الاثنين، 25 مارس 2019

بدر شاكر السياب (حياته وشعره) - عيسى بلاطه.



يتناول هذا الكتاب حياة الشاعر العراقي بدر شاكر السياب، أحد أهم الشعراء العرب في القرن العشرين، والذي يتصدر طليعة مؤسسي الشعر الحر في الوطن العربي رفقة نازك الملائكة، وبالرغم من أن الشعر الحر لم يبدأ معهما فقد سبقتهما محاولات لشعراء آخرين، إلا أن تأسيس هذا النوع الشعري المعروف بالشعر الحر لم يكن إلا على يدي هذين الشاعرين العراقيين. وتعد قصيدة السياب "هل كان حبا" أول قصيدة له في كتابة الشعر الحر، وكتبها في التاسع والعشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر سنة 1946، يقول في مطلعها:

هل تسمين الذي ألقى هياماً؟
أم جنونا بالأماني؟ أم غراما ؟
ما يكون الحب؟ نوحاً و ابتساما؟
أم خفوق الأضلع الحرى إذا حان التلاقي
بين عينينا فأطرقت فراراً باشتياقي
عن سماء ليس تسقيني إذا ما؟
جئتها مستسقياً إلا أواما
لكن قريحة الشاعر وموهبته الشعرية قد تفجرتا منذ الصغر في قريته جيكور الصغيرة -الواقعة بالقرب من أبي الخصيب إلى جنوب شرقي البصرة- حين كان لا يتجاوز الثانية عشرة، في مدرسته الابتدائية في أبي الخصيب، وهي المحاولات التي قال عنها بدر فيما بعد أنها كانت صحيحة من ناحية الوزن ولكنها كانت مليئة بالأخطاء النحوية.

ولد بدر شاكر السياب في عام 1926، وتاريخ ولادته الدقيق غير معروف ووجدت بعض المقالات تضع له تاريخ الخامس والعشرين من كانون الأول/ ديسمبر، لأب كان يعمل في مساعدة والده في رعاية النخيل ويعمل بالإضافة إلى هذا في الدلالة موسم التمر. ولد الشاعر في فترة حرجة من تاريخ العراق المعاصر الذي كان تحت سلطة الاحتلال الإنجليزي وبعد ست سنوات من ثورة العشرين ضد المحتل، وألقت الظروف السياسية بظلالها على كاهل بدر في مختلف مراحل حياته، فأثقلتهُ، وعانى ما عاناه سواء من السجن أو الرفض من العمل والطرد أو ملاحقة المخبرين أو الهرب إلى منفى اختياري في الكويت خشية الاعتقال، وكانت مادة دسمة لكثير من قصائده التي دوّن بها هذه الأحداث.
توفيت والدته عام 1932 ولم يتجاوز السادسة بعد، لتبدأ محنته العاطفية التي بقيت ملتهبة الجراح حتى بعد زواجه من إقبال، وبقي جريح الحب باحثا عمن تبادله الحب، فرغم علاقاته التي تنوعت ما بين حب المراهقة مع الراعية هالة، إلى لبيبة التي كبرته بسبع سنوات في دار المعلمين إلى الشاعرة لميعة عباس التي كانت تصغره بثلاث سنوات ودرست معه في دار المعلمين لكن بمرحلة مختلفة وقسم آخر، وليلى الممرضة والصحفية البلجيكية لوك التي كانت مهتمة بترجمة قصائده إلى الفرنسية وقد فعلت ذلك، إلا أنه لم يجد من تبادله هذا الحب الذي كان يحلم به أو يستحقه، الأمر الذي يعود لأسباب متعددة منها ما يخص هيئة السياب وشكله وهو ما أثر فيه نفسيا إذ كان يرى نفسه دميما، ومنها ما يعود إلى أسباب مادية وطبقية، وهو الذي عانى ما عاناه من الفاقة وقلة ذات اليد والشح أو أن مشاعر الحب كانت استجدائية كما في حالة لوك التي اعترفت له أنها تحب شخصا آخر.

تزوج والده شاكر بعد وفاة زوجته كريمة أخرى، وترك أولاده الثلاثة بدرا وعبد الله ومصطفى خلفه في رعاية والديه، وترعرع بدر في كنف جده وجدته، وبعد أن أنهى بدر الدراسة الابتدائية انتقل إلى الدراسة الثانوية في قطاع العشّار حيث سكن مع جدته لأمه، وفي عام 1941 بدأ شاكر الانتظام بكتابة الشعر، الذي التزم فيه بكتابة الشعر العروضي ومواضيعه الكلاسيكية وهو الذي تأثر بالشاعر أبي تمام، قبل أن يشهد شعره الثورة على الكلاسيكية واللحاق بالرومانطيقية والحداثة فيما بعد.

في عام 1943 التحق بدر بدار المعلمين في بغداد، واختار قسم اللغة العربية، وسكن القسم الداخلي، وتعد هذه المرحلة التي بزغ فيها نجم السياب الشعري، وكذلك أظهرت ميول السياب الشيوعية المعادية للرأسمالية، والتقي بعدد من الشخصيات التي سيكون لها الثقل في الوسط الأدبي أمثال بلند الحيدري وعبد الوهاب البياتي ولميعة عباس، وكذلك جبرا إبراهيم جبرا وفي وقت لاحق نازك الملائكة التي درست في دار المعلمين التي كان بدر يدرس فيها، وفي هذا المعهد وقع في شراك فتاة من طبقة الغنية وأحبها بدر إلا أنها كان يبدو أنها غير جادة في علاقتها ببدر بسبب فرق المكانة الاجتماعية بينهما إذ يقول:
بيني وبين الحب قفر بعيد *** من نعمة المال وجاه الأبِ
يا آهتي كفّي … ومت يا نشيد *** شتان بين الطين والكوكبِ

وبعد زواج هذه الفتاة ازداد كره السياب وعداؤه السياسي للطبقة الحاكمة، وهو الذي كان ضمن حزب التحرر الوطني، ومؤيدا للحركة اليسارية التقدمية في بداياته، ويقف بالضد من سياسات الحكومة العراقية الخانعة للغرب، وعلى الرغم من نتائجه الجيدة في الموسم الدراسي 1944-1945 إلا أن السياب ترك قسم اللغة العربية متحولا إلى قسم اللغة الإنجليزية اعتقادا منه أن قسم اللغة العربية لن يقدم له أكثر مما قدم وأن عليه البحث عن تجارب ومصادر جديدة ينهل منها، وكان له ما أراد فتعرف على الشعراء الإنجليز الرومانطيقين أمثال ورودزورث وكيتس، وتعرف على ت. س. إليوت الذي تأثر به وقصيدته الأرض اليباب، وساعدته الدراسة في قسم اللغة الإنجليزية العمل في الترجمة سواء في الصحف أو المجلات الأدبية. كان بدرا ممتلئا بحسه الوطني ومؤمنا بمستقبل وطن لا تحكمه حكومات عميلة للمستعمِر وغير كفوءة، وشارك في حزيران عام 1946 بمظاهرة في بغداد من أجل حل عادل للقضية الفلسطينية وجلاء البريطانيين عن العراق، المشاركة التي أودت به إلى السجن الذي قضى فيه أسابيع قبل خروجه وذهابه إلى قريته. وفي عام 1947 طبع بدر ديوانه الأول "أزهار ذابلة" في مصر والذي وصله إلى بغداد في منتصف كانون الأول.
استمرت الأوضاع السياسية في العراق تلقي بظلالها على حياة السياب، فبعد أن هددت المعارضة مقاطعة الانتخابات في عام 1952، واجتاحت المظاهرات العاصمة الأمر الذي أدى لتدخل الجيش لإعادة الأمن، وكان بدر ضمن المشاركين في المظاهرات، التي لحقتها حملة اعتقالات، اعتقل فيها عدد من أصدقائه فخاف بدر أن يتم اعتقاله أيضا فهرب عبر بعقوبة إلى إيران ومنها انتقل إلى المسيب وأخذ القطار باتجاه البصرة بعد أن تنكر بلبس كوفية  وعقال ودشداشة. وفصل من وظيفته في الخامس والعشرين من تشرين الثاني عام 1952 بعد أقل من سنة ونصف السنة من تعيينه في مديرية الأموال المستوردة العامة براتب قدره 15 دينارا شهريا. إلا أن وضع بدر لم يستقر بعد أن قضى بعض الوقت في المحمّرة وسافر بجواز سفر إيراني الذي ساعده بالحصول عليه علاقاته بحزب توده الشيوعي الإيراني إلى الكويت. وكان وضعه في الكويت سيئا، حيث كان يستحوذ عليه الحنين إلى العراق، وما أصابه من فاقة وانعدام المال، الحال الذي صوره أشجى تصويرا في قصيدته "غريب على الخليج". عاد بعدها إلى العراق بعد سنة من التشرد وحياة لاجئ صعبة. وفي أيار/ مايو عام 1953 ذهب إلى بغداد للبحث عن عمل.
شهدت المرحلة اللاحقة أو ما سماها عيسى بلاطه "مرحلة الاشتراكية الواقعية" التي جددت رؤاه، فلم تعد اهتماماته شخصية بالدرجة الأولى، ولا شيوعية وحزبية بطريقة تعصبية. كانت رؤاه تحاول أن تشمل الأمة العربية الفتية كلها، ومن خلال الإنسانية الجمعاء في أزمتها الحديثة. [ص74].
وفي نيسان عام 1954 نشر السياب أول قصيدة له في مجلة الأداب اللبنانية التي يحررها الأديب اللبناني الدكتور سهيل إدريس، والتي جذبت عددا من الأقلام الشابة كان من بينهم بدر.
وضع العراقي السياسي لم يترك لبدر حياة هادئة يهنأ بها، ففي ظل حكومة نوري السعيد الثانية عشرة، التي تُوصف بأنها جعلت العراق سجنا كبيرا، والمخبرون يملأون كل مكان. كان السياب أحد هؤلاء الذين تعرضوا لملاحقة المخبرين ومضايقاتهم فكتب قصيدة عام ١٩٥٤  يتقمص فيها دور المخبر واسمها "المخبر" نشرت في مجلة "الآداب" اللبنانية وفي ديوان "أنشودة المطر" يقول في مطلعها:

أنا ما تشاء أنا الحقير
صبّاغ أحذية الطغاة، وبائع الدم والضمير
للظالمين أنا الغراب
يقتات من جثث الفراخ. أنا الدمار، أنا الخراب!
"وشهدت هذه المرحلة أيضا انفصال بدر عن الشيوعيين وتشكيلاتهم إلا أن نشاطاته الأدبية ظلت ملتزمة". [ص80]. واستخدام بدر للرمز والرمزية ولا سيما أسطورة أدونيس التي ازدادت في قصائده
مع السنين كما يذكر عيسى بلاطه في كتابه. وكانت الظروف السياسية وملاحقات الحكومة والأوضاع المتقلبة هي التي دعت بدر أكثر من أي شيء آخر في استخدام الرمز والرمزية في شعره.

وفي عام 1955 تزوج بدر امرأة قريبة له هي إقبال طه العبد الجليل، هذا الزواج الذي لم يحمل كثيرا مما توقعه وتمناه بدر في حياته، إذ ينصح بعد سنوات من زواجه صديقه مؤيد العبد الواحد قائلا: "يا مؤيد، نصيحتي إليك إذا ما أردت الإقدام على الزواج أن تكون رفيقة مستقبلك ذات ميل للأدب على الأقل، لكي تفهم مشاعرك، وتشاركك إحساساتك. وإن لم تكن كذلك فحاول أن تحبب لها الدخول إلى هذا العالم الجميل، وكن لها الباب حتى تدخل إليه. حاول وحاول يا مؤيد ولا ترتكب الخطأ الذي وقعت فيه… إنها لم تفهمني ولم تحاول أن تشاركني إحساساتي ومشاعري. إنها تعيش في عالم غير العالم الذي أعيش فيه، لأنها تجهل ما هو الإنسان البائس الذي يحرق نفسه من أجل الغاية التي يطمح إلى تحقيقها هذا الإنسان الذي يسمونه الشاعر…" ، إلا أن السياب لم يكن يكره زوجته رغم الفارق الفكري بينهما وانعزال عالميهما عن بعض إذ يذكر زوجته إقبال في قصائده الأخيرة ولا سيما قصيدته "وصية". ورزق منها بغيداء وغيلان وآلاء.
بعد أشهر من زواجه أصدر بدر ترجماته الشعرية لمجموعة من الشعراء من لغات مختلفة عن اللغة الإنجليزية في كتاب بعنوان "قصائد مختارة من الشعر العالمي الحديث" وهو كتاب يحتوي على عشرين قصيدة.  ومثّل رسميا السيابُ العراقَ مع نازك الملائكة وبهجب الأُثري، في مؤتمر الأدباء العرب في عام 1956، وألقى السياب في هذا المؤتمر محاضرة، والتقى بعد شخصيات أدبية عربية، وكوّن صداقات أمثال يوسف الخال.
ظروف بدر المادية لم تتحسن كثيرا، إذ اشتغل موظفا في مديرية الاستيراد والتصدير العامة، وكان راتبه ابتداءً من تشرين الأول ١٩٥٦، قدره اثنان وعشرون دينارا عراقيا ونصف، وهو راتب لا يكفيه وهو المتزوج ولديه طفلة، وينتظر مولودا جديدا، إضافة إلى إعالته والده الذي كان يلاحقه طلبا للمساعدة. وخشية الفقر والجوع الذي عاناهما وضاق مرارتهما وخوفا على أسرته من مصير يخشاه، والظروف السياسية التي كانت تسمح للصحف الحكومية فقط العمل نشر أعدادها، اضطر بدر إلى العمل إضافيا في جريدة "الشعب" عام ١٩٥٧، وهي الجريدة المعروفة بتبعيتها للحكومة إلا أنه بقي بعيدا عما يوقعه في تناقض مع آراءه السياسية المعادية لتبعية الحكومة العراقية للغرب.
بعد ثورة الرابع عشر من تموز 1958 ونهاية الملكية على يد عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف، التي كان بدر مؤيدا لها وطامحا لبداية عهد جديد في ظل الجمهورية، وكتب قصيدة في تأييد الثورة "يوم ارتوى الثائر" ومبررة لما نال العائلة ونوري السعيد بأنها جزاء لما جنت أيديهم والجزاء من جنس العمل، وهي قصيدة بلغية وجيّاشة بالوطنية والحب الصادق للثورة وألقاها في ذكرى الثورة الثالثة بدعوة من مدير مصلحة الموانئ العراقية، إذ يقول في أبيات منها:
جيل من الأعين الغضبى وقافلة   *** من غيض جيلين في ميعادك اجتمعا
وانحط منها على الباغي وزمرته *** ظل تخطى إليه السور والقلعا
ويقول:
في موقف تنفس الشحاذ ذلتها *** فيه الأمير الذي من جوعها شبعا
زمرة من لصوص كل ما جمعت *** ما ردَّ عنها قضاء الشعب أو دفعا
ويقول:
لم يرتو الثار من جلا أمته *** حتى وإن جندلته النار وانصرعا
فاقتص من جيفة الجلاد مجتزيا *** منها عداد الضحايا من دم دفعا
هذا الذي كل ثكلى فهو مثكلها *** والمستحل الضحايا ليته ارتدعا
بالأمس كنّا سبايا دون سدته *** فاليوم نعطيه ما أعطى وما منعا
(هذه الأبيات في وصف الوصي عبد الإله).
وبالرغم من مديحه لعبد الكريم قاسم في بعض أبيات قصائده إلا أن موقفه لم يعرف بالضبط من عبد الكريم قاسم سواء أمؤيدا كان أو معارضا لا سيما وأنه هجاه رمزيا كما في قصائد "مدينة السندباد" و"سربروس في بابل" و"المبغى".

عمل بدر في كتابة مقالات في جريدة الحرية تحت عنوان "كنت شيوعا" واللاتي تم نشرهن في منتصف آب/ أغسطس عام 1959. كتب في هذه المقالات تجاربه مع الشيوعية عامدا إلى تضخيمها منفرا منها. ويصف عيسى بلاطه هذه المقالات بأنه لم يستطع أن يشابه ما كتبه ستيفن سبندر أو إيناسيو سيلوني في كتاب "الإله الفاشل" لأن اهتمامه بالمهاترة غلب على عاطفته وأفقده القدرة على استبطان الذات لاستخراج التجربة العميقة والحكم الموزون. ولم يتوقف بدر عن كتابة الشعر في كل المرحلة السابقة، بل كانت مرحلة فيّاضة بالشعر. وفاز ديوانه "أنشودة المطر" بمسابقة شعرية أقامتها مجلة "شعر" والذي نُشر في المجلة في وقت لاحق.
ولم يكن بدر منفصلا عن ظروف البلدان العربية وثوراتها فقد آزرها بشعره فأثنى على عبد الناصر وثورته وأثنى على الثورة الجزائرية كما في قصيدة رسالة من مقبرة (إلى ثوار الجزائر) وقصيدته إلى الثائرة وقتها جميلة بوحيرد.

المرحلة الأخيرة من حياته لا سيما السنوات الثلاث الأخيرة كانت من المراحل العصيبة والتعيسة لبدر إذ كانت أعراض الشلل بادية عليه إذ أصبحت حركته صعبة، وبعد عدة فحوصات في بيروت ولندن وباريس أثبتت أن لديه مرض فسادي في جهازه العصبي، ولم تنجح المحاولات المتعددة لشفائه، وزامن هذا الوضع الصحي السيئ والذي يتردّى يوما بعد آخر مشاكل مادية، وتفكيره بزوجته وأبنائه الثلاث (غيداء وغيلان وآلاء) مع الفاقة وقلة المال، ووصل الحال إلى أقصى درجات السوء في نيسان سنة 1964 إذ انتهت المدة المسموح بها من الإجازات المرضية والإجازات العادية وكذلك الإجازات المرضية بنصف راتب التي يسمح بها قانون عمله في مصلحة الموانئ العراقية في البصرة. وبدأت بعدها إجازة من مئة وثمانين يوما بدون راتب. في هذه الفترة وبترتيب من صديقه الشاعر الكويتي علي السبتي الذي نشر نداءً موجها إلى وزير الصحة الكويتي يناشده بمعالجة بدر في الكويت على حساب الحكومة الكويتية، وكان له ما أراد وسافر بدر إلى الكويت للمرة الثانية في تموز عام 1964 لكن مريضا يرجو الشفاء من مرض وصل لمرحلة خطرة جدا أعجزته عن الحركة لا لاجئا هاربا من الحكومة. حالته في هذا المشفى لم تتحسن وبالرغم من الضعف الذي أصابه ألا أنه لم ينقطع عن كتابة الشعر، وبعض قصائده غلب عليها اليأس والانهزام تجاه المرض وتمني الموت وطلب الخلاص للتحرر من آلام جسده الذي أتبعته هذه السنون الماضية فيقول في قصيدة "في غابة الظلام":
أليس يكفي أيها الإله
أن الفناء غاية الحياه
فتصبغ الحياة بالقتام؟
تحيلني، بلا ردى، حطام
سفينة كسيرة تطفو على المياه؟
هات الردى، أريد أن أنام
بين قبور أهلي المبعثره
وراء ليل المقبره
رصاصة رحمة يا إله!

إلا أن رصاصة الرحمة لم تأتِ عاجلا، بل تأخرت حتى الرابع والعشرين من كانون الأول عام 1964، حيث أبرق علي السبتي إلى أسرته يبلغهم بوفاته، ونقل جثمانه إلى البصرة إلى بيته الذي كانت عائلة بدر قد أخرجت في ذات اليوم بقرار حكومي بعد انتهاء مدة المئة والثمانين يوما، وأخذ السبتي الجثمان إلى المسجد للصلاة عليه بعد أن أُخبر أن عائلة السياب تنتظره هناك، وبعد الصلاة عليه دفن في مقبرة الحسن البصري.

ينتهي كتاب عيسى بلاطه بفصل ختامي يتحدث فيه عن إسهامات بدر الشعر وآرائه الشعرية، وكيف كان دروه مهما وبارزا وطليعيا في الشعر العربي عبر ما أحدثه من أساليب ومواضيع شعرية جديدة متناسبة مع حياة العصر الجديدة والتي أضحت متنافرة من الأسلوب الشعري الكلاسيكي ومواضيعه. وفي الكتاب ملحق من عشرين صفحة تقريبا تضم قصائد كاملة وأبيات من قصائد غير كاملة للسياب لم تنشر في حياته واحتفظ بها زوج أخته.

(في رثاء السياب)

المسيحُ وحده يزحفُ في الخليج
يجرُّ ساقين نام الدمُ فيهما
طوّحن به فوق سرير الألم
لا رفيق له  سوى القلم
ويزيد من لعوته جثو الصليبِ
ينامُ ويصحو مناديا
يا موتُ هلمَّ
ما عدتُ أقوى الاحتمال
أتعبني بين المشافي الارتحال
يا موتُ هلمَّ فكلُّي انتظار!
لا تأخر لا، لا اعتذار
**
فأنا الطاعنُ بين بساتين جيكور
منذ مسح الزمان ظهرها بكف نور
وجالت الشمسُ في بُويب تدور
كضوءٍ تخنقه دمعة
تُدفئني بحضن تموز
والقمر الحليبيُ كل ليلة يزور
بيت جدي وشبابيك الأولياء
قبر أمي وأرض الأشقياء
مكملًا قصة حبٍ لم يكتمل
من هالة إلى وفيقهْ
من لميعة إلى لوك الصديقهْ
يا موتُ هلمَّ فقد ملّني جسدي
"ولستُ لو نجوتُ بالمخلّدِ"

***
غابَ البدرُ
يلحقُ عوليس في متاهاته
فما لهُ اليومَ بزوغ
غابَ البدرُ في رحلاته
خاتما مغامرةَ نبوغْ
**

يقف الشعر في جنازته المجازيهْ
ينشد كل قصائده الإنسانيهْ
ومن بحر أبياته-
هبَّ نسيمٌ عليلْ
يحاكي همسَ ليلِ النخيلْ
في عين ماء لفها قلبٌ عليلْ
شرب منها يوما سندبادْ
يوم جال يبحث عن ياسمينةْ
ياسمينة أين ياسمينة؟
- هي مع بدرٍ وقد مخرتْ السفينة

السبت، 16 مارس 2019

لوركا شاعر الأندلس - ماهر البطوطي.



يتناول هذا الكتاب سيرة الشاعر الغرناطي الإسباني لوركا، ومراحل من حياته القصيرة وأهم محاطته الأدبية والثقافية والاجتماعية حتى موته إعداما. ولد الشاعر فريدريكو غرسيه ماركيز في الخامس من حزيران/ يونيو عام 1898 في قرية "فوينتي فاكيروس" من أعمال غرناطة، لتبدأ بعدها رحلة شاعرنا المبدع في حياته الغرناطية ، يستمع إلى قصص أسلافه الأندلسيين ويتشرب بحبهم إذ يقول عن سقوطها:
"لقد كان يوما أسود، رغم أنهم يذكرون لنا عكس ذلك في المدرسة، لقد ضاعت حضارة مدهشة، وشعر، وفلك، ومعمار، ورِقَّة لا نظير لها في العالم،  وحلت محلها مدينة فقيرة، وخانعة، تزخر بطالبي الصدقات، وحيث توجد الآن أسوأ طبقة برجوازية في إسبانيا". وكان لمملكة غرناطة حبا خاصا في قلب لوركا إذ تذكر المصادر مثل التي في الكتاب حادثة طريفة: "زار الشاعر لوركا برشلونة ليلتقي بصديقه سلفادور دالي، وأخذه إلى "أتنيو برشلونة" ليتلقي بشيوخ الأدب والفن، فسأله أحدهم باستهانة من أي البلاد أنت أيها الشاب؟ فرفع لوركا يده برزانة وأجاب: أنا من مملكة غرناظة!".
ويذكر آخرون أمثال الشاعر والأستاذ محمد كنوف أن له مقولة يخفيها الإسبان يقول فيها: "أن الدم العربي يجري في عروقي".
هذه العلاقة الوطيدة والصلة ما بين لوركا وغرناطة، أثرت في شخصيته المناهضة لكل أنواع الظلم الاجتماعي فكان حليفا لطبقة الفلاحيين والعمال. واستمع في صغره أيضا إلى القصص والأغاني  الشعبية والتي عمل على تحويلها إلى قصائد ذات طابع الفلكلور الشعبي معظمها في ديوانه "حكايا الغجر" مثلما يشير الأستاذ ماهر في كتابه. ونمّا لوركا موهبته الشعرية بأجواء الريف البديعة والبستاين الخضراء التي أنبتت بقلبه حب الطبيعة والريف والتي كان فيما بعد يقضي عطله الصيفية في منزل العائلة في الريف. نشأ لوركا في فترة عصيبة من تاريخ إسبانيا السياسي بعد هزيمتها في كوبا، وتخليها عن أراضٍ في منطقة الكاريبي وآسيا لصالح الولايات المتحدة الأمريكية التي كان قوة صاعدة وقتها. وكان لهذه الفترة أثرا في الجو العام الإسباني أدى لنشوء حركات مثل حركة جيل عام 98، والتي انعكست فيهم الروح الرومانسية والنزعة الذاتية والمثالية إزاء ما حل بوطنهم إسبانيا، كل هذا كان له الأثر الكبير في شخصية لوركا وتوجهاته الأدبية والتي كان من أبرزها الحركة الطليعية فيما بعد وانضمامه لحركه جيل 27. انتقلت عائلة لوركا إلى المدينة ليكمل الأبناء الأربع تعليمهم "لوركا وأخوه فرانسسيكو وأختاهما إيزابيل وكونسيسيون". كان لهذا الانتقال مرحلة جديدة في حياة لوركا لم يألفها وكان كثيرا ما يشتاق إلى حياة الريف الهادئة والطبيعة عكس أجواء المدينة الصاخبة والصناعة. وكتب القصائد الحنين لتلك الحياة التي افتقدها في المدينة. بعد أن أتم لوركا دراسته الثانوية حدث خصام بينه ووالده حول الكلية التي يجب أن يلتحق بها والده الذي كان يريد أن يدرسه ابنه الحقوق، وكان لوركا يريد الدراسة في كلية الآداب، وفي الأخير استجاب لرغبة والده وسجل في كلية الحقوق والتحق أيضا بكلية الآداب، إلا أن لم يكمل الدراسة في كلية الآداب وحصل على ليسانس في الحقوق ولم يعمل بها أبدا.
مرحلة الدراسة الجامعية كان لها الدور الكبير في حياته لوركا الأدبية والتي نشر في تلك المرحلة كتابه "انطباعات وصور" في رحلتين قام بهما داخل إسبانيا يقول البطوطي "عمد لوركا في أثناء الرحلتين إلى تدوين خواطره وتأملاته عن الأماكن التي يزورها. وعاد إلى تلك الأوراق بعد ذلك يعمل فيها تنقيحا وترتيبا وإضافة، حتى جمع في النهاية عدت مقالات وصفية". وكانت تلك المقالات هي كتابه الأول الذي لقي احتفاءً لدى الجمهور وجماعته أعضاء ندوة "الركن الصغير". وبعدها ثبتت أقدامه في عالم النشر حيث نشرت له مجلة "الرواية القصيرة" قصيدة له هي "موال الساحة الصغيرة" في عدد خاص من الشعر الإسباني.
يقول في مطلعها:
الأطفال يغنون
في الليل الهادئ
والنبع الرقراق
الأطفال
لماذا يخبئ فؤادك الإلهي البهيج؟
أنا
دقات أجراس
تائهة بين طيات السحاب
**
انتقل لوركا بعدها إلى مدريد، والإقامة في المدينة الجامعية عام 1919، والتي كانت تمثل تجمعا ثقافيا وفنيا ومركزا من مراكز الحركة الفنية الطليعية والتي هناك بشخصيات مشهورة منها الرسام الشاعر "خوسيه مورنيو" والسينمائي "لويس بونيويل" والرسام السوريالي "سلفادور دالي" الذي أصبح صديقه فيما بعد، وسافر إليه في مدينة برشلونة والتقى بأسرته، ويقال أن لوركا أحب أخت سلفادور، أن ماري دالي، وهي التي كانت سببا لأزمة نفسية حيث غلب عليه طابع الحزن والكآبة سافر بسببها الشاعر إلى مدينة نيويورك في أواخر مايو عام 1929، إلا هذا الترجيح ليس له دليل مقنع أو حقيقي.
وكانت صداقته مع سلفادور قوية وتأثر لوركا باتجاه التجديد لدى دالي الذي ينحو نحو السوريالية التي انشقت وتأسست كحركة مستقلة عام 1921 على يد الفرنسي أندريه بريتون. وكتب لوركا إلى صديقه قصيدة لدالي بعنوان "أنشودة إلى سلفادور دالي" يقول في مقاطع منها:

وردة طاهرة تزيح كل ما هو مصطنع
وتفتح لنا أجنحة البسمة الحانية
(فراشة لصيقة تزن خطوات طيرانها)
دائما أبدا .. الوردة
آه يا سلفادور دالي، يا ذا الصوت الزيتوني:
إنما أنا أنطق بما توحيه شخصيتك ولوحاتك
أنني لا أمتدح ريشتك المراهقة غير الكاملة
ولكني أغني لثبات الاتجاه فيما تطلقه من سهام
**
أغني لجهودك الجميلة التي تزينها الأنوار الكتلانية
لحبك كل ما يحتمل تفسيرا
أغني فؤادك الفلكي الحنون
كورق اللعب الفرنسي، دونما أي جراح
**
مرَّ شعر لوركا بعدة مراحل، فبعد انتقال أسرته إلى المدينة في غرناطة وتركهم الريف، كان شعر لوركا حنينا إلى تلك الأيام في الريف حيث الهدوء، وجمال الريف والطبيعة والأفق الواسع، وحنينا إلى أيام الطفولة، وحكايات العجائز، التي حول كثيرا منها إلى قصائد، وتغيّرت مواضيع لوركا إلى أخرى تجديدية تمثلت في قصائد تحكي قصصا عن الحشرات والدواب، وحولت إحداها إلى مسرحية "سحر الفراشة اللعين" إلا أنها لم تنجح، في حين كانت مرحلة السوريالية في شعره من المراحل المهمة التي تأثر فيها بصديقه الفنان السوريالي سلفادور دالي. وسافر في منتصف عام 1929 إلى نيويورك إثر أزمة نفسية كما ذكرت مسبقا، وكان لهذه التجربة الجديدة الأثر أيضا في ذات لوركا وشعره، وكان من نتاج هذه التجربة ديوان "شاعر في نيويورك" والذي صدر لأول مرة في المكسيك عام 1940.
كتب لوركا المسرحية، وأجاد فيها ولا سيما مسرحيته الثانية "ماريانا بينيدا" التي لاقت نجاحا عكس مسرحيته الأولى، وبعد العام 1930 شهدت هذه المرحلة فترة نضج لوركا المسرحي، وكتب عديد المسرحية الجيّدة منها: مرجريتا شريجو، والثلاثية المسرحية (عرس الدم، ويرما، وبيت برنارد ألبا).

اعتقاله وإعدامه

كانت الأوضاع السياسية في إسبانيا عام 1936، تشهد صراعا بين التقدميين اليساريين واليمينين المحافظين، بعد خمس سنوات من قيام الجمهورية الإسبانية، وارتفعت حدة الصراعات بين الطرفين بسبب الانتخابات الذي انتهت هذه بحرب أهلية كان للجيش دور بارز فيها بقمع اليساريين. فقد أعلن الجنرال فرانكو قيام "الحركة الوطنية" مطالبا الإسبان الوطنيين بالانضمام إليه. وبالرغم من أن لوركا لم يكن مع أي من القوى الصراع إلا أن له أعداء يتربصون به بسبب بعض ما صرحه في أوقات سابقة في دعم الفلاحين والعمال الذين أيدوا الحركة اليسارية الاشتراكية التقدمية، وكان من بين هؤلاء الذين تربصوا بلوركا بعد عودته إلى غرناطة -التي شهدت في شهري تموز وأب من عام 1936 اعتقالات لليساريين- النائب المدعو رامون رويث ألونسو، وتلقى لوركا بعد عودته إلى منزله تهديدا، فاضطر للذهاب إلى منزل أصدقاء من اليمين المحافظ الذي سيطر على غرناطة وبقي في منزل أسرة "روساليس" حتى جاء أمر القبض على لوركا والذي اقتيد إلى مبنى المحافظة وبقي به أياما حتى التاسع عشر من آب/ أغسطس الذي شهد اختفاء لوركا إلى الأبد والذي اقتيد فيه إلى مكان مجهول وأعدم مع آخرين ولم يعرف له قبر حتى اليوم.
لقي خبر إعدامه صدى واسعا، فقد نعاه الكثيرون منهم اتحاد القلم الدولي وصديقه الشاعرالتشيلي بابلو نيرودا، وتناقلت الصحف خبر موته الذي بقي مجهول التفاصيل حتى تشرين الثاني/ نوفمبر سنة 1937 إذ أجاب الجنرال فرانكو في مقابلة صحفية عن مصرع لوركا قائلا:
"لقد ثار حديث طويل في الخارج عن كاتب غرناطي، الذي لا أعرف أنا مقدار شهرته خارج الحدود.. والحقيقة أنه في اللحظات الأولى من الثورة في غرناطة مات ذلك الكاتب بعد الخلط بينه وبين المنشقين. إنها من الحوادث الطبيعية في الحروب.. ولقد كان فقده -بوصفه شاعرا- مما يؤسى له. وقد استغلت الدعاية الشيوعية تلك الحادثة لإثارة عالم الفكر والثقافة، غير أنه لا أحد يحب أن يذكر في مقابل ذلك كيف اغتيلت شخصيات أخرى كثيرة في الجانب الآخر.". وبقي اسم لوركا محرما بعد انتصار قوات فرانكو حتى عام 1949، الفترة التي لحقت هزيمة النازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا، وصعود نجم الليبرالية وبما أن المحاولات في قلب الحكم في إسبانيا فرانكو باءت بالفشل فكان على أوربا احتضان إسبانيا فرانكو قبل أن تنضم إلى الجنب الشيوعي السوفيتي، إلا أن تتويج اسم فرانكو كما يذكر البطوطي لم يأتِ إلا بدءا من عام 1976 بعد وفاة فرانكو وانتهاج خليفته الملك خوان كارلوس النهج الديمقراطي في حكم البلاد.



في رثاء لوركا

نمْ يا فردريكو في دمعِ غرناطة الذي لم يجفْ
ملّح أيامكَ بعد الموت ببكائها
قصَّ للفلاحين حكاية الشجرة
كيّف ضمت جسدك الذي تخترقه رصاصة غاضبة
حكاية اللصَّين والعاشقة
وقبرك التائهُ في بساتين الأندلس
يرسمُ طريق الضياع لأرضِ الأرانب
لوركا أيها المسافر بين القرى
والمنشدُ:
"عبر أشجار الغار
تطير حمامتان دكناوان
كانت أولاهما الشمسُ
والأخرى كانت القمر
قلتُ لهما: أيا جارتيا،
أين قبري؟
قالت الشمس: في ذيلي.
قال القمر: في حلقي."
وما زلتَ تُناجي قبرك بين أشجار التفاح
وظل الليمون الوارف على تاريخ القصور الحمراء
أين أنتَ دُلَّني عليكَ أيها الغرناطي
حتى أغسلكَ قبل دفنك بماء قصائدك التي لم تكتبها
وأكفِّنكَ بثوب اللوحات التي لم ترسمها
وأرثيك بقراءة المسرحيات التي لم تكتبها
أيها الغرناطي الذي لم يرَ أجداده
من علّمك عشق الأرضِ هكذا
وأرشدك إلى أبوابها السفلية
إذ تصطاد الأرواح النابتة
في الحدائق المروية بدم الشهداء

***
ينساب شِعْرُكَ إلى الشرق الحزين
مهد أجدادك
كشعلةٍ أنتما في ليلتي المظلمة هذه
أستنير بك لأكتب لحبيبتي
غزلًا أقول فيه: عيناكِ كعينيه الطائرتين
وشفتاك كشفتيه المختلطتين بالموت
وشعركِ كشعره المُحنّأ بالدم
قومي فارقصي كما رقص قبل الرحيل
كما مشى من البيت الى الزنزانة
خطواتكَ الأخيرة قوافٍ لكل القصائد
ما بين خطوة وأخرى ينبتُ حرفٌ جديد
ينبتُ لوركا يُحاصر قتلته
يشنق كل الجنرالات والملوك
من عصر القوط
إلى يومنا الذي لا نعرف من يحكمنا
وأنت ما زلت تسير إلى مثواك الأخير
تُشيّعك بهديلها حمامتيكَ
ويخلعلان ريشمها حُزنا عليكَ
وتنتحران سقوطا في حفرة قصيدة كبيرة تحمل اسمك
نم يا لوركا بين النوتات التي عزفتها
بين الأغاني التي غنيتها
ولا تستيقظ أبدا