فشعر امرؤ القيس عن المرأة شعر يمثل نزوة جسد وضرورة يومية عكس جميل الذي يكون حبه عفيفا بعيدا عن ملذات الجسد، ولا يمثل حاجة يومية تنتهي، بل هي حاجة سامية وخالدة، أزلية وأبدية، تمثل اتحاده مع الكون والموجودات، بنظرة فلسفية وصوفية، فقيمتها ودوافعه لها ليسا مرتبطان بشخص غيرها بل هي وحدها فقط، وإن أي أنثى أخرى لا يمكن لها أن تُصيّر جميل لحال آخر، وهذا ما يفرق به عن شعر امرؤ القيس في المرأة -قاصدا النساء جميعا- ولن تفرق معه هذه أو تلك. هذا التجديد في مفهوم المرأة في الشعر، يمثل حركة الإبداع في المواضيع التي تطرق لها شعر الأقدمين.
يبقى هذا الموضوع شائكًا ومتداخلا، فمفهوم الاتباع والإبداع وتقييده بقيود عقائدية أضْفت عليه، صبغة الجمود، والجمود هنا التمام والمثالية، قد يختلف القارئ مع بعض ما طرحه أدونيس، فهو يُعبّر عن رأيه ورؤيته الخاصة، وتحليلاته الشخصية، لكنه سيثير الكثير من التساؤلات التي يجب البحث والكتابة حولها، فالشعر العربي، ليس مجرد كلامٌ موزون مقفى؛ بل حياة كاملة وكما وُصف بأنه سجل العرب، وهو خاضع لقوانين، قد يكون الخروج عليها والثورة الإبداعية نقلة نوعية تمثل عصرا جديدا من الحداثة الأدبية الشعرية العربية، من يدري.
الكتاب الثاني من سلسلة الثابت والمتحول.
تأصيل الأصول.
ويُكمل أدونيس ما بدأه في كتابه الأول حول الاتباع والإبداع عند العرب، فيبدأ بتأصيل أصول الاتباع، في الدين والسياسية منذ نهاية العهد الأموي حتى أوائل القرن الرابع الهجري، ويأخذ الشافعي رحمه، الفقيه العالم، مثالا في دراسة التأصيل والاتباع في الدين، حيث يُعتبر الشافعي أول من "أصّل الأصول"، وعنه يقول الأمام أحمد بن حنبل: "كان أفقه الناس في كتاب الله عزل وجل، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم".
دراسا وموضحا أراء الشافعي الفقهية والشرعية في الدين، ومسالكه وقواعده في الاتباع والاجتهاد والقياس، وما ارتبط بهذه القضايا الفقهية والشرعية بالسياسة والمواقف الشرعية من ولاة الأمر والخروج عليهم.
وفي الفصل الثاني، يبحث في تأصيل الأصول البيانية - الشعرية عند العرب، متخذًا الأصمعي والجاحظ، مثالين للشعر واللغة، فيبحث في آراء الأصمعي وطرقه في تصنيف الشعراء، ما بين شاعرٍ وفحل، فيوضح منهج الأصمعي الصعب في تصنيفاته للشعراء فلا يكاد يرى الأصمعي شاعرًا ليصنفه فحل من فحول الشعر إلا إذا امتاز بأربع خصال هي:
١- الحظوة، المنزلة والمكانة. و٢- والسبق. و٣- الأخذ من قوله. و٤- اتباع مذهبه.
ويعتمد الأصمعي في تصنيفاته على مبدأ الأولية الجاهلية، والأولية هي رمز الصحة، لأنها رمز الفطرة.
وأما الجاحظ، فيوضح آراءه الثابتة في أن قيمة الشعر العربي لغةً وفائدةً فهي مقصورة على العربي، لأن الشعر لفظ، وبما إن المعنى موجود في كل اللغات، فتكون بلاغته وبيانه في اللفظ، وهذا ما يجعل الشعر العربي مقتصرا على العربية فقط، فهو يفقد قيمته إذا تُرجم إلى لغة آخرى، فالمعاني واحدة في كل اللغات، لكن اللفظ هو ما يختلف، حيث يكون للفظ الكلمة وقعها على إذن المتلقي، وتفقد ذاك الوقع إذا تُرجمت إلى لغة آخرى، فيزول التأثير اللغوي الذي لن يفهمه سوى العربي من الشعر العربي.
القسم الثاني من الكتاب فهو في تأصيل الإبداع والتحول، ويبدأ بالحركات الثورية، متخذًا منها منطلقًا، لبدايات التحول والتغيير ومن ثمَّ الإبداع، الذي يواجه الاتباع، ويعاكسه، ويأخذ من ثورة الزنج والقرامطة، مثالين للتحول ومحاولة تحسين ظروفهم السيئة التي عاشوا فيها، وسوء ولاة الأمور التي دفعت الناس للثورة ضد هؤلاء الولاة، والمطالبة بحرياتهم، وحقوقهم التي سُلبت.
والفصل الثاني في الابداع والتحول، فهو يشمل الموقف الديني، المنهج التجريبي وإبطال النبوة، ويطرح أربع شخصيات لدراسة فكرها ومنهجها التجريبي، وهذه الشخصيات هي ابن المقفع، وابن الراوندي، ومحمد بن زكريا الرازي، وجابر بن حيان، حيث يعتبر ابن المقفع أول من أخذ موقفا من الدين منتقدا إياه والله والنبي، متاخذا العقل مقياسا له، فهو ذو منهج عقلي لا يعتمد على القرآن أو السنة، وأما ابن الراوندي وبن حيان فقد وصل معهم المنهج العقلي إلى ذروته، فابن الراوندي يعتمد على العقل في ردوده وحججه ضد الدين وما جاء به النبي، منكرًا قيمة الأنبياء ومكذبًا إياهم، وابن حيان الذي اعتمد على المذهب التجريبي، فهو يعتبر مؤسس النزعة التجريبية العلمية، ونحا في علم الكيمياء منحى عقليا اختباريا مستبعدا الخوارق، وهو بهذا يختلف عن منهج أهل الكيمياء اليونانيين، الذين يستخدمون الخوراق في التفسير. وبهذا يكون ابن حيان عقلاني والحق عنده بالتجربة والدليل العقلاني. وأما الرازي فهو انتقد النبوة، معتمدًا على العقل وحده في نقدها وتفنيدها، وإننا من خلال العقل فقط بإمكاننا معرفة الخير والشر والجيد والسيئ ولسنا بحاجة لنبي، فإذا كنا نميز بعقولنا سقطت الحاجة للرسل، فيكذبهم. ومما سبق نرى أن هؤلاء لم يعتمدوا على مذهب الاتباع، بل عمدوا إلى المذهب العقلاني في تفسير الدين وما ورثوه، وبذلك يمثلون مرحلة أولى من الثورة على الموروث، معتنقين اللا دينية الربوبية.
والفصل الثالث، في الإبداع هو شعرية الصوفية، وعلاقة الظاهر بالباطن، وبدايات الصوفية مع أبي يزيد البسطامي، ومنهجه وأوقواله البينّة الكفر، والتجرؤ على الذات الإلهية، التي لا أرى فيها نوعًا من الإبداع، بل هي كفر محظ، تجعل من الإنسان شريكا لله، وتُنزل من قدر الله، فيجعلون من أنفسهم في موقع أفضل من الله أحيانا، فيقول البسطامي "سبحاني سبحاني" ويقول "ضربتي خيمتي بإزاء العرش" ويقول "لأن تراني مرة خير من أن ترى ربك ألف مرة"، فهذا المنهج الذي اتبعه البسطامي، منهج كفري، وضال، ليس فيه أي إبداع ولا قيمة له إلا ببعض الشطحات الفلسفية.
والفصل الرابع هو في الإبداع والحداثة في الشعر عن أبي نؤاس وأبي تمام، والتجديد الذي سار عليه الشاعران، في اللغة والمفردات والاهتمام بالمعنى وإشباعه بالمغزى والاستنباط كما في شعر أبي تمام، مخالفا بذلك المنهج القديم المتبع في قياس اللفظ على المعنى ومطابقته إياه. واستخدام الخيال والبعد عن الواقعية كما في شعر أبي نؤاس. والتجديد في شعرهم يكمن في الخروج من التعبير الطبيعي إلى التعبير الفني.
وكما يقول أبو نؤاس:
غير أني قائل ما أتاني * من ظنوني مكذبًا للعيان
القسم الثالث من الكتاب، في جدلية الاتباع والإبداع، الفصل الأول يبحث في معنى القديم والحديث، مفصلًا أكثر مما جاء به في تأصيل الإبداع، وفي مفاهيم السنة والقياس والإبداع (البدعة في الدين)، وفي هذا الفصل لم يأتِ بالشيء الجديد فهو شبه تكرار لما في التأصيل غير أنه توسّع أكثر.
الفصل الثاني في الحركة اللغوية، وتأثيرها على الشعر، والاختلاف بين مدرستي الكوفة والبصرة، فمدرسة الكوفة اعتمدت المذهب السماعي في اللغة والشعر، وأما البصرة فاعتمدت المذهب القياسي، مما أدى إلى خلاف بين هذين المدرستين، وبالتألي تأثيرهما على نقد الشعر، من ناحية تجديده والمحافظة على حداثته، وإن اختلاف لغة الشعر بين لغة الحضر ولغة البادية، جعل الشعر القديم هو المعيار في لغة الشعر، فلغة الحضر، بعد أن اختلط العرب وتمدّنوا، مالت إلى السهولة واللين، فرّقت لغة الشعر، مما أدى برفض الكثير للغة الشعر الجديدة والمحدّثة.
الفصل الثالث في الحركة الشعرية، ويأخذ أدونيس الصولي والآمدي، كمثالين للنقد الشعري، اللذان تكفّلا بنقد الشعر لغةً ومعنى ولفظا، فتناولوا شعر أبي تمام والبحتري والخلاف الذي دار بين أنصار الاثنين، شعر مَن أجودُ مِن مَن؟ موضحًا منهج الاثنين في نقد الشعر، وتبرز قيمة شعر أبي تمام، لفلسفة شعره، فشعره يحمل من المعنى أكثر مما يبرزه اللفظ، فيدعو قارءه أو سامعه إلى الاستنباط والتفكير، وهذا ما خالف به الشعر القديم- الجاهلي- الذي يوازن ما بين اللفظة والمعنى، فتبقى اللفظة مقياس للمعنى، ولا يحيد اللفظ إلى معنى آخر، لكن شعر أبي تمام، على عكس ذلك، فالمعنى عنده مُضمر وما اللفظ إلا بوابة لفهم المعنى، وهو الخيال الشعري، الذي أبدعه، والصور الشعرية، التي أساء الكثير فهمها، ومنهم الآمدي الذي ينقد بعضا من شعر أبي تمام، فيقول ناقدا هذا البيت:
أجدر بجمرةٍ لوعة، اطفاؤها بالدمع، أن تزداد طول وقود
(وهذا خلاف ما عليه العرب، وضد ما يعرف من معانيها، لأن المعلوم من شأن الدمع أن يطفئ الغليل، ويبرد حرارة الحزن، ويزيل شدة الوجد، ويعقب الراحة)
ففي رأيه الكثير من القصور، فهو لم يبلغ المعنى الذي أراد أبو تمام إيصاله، فالمعنى واضح وبيّن، أن الدمع لا ينفع ولا يجدي، فكأنه وقود يزيد حريق جمر اللوعة، بدل أن يخمدها، ومن هذا المثال بإمكاننا أن نقيس على المعيار الذي كان متعارفا، في نقد الشعر، والذي فيه الكثير من الخلل، فهو يجعل من الكلمة جامدة، ومحبوسة في قالب اللفظ، فينكر جمال الصورة الشعرية إن لم تأتِ كما هو متعاهد عليه.
وينهي الكتاب بخلاصته منه، ويحاول أدونيس ربط الإبداع في الشعر، وسعة اللفظ وإمكانياته في احتواء معانٍ متعددة، تدعو للغوص من أجل فهمها وتخيّل الصورة الشعرية بجماليتها، مع ما يتبعه الصوفية بعلاقة الظاهر مع الباطن- التجربة الباطنية-، وأن المعبر عنه لا يساوي العبارة، فالعلاقة فيها الكثير من الرمزية، وهي ليست علاقة مطابقة، كما عهده العرب في شعرهم.
الجزءان الثالث والرابع: