الاثنين، 21 سبتمبر 2020

كليلة ودمنة - ديبيا


نقلها إلى العربية ابن المقفع 


إنَّ قصص كليلة ودمنة واحدة من أوائل الكتب الأدبية التي نقلها ابن المقفع عن الفهلوية -كما هو الغالب في الاعتقاد- (والمنقولة هي عن الأصل الهندي المكتوب باللغة السنسكريتية والمعروفة بكتاب "بانجاتنترا") إلى العربية، مثريًا بها الأدب العربي القديم ويضعه بعضٌ في مصاف كتب الجاحظ وابن المبرَّد. 


تمتاز هذه القصص التي تُروى على ألسن الحيوانات بأنها مكتوبة بلغة أدبية رفيعة وبليغة، مما زاد موضوع قصصها الوعظي والحِكَمي تألقًا وسموًا فكريًا وبنيويًا. ومما لا يدعو للشك أن ابن المقفع نقل هذه القصص إلى العربية بأسلوبه ولغته هو لا لغة العمل الأصلية، فزادها إتقانًا في الصياغة فلا تكاد تخلو قصة من جملة لا يتوقف القارئ عندها من عذوبة ألفاظها وحسن معانيها ورقة سبكها واتصالها بسابقتها ولاحقتها كأنها عِقد من لؤلؤ وجوهر.

 

تتنوع مواضيع هذه القصص لكنها تصب جليَّا في الحكم والسلطان، وفن الحرب والخديعة، والصداقة والصديق، وآداب السلوك المتزن والتصرف القويم والوفاء ومكارم الأخلاق. وما اختيار الحيوانات، كما يفهمه أي قارئ لبيب، لتكون رمزًا إلا لغاية قد تكون تورية عن حقيقة المؤلف ومقاصده ولإبعاد أي شبهة أو تهمة قد تترتب عليه، إضافة لكونها أسلوب فني في سرد هذه القصص. ويوضح ابن المقفع في مقدمته لهذه القصص هذا قائلا: 

وينبغي للناظر في هذا الكتاب أن يعلم أنه ينقسم إلى أربعة أغراض: 


أحدها: ما قصد فيه إلى وضعه على ألسنة البهائم غير الناطقة، ليسارع إلى قراءته أهل الهزل من الشبان، فتستمال به قلوبهم، لأنه الغرض بالنوادر من حيل الحيوان. 

والثاني: إظهار خيالات الحيوان بصنوف الأصباغ والألوان، ليكون أنسًا لقلوب الملوك، ويكون حرصهم عليه أشد للنزهة في تلك الصور. 

والثالث: أن يكون على هذه الصفة، فيتخذه الملوك والسوقة، فيكثر بذلك انتساخه، ولا يبطل فيخلق على مرور الأيام ولينتفع بذلك المصور والناسخ. 

والرابع: وهو الأقصى، وذلك مخصوص بالفيلسوف خاصة. 


الحكاية الإطارية في كليلة ودمنة


هي حكاية واحدة تضم مجموعة من القصص الداخلية، ليس بينهما أي رابط، فهذه القصص قائمة بذاتها ببنيتها وحبكتها وموضوعها وشخصياتها. 

إنَّ الحكاية الإطارية في كليلة ودمنة هي من إبداع ابن المقفع، الذي يجعل من ديبيا الفيلسوف الهندي وحواره مع الملك دبشليم حكاية تضم القصص الأربعة عشر الداخلية يرويها ديبيا على الملك. ويعد العرب أول من وضع هذا الأسلوب الأدبي في تجميع القصص عبر ابن المقفع، وهو أول من استخدم الإطار الحكاياتي بهذا الشكل وإن ظهر سابقا في أعمال مثل المهابهاراتا والأوديسة والرامايانا والحمار الذهبي، إذ تقص الشخصيات قصصها أو بعض ما وقع لها على شخصيات أخرى. لكن يمكننا تميز الحكاية الإطارية وقصصها التي ظهرت مع ابن المقفع بسمات منها ظهرت لاحقًا في ألف ليلة وليلة وقصص كانتربيري والديكاميرون:


١- الحكاية الإطارية مجرد حكاية ليس لها غاية سوى الغاية الفنية التجميعية الإطارية. فهي تجري في نسق ثابت وليس فيها أي صنعة أو فنية خاصة  أو سمات سردية فارقة أو فكرة أدبية أو غاية موضوعية، بحيث يظهر دورها في التجميع لا أكثر. 

 

٢- الراوي ليس جزءا من قصصه. إن من يقص هذه القصص مفارق لقصصه، فهو لا ينتمي إليها زمنًا ولا مكانًا وليس جزءًا من الحدث حتى. ووظيفته القص فقط.  


٣- القصص الداخلية هي الأساس. إن المقصد في كليلة ودمنة هي قصص الحيوان لا قصة الملك وديبيا، لذا فإن مادة العمل الرئيسة تتمثل وتتركز في القصص المروية. 


يمكن أن نعدَّ هذه السمات هي التي تجعل من الحكاية الإطارية إبداعًا خاصًا بابن المقفع. فمثلا تظهر الحكاية الإطارية في رواية الحمار الذهبي، لكنها ليست إطارًا جامعًا عابرًا بل تتركز في رحلة الحمار ومغامراته وما يشهد ويُقصُ عليه أو يقصه، وكذلك فإن القصص الداخلية ليست الأساس بل رحلة الحمار هي الأساس. وكذلك تظهر في المهابهارتا حين ينشد فياسا على الإله غانيشا ملحمة المهابهارتا، وهنا نجد أن الحكاية الإطارية قد استوفت السمة الأولى والثانية لكنها لم تضم بداخلها قصص متعددة بل قصة واحدة متطورة ومتشعبة تخص الملك شانتو وذريته. وتظهر كذلك في الأوديسة، حيث يأخذ أوديسيوس دور القاص لا سيما ما قصه على ملك الفياكيين بعد أن وصل جزيرتهم في محطته الأخيرة قبل الوصول إلى إيثاكا، وهنا كذلك الحكاية الإطارية ليست إطارًا بل قصة رئيسة متمثلة برحلة العودة، وأوديسيوس هو جزء من قصته وليس مفارقًا لها، وتظهر السمة الثالثة لكن القصص هنا ليست متفرقة ولا يربطها رابط فالرابط موجود وهو أوديسيوس ورحلة العودة المحفوفة بالمخاطر. 

لكننا نرى في أعمال لاحقة مثل ألف ليلة وليلة، أن الحكاية الإطارية في حكاية الملك شهريار وشهرزاد التي تقص عليه قصصًا مختلفة لا يربطها رابط، ولا تجمعها شخصية، والقاصة مفارقة لقصتها.

    

وانتقل هذه التأثير الإطاري إلى آداب الأمم الأخرى. تقول كاثرين سلاتير جيتيز في كتاب "قصص كانتربيري والإطار التقليدي العربي" بأن الحكاية الإطارية في كتاب "كليلة ودمنة" عن الأصل الهندي المعروف بـ"بانجاتنترا" هو إطار عربي أضافه ابن المقفع أثناء تعربيه للكتاب. (١)

وتعد نسخة ابن المقفع النسخة الأصل الوحيدة التي بقيت من كتاب بانجاتنترا، بعد أن فُقدت النسخة الفهلوية والسنسكريتية، وكل النسخ السنسكريتية الموجودة هي مترجمة عن النسخة العربية لابن المقفع. وتضيف العرب لا الهنود هم أول من وضع هذه القصص داخل إطار. 

ونجد أن تجميع عدة مواضيع في إطار واحد موجود في القصائد العربية، التي تتنوع مواضيع أبياتها ما بين الوقوف على الأطلال وذكر الحبيبة والمفاخرة وذكر أيام قبيلة الشاعر، إلخ. 

واطّرد هذا الأسلوب "الحكاية الإطارية" فظهر في قصص ألف ليلة وليلة ثم انتقل إلى الآداب الغربية. مع الجدير بالذكر أن الآداب اليونانية كانت تعنى بالوحدة الموضوعية وأن يكون العمل (ملهاة أو مأساة) ذا وحدة موضوع. وكان أول من نقل الحكاية الإطارية إلى الآداب الأوروبية هو الإسباني بتروس ألفونسي في القرن الثاني عشر ميلادي، حيث جعل كتاب كليلة ودمنة نموذجا لبناء كتابه "التربية الكهنوتية". وبعد رحيله إلى إنجلترا أصبح الرابط بين ثقافتين إسلامية ومسيحية، وتأثر به بوكاشيو في كتابه "الديكامرون" وهو عبارة عن مجموعة قصص يرويها شبّان وبنات. وكذلك الإنجليزي تشوسر، وكما تذكر جيتز، "قد أشار تشوسر إلى بتروس ألفونسي وروايته خمس مرات في حكايات كانتربيري". (٢)

وبهذا يعدُّ العرب أول كتب الحكاية الإطارية في الآداب العالمية وأول من استخدم أسلوب التجميع عبر كتاب كليلة ودمنة الذي نقله إلى العربية ابنُ المقفع.



السرد وتقنياته في كليلة ودمنة


للسرد مستويان رئيسان في حكايات كليلة ودمنة، فالمستوى الأول وهو الإطاري، متمثل بقص ديبيا حكاياته على الملك دبشليم. ولهذين الشخصيتان قصة سابقة حين نصح ديبيا الفليلسوف دبشليمَ الملكَ بسبب سوء حكمه وتصريفه لشؤون رعيته فعاقبه بالحبس وبعد أن ندم أخرجه من السجن وأكرمه وأعلى منزلته، وطلب منه بعدها كتابة كتاب يرفع ذكره ويحفظ اسمه كأسلافه الذين ضمَّت مكتبة الملك كتبهم، فكان نتيجة لذلك هذه القصص. فكما يتضح هنا، أن الحكاية الإطارية من إبداع ابن المقفع إذ إن هذه المحاورة والمسامرة بين الرجلين ليست في الحقيقة من أصل النص القصصي، وما حوار الفيلسرف والملك إلا حادثة خارجية جعل منها ابن المقفع حكاية حاوية لقصص كتاب ديبيا. 

وهنا يتشكل المستوى السردي الأول في قصص كليلة ودمنة، فديبيا فهو السارد الأول للقصص وبذات الوقت هو المؤلف لها، لكن السارد الرئيس الخفي فهو ابن المقفع الذي يقص حكاية ديبيا والملك. (ثمة تداخل ما بين عالم السرد المتخيل وعالم التأليف الحقيقي بفضل إبداع ابن المقفع الأسلوب الإطاري). أما المستوى السردي الثاني فهو متمثل بقصِّ بعض شخصيات الحيوانات لقصص ثانوية على الحيوانات الأخرى في القصص الرئيسة، وهكذا في متوالية سردية قصصية وصلت فيها مستويات السرد إلى المستوى الرابع.


١- سارد رئيس (ابن المقفع) يقص حكاية ديبيا والملك في مستوى سردي أول.


٢- سارد أول (ديبيا) يقص قصصه على الملك دبشليم في مستوى سردي ثانٍ. 


٣- سارد ثانٍ (الحيوانات "الشخصيات الرئيسة") تقص قصصها على حيوانات أخرى في مستوى سرد ثالثٍ.


٤- سارد ثالث (حيوانات "الشخصيات الثانوية" في قصص ثانوية داخل القصص الرئيسة) تقص حكاياتها على حيوانات أخرى في مستوى سردي رابع.


وهكذا فإن مستويات السرد تأخذ منحنى سردي تنازلي ثم تعود لتأخذ منحنى تصاعدي تنتهي بمستوى السرد الأول.




هل قصص الحيوانات خرافية وخيالية حقا؟ 


إنَّ عالم الحيوان هو عالم أممي فيه ما في أمم البشر، أي أنَّ عالم الفانتازيا والخيال في قصص كليلة ودمنة هي قصص لا تعني بالضرورة أنها خيال بشري محض لا يمتُّ للحقيقة بصلة بل من الوارد أن هذه القصص قد تحدث/ حدثت في عالم الحيوان وليست رمزية عن البشر فحسب. ولا مانع من أن تقع في عالم الحيوان حوادث شبيهة بتلك التي تقع في عالم البشر من خداع وحروب وصراع وخيانة وتحالفات وانتصارات وهزائم ومحاكمات وبلاط ملوك وعسكر وكل ما يرد في الذهن البشري. وما أود الإشارة إليه هنا أنَّ هذه القصص ليست خيالية كليًا ولا يمكن أن نتجاهل إمكانية بل ووثوقية أن ثمة أصل حيواني لهذه القصص. وإنَّ إضفاء الجو البشري والطريقة الإنسانية في التعامل مع القصص ولغتها وحبكتها ومغازيها لا يخرجها من حيوانيّتها أكثر مما يعمل على أنسنة القصص بنقلها من عالم الحيوان إلى عالم الإنسان مراعيًا المتلقي البشري. 

وللحيوان دوره في الأدب الإنساني فهو رفيق قديم وصديق صدوق وشريك الحرب والسلم والاستقرار والترحال، وكذلك في نطقها أو تعبيرها عن مشاعرها بما يتهيأ لها من وسائل فكثير ما نطقت الحيوانات في عالم الأدب الإنساني كما في الحمار الذهبي لـلوكيوس أبوليوس، وما سبقه في الإلياذة من بكاء الخيول على باتروكلوس،  وفي رثاء حصان بالاس "ميزنتيوس" لصاحبه في الإنيادة.

 فنطق الحيوان ليس فرادة امتازت بها هذه القصص لم يسبق مؤلفها أحد قبله أكثر من فرادة أنها أُلِّفت جميعا عن الحيوانات وقصّت على ألسنتها. وكذلك ما من فرادة امتازت بها هذه القصص في كونها خلقت عالما خياليا فانتازيًّا تكون للحيوانات عوالمها الخاصة وحياتها التي لا تفرق عن عالم البشر أكثر من أنها جعلت هذا العالم الحيواني رمزًا للعالم البشري وما فيه من أحداث ووقائع واستخدمته لإيصال أفكارٍ وغايات محددة بمواضيعها،  فبدا أن العالم الإنساني والحيواني على حد سواء، ولا فرق بين الاثنين فكلاهما أمم متشابهة.



ما بين القصة والحكاية


أثناء قراءتي لهذه القصص، خطرَ في ذهني سؤال عن الفرق ما بين القصة والحكاية، وهل هما واحد وأنا أقرأ في كتب عديدة وشروح فقد التمست نوعا من التداخل وعدم التفريق بينهما وكأنهما شيء واحد، كلمتان مترادفتان تشيران إلى جنس أدبي واحد تكون فيه واقعة واحدة رئيسة وشخصياتها هي الأساس الذي يُروى. 

تفرق معاجم اللغة العربية كلسان العرب لابن منظور وأساس البلاغة للزمخشري ومعجم العين للفراهيدي فتشير إلى الفعل حكي وحكي الحديث وحكاية من المحاكاة، ولا تسمى حكاية إلا بمحاكاة شيء آخر كما يذكر الشيخ محمد الحسن ولد الددو. أما قصَّ وقصة وقِصص فهي القصة المعروفة سواء في وقتهم أو وقتنا. ولم أجد فروقا أخرى مثرية في كتبهم تزيل هذا اللبس (ولعل هناك فروق ذكرت قد أعرفها مستقبلا). 

وأما مرحلة البحث الثانية فكانت في تقصي الآراء الحديثة والمعاصرة عن الفرق بين الحكاية والقصة وفرق دلالتهما وفنيّتهما وهل يصح أن نقول حكاية إطارية أم قصة إطارية أم الاثنين؟ سأورد أدناه آراءً مفرّقة قد بدت لي واضحة ويمكن الاعتماد عليها في تمييز الحكاية عن القصة.


- القصة جنس أدبي، خاضع للنقد.. الحكاية تكاد تكون موروث شعبي ، تولع به القصاصون الشعبيون (القصخون) ، ولا يندرج ضمن الأجناس الأدبية كونه لا يخضع لمعايير النقد.


- الحكاية هي الاحداث والوقائع مجردة من أي اشتغال فني، فإذا صغتها في تقنية سردية، وأسلوب أدبي صارت قصة. وهذا تفريق أكاديمي. 


- إن الفرق بينهما هو أن الحكاية ليست نتاج خيال فردي، بل هي ظاهرة اجتماعية على الرغم من أن الحكاية تحكمها شأنها شأن القصة مبادئ السرد، لهذا ميز النقاد على مر التاريخ بين الحكاية والقصة. بالإضافة، إلى إن النص الحكواتي يحافظ على ثباته عبر الزمن من خلال تناقله عبر الأجيال، لهذا نجد أن الحكايات ليس لها مؤلف معين. وهناك أيضا موضوعات الحكاية التي تدور حول مفاهيم أساسية مثل الوجود والإيمان والموت، وزمن الحكاية مختلف، وأخيرًا، يكون مضمون الحكاية اكثر صدقًا من القصة.


- إنَّ غرض الحكاية عرض مشكلة ومحاولة حلها التي قد تنجح أو تفشل.  أما القصة فهي تسعى إلى إقامة حجة إلى أن جميع مسارات حل المشكلة قد جُرِّبت، وأن مسار البطل قد يؤدي إلى النجاح أو الفشل. وفي السيناريو الناجح، فإن رسالة أحداث  القصة تدعم مسارا معينًا على وجه الخصوص، وفي السيناريو الفاشل فإن رسالة أحداث القصة تحمل رسالة مناقضة لذاك المسار المحدد على نحو مقصود. 

يمكن استخدام الحكاية في عرض فشل أو نجاح هذا المسار أو ذاك، أما استخدام القصة فهو في إثبات أن ذاك المسار هو الوحيد الفاشل أو الناجح. 

وخلاصة الفروق أن الحكايات لا تكون في الغالب قصصا معقدة وتنزع إلى أن تكون مباشرة وغير معقدة وذات توسع موضوعاتي محدود. وكلا القصة والحكاية صالحان وذوا بنيّة نافعة اعتمادًا على غرض المؤلف وتوضحيه في آلية حل المشكلة في حكاية أو إلى مناقشة حل مشكلة محددة في قصة. 


مما يمكن استنتاجه من كل هذه الفروق، أن الحكاية ذات هيكيلة واضحة ولا تحمل أي سمة من سمات التعقيد الفنية أو المرضوعية وهي بهذا أقرب ما تكون إلى الحكايات الشعبية التي تتسم بقصرها وغرضها المباشر، في حين أن القصة هي جنس أدبي أكثر تعقيدا له سماته الأسلوبية والموضوعية والفنية واللغوية لذلك فهو أقرب إلى الصنعة والبُنية المحددة سلفا موضوعا وفكرة وأسلوبًا، والتي تطورت عبر قرون حتى أصبحت اليوم جنسًا أدبيا قائما بنفسه وله أنواعه وفروعه. ومن هذه التفرعات التي تكاد تكون أصلا قائما بذاته: القصة القصيرة جدا، والتي هي نسخة مصغّرة من القصة ولا يمكن بحال من الأحوال أن نسميها حكاية قصيرة جدا التي تنطبق على الأمثال الشعبية التي غالبا ما تكون ذات حكاية أساس شكَّلته.

في الختام فإن التسمية "الحكاية الإطارية" كما أراها هي الأصح لأنها وكما ورد من الفروق أعلاه وفي أمثلة حوار  ديبيا والملك  وشهريار وشهرزاد، فكلاهما حادثة مباشرة غرضها هو تجميع القصص التي يرويها ديبيا أو شهرزاد لا أكثر، فتبدو ثانوية إذا ما قُوبلت بموضوع القصص التي تضمها. 


مصادر:

كتاب كليلة ودمنة

(١) (٢) موسوعة السرد العربي (ج٢) - د. عبد الله إبراهيم.

الأحد، 13 سبتمبر 2020

الرامايانا

 (ملحمة الإله راما)


تأتي ملحمة الرامايانا بعد ملحمة المهابهاراتا ثانيَ عمادٍ للأدب الهندي، ويضعها العديد في موازاة ملحمة الأوديسة، إذ تتشابه معاناة بطلها راما وزوجته سيتا مع معاناة أوديسيوس وزوجته بينيلوبي. 

يعود تاريخ هذه الملحمة إلى القرن الخامس أو السادس قبل الميلاد، ورُويت شفاهية لذا فقد طالت أبياتها بالزيادة والنقصان، وبلغت أربعة وعشرين ألف بيت موزعة على كتب منفصلة. (هذه الترجمة مختصرة وموجزة، لذا فقد ترد قراءة غير دقيقة أو حتى خطأ في هذه المقالة). تتشابه الرامايانا مع ملحمة المهابهاراتا بكونها قد ذكرت في متنها من نظمها، فيُذكر أن الرامايانا نظمها الراهب قاليماكي الذي قابله راما في الغابة، أما من نظم المحلمة شعرًا بعد أن كانت قصصا متفرقة في الحقيقة فكان الشاعر سوامي تُلسيداس في القرن السادس عشر، وهو أشهر وأفضل من نظمها وحفظها وتناقلها الملايين من الهنود عبر مئات السنين كما يذكر الطريحي في تقديمه للملحمة. 

تدور الملحمة في موضوعها الرئيس حول نفي الأمير راما ابن داشارات ملك مملكة "كوشال" مدة أربعة عشر عاما في الغابة امتثالا لرغبة زوجة أبيه ووعده لتنفيذ ما تطلبه زوجته كييكي أيا كان طلبها. ليظهر لنا الجانب الأخلاقي والديني المتمثل في طاعة الابن لأبيه وأمه أو من يقوم مقامها (زوجة الأب هنا) مهما كان طلبهما وتمتزج الشجاعة والإباء والمغامرة بمكارم الأخلاق.

 فالبطل الهندي سواء في المهابهاراتا أو الرامايانا لا ينفصل خلقه واتباعه للدراما كما في المهابهاراتا والامتثال للعادات والتقاليد المقدسة والعامة والوفاء بالوعود والإخلاص في العهود والبر بالقسم عن شجاعته وبسالته في القتال بله امتلاكه لقدرات خارقة للطبيعة لا يمتلكها الإنسان العادي كما في سائر أحداث الملحمة الهندية وهي قدرات وإن امتلكها نظيره البطل الإغريقي فهي ليست بذات المستوى الذي يتجاوز المعقول. لذا فالبطل الهندي في الملحمتين غالبا ما يتحول إلى إله في النهاية كما يحدث مع راما الذي يصبح إلهًا في نظر شعبه أو أنه يفعل كل هذا لكونه إله في ذاته وصفاته وتكون نهاية الأمر الإعلان عن هذا الإله البشري بكل ما يحمله من مزايا ومكارم وشمائل وشجاعة لا حد لها. 

ومما يميز البطل الهندي عن الإغريقي على سبيل المثال، أن الأخير يغلب عليه الطابع البشري ودائما ما يكون بحاجة الآلهة أو في حالة صراع معها إذ تغضب عليه، على النقيض من البطل الهندي الذي يسمو على الرذيلة ونقائص الإنسان ومعايبه بله شجاعته الخارقة فلا يبقى للآلهة دور في حضورها أو غيابها فهو الآخر لا يقل عنها بشيء، لذا نرى أبطال المهابهاراتا يجدّفون بحقها فيصفونها بعدم القدرة على غلبة جيوشهم ما داموا هم فيها. الأمر الذي يوحي للقارئ سلفًا بقدرة الأبطال الهنود الهائلة وأن نصرهم آتٍ لا محالة دون أي محلٍ للشك، فقوتهم تفوق قوة خصومهم بشكلٍ بارزٍ سرعان ما يُنهي المعركة لصالحهم. 

يتجسد الكثير من هذا في شخصية الأمير راما أثناء نفيه في الغابة وقتاله ضد شياطينها وانتصاره عليها رفقة أخيه المحارب لاكشمانا، الذي رفض أن يترك أخيه وزوجته في منفاهما وحيدين. فيعيش الأمير المنفي في حياة القسوة والشدة بعيدًا عن راحة القصور ورخاء العيش في مدينة آيدوها حتى عودته إليها ليتوج ملكا.


أقسام الرامايانا 


تتوزع الرامايانا على أقسام متعددة ومنفصلة في أحداثها تقريبًا وما يربطها هو التتابع الزمني وتوالي الأحداث فتكون أقرب إلى القصة الإطارية (نفي راما وسيتا) التي تضم حكايات تقع في سنوات النفي الأربعة عشر. يبتدئ القسم الأول من الملحمة بالحديث عن الملك داشارات وزوجاته الثلاث اللاتي لم ينجبن له حتى أمد طويل، ليرزق بعدها أربعة أبناء نجباء، على رأسهم راما الذي كان مؤهلًا لخلافة والده في الحكم لكن زوجة داشارات كييكي أرادت ولاية العهد لابنها بهاراتا ونفي راما أربعة عشر عامًا في الغابة، فيرضخ زوجها لطلبها مكرها إذ كان قد وعدها سابقًا بتنفيذ أي شيء تطلبه مهما كان حين تزوجها، واستأثرت بالطلب حتى سنحت لها الفرصة. وفي ظل الهم والحزن اللذين وقعا على كاهل الملك، يطلب راما من والده يتنازل عن ولاية العهد ويذهب في نفي طوعي إلى الغابة استجابة لوعد والده وطلب زوجة أبيه. يرحل راما وزوجته سيتا مع أخيه لاكشمانا الذي رفض تركهما إلى الغابة ليقضوا فيها مدة النفي. أما القسم الثاني من الملحمة فهو في حياة النفي في الغابة، والصراع ما بين راما وأخيه وبين الشياطين في الغابة، الصراع الذي يمثل راما وأخوه وأعوانهما الخير عموما والبشري خصوصا، وتمثل الشياطين وأعوانها الشر عموما والشيطانيّ خصوصا. تتنوع القصص في هذه سنوات الصراع المستمرة لكني تبقى تحمل مضمون صِدام الخير والشر وحربهما، وتنتهي بخطف سيتا من قبل الشيطان رافانا ملك لانكا، وتبتدئ معها نهاية الملحمة بتحرير سيتا ومقتل رافانا في المعركة الفاصلة الكبرى التي جمعت بين راما وأخيه وحلفائهما وجيش رافانا وأعوانه. أما القسم الأخير من الملحمة فهو يقص عودة راما إلى آيودهيا ليخلف أباه في الملك إلا إن هذه المرحلة من الحكم عكَّر صفوها قرار راما بنفي زوجته إلى الغابة بعد أن عرف من أحد رجاله قصة أحد أفراد رعيته الذي طرد زوجته من بيتها بعد اختلت مع أحدهم في مكان قائلًا لها إنه ليس راما ليتركها تبقى معه. وعلى الرغم من معرفة راما بطهر زوجته وعفتها حين كانت مختطفة عند رافانا فإنه خضع للتقاليد السائرة في مجتمع وأراد أن يمنح مثالًا حسنًا لرعيته في التزامه لما ماضٍ حكمه وقضاؤه في مملكته. تُنفى سيتا إلى الغابة وتقضي سنواتٍ من عمرها وتنجب ابني راما لافا وكوش اللذين يجتمعان مع أبيهما في النهاية، وتنشق الأرض بعدها وتبتلع سيتا دليلًا على عفتها وشرفها تحت أنظار الجميع ليشهدوا على صدقها وكرامتها ومنزلتها. 

      


الرامايانا والأوديسة 


تتشابه ملحمة الرامايانا والأوديسة في نقاط وتختلف في أخرى. فأما نقاط الاختلاف فهي واضحة في عموم أحداث الملحمة وأحداثها لا سيما في موضوع الإقصاء والنفي الذي يقع على راما وزوجته، والصراع ما بين راما والشياطين في الغابة، وهي ثيمة مختلفة ظاهريًا عن ثيمة الأوديسة ورحلة العودة إلى إيثاكا التي يخوضها أوديسيوس مدة عشر سنوات في البحر حتى يصل في الأخير إلى إيثاكا ويجتمع مع ابنه وزوجته بعد أن يُوقع المذبحة بحق من تحرش بزوجته وطلب يدها للزواج وتآمر على قتل ابنه واستنزف خيراته بعد أن استقرَّ الخطَّاب في منزله. 

أما نقاط التشابه والالتقاء ما بين الملحمتين فهي قريبة إلى التشابه ما بين ملحمتي المهابهارتا والإلياذة، فمن بين هذه التشابهات: 


القوس


حين يشبُّ راما يذهب رفقة أخيه وراهب إلى الملك جاناك والد سيتا الذي أقسم ألا تتزوج ابنته إلا من يستطيع حمل قوس الإله شيفا الثقيل وربط وتره، لكنه ليس بقوس عادي لذا فيعجز الملوك والأمراء عن جرِّ وتره، إلا إن راما استطاع في النهاية أن يحمل الوتر ويتكسر القوس بين يديه ويتزوج الأميرة سيتا. تلتقي الرامايانا مع الأوديسة في المسابقة التي أقامتها زوجة أوديسيوس بينيلوبي بعد أن أحضرت قوس زوجها الغائب أوديسيوس والحاضر متخفيًا وسط الخطَّاب وطلبت منهم أن يحاولوا جرَّ وتر القوس واطلاق سهم يمر من حلقات اثتني عشرة فأسًا مثبتةً بالأرض، ومن يستطيع فعلها يُصبح زوجها. وبعد أن يعجز الخطاب عن جر وتر القوس، يأتي أوديسيوس المتخفي ويجرَّه ويتركب المذبحة في ساحة بيته أو ما تُعرف بمذبحة الخطَّاب. لا يمكن الإقرار بحقيقة هذا التشابه وهل هو تشابه صُدَفي أو محاكاة مؤلف عليم، لكن ما يمكن التثبت منه هو التشابه الوارد ما بين ملحمة أوديسيوس الإغريقي وراما الهندي.  

  

النفي 


تتشابه الرامايانا مع الأوديسة في موضوعة النفي. لكن ما يفرق بينهما أنَّ النفي في الرامايانا واضح بقرار راما الاستجابة لطلب والده الملك، أي أنه نفي إرادي يدوم أربعة عشر عاما. في حين النفي الأوديسة هو نفي إجباري، عبر تأخير عودة أوديسيوس إلى وطنه "إيثاكا" وتيهانه في البحر وحبسه في الجزر مدة عشر سنوات بله عشر سنوات قضاها أوديسيوس في حرب طروادة. أما ما جرى خلال سنوات النفي وواجهه البطلان في منفاهما فهو قائم على أدب المغامرات والصِراع من أجل النجاة. فالغابة في الرامايانا هي البحر في الأوديسة، والمخلوقات التي يواجهها أوديسيوس في رحلة العودة، تحل محلَّها الشياطين التي سكنت الغابة وعادت راما وزوجته وأخاه.

إنَّ النفي في الرامايانا يأخذ منحى متعدد الجهات، فراما يعيش في الغابة بكامل حريته وإرادته لذا فهو مطبوع على الاستكشاف والمغامرة وقتال ما يهدد حياته، لذا فليس ثمة وجهة محددة يقصدها راما سوى الانتظار حتى انتهاء مدة نفيه والعودة إلى آيدوها. أما النفي في الأوديسة أو التيهان في البحر له وجهة واحدة هي إيثاكا، وضياعه بين الجزر وصراع ضد مخلوقات البحر وسوء تدبير الآلهة هو مفروض عليه، فما من شاطئ أرض يطأها أوديسيوس كان قد نوى سلفًا عليها، على العكس تماما فكل أرض هي وجهة تجلبه إليها الصدفة المحضة أو التقدير السائد لتيارات البحر وافتراضات أقدار الآلهة. لذا فإن عودة أوديسيوس هي عودة الملك الضائع، أما عودة راما هو عودة الملك المُنتظر المنفي. فأوديسيوس يخرج ملكًا ويعود ملكا لكنها عودة محفوفة بالمخاطر فعودته ليست كل شيء لأن ثمة مهمة أخرى عليه أن يُتمَّها مع الخطَّاب، في حين راما يخرج وليَّ عهد ويعود إلى عرش الملك الذي ينتظره برغبة الجميع، فهي عودة متوَّجة بأكاليل الفرح والتتويج.  

  

سيتا وبينيلوبي (الوفاء والامتثال للزوج)  


تخرج سيتا مع زوجها راما في نفيه الطوعي في الغابة وتبقى معه تعاني وتتعرض للمخاطر لا سيما تلك المتمثلة في خطفها من قبل رافانا ملك لانكا، فترفض عرض رافانا بالزواج منها، ثم وبعد أن تنفى بأمر من راما في الغابة، فهي تتحمل هذا النفي الجديد، لتعيشَ حياة شظف وقسوة في الغابة وهي التي كانت أميرة ثم زوجة ملك. تبدو سيتا امرأة معدومة الإرادة، والهُوية، والشخصيَّة، فهي ظل زوجها وأوامره ومصيره وحياته. فما الذي يميز سيتا عدا الوفاء لزوجها والامتثال له بطاعة كاملة؟ لا شيءَ مميزٌ فيها بتاتا سوى ذلك. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن هذا التصوير لدور المرأة الهندية قد ظهر سابقًا مع المهابهارتا في شخصية دروبدي، وعادات أخرى مثل خطف المرأة لإجبارها على الزواج- الفعل الذي يبدو بطوليًا ولا رأي للمرأة في الرفض والقبول عموما وإن كان ثمة استثناءات كما في حادثة أمبا وبهيشما لكنها ليست قاعدة أو متكررة بشكل ملاحظ. تخضع دروبدي لمصير أزواجها ولربما أسوأ ما تعرضت له حين لعب زوجها يوديشترا النرد وخسر مملكته وكان قد خسر معها زوجته وأخوته حين وضعهم في رهان اللعب. فالزوجة هنا هي مملوكة للزوج ولا دور لها إلا دور الخضوع المطلق والتام، دور التابع الذي ينفذ طلبات المتبوع، كما حدث في نفي سيتا، أو حتى تلك القصة التي ترد على مسامع راما عن الرجل الذي أبعد زوجته عن سكنه لأنها اختلت برجل غرر بها. 

في الضفة الأخرى لدى الإغريق، فإن دور المرأة لا يقل عن دور الرجل كثيرًا، وبدا دور الأنثى في ملحمة الأوديسة شاخصًا ومؤثرًا في كل كتب الأوديسة الأربعة والعشرين، سواء أكن إلهات أو نساءً أو ساحراتٍ أو حتى وحوشًا ومخلوقات غريبة. وفي مقدمة شخصيات الأوديسة الأنثوية هي بينيلوبي زوجة أوديسيوس التي انتظرت زوجها مدة عشرين عامًا. هذا الانتظار الذي واجهت في سنواته الأخيرة الخطَّاب الذين سكنوا منزلها وزوجها ورغبوا بالزواج منها رغمًا عنها، إلا أنَّ ما يفرق هنا أنهم جميعًا كان يضايقونها لكنهم لم يستطيعوا إجبارها أو غصبها أو حتى خطفها -كعادات الهنود- لإجبارها على الزواج. فهي تبقى رغم كل ذلك سيدة البيت وإيثاكا الأولى حتى عودة زوجته المظفَّرة. 

  

تيليماكوس وابنا راما (لافا وكوش)


ينشأ كلا من ابن أوديسيوس وابني راما بعيدين عن والديهما، ولا يعرفانهما حتى البلوغ. وما يفرق عن الحالين، أن تيليماكوس كان في رحلة بحث دائمة عن أبيه، وسعي دؤوب ليعرف من هو أبيه، فهو لا يريد العيش على أمجاد أبيه فقط، بل يريد أن يعرف من هو كذلك، أن يخلق هُويته الخاصة به التي لا مسعى في الوصول إليها سوى مسعى معرفة مصير والده أوديسيوس. أما لافا وكوش فهما ينشآن بعيدًا عن والدهما راما، وعن معرفة من أبوهما الحقيقي، لذا فنشأتهما في الغابة مع أمهما والراهب، نشأة بلا أب، وبلا السؤال عن الأب. فمن أباهما، سؤال لم يبدُ أنه يشغل حيزًا كبيرًا في دواخلهما، وليس له أدنى تأثير في خلق هُويتيهما، فيترعرعان وحيدين، ويتعلمان استخدام مختلف الأسلحة وفنون القتال، حتى تقع الحادثة التي يعرفان بها والدهما. 


ختامًا، إنَّ البناء النفسي والهوياتي للشخصيات في الأوديسة أنضج وأعمق وأتقن من شخصيات الرامايانا، وقد يعود السبب في هذا -باحتمال كبير- إلى كون النسخة مختصرة بإيجاز، رغم محاولتي أن أبني صورة دقيقة بقدر الإمكان عن الرامايانا مما يساعدني على تفادي الخطأ والنقص في القراءة والشطط في الرؤية المُدركة والنافذة للعمل قدر الإمكان. 

ولي عودة بإذن الله  إلى ملحمة الرامايانا بعد أن أحصل على ترجمة جديدة غير مختصرة.

السبت، 12 سبتمبر 2020

المهابهارتا

 

(ملحمة الهند الكبرى)


تُعدُّ المهابهارتا عِماد الأدب الهندي رفقة ملحمة الرامايانا اللتان توازيان الإلياذة في الأدب الإغريقي رفقة الأوديسة لشاعرهما هوميروس، وتفضلُ ملحمة المهابهارتها الإلياذة في كونها منبع لتعاليم الديانة الهندوسية بل وإنَّ السِفر السادس عشر منها (الباجافاد جيتا)- وهو محاورة بين كريشنا (الذي تجسَّد فيه إله الكون) وأرجونا أحد أبطال الملحمة- هو الكتاب الهندوسي المقدس. فبعد أن كان محرَّما على الهندوسي العادي أن يمس كتاب الرجيفيدا (النص الهندوسي المقدَّس)، الذي كان مقصورًا على الكهنة فقط، وبدأ منذ حينها البحث عن كتابٍ يحلُّ محله وكانت هذه المحاورة بين كريشنا (الإله المتجسِّد) وأرجونا هي البديل، وقد تُرجم هذا الكتاب إلى الإنجليزية من قبل د. شاكوانتالا راوا شاستري وتُرجم إلى العربية من قبل رعد عبد الجليل جواد. 

إذن، فنحن أمام ملحمة أدبية ودينية وثقافية وفكرية واجتماعية تعود إلى 1000-1500 سنة ق. م. تجري أحداثها في شبه القارة الهندية حيث الغابات والسهول ونهر الغانج، الذي يَعدُّه الهندوس اليوم نهرًا مقدسًا. لا يعرف بالضبط المؤلف الحقيقي لهذه الملحمة وإن كانت تُنسب في متنها إلى الشاعر فياسا، إحدى شخصيات المهابهارتا ومؤلفها الذي تلاها على الإله غانيشا ذي وجه الفيل ليكتبها، ولهذه الشخصية فيدا فياسا أهمية محورية لكونه المقسِّم لنص الفيدا الديني في عصور الهند الغابرة. ولا يُشكُّ كذلك في الزيادة التي طرأت على نص المهابهاراتا كحال أي نص قديم غير مدوَّن، والذي يتألف من قرابة مئتي ألف بيت شعري مقسَّم في ثمانية عشر سفرًا رئيسًا يحمل كل منها عنوانًا معينًا مع سِفر متتم أخير. (هذه الترجمة العربية لعبد الإله الملاح ترجمة مختصرة وموجزة لذا قد ترد في هذه القراءة للملحمة معلوماتٍ غير دقيقة أو حتى خطأ).  

 

إنَّ موضوع المحلمة الرئيس هو معركة "كروكشيترا" الكبرى، التي تدور ما بين أبناء العمومة (القوروشيون والباندوفيون)، إلا إنَّ هذه المعركة الممثلة لقلب الملحمة تشغل حدثًا من سلسلة أحداث مؤدية إلى المعركة. وإن بدت الملحمة منذ البداية تمضي إلى الذروة في صراع أبناء العمومة فثمة الكثير من المواضيع التي تصب في نهر الملحمة الكبير، تظهر المعركة فيه أشبه ما تكون بحلقة ضمن مواضيع أخرى شددت عليها الملحمة كالدين والأخلاق والسلوكيات الفاضلة التي تمثلت في الدارما، وكيف أن شخصيات الملحمة دائما ما سعت جاهدة الالتزام بالدارما، بل إنَّ المعركة الكبرى الفاصلة نفسها من أجل إبقاء الدارما هي الحاكمة ولا ينتصر الشرُّ على الخير. إذن فالأبعاد الدينية (الدارما) والصراع ما بين الخير والشر (القوروش والباندو) هما المحرِّك الرئيس لكل شيء في المحلمة ولا يمكن قراءة المحلمة دون التنبُّه إلى هذه المسألة المهمة ولهذا نقرأ كلام فياسا حين استدعى الإله غانيشا وقال له: "أي برهما لقد أكملت عندي قصيدة، ما انقطعت تلح عليَّ، وتعرض ما كان من أمر الماضي، وتبسط في زماننا، وترسم ما سوف يكون المستقبل، رواية تحكي ما يعصف بالبشرية من الانحطاط، والتفسخ، والموت، وتصور الوباء، والرعب. كذلك وصفت مراتب المجتمع الأربع، وذكرت للزاهد أصول رياضة النفس، وحددت أبعاد الكواكب والنجوم، وقد جهدت أن تحتوي تلخيصًا لأسفار الفيدا وشروحًا للفلسفات، وتعدادًا للجبال والأنهار والمحيطات، ووصفًا للمناسك، والمدن الساحرة، وما احتوت الدنيا من العروق واللغات على اختلافها. وإنك لواجد فيها أصول فن الحرب، وتدريبًا على قواعد السلوك، والحكم، والسلطان، ولقد أردت أن تكون هذه القصيدة مستودعًا لكل المعارف والعلوم، وسجلًا للأحداث. بيد أنني لم أعثر على من هو جدير بأن أتلو عليه هذه الرواية!". 

يتضح لنا من كلام فياسا، مؤلفها أو من تُنسب له، أنَّ الملحمة هي عن الإنسان وتفرعاته المادية والفكرية، وعن الطبيعة والعالم والكون وكل ما له صلة بهم، وهي بذات الوقت ملحمة كل زمان ومكان، وكل إنسان، ولا تخص الهند وشعبها وحدها بل تخص الجميع، ومما بدا لي في بحثي عنها والحقائق التي ترد فيها ولم تذكر في هذه الترجمة المختصرة أنَّ معركة "كروكشيترا" شاركت فيها كل جيوش الأرض، إذن هي المعركة الفاصلة والدائمة الوقوع بين الخير والشر. إنَّ محلمة المهابهارتا عالميّة الخطاب وإن خصَّت أحداثها المرويَّة سكَّان الهند فحسب. 


أقسام الملحمة


تتوزع أحداث الملحمة بشكل رئيس في أربعة مراحل، تُشكِّل المرحلة الأولى البداية التعريفية بشخصيات الملحمة في أجيالها المختلفة ابتداءً من مولد فياسا ثم زواج الملك شنتانو امرأة يصادفها ويعجب بها وتلد له بهيشما، ثم زواجه الفتاة ستيافاتي (أم فياسا من الحكيم برشارا) التي تلد له تشيترانغادا وفيتشيترافيريا، وانتهاءً بأبناء باندو الخمس (أحفاد شنتانو)، وهم عماد شخصيات الملحمة لا سيما يوديشترا وبهيما وأرجونا وزوجتهم دروبدي، وأبناء عمهم ديتراشترا المئة وعلى رأسهم دريودانا. 

 أما المرحلة الثانية من الملحمة في حكم أبناء باندو لشطر من أرض هاستينبورا ثم خسارة يوديشترا -أكبر الأخوة الباندوفيين وملكهم- لمملكته لصالح عمه ديتراشترا غشًا في لعبة نرد أمام شاكوني -بتحريض من دريودانا-  ثم يُنفي الباندوفيين في الغابة مدة اثنتي عشرة سنة وعليهم في السنة الثالثة عشرة أن يتخفّوا لكيلا يتجدد عليهم النفي وإن نجحوا يعود إليهم ملكهم. فخرجوا في السنة الثالثة عشرة متخفين والتجأوا إلى ممكلة فيراتا.  

يتحضَّر أبناء العمومة في المرحلة الثالثة من الملحمة من أجل المعركة الكبرى والفاصلة بين الفريقين بعد أن رفض دريودانا أن يُعيد لأبناء عمه مملكتهم، لتجري بينهم إثر هذا الرفض والمكر والخديعة معركة فاصلة ما بين أبناء العمومة وحلفاء الطرفين تنتهي بانتصار الباندوفيين، وتتويج يوديشترا ملكًا على هاستينبورا بأكلمها. 

أما المرحلة الأخيرة في المحلمة فتتمحور حول الأحداث التي تلت انتصار الباندوفيين وإقامة طقوس حرق الموتى وابتعاد العم الشيخ الضرير ديترشترا مع زوجته قندهاري ليعيش حياة متنسكة في الغابة بعيدًا عن حياة المُلك والقصور. ثم تنتهي الملحمة بتنازل يوديشترا عن الملك وذهابه من أخوته إلى الجبل من أجل الصعود إلى السماء التي يدخلها دون أخوته جسدًا لا روحًا فقط تكريما له ولفضائله.   


خوارق الطبيعة


تمتاز المهابهاراتا في كثير من جوانبها بخرقها لطبيعة الإنسان والعالم. وتُلقي هذه الخوارق بظلالها على طبيعة المجتمع والفكر الهندي الذي يمكننا ملاحظته في الأفلام الهندية على سبيل المثال. فيصبح اللا منطقي منطقيًا، واللا معقول معقولًا، واللا طبيعي طبيعيًا، وبعبارة أخرى فإن كل ما يعرفه إنسان اليوم من منطق يختفي في كثير من أحداث الملحمة. فمن الخوارق فيها هو 


الأعداد المهولة والكبيرة جدا التي يصعب التصديق بها في كل شيء يمكن أن يتعدد في هذه الحياة. فنرى أن الهدايا التي تُمنح تبدو وكأن هناك منجمًا لا ينضب من الذهب وحديقة حيوان مليئة بملايين الأعداد من كل نوع حيواني وصنف. 


ويغيب مفهوم الزمن في الملحمة. فالقصر المشيد وبغرفه العديدة، وساحاتاه الكبيرة، وحدائقه الغنّاء يُبنى في مدة قصيرة لا تُذكر، ويسكنه أصحابه ويتمتعون برفاهية العيش فيه. 

فأين الزمن ولماذا يختفي؟ ما من إشارة واضحة بشأن هذا الموضوع فيبدو الزمن في الملحمة قصيرا إن أُريد ذلك، وطويلًا متى تطلّب ذلك. ولا يختلف الأمر كثيرا على تأثير الزمن في الشخصيات فتبدو أنها بعيدة كل البعد عن التأثر به بتقدم الزمن. فشخصيات مثل بهيشما تحتفظ بقوتها رغم تقدم السن ولا تفرق شيئا عن منافسيه اليافعين والشباب بل وتفوقهم كذلك.

فهل كان هذا التعامل شبه الإلغائي للزمن وتأثيراته متعمدًا أو اعتباطيًا؟ يبقى سؤالًا جديرا بالبحث ومحاولة الإجابة عنه. لكن بما أن الخوارق للطبيعة جزء من ماهية الملحمة لذا فإن الزمن ليس إلا أداة طيّعة بيد مؤلف الملحمة يستخدمها لخدمة أحداثها، وبما أن التأليف يمكن أن يقوم على الخيال لا الوقائع والحقائق فما الذي يجبر المؤلف أن يلتزم بحدود المنطق والمعقول؟ لذا يتيح لنفسه ما لا يتيحه الواقع له، فإن كان القصر المنيف يحتاج لسنتين مثلا لبنائه بإمكانه اختصار المدة إلى شهر وهكذا فهو لن يخسر جهدًا ولا مالًا لتحقيق ذلك، وكذلك فإن الزمن ليس عاملًا رئيسًا في كل الملحمة أكثر من مسار عام تجري الأحداث في حقبه المتابعة التي تضم أجيال الملحمة.


الشجاعة غير المحدودة. ومن السمات الخارقة للطبيعة هو شجاعة أبطال الملحمة غير المحدودة فأبطال مثل بهيما وأرجونا وكارنا وبهيشما يفعلون الأفاعيل بمئات من الجنود وآلاف دون أن يكون ثمة عائق يثبَّطهم عموما أو حاجز يُوقفهم. ولعل ما حدث في معسكر الباندوفيين وحلفائهم على يد أشفاتمن أكبر مثال على هذا الاختراق اللا منطقي للطبيعة البشرية في الملحمة، والذي يضعها في نوع من الخيال الطفولي أكثر مما هو الخيال البالغ المكين المحكم. 


تبقى هذه السمة غالبة على أحداث الملحمة من البداية وحتى النهاية، وتشكل عاملًا حاسمًا لأحداثها ومصائر شخصياتها. ويتبادر سؤال ماذا قدَّم هذا الخرق للطبيعة وقوانينها في الملحمة وهل كان من الممكن أن تلتزم الملحمة بقوانين الطبيعة والعقل دون السباحة في بحر المستحيل؟

إنَّ الخرق للطبيعة في ملحمة المهابهارتا مُسيِّر لأغلب محتواها وإطارها العام الذي يضبط أحداثها، لذا فإن ما يُخرق هو بذات الوقت ما يضبطها ويعطيها بعدها الملحمي الخارق الذي ستبدو من دونه باهتة، لا سيما وأنَّ هذه الخوارق للطبيعة شكَّلت المِخيال الهندي والثقافة الهندية وجعلت من الهند بلدًا للعجائب. وإنَّ الالتزام بقوانين الطبيعة في حال وجد في الملحمة فإنه لن يضرَّ المهابهارتا شيئًا أكثر من أنه يفقدها ماهيتها، فكل ما فيها من زواج الآلهة بالبشر، وشجاعة الأبطال، والقوة الجبارة والمقدرة المهولة، واختلاط النسب بين الشخصيات، كل هذا يمثل روح المهابهاراتا وجوَّها العام، وحين تسلبها كل هذا أو أغلبه فستقف أمام نص باهت لا يميزه الكثير سوى قِدمه عكس ما هي عليه في الحقيقة. 




المقابلة مع الإلياذة


تلتقي المهابهاراتا مع الإلياذة في نقاط وتختلف في أخرى. فتبدو نقاط الالتقاء أنها محاكاة أو تناص وتبدو نقاط الاختلاف أنَّ كل ملحمة تمثل بيئة خاصة بها بكل ما تحتويه هذه البيئة من أبعاد فكرية وثقافية واجتماعية ودينية وسياسية، لكن هذا لا يمنع أن يكون ثمة نوع من الاتصال ما بين الشعوب القديمة جعل التأثر والتأثير احتمالية واردة لا يمكن الإعراض عنها بالكلية، لا سيما وأن التشابه يبدو إلى حدٍ ما متطابق. 


من النقاط التشابه والالتقاء ما بين الملحمتين: 


غضبة آخيل وأرجونا


تشكل الغِضبة في الإلياذة مِفصلًا في تتابع أحداث الملحمة إذ كان مقتل باتروكلوس ثم غضبة آخيل، بطل حرب طروادة، عاملًا حاسمًا في قتل أمير طروادة هيكتور ثم انتهاء الحصار الإغريقي على مدينة طروادة بعد اقتحامها بحيلة الحصان الذهبي لأوديسيوس.

ترد الغِضبة في المهابهارتا متمثلة في أرجونا على مقتل ابنه، فبعد أن يقتل أبهيمانيو ابنُ أرجونا ابنَ دوشاسنا، ثم يقتل القوروش ابنَ أرجونا الذي يشتاط غضبًا على القوروش ويقاتل بشراسة مع قوسه الفيجانا الإلهي في طلب الثأر والانتقام. وعلى الرغم من أنَّ غضبة أرجونا أقل حدة من غضبة آخيل وأقل تأثيرًا على مسار الحرب فإنها تبقى من العوامل التي تتشابه في الملحمتين، لا سيما في كون المقتول أحد أبطال الحرب، وأبطال المهابهارتها لا يموتون بسهولة فهم الذين يبدون في كثير من الأحيان محصَّنين من الموت منيعين على المنية المحمولة على سلاح الخصوم. وهنا لا بد من الانتقال إلى النقطة الثانية من التشابه. 



صراع الأبطال


مما هو معلوم فإن هوميروس ليس بشاعر العامة ولا أبطاله من الرجال العاديين بل هو شاعر عليَّة القوم من الملوك والأمراء وشجعان الإغريق وصناديدهم، لذا فإنَّ ملحمتيه -الإلياذة والأوديسة- تركزان بشكل كامل على حياة الأبطال وصراعهم وكفاحهم وشجاعتهم ولا يلتفت إلى من هم دونهم إلا من أجل إكمال صورة الحدث عمومًا. ينطبق هذا الأمر تماما مع المهابهارتا فهي لا تتعامل إلا مع الملوك والأمراء والبراهما والحكماء والشجعان، فكل شخصيات الملحمة الرئيسة هم من الملوك والأمراء وقادة الجيوش الذي يمتازون بقوى هائلة أو سمات ليس لعامة الناس منها نصيب. لكن ما يميز البطل الإغريقي الهوميري عن نظيره الهندي، أن الثاني إلهي الصفات، خارق القوى، لا ينتظر مساعدة الآلهة ولا معونتها ولا يخشى أن تقف ضده فتبدو باهتة أو ظل إله أو حتى ظلًا له. أما الإغريقي فهو حليف الآلهة وسليلها ولا يجرؤ أن يجدّف بحقها وتبقى صاحبة السلطان عليه طيلة حياته.

تبدو بطولة الإغريقي أكثر رفعة فجانبه الإنساني طاغٍ عليه بسيئاته وحسناته، برذائله وفضائله، بشمائله ومعايبه. أما خُلق الهندي أكثر سموًا فهو أقرب للعصمة، فيجسّد الفضيلة بسلوكه، وافيًا لعهده، مخلصًا لوعده، ممتثلًا لكلمته التي أعطاها. فالإغريقي بطل بسيفه والهندي بطل بأخلاقه.

وثمة نظريتان عن الأبطال الهوميريين، تنص الأولى أنهم كانوا آلهة وإنحدروا بشرا، والأخرى أنهم بشر وارتقوا آلهة. وأيُّ النظريتين لا تبدو متعارضة مع الملحمة الهوميرية.

أما أبطال الهند فهم يبدو سلفًا آلهة أو في طريقهم ليصبحوا آلهة بقواهم الخارقة للطبيعة، والتزامهم بمعتقداتهم وتقاليدهم. وشجاعة الإغريقي أكثر جاذبية فهناك ما يُشعر المتلقي أنَّ بالإمكان هزيمته، أما الهندي فالمتلقي متأكد أنه غالبٌ لا محالة، وأنَّ كل شيء معدٌّ ليغلبَ خصومه ويبزُّهم بسلوكه القويم وعدله وتواضعه عند الانتصار. لذا فالبطل الهندي حالة من الشجاعة المثالية، والإغريقي حالة من الشجاعة البشرية.


حزن بريام وديتراشترا 


إنَّ حزن الملوك ليس كحزن الإناس العاديين، فالملوك لا يحزنون إلا لنازلة عظيمة ومصاب جلل. فحزن بريام (ملك طروادة) كان حزنين، الأول كان على موت ابنه هيكتور، بطل الطرواديين وأميرهم وقائد جيشهم، والآخر أنَّ موت ابنه حمل ضمنيًا نذيرًا بخراب طروادة، فاجتمع الأمرَّان عليه في خيمة آخيل، بعد أن ذهب يتوسل إليه أن يعيد له جثمان ابنه لتُقام له طقوس توديع لائقة بأمير طروادة. في الجانب الآخر فإنَّ حزن ديتراشترا (ملك هاستينبورا الضرير) بعد علمه بمقتل أبنائه المئة في المعركة الفاصلة ضد أبناء عمهم- هو حزن الأب الفاقد لأبنائه لا حزن الملك المفارق لملكه. 

إنَّ الفارق ما بين حزن الملكين ينقسم بشكل رئيس إلى نقطتين مهمتين، الأولى أمام من خسر ملكه، وماذا تُمثِّل مملكته له؟ 

يبكي بريام ابنه ومملكته معًا لأنه أولًا يخسرها أمام عدو منافسٍ يفوقه قوة ومقدرة عبرَ البحر بجيوشه إليه من أجل هدف واحد فقط أن يدمر طروادة عن بكرة أبيها، وأن خسارته لملكه خسارة الضياع إلى الأبد. وثانيًا في كون مدينة طروادة حصينة على الأعداء لعقود طويلة بفضل أسوارها وحصونها العالية، فهي أرض الوطن والأهل والأحباب، وليست مجرد مملكة. بكى بريام ابنه وطروادة ومجده الغابر وعمره الذي ستنتهي رحلته قريبًا بعد أن شاخ، بكى الماضي التليد الذي لن تبقى منه ذكرى بعد أن يقتحم الطرواديون حصون مملكته المنيعة. 

أما حزن ديتراشترا خالص على أبنائه الذين فقدهم لأنه أولًا كان ضد سياسات ابنه دريودانا الماكرة والخبيثة تجاه أبناء أخيه، وإنَّ خسارته المُلك لن تكون لعدو يريد الخراب لمملكته أو منافس منازع على ملكه بل لأبناء أخيه الذين يعرف حقهم في المُلك في هاستينبورا الذي خسروه غشًا وخديعة، بله ما يعرف عن سماتهم الخير والأخلاق والالتزام بالدارما التي تنظم سلوكهم وتضبط تصرفاتهم بدون طيش أو حيف. وثانيًا، في كون هاستينبورا مملكةَ الباندوفيين بقدر ما هي مملكة القوروشيين، فما من دمار سيحل على دورها ولا خراب سيطال أرضها، بل قد تكون أكثر ازدهارًا مع أبناء أخوته، وهو الذي شارف على نهاية عمره ودخل خريفه منذ أمد ليس بالقصير. 


آلهة الإلياذة وآلهة المهابهارتا


إنَّ الآلهة في المهابهارتا أقل قيمة من الآلهة في الإلياذة وتدخلها محدود في مسار الأحداث وأقدار الشخصيات وإن تدخلت فبدعم الأبطال بشكل غير مباشر كأن تزودهم بالأسلحة لا تتدخل بنفسها مباشرة. إضافة إلى أن الأبطال يجدفون دون أن يكون للآلهة تدخل بله كونها جزء الشخصيات بحضورها وليست مستقلة في عالمها. وكذلك في طبيعة العلاقة ما بين الأبطال والآلهة كما ذُكرَ آنفًا، فالعلاقة قائمة على نوع من التكافئ لا علاقة عبد وإله. وآلهة المهابهارتا بعيدة عن سمات البشر ونواقصهم ورذائلهم، وهي أيضًا لا تنقسم على نفسها داعمة هذا الفريق ومحاربة ذاك، بل تأخذًا موقفًا محايدًا ظاهريًا وإن كانت تدعم الأخيار الممتثلين لتعاليم الدارما والممثلين بالإخوة باندو وحلفائهم. يختلف الأمر كليًا في آلهة الإلياذة، فدائما ما يكون لها تدخل بمسار الأحداث ومصير الشخصيات، فتعين على إنجاد هذا وتعجِّل من مقتل ذاك، وهكذا دواليك. وتتخذ من الأولمبوس مقرًا لها تتابع الحرب ووقائعها، ليضاف البُعد السماوي إلى الإلياذة وتجري أحداثها منقسمة ما بين عالم الأرض وعالم السماء. وبفضل هذا الحضور الشاخص لآلهة الأولمبوس فإنَّ أبطال الإلياذة سواء من الإغريق أو الطرواديين دائما ما يطيعون الآلهة ويقدمون لها الأضاحي والقرابين سائلين إياها النصر والمعونة والتمكين. ولنتيجة لكل هذا، فإن آلهة الإلياذة تمتاز بطبائع بشرية فتبدو وكأنها بشرٌ بقدرات خارقة، فتنقسم فيما بينها آلهة تدعم هذا الجانب وأخرى تدعم ذاك. وتتحول المعركة ما بين الإغريق والطرواديين، صراع متأجج ما بين آلهة الأولمبوس الذي دائما ما يكون لكبيرهم زيوس القول الفصل والأمر النافذ على بقية آلهة الأولمبوس. 

ومما يمكنني استنتاجه من هذا الفرق ما بين تصوير آلهة الأمتين وتعامل الأبطال مع الآلهة هو تفوق آلهة الهنود على الإغريق، فهم أكثر سموًا ورفعة وأقرب إلى الإلوهية منهم إلى البشرية، ويُظهر نوعا من التطور المعتقدي الهندي إذا ما قُوبل بالرؤية المعتقدية الإغريقية المصوَّرة في الملحمتين. وأما تعامل أبطال الملحمتين مع الآلهة فإنَّ أبطال الإغريق أكثر تعظيمًا وتقديسًا لآلهتها بالنظر لطبيعة العلاقة التي تربط أبطال الهنود مع آلهتها، وهذا ما يُعيديا إلى ماهية الأبطال في الملحمتين وكيف أنَّ أبطال المهابهارتا ذوي جِبلّة آلاهية لا تتمتع بها شخصيات الإلياذة. 


     

رحلة السماء  


تنتهي ملحمة المهابهاراتا بتنازل يوديشترا عن الحكم في مملكة هاستينبورا ويذهب مع إخوته وزوجتهم دروبدي في رحلة الصعود إلى السماء بارتقاء الجبل. يسقط الجميع أثناء الصعود ما عدا يوديشترا، إذ كان لديهم معايب ورذائل منعتهم من ولوج السماء أجسادًا، لكن يوديشترا وباعتراف من الإله الذي استقبله فقد دخل السماء بجسده تكريما له ولالتزامه بالدارما طوال حياته.

إنَّ الدخول إلى عالم السماء أو عالم الأموات كما في الأوديسة وما يرد في اللوح الثاني عشر من ملحمة غلغامش، فكرة ملازمة للإنسان، يحاول جاهدًا السعي لمعرفة المجهول المتمثل بعالم حياة الآخرة أو عالم السماء بجنته وناره. وستبقى هذه الفكرة قائمة لدى الإنسان وستظهر في أعمال أخرى مثل رسالة الغفران والكوميديا الإلهية، وهي فكرة ملازمة للإنسان باختلاف زمانه ومكانه. لذا فقد عمل الهنود على جعل الملك يوديشترا الذي امتاز بشمائله ومزاياه والتزامه بتعاليم الدارما أن يدخل السماء ويرى ما فيها.  وثمة فكرتان في هذه الرحلة: 


- اكتشاف المجهول السماوي أو ما عالم ما بعد الموت. وهو الموضوع الذي كان مصاحبًا للإنسان وحاول التعبير عنه دائمًا بكل ما أتيح له من خيال واعتقاد. وما يميز المعتقد الهندي هنا في رحلة السماء أنَّ العالم الذي يراه يوديشترا هناك منقسمًا إلى الجنة والنار، في حين نجد أن أنكيدو في ملحمة غلغامش يذهب إلى عالم الأموات، وما من تقسيمات مصائرية بجنة ونار هناك، وكذلك الحال مع أوديسيوس ورحلته إلى منزل الأموات. وهنا أيضًا نجد أن الرؤية الدينية الهندية في المهابهارتا أكثر رقيًّا من سابقتيها إذ تعتقد بوجود الحساب بعد الموت ثم المصير إما إلى الجنة وإما إلى النار اعتمادًا على عمل الإنسان والتزامه بتعاليم الدارما.


- الدخول الجسدي. تتمحور الفكرة حول دخول يوديشترا السماء بجسده، كون الجسد يمثل نوعا من الرذيلة والنقيصة، في حين الروح نوعا من السمو والكمال الذي يجعل من دخول يوديشترا عالم السماء جسدًا لا روحًا- تكريمًا لم يتسنَ لغيره.   

  


الاثنين، 7 سبتمبر 2020

رونالد ستوارت توماس (1913-2000) - الشاعر ورجل الدين الويلزيّ.

 


يعدُّ ر. س. توماس واحدًا من الشعراء الرئيسين لشعر الحداثة الويلزي، كتب عن أبناء وطنه بأسلوب قرنه بعض النقَّاد مع التضاريس الخشنة والوعرة لبلده. استخدم توماس القليل من التقنيات الشعرية الشائعة وكان ما كتبه بحسب قول آلان برونجون "باردٌ وناقلٌ لنقاوة اللغة". ويوضح جيمس ف. كناب بأنَّ "العالم الشعري الذي بزغَ من شعر توماس هو عالم حقول الوَحدة الويلزية، والفلاحين الذي يتحملون قساوة تلال وطنهم. والرؤية في شعره حقيقية وبلا رحمة". أما لويس ساسو فيذكر بأنَّ "قصائد توماس متينة، والعالم الذي تخلقه مليء بالشفقة والحب والشك والسخرية. وتجعل المرء يشعر بالبهجة لأنه جزء من الجنس البشري". 


التعليم وبدايات الشعر 


قضى توماس، ابن البحار، وقتًا مديدًا من طفولته في بلدات الميناء البريطاني حيث عاش مع والدته حينما كان والده يمخر بسفينته عبابَ البحرَ بعيدًا. بدأ تعليم توماس الأولي متأخرًا وعلى شكل متقطِّع حتى وجد والده عملًا ثابتًا في شركة عبَّارة ما بين ويلز وأيرلندا، لتتمكن العائلة بعدها من الاستقرار في مدينة كايرغيبي الويلزية. التحق توماس بعد تخرجه في المدرسة للدراسة في الكهنوت الإنجليكاني- المسيرة المهنية التي كانت والدته أول من اقترحها عليه. ويكتب توماس في مقالة لـ "السيرة الذاتية للمؤلفين المعاصرين (س.ذ.م.ع)": "خجولا كما كنت، لم أُبدِ أي مقاومة".  


وُسمَ توماس في عام 1936 شمَّاسًا في الكنيسة الإنجليكانية وعُيِّنَ للعمل خوريًا في قرية التعدين الويلزية "تشيرك"، وأصبحَ قسًا بعدها بسنة. كان التعيين الذي ناله في قرية تشيرك الأول من بين سلسلة من التعيينات التي شغلها في مجتمعات ويلز الريفيّة. وخدم ويلز ما بين سني 1936-1978 في كنائسَ عديدة في ستِّ بلدات ويلزية مختلفة. منحته هذه التعيينات المعرفة المباشرة عن حياة الزراعة الويلزية وزوَّدته بحشد من الشخصيات والضوابط لشعره. 

على الرغم من أنَّ توماس نظم الشعر منذ أيام المدرسة، فإن الكتابة الجديَّة لم تبدأ حتى التقى توماسُ مليدريد ي. إلدريدج التي أصبحت زوجته فيما بعد. وكانت إلدريدج قد حازت سمعتها رسَّامة سلفًا، ويذكر توماس في مقالته لـ(س.ذ.م.ع): "جعلني الأمر أرغب بأن يُعترف بي شاعرًا". بدأ توماس يؤلفُ الشعرَ عن حياة الريف الويلزي وناسِه، متأثرًا بكتابات إدوارد توماس، وفيونا ماكليود، ووليام بتلر ييتس.  


إياغو برايذيرتش


ربما تكون شخصية إياغو برايذيرتش أفضل شخصيات توماس المعروفة- عامل الحقل (المزارع) الذي ظهر في العديد من قصائده.  يصفه توماس في قصيدة "الفلاح" بأنه: "رجل عادي لتلال ويلز الجرداء" ويوضِّح كولين ميير بأن برايذيرتش يُلخِّص حياة حقول التلال في ويلز و"كما يُرى تجسيدًا لجَلَدِ الرجل". ويجدُ أ. ي. دايسون في مقالة له بأن برايذيرتش في كونه مزارعًا قد "بُتِرَ من الثقافة والشعر وحتى من الدين ومع ذلك فهو يملك واقعية أوَّليَّة وقوة في حياته التي يُحسدُ على جزء منها". 


إنَّ برايذيرتش صورة نموذجية لرجل الريف الويلزيّ، ويقف رمزًا لجميع سكَّانه. وكما يلاحظ كناب فإنَّ برايذيرتش "يمثل الفلاحيين الويلزيين في كل جوانبهم على امتداد شعر توماس". أما دايسون فيرى "أنَّ توماس قد استخدم برايذيرتش رمزًا للإنسانية نفسها. ويمنحُ عمله الشاق في الأراضي القاسيّة -إضافة إلى كونها تمثيلًا للفلاح الويلزي- مثالًا للمصاعب العامة التي يعاني منها البشر جميعًا". ويكمل دايسون بأنَّ "الأمر يشبه إيجاد توماس في الفلاحين 'نموذجًا' للإنسان، وجعل من ذلك بيانًا كونيًا. هذا التقليص للوجود في أرض ينتمي جمالها الذاوي إلى الماضي أكثرَ إنسانيَّة من أيّ تطور علمي راقٍ، أو لنقل بأنه أقرب رمزيّة للمأزق الإنساني".

تضع العديد من قصائد توماس شخصياته المزارعة في مواجهة الأراضي الطبيعية الكئيبة والمحرَّمة لويلز، مُركِّزًا على صعوبات الحياة الريفية. "تعرض بعض قصائده نظرة إنسان كئيبة بلا هوادة" كما يُقرُّ كناب، "وحتى في الحالات التي تعرض فيها قصائده الأملَ بوضوح، فإنَّ عناصر الحدث تبقى كالحة بإفراط… وتبقى المُسلَّمة الأساسية هي من نوع رجل ضئيل يكافح لتحمل كونه الصغير… وتُركِّز معظم الجوانب المرئية في شعره على الشخصيات الوحيدة وهي تعمل في الحقول الصخرية وتمشي على امتداد الطرق". 

وبمقابلة شعر توماس مع شعر الأمريكي روبرت فروست الذي كتب أيضًا عن حياة الريف، يُلاحِظُ رونسي بأنَّ "فلاحي توماس وعمَّاله ومزارعي التلال -على النقيض من شخصيات فروست- ليسوا فلاسفة على الرغم من جهده المبذو عليهم لسنة تلو أخرى. ويظهرون أنهم يعيشون الحياة فحسب مع بقاء شعور صامت وبليد وضئيل". 



رجل الدين 


صبغ توماسُ -لكونه رجل دين- شعرَه بمواضيع دينية باستمرار، وغالبًا ما تحدث بلسان "القس الوحيد الذي غالبًا ما يعاني من مأزق لا حل له، ويعيش منعزلًا في أبرشيته مثل برايذيرتش الموجود على ضهر التلة العارية، كما يكتب مير. وبتعابير مسيحية، يوضِّح دايسون "إنَّ توماس ليس بشاعر التجلِّي، ولا القيامة، ولا قداسة الإنسان… بل هو شاعر الصليب، والصلاة غير المُستجابة، والكآبة الراحلة عبر الظُلمة، ولا سيما معتقده اللاهوتي في يسوع الذي يبدو غريبًا وضدَّ أيَّ معتقد تراثي متعارف عليه". وتصف آنا ستيفنسون توماس بأنه "شاعر ديني يرى المأساة لا الرثاء في الحال البشري… إنه واحد من الشعراء النادرين الذين يكتبون اليوم غير مطالبين بالحنوِّ عليهم بتاتا".  

يكتب توماس مؤكدًا في (س.ذ.م.ع) أنَّه "ما دام أنّي قسُّ الكنيسة فقد شعرت بواجب محاولة تقديم رسالة الكتاب المقدس غالبًا بأسلوب أرثوذكسي. لم أشعر قط بأني كنت مُوظَّفًا من قبل الكنيسة لأعظَ بمعتقداتي الخاصة وشكوكي وتساؤلاتي. ولقد كان بعض الناس فضوليين ليعلموا فيما لو شعرت بصراع ما بين مِهنتَيْ الاثنتين. ودائما ما أجبتُ بأن المسيح كان شاعرًا، وأن العهد الجديد كُتب بشاعرية، ولم أجد صعوبة بكَرْزِ العهد القديم في سياقاته الشاعرية".   

 

أغنية بداية العام 


على الرغم من أنَّ توماس كان قد نشر سلفًا ثلاثة دواوين شعريّة فإنَّ لم ينل الاعتراف الواسع بكونه شاعرًا حتى سنة ظهور مجلد "أغنية بداية العام Song at the Year's Turning" الذي ضمَّ قصائد ما بين سني 1942-1954، ونُشرَ من قبل ناشر رئيس وقرَّض له الشاعر جون بيتيامين مقدِّمًا توماس للقارئ المحلي الويلزي. أحدث الديوان ضجة كبيرة، وفقًا لـ و. ج. كيث في قاموس السيرة الأدبية. وامتازت هذه المجموعة الشعرية بلغة مقتصدة ومُسيطرٌ عليها، أكسبت توماس الإشادة النقدية، وزادت سمعته الأدبية بعد نشر مجلديه الشعريين اللاحقين. 

يغلب على شعر توماس القسوة والخشونة على غرار حياة ويلز الريفية التي يكتب عنها، فشعره منظوم ببيانيّة، ولغة كئيبة، وبجودة تأمليَّة. يصف رونسي أسلوبَ توماس بـ تكوِّنه من "الكلمات السهلة والأسماء القصيرة، أسماءٌ ذات معانٍ أصيلة نادرًا ما تحتاج إلى صفات تعريفيّة، تتحرك مثل الوحوش بسرعة مضبوطة في وزن شعري ذي نبرة متوترة- تقنية ثابتة تُنتجُ نغمة ثابتة، وتبقى هذه النغمة المتكررة التي لا تنضب مثل أصوات في الظلام". ويلاحظ كلافين بيدينت هذا الأسلوب المقتصد قائلًا بإنَّ "توماس يضع القليل بين نفسه وبين موضوعه، فقصائده تنسكيّة تبدو في الوقت ذاته هزيلة وحسيّة، شفافة وذات قرمزيّة عميقة، وهذا جزء من مزيته". يكشف توماس عن اهتماماته الأسلوبية في الكلمات والشعر ويقول "أجد أنَّ التكرار المثالي هو السهولة. وثمة أوقات تاتي برغبة الكتابة بدقة عظيمة ووضوح، فالكلمات الواضحة جدا والجيَّاشة تدفع بالدمع إلى المآقي".   


توماس وعصر التقنية


إنَّ اهتمام توماس بمواضيع مثل وطنه الويلزي، ودينه، وعالم الطبيعة، والأسلوب الشعر المقتصد والواضح- يعكس استياءه من العالم المعاصر. ويتحدَّث توماس عن نزعته تجاه "النظر إلى الخلف ورؤية أفضلية الماضي" كما يذكر غوينيث لويس في مجلة لندن. 

وعبَّر توماس في عديد المناسبات عن فزعه من تحول ويلز إلى بلد صناعي مجادلًا بأنَّ جمال البلد الطبيعي قد دُمِّر. وفي مقالته في (س.ذ.م.ع) يذكر توماس من ضمن قلقه الآخير "انقضاض أنماط الحياة العصرية على على جمال وسلام عالم الطبيعة". ويلاحظ توماس أنَّ الإيمان الديني انحدر مع بروز الحضارة التقنيّة. ويكتب قائلًا "إنَّ هذا عصر علميٌّ، العلمُ الذي يحوَّل العالم لكنه ليس عصرًا آليًا أو لا شخصيًّا أيضا فهو عصر تحليليّ وسريريّ إذ يُمكن اكتشاف تذمُّر القلوب المتضوِّرة والأرواح القلقلة تحت البريق الشديد لبحبوحة هذا العصر".      

ركَّز توماس منذ خمسينات القرن الماضي على "القضايا ذات الأهمية القصوى للإنسان في نهاية القرن العشرين". ويلاحظ ناقد لمجلة إيكونوميست "إنَّ مسعى توماس خلف إله متملص، والأزمات العامة للإيمان، والتأثير اللا إنساني للآلة، ورؤية العالم العلميّ وتحدياته، قد أربكتْ جميعها الشاعر". ويذكر وليام سكاميل لمجلة Times Literary Supplement "لا يُعرض لقارئ أشعار توماس الأخيرة إلا القلة من المخلوقات المرتاحة. إذ تنزعُ اللغة إلى أن تكون سهلة وواضحة وتصريحيّة. فثمة خليط مفاهيمي للأسطورة المسيحية، والمصطلح العلميَّ وشكوكية أواخر القرن العشرين". فتوضع الأمطار الحمضيّة، والثقوب السوداء، والمواد الكيميائية الضارة في مواجهة الصور والرموز الإنجيلية. والمحصلة كما يرى سكاميل هي "غالبًا ما تكون مثل شخص على عجالة يضع جدولًا للأمور الأولى والأخيرة فحسب".   


دواوين أخيرة 


نُشرت أحدثُ مجموعتين شعريتين لتوماس "قُدَّاس الأوقات العصيبة Mass for Hard Times" و"لا هدنة مع الغضب No Truce with Furies" في عامي 1993 و1995 تواليًا. وكشفت المجموعتان عن الحديّة القاسيّة، والتساؤلية الروحانية، والشكوكية الثقافية لأشعار توماس الأخيرة. 

ويكتب جاستين ونتِل في New Statesman & Society عن شعر توماس "تمارس قصائده ضغطًا بعضها على بعض بشكل لا تجده عن أي شاعر آخر. وتُحفِّز كذلك الاضطراب المتبادل في نفْس القارئ، ومعاملته للإنسانية ذات سلبية عنيفة في بعض الأوقات". ويمدح ونتِل شعر توماس "إنَّ الإيقاعات الموسيقية في شعره الحر صارمة بقدر ما هي عقلانية" ويخرج ونتِل بنتيجة مفادها "سعى توماس بإصرار في القبض على مواضيع كونية كما لو أنك من المحتمل أن تقف عليها".   

نُشرت مجموعة القصائد التي طال انتظارها وضمت قصائد ما بين سني 1945-1990 تزامنًا مع عيد ميلاده الثمانين في عام 1993. ويكتب ستيفان نايت "من البداية، كان توماس حازمًا في اتباع مساره الخاص وفي ثنايا هذا الكتاب الاستثنائي ما يشهد على ذلك". ويكرر س. هـ. سيسون هذا الرأي "عُلِّمَ كتاب توماس بنزاهة رجل اختار مسارًا عويصًا واستمرَّ فيه". ويوضِّح سيسون "ينتقل من التأثير القاسي الأول لحياة رعايا أبرشيته الريفية الهادئة لشاب حضري تخرَّج للتو في جامعته وكليته اللاهوتية إلى الاستقبال الخشن لمشاقه ومتاعبه الخاصة". 

ويعتقد رونسي مع توماس بأن الشعر والشاعر واحد، ويصف توماس أنه "ويلزي، وقسيس، وأنيق، ذو جسد هزيل ووجه نحيل خددته الصرامة. والقصائد هي الرجل، متزمتةٌ وواضحة وذات قوة مكبوتة". يعلِّق وليام كول بشيء مقارب لما ذكره رونسي "توماس متزمت، وذو عقلية عنيدة، لكن بمقدوره أن يُبكيك". 

يكتب توماس متطلِّعًا إلى الخلف تجاه مسيرته الطويلة في (س.ذ.م.ع) بأنه "تنقل في دوائر مغمورة، متنجبنًا أو مُستثنًى من مسارات الحياة الأنشط والأهم". ويدّعي بأنَّ الإشادة النقدية التي نالها بسبب "موهبة ضئيلة في تحويل أفكاري المحدودة وخبراتي وتأملاتي إلى شعر".  

وعلى الرغم مما يراه من موهبة ضئيلة فغالبا ما صُنِّف توماس ضمن أهم شعراء ويلز في القرن العشرين. ويكتب ر. جورج بأن توماس يجد نفسه "أفضل شاعر يكتب بالإنجليزية على قيد الحياة"، ويشير كيث أنَّ توماس "يُعدُّ الآن صوتًا بارزًا في الشعر البريطاني في النصف الثاني من القرن العشرين. ولديه مطالب قوية ليُعدَّ أهم شاعر إنجليزي-ويلزي معاصر". 

في الحقيقة، بدأ ذكرُ توماس في التسعينات يتكرر مرشحًا لجائزة نوبل للأدب، ونال في عام 1996 جائزة Lennan الأدبية المعتبرة نظرًا لمسيرته الأدبية الحافلة. يلاحظ روبرت هاس في الواشنطن بوست بأن توماس "صنع شعرا لا يُنسى من تلال ريف ويلز الصوانية عديمة الرحمة، ومن المسيحية المتصلبة والوجوديّة".

ويستنتج مير بأن عمل توماس يوضح قناعة دينية غير شائعة في شعر الحداثة. ويعتقد توماس وفقا لمير "أنَّ واحدة من وظائف الشعر المهمة تجسيد الحقيقة الدينية، لذا وانطلاقًا من كونه شاعرا فإن الحقيقة ليست سهلة المنال، وتدوّن قصائده سجالًا مع الأمانة الجلية والنزاهة، وبهذا فهي تزوّد السياق باللحظات الضرورية النادرة للإيمان والرؤية اللتين تُبيّنان بجَلاء، وقليلًا ما يتزواجان في أيّ من شعر معاصريه".


من شعره: 


"تمثيل"-*


كوني غيرَ حكيم كفايةً في تزوِّجِها

لم أعرف قط حينما لم تكن تُمثِّل.

أحبُّكَ ستقول؛ سمعتُ الحضور يتنهدون.

أكرهُكَ لم أكُ متأكدًا قطُ أنهم ما زالوا هناك.

كانت رائعة، محضَُ مرآة أنا تزيَّنتْ قُبالتها.

تزوَّجتُ مرجَ جسدها المتموِّجَ.

وتحدِّق أعينهم ليلًا إليه.   


وحيدةٌ هي الآن فوق منصة نَفْسها الهشَّة

تُؤدي دورها الأخير.

مثاليٌ! وليس له في كل مسيرتها نظير. 

متميزةٌ كانتْ، ثم أُسدلتْ الستارة. 

وخرجت بهجتي من خلفها لتصفِّق

اُنظر، وأنا أيضًا أصفِّق. 

* Acting.

________


"ساكنو الغابة"*


رجالٌ بالكاد اعتدلوا من وضعيتهم في الرَّحِم،

عراةٌ. رؤوسٌ محنيّةٌ ليست في صلاة،

بل في تأملِ الأرض التي أتوا منها، 

أرضٌ أرضعتهم الحليبَ البنيْ

الذي العظامَ لا المخَ يبني.


من ناداهم أن يمشوا إلى الأمام في الضوء الأخضر، 

وأفكارهم في الظُلمة؟ 

تحمل نساؤهم -مَن لسنَ مادونا- أطفالًا على الثدي بالاستقامة،

كوجوه المسيح التي مزَّقها الزمن في لوحة سيد فلورنسي. 


يحضِّر المحاربون السمَّ بعنايةِ مَحَبَّةٍ

لكلَّ سبستيانيَّ- فوق سهامهم. 

ما من ربِّ لهم، 

يتبعون تناقضاتِ طقس ٍينصُّ

لا بد لحياة أن تفنى حتى تحيا أخرى

ويرتدون الزهور في شَعرهم. 

* Forest Dwellers.

______


السجين"*


قصائدُ من سجنٍ! عمَّ؟

الحياةُ والرَّبُّ الرَّبُّ في سجنِ؟

إنك تعبثُ معي يا صديقي.

وجهُهُ -ربما- عند القضبان 

يتلاشى مثلُ الحياة


دخلَ السجنَ يسعى معه السجَّان

أيُّ مكانٍ آخرَ 

نبعت منه قسوة الإنسان،

لكن أعليه قهرُ معرفة الإحسان؟ 


وبعدها الضرباتُ، 

إذ كان الربُّ مُعذِّبًا الحبيبا!

فمن الأكثرُ بينهما نعيما 

أواهبُ الضرباتِ أم مَن لها مستجيبا؟


في الخارج الحال نفسها 

قضبان وجدران،

فأزل من بصيرتك قذاها.

ربٌّ خفي! 

ننهبُ السمواتِ، 

والمسافةُ بين النجوم-

آخرُ مواضعَ في السجن نراها،    

مَخبأُه في لحمٍ وعظم               

      

أنت تؤمنُ، إذن؟

القصائدُ شاهدهْ 

إذا تقلَّصَ عالمُهْ 

لتوجَّب ولادة رؤية أكبرَ 

لا تخلو من مروجٍ 

ولا عيون حيوانٍ 

كالزجاجِ مجرَّدهْ

وبالربِّ تتصلُ. 

على حيطان زنزانة عاريهْ

يراقبُ الظالمُ تقلص ظلِّه البشري

عند انسحابه من الضوء 

* The Prisoner

_______


"مشاهد"*


عصر بدائي 


وحوشٌ تقومُ من وحلٍ أخضرَ- 

بلدٌ أميٌّ، غيرُ قادرٍ على قراءة اسمه.

تتحركُ صخورٌ نحو موضع في ضُهورِ التلال؛

أفاعٍ تضعُ بيوضها في ظلال الصخور الباردة. 

عانت الأرضُ من شظايا السماء، 

نزفتْ صفراءَ على البحر الهائج.

تدلّى القمرُ بثقلٍ ليلًا

فوق الغابات المرتفعة. 

سطَّعت أسلاف النمور مخالبها. 

أصواتٌ كما صدرت هناك  

من تمزيقِ الأقوى القوي. 

أمال الفجرُ مرآةً غيرَ مصقولة

لعقلٍ متحجّرٍ لينظرَ إلى ذاته دون إدراك. 



حجري حديث 


لن أكون هنا، 

والسبيلُ التي تمضي فيها الأشياء الآن

لا رغبة لديها في الاستمرار. 

لا تدور العجلات أسرعَ ممن يجرّها.  

تلك الأرضُ مرئيةٌ

فوق البحر في طقسٍ صحو، 

 يقولون سنصل هناك قريبًا

ونحوزُ عليها. ثُمَّ ماذا؟ 

مزيدٌ من الفدانات لنزرعها

ولا أسواقَ للمحاصيل.


لم يعد الشبابُ ما كانوا، 

متبسِّمون في كَنفِ الأحشاء. 

ويعتقدُ بعضٌ سيكون ثمة بعثٌ. 

لا أومن بذلك.  

فهذه الموسيقى المقتَّطعةُ حلَّت لتبقى. 

وتنفُّسُ مزامير الطبيعة  

كان لإلهٍ مغاير. 

تخيَّل 

اعتمادٌ على مِعى ظربان 

لمصاحبة عبادة امرئ!  

حضرتُ قربان اللغة  

ذاك الطقس الذي يُحبه القساوسة،

وشعرتُ أنَّ التيَّار كان مغادرة الإله.

أعتقد لن يتبقَّى شيء يوما ما

سوى العودة إلى المكان الذي أتيت منه

وأُدثِّر نفسي بذكرى كيف كنت شابًا فيما مضى

تحت عهد الإله الذي لم يُعطَ لأحمقَ.


مسيحي 


كانوا ملتحين

مثلّ البحر الذي وصلت منه؛

رنَّتْ أجراسٌ حجريّة مناديةً

سامعيها الأحجار


تلائمهم زنازينهم مثل كفنٍ. 

تتسرب منهم صلواتهم،  

أزهارٌ رقيقة حيث تنمو الأعشاب.

تكسَّرَ خبزُهم الجافُ مثل عظم

خمرٌ في الكأس-

مرآةٌ ملطَّخة بالدم لينظر الخُطاة إليها

بعينٍ واحدةٍ مغلقة،

ويرون أنفسهم مغفورًا لهم.  


قروسطي 

 

كُنتُ شاعرَ مولاي

أُنشد مرارًا بعذوبة

ما ارتُكبَ بدمويّة. 


سكنَّا في وادٍ؛

لم يحظَ مولاي بمولاةٍ.

وكان الجَّاهُ أُفقنا. 


في ربيع العام، 

حملت الرياحُ أخبارَ 

جمالِ امرأةٍ.


ما زالت عيناها حَجَرين 

وسطَ شعرها الناعم المتموِّج. 

وكان صوتُها حَسَدَ الطُّيور. 


شننا غزوة شجاعة؛

كانت الخِّطبة مهتاجة.

وعُدنا وحيدين.


أنشد لي، قال مولاي.

أشيائي قربَ منزلي:

صقوري، وخيولي.


أنشدتُ، وأنصتَ. 

من نار صُنعَ قيثاري

ومثل الشرار تدفقت نغماتي

من روح سِندانه. 


في الغدِ -وعدَ- 

سننطلقُ مجددا.


حداثي 


وحدائقُ دينورويغ** الهشّة، 

عميقة في بتلات أزهار صخورها المتساقطة:

مثل خريفِ أناسٍ! 

يرقدُ ربيعهم في مصباح زجاجي،

أمُستعدٌّ لُيبهرنا بإشراقه؟


أحضرْ فتيات المستقبل الراقصات، 

الأبراج المتمايلة

بشعورها المعدنيَّة المندفعة باتجاه إنجلترا. 


* perspectives.

** وادٍ في ويلز.  

  


المصدر: poetry foundation.

ترجمة: مؤمن الوزان.