الأحد، 31 أكتوبر 2021

الإخوة بيل


قصة الأخوات برونتي والأسماء المستعارة   


فرضت الحياة المنعزلة في قرية هاورث النائية، كما يبدو، على الأخوات برونتي نمطًا حياتيًا سريًا وغامضًا تارة وخاصًا وانطوائيًا في أخرى. وتسرَّبت الحياة المنعزلة إلى الأخوات برونتي خلال سنوات ترعرعهن فحثَّتهن على الكتابة في صباهن بعيدًا عن أنظار حتى أقرب الناس إليهن في المنزل، والدهن وخالتهن إليزابيث. 

لفَّت السرية حياة الأخوات الكتابية منذ الانطلاقة الأولى حين كانت شارلوت وبرانويل يكتبان قصص مملكة أنغريا نيابة عن الأربعة، ثم بدأت بعدها إيميلي وآن بشق طريقهن الكتابي بعيدًا عن شارلوت لكنه أيضًا طريقٌ سريٌ. وبعد أن تفرقت السُبل بالأخوات في الحياة وشقَّت كل واحدة منهن طريقها الحياتي المهني أو الكتابي، بقيت السريّة جزءًا لا يتجزأ لا سيما من إيميلي وآن، على العكس من شارلوت التي بدت أكثر انفتاحًا في هذا الجانب وإبانة في سلوكها. 

جاءت سنة 1845 بمنطعف مهم في حياة الأخوات برونتي وفي مسار الأدب الإنجليزي حين وقعت شارلوت بالمصادفة على أشعار إيميلي برونتي، ومع أنها كانت تُدرك نظم أختها للشهر فإن ما قرأته لم يكن كما توقَّعت أن أختها بما وصلت إليه من مستوى شعري وفكري على حد سواء. حثَّتها بعد ذلك على نشر شعرها مؤكدةً لها استحقاقية نشره واطلاع العامة عليه فلعله يكون ذا أثر في الشارع الأدبي الإنجليزي. متحمسةً لهذا النقاش الدائر بين شارلوت وإيميلي لم تجد آن بُدًا من أن تُعلن هي الأخرى عن كتابتها غلشعر وأظهرت أشعارها لأختيها وعرضتها على شارلوت، وكانت الأخيرة في خضمِّ هذا الجو الشعري الذي ولَّدته أختاها مضطرة أن تُخرجَ أشعارها وتكتب غيرها. جمعت الأخوات نحو ستين قصيدة وقررن نشره في ديوان مشترك وتوصلن في الأخير إلى اتفاق مع الناشر Aylott and Jones وعلى حسابهن الخاص بكلفة قدرها 31.10 جنيه إسترليني (لم يكن وقتها يعانين عوزًا ماليًا بفضل إرث خالتهن الذي تركته لهن بعد وفاتها دون أخيهن). بزغ سؤال مُلحٌ وجوهري في انطلاقة الأخوات الأدبية وهو بأي اسم سينشرن أشعارهن، استُبعدَ مباشرة الإفصاح عن أسمائهن الحقيقية لأسباب عديدة منها طباع الأخوات المتحفظة لا سيما إيميلي، التي كانت لا ترغب أن تُطلع أختها شارلوت على شِعرها بل وأخفته حتى عن أختها القريبة منها جدًا (وصفت الأختان بأنهما كالتوأم على لسان إيلين نوسي، صديقة شارلوت)، وعدم رغبتهن بمعرفة والدهن بمشروعهن الأدبي الذي سيعارضه لأسباب مادية في المقام الأول ولأنه لا يريد لبناته معاناةً وفشلًا في مجال سبق وفشل به هو الآخر، كما أخفين الأمر عن برانويل حين كان يمرُّ بحالة نفسية سيئة بعد سلسلة طويلة من الفشل المهني والحياتي، هذه أسباب داخل البيت. أما أسباب خارج البيت فلم تروادهن رغبة أن يطلع مجتمع هاورث القروي الصغير على هذا المشروع الأدبي بكل ما يحمل في جَعبته من خفايا، وحتى إن اطلعوا فهم أبعد ما يكونوا وقتها عن الاكتراث. أما السبب الرئيس والمفصلي في عدم الرغبة عن الإفصاح تذكره شارلوت حين كتبت في عام 1850 قائلة: 

كان هذا الخيار الغامض خَلْجَةً من خلجات الضمير باستخدام أسماء مسيحيّة رجوليّة، ولم نرغب بالكشف عن هُوياتنا النسائية لأنه -دون الافتراض في حينها أن يُعامل نمط كتابتنا وتُظنُّ أنها كتابات "نسائية"- انتابنا انطباع مبهم بأنَّ المؤلفات عرْضة ليُعاملن بتحيّز فقد لاحظنا بأنَّ النقاد أحيانا يستعملون في عقابهم سلاحَ الشخصنة، وفي جزائهم إطراءً وهو ليس بالإشادة الصادقة.

لم تكن الأخوات برونتي بِدعًا من المؤلفات من قبلهن ولا بعدهن لا سيما في المجتمع الفيكتوري بعاداته المتشددة تجاه المرأة الكاتبة، ومع أنهن لسن أول إنجليزيات من استخدم اسم قلم مستعار (الأولى أفرا بن 1640-1689 حين كتبت قلم أنثى فحسب) فقد كنَّ من بين الأشهر سواء في أوروبا أو إنجلترا على غرار جورج ساند (أورو لوسيل دوبين) وجورج إليوت (ماري آن إيفانس). بيد أن العقبات لم تنتهِ هنا إذ بزغت عقبة أخرى في طريقهن نحو عالم النشر أيَّ أسماء يخترن؟ وقع اختيار الأخوات على ثلاثة أسماء ذكورية مسيحية هي كورير وإيليس وأكتون بيل فقد أوهمن القراء أنهن إخوة. (الحرف الأول من كل اسم هو الحرف الأول من اسم كل منهن، كورير Currer شارلوت Charlotte، إيليس Ellis إيميلي Emily، آكتون Acton آن Anne، وبيل Bell برونتي Bronte.) 

تساءل القرَّاء مطولا عن هذه الأسماء ولمَ اختيرت بالتحديد، وبلا شكٍ فما من تأويل مؤكد ومتفق عليه لكن الكاتب الإنجليزي نيك هولاند يعلل اختيار هذه الأسماء في كتابه Anne Bronte At 200 الصادر في عام 2020 فيقول إن اختيار شارلوت لاسم كورير كان امتنانًا للسيدة فرانسيس ماري ريتشاردسون كورير، المحسنة الثرية التي منحت باتريك برونتي مبلغ 50 جنيهًا بعد وفاة زوجته ماريا، وكان قد أنفق كل ماله على علاجها الذي لم يكن له أيَّ فائدة في إنقاذ زوجته، ومن المحتمل أنه سيفلس تمامًا لولا هذه اليد المعينة الكريمة. ولا بد أن أسرة كانت برونتي ممتنة وذاكرة هذه المعونة من السيدة كورير طويلًا مما جعل شارلوت تختار اسمها تكريمًا لها. أما إيميلي فرغم الاختلاف في التأويلات فإن نيك هولاند يرى أنها اختارت اسم إيليس إشارةً إلى أختها إليزابيث التي أحبتها وحفظت حبها في قلبها إلى الأبد. أما آن برونتي فإن اختيار اسم أكتون بيل له تأويلان الأول أنها اختارته على اسم الكاتبة الشهيرة إليزا أكتون التي نُشرت أعمالها في بواكير القرن التاسع عشر، والثاني، وهو ما يميل إليه نيك، فهو على اسم قلعة أكتون في ضواحي بينزانس في كورنوول، مسقط رأس أمها وخالتها إليزابيث، ومن الوارد أنها اختارته بعد أن شكَّل الاسم جزءًا من ذكريات طفولتها وذكَّرها بأصول أمها الكورنيّة. 

*

ظهرت أول طبعة من الديوان المشترك في الثامن والعشرين من شهر كانون الثاني/ يناير 1846 إلا إنه لم يحظَ بصيت ولا شهرة ولم يحقق أي مبيعات تُذكر، وجاءت أول مراجعة للديوان المشترك في شهر تموز/ يوليو في ذات السنة واستحوذت قصائد إيليس (إيميلي) على الإشادة فوصفت بأنها "تمنح انطباع الأصالة في مساهمته في هذا الديوان، وهو حسن السبك طريف الروح، وينطلق من قوى واضحة ذات أجنحة قد تصل إلى عُلوٍ لم يُحاول الوصول إليه هنا". وتقول شارلوت عن القصائد في رسالة بعثتها إلى غاسكل مع نسخة من الديوان بعد سنوات من نشره بأن قصائد إيليس جيدة وحيويّة، وقصائد أكتون تمتلك بهجة الحقيقة والوضوح، وأما قصائدها فهي كتابات مراحلها المبكِّرة. 

في ظل هذا الفشل التجاري والنقدي للديوان كان لا بد للأخوات برونتي أن يأخذن خطوة أجرأ فقررن كتابة رواية، وهذا ما تمَّ في آخر المطاف بثلاثة روايات منشورة في عام 1847 هي أغنيس غري ومرتفعات وذرينغ وجين إير، وحملت الروايات أسماء أكتون وإيليس وكورير بيل كما في الديوان المشترك. وبعد أن اشتهرت رواية جين إير وذاع صيتها بدأت التكهنات بهُوية كاتب هذا العمل، وإن لم تلقَ روايتا أغنيس ومرتفعات وذرينغ مراجعات كثيرة فإن الحديث عن الهُوية قد طالهما أيضًا، وذكرت بعض المراجعات أنَّ هذه الروايات كُتبت بقلم واحد، وأن أغنيس غري ومرتفعات وذرينغ أعمال أوليّة لكورير بيل.   

استمرَّ تحفُّظ الأخوات على مغامرتهن الأدبية وعدم إخبار والدهنَّ تجنُّبًا لزيادة توترتهن، ولم يعلم أيَّ شيء على الرغم من شكوكه من حدوث شيء مريب في بيته، ولم يقطع الشك باليقين حتى جاءت تلك اللحظة حين حثَّت آن وإيميلي شارلوتَ لتخبرَ والدهن عن نشرها رواية "جين إير" بعد النجاح الذي لاقته فذهبت إليه بعد الظهيرة وبيدها نسخة من الرواية فقالت له كما تذكر غاسكل أن شارلوت أخبرتها بهذه الحادثة: 

- بابا، لقد ألَّفتُ كتابا. 

- حقًا عزيزتي؟

- نعم، وأريدك أن تقرأه.

- أخشى أن يُتعب عينيَّ ذلك كثيرا.  

- لكنه ليس مخطوطة بل كتاب مطبوع. 

- عزيزتي! ألم تفكري قط بما سيكلَّفه! وسيكون خسارة بلا ريب، فكيف بمقدورك أن تبيعيه؟ لا يوجد من يعرفك. 

- لكن بابا، لا أظنه سيخسر، ولا يجب أن تظن أنتَ أيضا إذا سمحتَ لي أن أقرأ لك الآن مراجعةً أو اثنتين، وأن أخبركَ المزيدَ عنه. 

ثم قعدت بعدها إلى جانبه تقرأ عليه بعض المراجعات وأعطته نسخة من رواية جين إير التي خصَّتها له وتركته ليقرأها. وحين أتى وقت الشاي قال يا بنات أتدرين أن شارلوت قد ألَّفت كتابًا، وفي الغالب أنه كتاب ممتاز؟.

بقيت شارلوت قلقة جدًا من يُفتضح سر حقيقة مزاولتها الكتابة وسبب ذلك أنها قطعت عهدًا على أختيها ألا تكشف السر أبدًا، حتى إنها حين وصلتها رسالة من صديقتها إيلين نوسي تتساءل فيه عن شائعة نشرها كتابًا أنكرت عليها هذا بشدة وطلبت منها عدم تصديق شائعات كهذه. وحتى أخيهن برانويل (1817-1848) أبقينه على مبعدة من معرفة أي شيء عن نشرهن لا سيما بعد تدهور حالته في سنوات حياته الأخيرة التي زامنت سنوات نشرهن (1846-1848). تكشف شارلوت هذا في رسالة: لم يعلم أخي التعيس قط ما الذي فعلته أخواته في الأدب- لم يعرفْ قطْ أنهن نشرن سطرًا واحدًا؛ لم نستطع إخباره شيئًا عما بذلناه خشيةً أن يسبب له ذلك ندمًا على وقته الذي بدده بلا طائل ومواهبه التي أساء استخدامها. والآن لن يعرف أبدًا. لا يمكنني الإطالة في هذا الموضوع أكثر، لهو موجع جدًا

*

ارتبطَ على نحوٍ أشد في عام 1848 اسم كورير بيل برواية مرتفعات وذرينغ مما اضطر شارلوت كتابة ملاحظة في مقدمة طبعة رواية "جين إير" الثالثة: أود أن انتهز الفرصة التي منحتها لي الطبعة الثالثة لرواية جين إير، وأوجِّه كلمة مجددًا لجمهور القرَّاء، لأوضِّح بأنَّ لقب الروائي الذي يُخلع عليَّ مقترن بهذا العمل فحسب. وإذا ما عُزيَت ملكية تأليف روايات أخرى إليَّ، وهذا التشريف جائزة لا أستحقها، لذلك، أنكره تمامًا حيثما كان. عسى أن يخدم هذا التوضيح في تدارك الأخطاء المرتكبة سلفًا ولمنعِ أخرى مستقبلية. كورير بيل 13 نيسان 1848.   

ثم تفاقم الأمر بصدور رواية آن برونتي الثانية "نزيلة قصر ويلدفيل" المنشورة باسم مؤلفها أكتون بيل عند ناشرها نيوبي. كان هذا صاحب هذه الددار ناشرًا وتارجًا وله حيله التسويقية التي أَدرجها في عالم النشر، ومنها تلك التي طالت آن وشارلوت حين أخبر ناشرًا أمريكيًا -هو هاربر الذي اشترى حقوق رواية "جين إير" لنشرها في أمريكا- أن كاتب رواية "نزيلة قصر ويلدفيل" هو ذاته كاتب رواية "جين إير" لمضاعفة مبيعات رواية "نزيلة قصر ويلدفيل. وكان هذا الناشر الأمريكي صديق ناشر شارلوت، جورج سميث، فأخطرَه بالخبر، فما كان من سميث إلا أن بعث برسالة إلى كورير ليستعلمَ منه الأمر، ووصلت الرسالة في السابع من تموز/ يوليو 1848، لينزل الخبر كالصاعقة على رأس الأخوات، فاضطرت شارلوت وآن أن تذهبا إلى لندن لتوضيح الأمر بنفسيهما، ورفضتْ إيميلي مرافقتهما وكشف هويتها بما أن الأمر لا يطال هُوية اسمها. 

سافرت شارلوت وآن في ذات اليوم إلى لندن في رحلة طويلة ووصلتا في صباح السبت وذهبتا إلى عنوان الناشر في شارع كورنهيل 65، وغاب عن ذهن الغرَّتين أن يكون المكتب مقفل في يوم السبت لكن لحسن حظهما كان جورج سميث في مكتبه ويروي جورج سميث هذه الحادثة: كنت في صباح ذلك السبت في مكتبي منشغل ببعض مراسلاتي حين أتى مساعدي مخطرًا إياي بوجود سيدتين يريدان مقابلتي، طلبتُ منه أن يسألهما ما الذي يريدانه، فذهب ثم عاد قائلًا بأن الأمر خاص بيني وبينهن فطلبت منه أن يُستدعيهما. وأنا في خضمِّ المراسلات، ولم يكن في خاطري شيء عن "كورير بيل" و"جين إير" دخلت عليَّ سيدتان بثياب غريبة، ووجه شاحب قلق، تقدمت إحداهما إليّ وضعت على مكتبي رسالتي المعنونة إلى "س. كورير بيل" ولاحظت أن الرسالة كانت مفتوحة وقلت لها ببعض الحدِّة "من أين حصلتي على هذه؟" "من مكتب البريد" كان جوابها، "كانت موجَّهة إليَّ". 

استدعى بعدها جورج سميث زميله وليم سميث الذي كان أول من قرأ مخطوطة "جين إير" وأعجب بها مدركًا عبقريتها. وهكذا نشأت علاقة ما بين جورج سميث وشارلوت وجمعتهما مراسلات استمرت طويلا، وزيارات متعددة منها زيارة مكثت فيها شارلوت عنده في البيت مع والدته. واستلهمت منهما شخصيتي السيدة بريتون وابنها الطبيب جون بريتون في رواية فيليت. كُشفت إثر هذه الحادثة هُوية شارلوت في دوائر لندن الأدبية وتعرَّفت خلال السنوات اللاحقة على روائيين وروائيات ونقَّاد لكنها بقيت محافظة على هُويتها أمام جمهور القراء. أماطت شارلوت اللثام عن هوية أختها إيميلي أثناء زيارتها، وحنقت إيميلي بشدَّة حين علمتْ أن شارلوت قد أعلنت عن هويتها الحقيقية، لذا وتفاديًا لغضب أختها طلبت شارلوت من وليم سميث عدم ذكر أختيها في رسائلها مستخدمًا ضمائر الجمع، وألا يشير إلى [إيليس بيل] إلا باسمه المستعار تحت أي ظرف وبغض النظر عن أي سبب. وتقرُّ في رسالة له بأنها ارتكبت موبقةً حين كشفت هوية إيليس.   

كتبت آن برونتي بعدها بأيام توضيحًا في مقدمة الطبعة الثانية من رواية "نزيلة قصر ويلدفيل لتبدد هذه الخلط بين أكتون وكورير وإيليس بيل في الثاني والعشرين من تموز/ يوليو 1848: أرغب أن يُدرك تمامًا بأن أكتون بيل ليس كورير ولا إيليس بيل، لذا فلا يجب عزوَ عيوب هذا العمل إليهما. وإذا ما كان هذا الاسم حقيقيًا أو خياليًا، وليس في هذا من فائدة تُذكر لمن يَعرفَه بكتبِه فقط. وأراني مجبورٌ بالتفكير قليلًا أيَهمُّ حقًا لو كان الكاتب المعني رجلا أو امرأة، كما صرَّح ناقد أو اثنين بأنهما اكتشفا هويته. وسآخذ هذا العَزو على محمل جيد بأنه اطراءٌ لتصويري العادل لشخصياتي الأنثوية في العمل، ومع أني مجبرٌ على عَزو هذا الاشتباه إلى الشدة المفرطة لرقباء روايتي فلا أعبأ بدحضه، لأني مقتنع إذا كان الكتاب جيدًا بغض النظر عن نوع مؤلفه. كُتبتْ جميع الروايات، أو يجب أن تُكتب، من الرجال والنساء على حد سواء لتُقرأ، وإني لفي حيرة من أمري أن أتصور كيف يسمح رجلٌ لنفسه بكتابة أيَّ شيء قد يكون مُخِجَلًا للمرأة حقًا، أو لماذا يجب أن تُراقب كتابات امرأةٍ حتى تكون لائقة وملائمة للرجل

* 

انطوى بعد ذلك فصل هذه التصريحات بوفاة إيميلي وآن تواليا في كانون الأول/ ديسمبر 1848 وأيار/ مايو 1849، وألقت هذه الوفيات بحملها الثقيل على كاهلي شارلوت التي استطاعت عبر الكتابة أن تنقذ نفسها. تكتب في رسالة رفعتني مقدرة التخيل عندما كنت أغرق في الأشهر الثلاثة الماضية، وأبقت ممارستها الفعّالة رأسي فوق الماء، ولقد أبهجتني النتيجة الآن لأني شعرت بأنها منحتني القدرة على إبهاج الآخرين. أحمدُ اللهَ على منحي هذه المقدرة، ولهو جزء من مُعتقدي أن أدافع عن هذه الهبة وأبرهن على حيازتها. نُشرت رواية شيرلي في السادس والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر 1849. كانت شارلوت لا تزال قلقة كالسابق من أجل المحافظة على الاسم المستعار في هذه الرواية. حتى إنها توهَّمت وجود بعض الخيوط التي تشي بقلم أنثوي في رواية "شيرلي" وذكرت المراجعات الأولى لرواية "جين إير" بعد النشر بأن الكاتب المجهول لا بد أن يكون امرأة، وخيَّب هذا ظنها كثيرًا، فلم يعجبها على وجه الخصوص تدني المعايير التي يُحكم بها على الرواية إذا كُتبت من قلم نسائيّ، واختلاط الأشادة بتلمحيات غزل زائفة لأنوثتها؛ الفعل الذي يُشعرها بالخزي أكثر من اللوم الحاد كما تذكر غاسكل في سيرة شارلوت، وتُكمل، لكن هذا السر الذي رُوعي بحماسٍ اكتُشف في آخر المطاف حين قرأ أحد رجال هاورث الأذكياء، وكان مقيما في ليفربول، روايةَ شيرلي وصُدم بأسماء الأماكن المذكورة فيها وعرف لهجة أهل هاورث التي كُتبت بها بعض حوارات الرواية، وتيقَّن تماما بأن العمل مكتوب من أحد سكّان هاورث ولم يتصوَّر وجود أحد في القرية قادر على كتابة رواية باستثناء الآنسة برونتي. ومزهوَّا باكتشافه كتب عن هذا في عمود مقاليّ في إحد صحف ليفربول. وزحف هذا الاكتشاف إلى لندن الذي حافظت عليه شارلوت حتى خواتيم نهاية سنة 1849 قبل أن يصبح مُشاعا فيها. 

ما عاد بإمكان شارلوت الاستمرار بالمحافظة على اسم كورير بيل في معزل عن هُويتها لكنها مع ذلك حاولت جهد إمكانها أن تبقي اسم كورير مجهولَ الهُوية حتى آخر المطاف.  

*

بدافعٍ من شعور الواجب تجاه أختيها وروايتيهما كتبت شارلوت "بيان سيرة إيليس وأكتون بيل" في مقدمة روايتي أختيها مرتفعات وذرينغ لإيميلي وأغنيس غري لآن بعد وفاتهما في طبعة خاصة صدرت في عام 1850 من ناشر رواياتها جورج سميث بعد أن أقنعته بإصدارهما. كان لهذه المقدمة التعريفية بالكاتبتين اللتين صدرت أعمالهما باسمي مستعارين أسبابٍ كثيرة منها: أنها أرادت التعريف بأختيها بمعلوماتٍ صحيحة وكشف هُويتهما الحقيقية لجمهور، ولإزالة اللبس حول الأقوال المتضاربة عن كون الإخوة بيل كاتبًا واحدًا، وأرادت وهو الأهم الدفاع عن أختيها مما تعرضَّتا له في مراجعاتِ روايتيهما فقد اتُّهمت رواية إيميلي بالكفر والفسوق والتجديف، ورواية آن برونتي الثانية (نزيلة قصر ويلدفيل) بأنها غير محافظة وخارجة على أعراف المجتمع الفيكتوريّ بموضوعها الذي عرَّى المجتمع والزيجات التي لا انفصام لها وما يرافق بعضها من سوء معاملة الزوج لزوجته واضطرارها لتحمُّله والعنف الزوجي والتهتُّك والخيانة الزوجية والزنى، بيد أن دفاعها عن أختيها كما سنقرأ لم يكن بالدفاع الحقيقيّ بعرضها إيميلي وآن على أنهما فتاتين قرويتين لم يحظيا بقدرٍ كافٍ من التعليم وأنهما عاشتا حياتهما وكتبتا رواياتهما بدافعٍ بديهة ومخزون مشاهدات. أيّ أنهما لم تكونا بالواعيتين لما كتبتا الوعي التام، وجانبت الصواب شارلوت في هذا ولم يكن لبيانها التعريفي هذا أثره الذي رغبت به ولم يُغيِّر النظرة العامة تجاه الروايتين التي استمرَّت مدة ليست بالقصيرة. 

وهنا ترجمتي للبيان كاملًا   

*

جرى اعتقاد على أن الأعمال المنشورة تحت أسماء كورير، وإيليس، وأكتون بيل، في الحقيقة لكاتبٍ واحد. الخطأ الذي سعيتُ إلى تداركه بكلماتٍ نافية قليلة في مقدمة الطبعة الثالثة من رواية "جين إير". ويبدو أن هذه المحاولة أيضًا باءت بفشل نيل تصديقٍ عامٍ، والآن، في مناسبة إعادة طباعة "مرتفعات وذرينغ" و"أغنيس غري" نُصحتُ لأبيِّن بوضوح كيف انبثقت هذه القضية برمتها في الواقع. 

أشعرُ في قرارة نفسي بأنَّ الوقت أزف لتبديد هالة الغموض التي لفَّت هذين الاسمين -إيليس وأكتون-. فقدَ اللغز الصغير، الذي تركَ في السابق بعضَ المتعة البريئة، أهميتَه، وتغيَّرت الظروف الخاصة به. وأصبحَ من واجبي أن أوضِّح بإيجاز أصل وملكية تأليف الروايات المكتوبة من كورير وإيليس وأكتون بيل.     

قبل نحو خمس سنوات، التمَّ شملي بأختيَّ بعد مدة انفصال طويلة، واجتمعنا مجددًا في المنزل، الذي كان في ضاحية نائية، حيث لم يُحرزُ التعليمُ تقدُّما يُذكر، ونتيجة لذلك لم يكن أيَّ محفِّز للبحث عن اتصالات مجتمعية خارج دائرتنا المنزلية، واعتمدنا بالكامل على أنفسنا وعلى بعضنا، وعلى الكتب والدراسة من أجل الاستمتاع بالحياة وشغل فراغها. وكمُنَ أسمى واعزٍ، بالإضافة إلى أكثر المُتع حيويةً التي عرفناها منذ طفولتها فصاعدًا، في محاولات تأليف أدبية؛ اعتدنا في السابق على إطلاع بعضنا على ما خطَّته أناملنا، لكن شهدت السنوات اللاحقة انقطاعَ عادة التواصل والمشاورة، وترتَّب على إثر هذا، غفلتنا عن التقدُّم الذي كان يُحرزه كلُّ منا تواليًا.   

في أحد أيام خريف 1845 وقعت بالمصادفة على مجلد أشعار أختي إيميلي بخط يدها. وبالطبع لم أكن متفاجئًا وعارفًا بأنها كانت قادرة على نظم الشعر: تفحصته جيدا، وتملكني شيء ما أكثر من الدهشة- إيمان عميق بأن ما كُتب كان أكثر من مجرد إراقة شائعة ولا بشعر يشبه ما تكتبه النساء عموما. رأيته شعرًا مكثَّفًا وموجزًا، وقويًا وحقيقيًا. وكان له وقع في أذني بموسيقى جامحة مميزة، وسوداوية، ورفيعة. لم تكن أختي إيميلي امرأة مُجاهرةً في سماتها، ولا تكشف خبايا عقلها وخفايا قلبها حتى لأعز وأقرب الناس إليها، مُحصِّنةً إياها، وغير مرخِّص التطفل عليها؛ استغرق استرضاؤها مني ساعاتٍ بشأن عثوري على أشعارها، وقضيتُ أياما في إقناعها بأنَّ قصائدها تستحق النشر. علمتُ، على أي حال، أن من يملك مثل عقلها لن يكون بلا شرارة باطنية من طموح استحقاق التشريف، ورفضتْ أن تكون متثبّطة أمام محاولات نفخي على تلك الشرارة لتلتهب. في غضون ذلك عرضت أختي الصغرى قصائد من نظمها طالبةً مني الاطلاع عليها بما أنَّ قصائد إيميلي قد أبهجتني. ولم أتمكن إلا أن أكون جائرًا في حكمي، ومع ذلك ظننتُ بأنَّ في شِعرها، أيضًا، عاطفة حلوة صادقة في ثناياه.    

طالما تعلَّقنا بشغف بحلم أن نصبح يومًا مؤلِّفين، ولم يتلاشَ هذا الحلم قط حتى حين باعدت بيننا المسافات وانشغلنا بالمهامٍ المُستغرِقةِ لأوقاتنا، بيد أننا امتلكنا الآن وعلى حين غرَّة القوة والانسجام: وشرعنا في الخطو في الاتجاه الصحيح. اتفقنا على ترتيب ديوان قصائد صغير، وطبعه إذا أمكن ذلك. ولنفورنا من إطلاع العامة على هُوياتنا ارتأينا النشر تحت أسماء كورير، إيليس، آكتون بيل، وكان هذا الخيار الغامض خَلْجَةً من خلجات الضمير باستخدام أسماء مسيحيّة رجوليّة، ولم نرغب بالكشف عن هُوياتنا النسائية -دون الافتراض في حينها أن يُعامل نمط كتابتنا وتُظنُّ أنها كتابات "نسائية"- فقد انتابنا انطباع مبهم بأنَّ المؤلفات عرْضة ليُعاملن بتحيّز فلاحظنا بأنَّ النقَّاد أحيانا يستعملون في عقابهم سلاحَ الشخصنة، وفي جزائهم إطراءً وهو ليس بالإشادة الصادقة.

ما أصعبَ ما كان عليه إصدار كتابنا المشترك الصغير. وكما كان متوقعًا فلم نحظَ نحنُ ولا قصائدنا بالانتباه الذي رغبنا به لكننا كنا على أهبة الاستعداد لهذه الانطلاقة. ومع أننا بلا خبرة شخصيّة فقد قرأنا تجارب الآخرين. كَمُنتْ المعضلة الكبرى في صعوبة نيل أجوبة من أي نوعٍ من الناشرين الذين ناشدناهم. ولشدَّة تضايقي من هذا العائق فقد أقدمتُ على خطوة جريئة بسؤال الناشر تشامبرز وناشر أدنبره، طالبًا النصحَ ولربما قد نسيا تلك الأحداث بيد أنني لم أنسَها فقد استلمت منهما رسالة ذات طابعٍ تجاريّ لكنها بردٍّ مُهذَّب ورقيق اتَّبعنا ما جاء فيها، وفي آخر المطاف شققنا طريقنا.       

طُبعَ الكتاب لكنه بالكاد عُرِفَ، وما نالتْ قصائده استحقاق أن تشتهر خلا قصائد إيليس بيل. خامرني اقتناع حازمٍ بأني لا بد أن أحافظ على أملي بصرف النظر عن أن مجموعة كبيرة  من هذه القصائد لم تنل في الواقع مقبولية الكثير من المراجعات النقدية المُبشرة بالنجاح.

فشلت البداية البائسة في تحطيمنا، ومنحَتْنا محاولةُ النجاح المحضة حيويّةً رائعة للعيش وهذا ما يجب أن نسعى وراءه. بدأ كل منا بكتابة حكاية نثرية؛ ألَّفت إيليس بيل "مرتفعات وذرينغ" وأكتون بيل "أغنيس غري" وكتبَ كورير بيل أيضًا رواية من مجلد واحد1. عُرضت هذه الحكايات بمثابرةٍ على ناشرين مختلفين في نحو سنة ونصف؛ عادة ما كانت النتيجة رفضًا مخزيًا وقاطعًا. 

قُبلتْ في آخر المطاف "مرتفعات وذرينغ" و"أغنيس غري" بشروطٍ مُفقِرةً المؤلفتين بنحوٍ ما؛ لم يجد كتاب كورير بيل المقبولية في أي مكان ولا أي اعتراف باستحقاقه النشر، وبدأ يغزو قلبه شيء مثل ارتجافة يأس. وبأملٍ لا طائل منها، حاولَ مرة أخرى مع الناشر Smith, Elder and Co ومضى وقت طويل، أقصر بكثير من المدة التي تعلَّم أن يحسبها في تجاربه السابقة، قبل وصول رسالة فتحها، بتوقُّعٍ مريع بوجودٍ سطرين قاسيين مُقنطين، لامحًا بأن السيدين سميث وإيلدر "لم يستبعدا نشر الحكاية" وأخرجَ من الظرف رسالةً من صفحتين. قرأها بارتعاشٍ. رفضتْ الرسالة في الحقيقة نشرَ الحكاية لأسباب تجارية، لكنها ناقشتْ جدارة نشرها ولا جدارتها بكياسة كبيرة، وباعتبارٍ محض، وبروحٍ عقلانيةٍ جدًا، وبحصافةٍ متنوِّرة جدًا، أبهجَ هذا الرفضُ اللطيف الكاتبَ أكثر مما قد يفعله قبولٌ ذو تعبيرٍ دارجٍ. أضافتْ الرسالة بأنَّ عملًا من ثلاثة مجلدات سيحظى باهتمامٍ لافت.  

بدأت وقتها فحسب إكمالَ "جين إير" التي عملتُ عليها حين كانت الرواية ذات المجلد الواحد تكدحُ في جولتها الشاقة في لندن: أرسلتها في غضون ثلاثة أسابيع؛ تولَّت ذلك يدٌ ودودة وماهرة. كان هذا في مستهل أيلول 1847، ونُشرت الرواية قبل نهاية تشرين الأول التالي، في حين لا تزال روايتا أختيّ "مرتفعات وذرينغ" و"أغنيس غري"، اللتان أرسلتا سلفا إلى المطبعة قبل أشهر، تنتظران بذرائع إدارية مختلفة. 

ثم ظهرتا في الأخير. فشل النقَّاد في التعامل معهما بعدلٍ. أبانت "مرتفعات وذرينغ" عن قوى غضَّة بيد أنها حقيقيّة جدًا بالكاد مُيَّزت، وأُسيئ فهمُ فحواها وطبيعتها، وأُخطئ شرحُ هُوية مؤلفتها؛ قيل إنها محاولة أوليّة وفظَّة لذات القلم الذي أنتج "جين إير". خطأ مُجحف ومُحزن! ضحكنا عليه في أول الأمر، بيد أني أنحبُ عليه من صميم قلبي الآن. أخشى من الآن فصاعدًا أن أستثيرَ التحيَّزَ ضدَّ الكتاب. والكاتب الذي بمقدوره أن يحاول التخلص من إنتاجٍ وضيع وغير ناضجٍ تحت غطاء عملٍ واحدٍ ناجحٍ لا بد أن يكون في الواقع متحمسًا بإفراطٍ للمحصلة الثانوية والحقيرة لملكية التأليف، ولا مباليًا على نحو مثير للشفقة للجزاء الذي يستحقه عن حقٍ وحقيق. إذا آمن كتَّاب المراجعات والعامة حقًا بهذا، فلا عجبَ في أنهم نظروا إلى المحتال بتجهُّم. مع ذلك لا يجب أن أُفهم بأني أبيِّن هذه الأمور لتكون عرضة لتوبيخ أو مديح؛ لا أجرؤ على ذلك احترامًا لذكرى أختي التي تمنعي من هذا. ومن جانبها فإن أي توضيحٍ مُتشكٍّ من هذا النوع كان ليعدُّ ضعفًا مُهينًا وخسيسًا.  

لهو واجبي كما هو سعادتي أن أقرَّ باستثناء واحد للقاعدة النقدية العامة. عرفَ كاتب واحد، ذو رؤية ألمعية وتعاطف حسن مع العبقرية، الطبيعةَ الحقيقيةَ لـ"مرتفعات وذرينغ" ولاحظَ بدقة منصِفة جمالياتها والتمسَ هنَّاتها. وغالبا ما ذكَّرنا المراجعون كثيرًا بفوضى المنجِّمون، والكلدان، والعرَّافون بعد أن يتجمَّعوا ويتفوَّهوا "بالنُذر الغيبية"، وتعذَّر علينا قراءة الأمارات أو تمييز التأويلات. من حقِّنا أن نبتهج فعلا حين يأتي عرَّافٌ حقيقيٌ في الأخير، رجل بين جوانحه روحٌ بديعة، مَنُ مُنحَ نورًا وحكمةً وإدراكًا؛ يستطيع بدقةٍ قراءة "خلجات وخواطر" العقل الأصلي (بغض النظر عن مدى تفرُّد هذا العقل أو تعلُّمه غير الكافي واطلاعه الجزئي)، ومن يقول بكل ثقة "هذا هو التفسير المعنيّ". 

مع ذلك، فإن الكاتب الذي أشير إليه يشاركني الخطأ بشأن ملكية التأليف، ولمن الإجحاف بحقي افتراضُ أن ثمةَ غموضًا في إنكاري السابق لهذا الشرف (شرَّف أُكْبِرُه في نفسي). هل لي أن أوكِّدَ له بأني سأكون عرضة للازدراء في هذه المسألة وفي أي واحدة أخرى تتعلق بالغموض؛ أومن أن اللغة التي مُنحتْ لنا لنبيّن مقاصدنا بوضوح، لا أن نلفُّها بشكٍ خدّاع. 


حظيت "نزيلة قصر ويلدفيل" لأكتون بيل، على غرار تلك باستقبال غير مؤاتٍ. ولا يخامرني عجبٌ في هذا. كان اختيار الموضوع غلطة برمته. ولا يمكن تصوُّر أيَّ شيء فيه منسجم مع طبيعة الكاتبة. لقد كانت مُحرِّكات هذا الاختيار نقية لكنها، حسبما أرى، سقيمة قليلا. استُحثَّتْ في حياتها على التأمل والتفكير2، وتحمَّلت مدةً طويلة وعلى نحوٍ مباشر التأثيرات الرهيبة للمواهب التي أسيء استخدامها والإمكانيات التي عُبث بها3؛ كانت بالفطرة مرهفة الحسِّ، ومتحفِّظة، وذات سجيّة محزونة؛ ما شهدته أثرَّ عميقًا في عقليتها وسبَّب لها الأذية. تغذَّتْ على هذا حتى اعتقدت أن من واجبها أن تروي كلَّ تفاصيله (بالطبع بشخصياتٍ متخيّلة وأحداث ومواقف) ليكون إنذارًا للآخرين. كرهَتْ عملها لكنها استمرَّت به. عندما تفكَّرتْ في الموضوع رأتْ في استدلالته إغواءً للانغماس في الذات. لا بد أن تكون صادقة؛ لا يجب أن تكون مُزيِّنة ولا مرقِقة أو مُطمطِمة. جلبتْ عليها هذه النتيجة المعنية تماما سوءَ الفهم، وتحمّلت بعض الإهانات -كما هي عادتها- في تحمُّل أيّ شيء مُهين بصبر راسخ وحليم. لقد كانت صادقة جدًا ومسيحية تقيّة لكنَّ مسحة السوداوية الدينية ألقتْ بظلٍ تعيس على حياتها القصيرة النزيهة. 


لم تسمح كلا من إيليس وأكتون لنفسها أن تغرقَ لحظةً واحدة في طلبِ التشجيع؛ قوَّت الهمَّة الأولى، وأيَّد التجلُّد الأخرى. كانت الاثنتان على أهبة الاستعداد للمحاولة مجددًا؛ ولن أجانبَ الصوابَ لو ظننتُ بأنَّ الأملَ وإحساسَ القوَّة كانا مُعْتملين في جوانحهما بثباتٍ.  

لكن أزِفَ تغيير مهول: أتى ابتلاء لمن الفظيع توقُّع نمط قدومه ذاك؛ لا أرى شيئًا خلا الأسى عند النظر إلى الوراء. في حرارة النهار الشديدة وعنائه فشلَ العاملان في عمليهما. انتكست حالة أختي إيميلي أولا. لتفاصيل مرضها في ذاكرتي وَسْمٌ غائر وأن يكون لها موضعٍ في فكري أو نثري لهو يفوق قدرتي. لم تكن طوال حياتها قط متريِّثة في أي عمل يقع على عاتقها، ولم تتريث في هذا الحال أيضا. لقد غادرت بسرعة خاطفة. وحثَّتْ الخطى في مغادرتنا. وفي الوقت الذي انمحقتْ جسديًا كانت تقوى عقليًا على نحوٍ لم نعهده منها قط. يومًا تلو آخر حينما رأيتها قُبالة عينيّ تعاني تطلَّعت إليها بكربٍ ممزوجٍ بالعُجب والحب. لم أرَ شيئًا مثيلًا لذلك، في الحقيقة لم أرَ قطَ ما يوازيها في أيّ شيء. أقوى من رجل، أبرأ من طفل، متفرِّدة في ذاتها. وأبشع ما في الأمر أنها في الوقت الذي فاضتْ فيه رحمة على الآخرين لم تُظهر على نفسها أيَّ شفقة، كانت روحها متصلبة حتى جرثومتها، من يديها الراعشتين، وقدميها المتوترين، وعينيها الغائرتين، وكل شيء في صحتها يُنتزع وأن تقف وتشاهد ذلك ولا تتجرأ أن تعترض لهو أمر مُوجع لا تُعبِّر عنه الكلمات. مرَّ بألمٍ شهران قاسيان من الأمل والخوف، ثم حلَّ في آخر المطاف اليوم حين قاسى هذا الكنز أهوال الموت وآلامه، وأضحتْ أعزَّ فأعزَّ على قلوبنا وهي تهزلُ قُبالة أعيننا. في نهاية ذلك اليوم، لم نملك من إيميلي سوى بقاياها الفانية، قد خلَّفها ما استهلكها. وافتها المنية في التاسع عشر من كانون الأول 1848.

ظننا أن هذا كافٍ لكننا كنا مخطئين تماما وبتمادٍ. لم ننتهِ من دفنها حتى تهاوت آن مريضةً. ما كان مرضها الذي يودي بحياتها طوال إسبوعين، قبل أن نفهمَ الإلماحة البيّنة بأن علينا تحضير أنفسنا لرؤية أختي الصغيرة تحلقها بأختها الكبيرة. وهكذا اقتفتْ مسار أختها نفسه لكن بخطًى أبطأ، وبصبرٍ يعادلُ تجلَّد الأخرى. 

ذكرتُ آنفا أنها كانت متديِّنة لذا، واستقتْ من انكبابها على التعاليم المسيحية التي آمنت بها برسوخٍ المؤازرةَ في رحلتها العصيبة جدًا. شهدتُ تأثير هذه التعاليم في ساعتها الأخيرة ومحنتها العصيبة، ولا بد أن أدلي بشهادتي على هذا النصر الهادئ الذي جُلبه إليها إيمانها. تُوفيت في الثامن والعشرين من أيار 1849.

ما الذي يسعني أن أقول أكثر عنهما؟ لا يمكنني قول المزيد ولستُ بحاجة لقول الكثير. كانتا في حياتهما الخارجية امرأتين متواريتين عن الأنظار؛ منحتهما حياةُ عزلةٍ مثاليةٌ عاداتٍ وسماتٍ منكفئة. اجتمعَ في سجيّة إيميلي الحيويّةُ المفرطة والسهولةُ. وكمنُت تحت غطاءَ ثقافة غِرَّة ونزعاتٍ غير مصطعنة وسَمْت غير متكلِّف- قوةٌ سريّة ونارٌ بصَّرت الدماغَ وأوقدتْ عروقَ بطلٍ: بيد أنها لم تُحنَّك بحكمةٍ خبيرة، وما شقتْ قواها طريقها في الحياة العملية الفعليّة، وكانت لتفشلَ في أن تدافعَ عن أكثر حقوقها وضوحًا وفي أن تشاورَ في أكثر مزياتها أصالة. لا بد من مؤِّول دائما بينها وبين العالم. لم تتمتع برغبة مرنة جدًا، وعادةً ما وقفتْ بوجه ما تهتمُّ به. كان لها طبع متَّسمٌ برحابة الصدر لكنه حميميّ وغير متوقَّع، وروحها مستقيمة تماما.

أما آن فكانت ذات طبعٍ أكثر دماثة وكبتًا؛ رغبتْ بقوة، ونار، وأصالة أختها، بيد أنَّها موهوبة جدًا بخصال هادئة تميِّزها. تمتَّعتْ بالأناة، والإيثار، والتأمُّل، والنجابة، والتحفُّظ الجسماني، وقلَّة الكلام، ووضعها كل هذا في الظل، وغطَّى عقلها ولا سيما مشاعرها حجابُ راهبة نادرًا ما رفعته. 

لم تكن إيميلي ولا آن متعلمة، وليس لديهما أدنى فكرة عن ملء أباريقهما من نبع عقول الآخرين الفوَّار؛ دائما ما كتبتا بدافعٍ الفطرة، وبإملاء البديهة، وبخزَّان مشاهداتٍ مُلءَ بما أتاحته لهما تجربتهما المحدودة. هل لي أن أختصرَ كل هذا بقولي إنهما في نظر الغرباء كانتا نكراتٍ، لكنَّهما في نظر من عرفهما طوال حياتهما وجمعته بهما عَلاقة حميمية قريبة طيبتان حقًا وعظيمتان صدقًا.  

كُتب هذا البيان لأني شعرت بأنه واجب مقدَّس أن أزيلَ الغبارَ عن شاهديْ قبريهما، وأخلِّفَ اسميهما الحبيبين نظيفين من التراب. 

كورير بيل

19 أيلول 1850

*

بهذا البيان عُرفت هوية إيليس وأكتون الحقيقية وطوي صفحة هذا الفصل إلى الأبد، لكن شارلوت بقيت محافظةً على اسم كورير بيل ولم تكشف عنه قط في حياتها، وكما نلاحظ في بيانها الآنف أنها تكلمت عن نفسها بصيغة المذكر. ونشرت رواياتها الأخيرة فيليت في عام 1853 باسم كورير بيل، وبقي اسم كورير بيل على غلاف رواياتها حتى وفاتها في عام 1855 بعد أشهر قليلة من زواجها. 

في آخر المطاف كان لا بُدَّ أن يُكشف عن هُوية كورير بيل الحقيقية لعامة القراء وهذا ما تمَّ لكنه على نحوٍ خارق ومدوٍّ ساهم لا في تعريف العامة على شارلوت برونتي فحسب بل ونقلها إلى مقام القديسة ثم الأسطورة بعدما نشرت إليزابيث غاسكل أول وأشهر سيرة حياتية عن شارلوت والأخوات برونتي، كتاب "حياة شارلوت برونتي" في عام 1857. عرَّفت بهذه السيرة الحقيقة الخفيّة لمؤلفة الروايات الشهيرة "جين إير وشيرلي وفيليت". 



الهوامش:


1- تقصد رواية "الأستاذ"، وكانت أول رواية تكتبها ولم تُنشر إلا بعد وفاتها في عام 1857. المترجم

2- تقصد تربية والدها الخوري لهن، وتأثير خالتها إليزابيث الديني ومعتقدها الميثودي المباشر في آن على نحو خاص، لأنها كانت أصغر الأخوات فحظيت برعاية خالتها المطلقة. المترجم

3- تقصد مأساة أخيها برانويل وتدهور حياته بعد علاقته الغرامية السقيمة مع السيدة روبنسون المتزوجة. كانت شارلوت تظن أن شخصية هنتغتون في رواية "قصر ويلدفيل هال" استمدَّت من حياة أخيها برانويل وهذا سبب شجبها العمل ورفض منح حقوق الاستمرار بنشره بعد وفاة آن برونتي. لكن ما غاب عن شارلوت برونتي أنَّ شخصية هنتغتون لم تكن مستمدَّة بأكلمها من برانويل فهي مزيج بين برانويل وما عايشته آن عندما عملت مربية لدى أسرة روبنسون وحياة مجتمع هذه الأسرة الفاسق والمتهتك. المترجم


المراجع:

1- Anne Brontë at 200 by Nick Holland.

2- The life of Charlotte Brontë by Elizabeth Gaskell.

3- Introduction for The tenant of Wildfell Hall by Anne Brontë.

4- The Bronte Myth by Lucasta Miller.

5- Biographical Notice by Currer Bell (Charlotte Brontë). 



السبت، 30 أكتوبر 2021

بيان سيرة إيليس وأكتون بيل - كورير بيل 1850



كتبت شارلوت برونتي هذه المقدمة لروايتي أختيها مرتفعات وذرينغ لإيميلي وأغنيس غري لآن بعد وفاتهما في طبعة خاصة صدرت في عام 1850 من ناشر رواياتها جورج سميث بعد أن أقنعته بإصدارهما. كان لهذه المقدمة التعريفية بالكاتبتين اللتين صدرت أعمالهما باسمي مستعارين هما إيليس بيل (إيميلي) وأكتون بيل (آن) لأسبابٍ كثيرة منها: أنها أرادت التعريف بأختيها بمعلوماتٍ صحيحة وكشف هُويتهما الحقيقية، ولإزالة اللبس حول الأقوال المتضاربة عن كون الإخوة بيل كاتبًا واحدًا، وأرادت وهو الأهم الدفاع عن أختيها مما تعرضَّتا له في مراجعاتِ رواياتهما فقد اتُّهمت رواية إيميلي بالكفر والفسوق والتجديف، ورواية آن برونتي الثانية (نزيلة قصر ويلدفيل) بأنها غير محافظة وخارجة على أعراف المجتمع الفيكتوريّ بموضوعها الذي عرَّى المجتمع والزيجات التي لا انفصام لها وما يرافق بعضها من سوء معاملة الزوج لزوجته واضطرارها لتحمُّله والعنف الزوجي والتهتُّك والخيانة الزوجية والزنى، بيد أن دفاعها عن أختيها كما سنقرأ لم يكن بالدفاع الحقيقيّ بعرضها إيميلي وآن على أنهما فتاتين قرويتين لم يحظيا بقدرٍ كافٍ من التعليم وأنهما عاشتا حياتهما وكتبتا رواياتهما بدافعٍ بديهة ومخزون مشاهدات. أيّ أنهما لم تكونا بالواعيتين لما كتبتا الوعي التام، وجانبت الصواب شارلوت في هذا ولم يكن لبيانها التعريفي هذا أثره الذي رغبت به ولم يُغيِّر النظرة العامة تجاه الروايتين التي استمرَّت مدة ليست بالقصيرة. 

كشفتْ شارلوت في هذا البيان السيريّ عن هوية أختيها لكنها لم تكشف عن هويتها وذيَّلت البيان باسم كورير (اسم قلمها المستعار)، كما أشارت إلى نفسها بضمائر المذكَّر وكان لهذه الاستخدام لضمائر المذكَّر تأثيره في النص المُترجم، وهو من حسن حظ النص بمغازيه عند كتابة شارلوت له، إذ الغلبة للمذكر في الكلام إذا اجتمع التذكير والتأنيث في جملة واحدة، ففي قولها مثلا "طالما تعلَّقنا بشغف بحلم أن نصبح يومًا مؤلِّفين" فالترجمة لكلمة Authors ستكون لو كشفت شارلوت عن هويتها الحقيقة "مؤلفات" وهي بكل الأحوال لم تستخدم Authoresses في هذا السطر. لكن سيلمس القارئ اضطرابا في إبعاد الهُوية الأنثوية عن "كورير" في ذات المقطع حين تكتب "ولم نرغب بالكشف عن هُوياتنا النسائية" فجمعت الكتَّاب المجهولي النوع الثلاث في هوياتنا النسائية to declare ourselves women، وفي هذا تأكيد عن كونهن نساءً لا رجالٍ، ويؤكد هذا أيضا جملة "انتابنا انطباع مبهم بأنَّ المؤلفات we had a vague impression that authoresses". 

لم ترفع شارلوت برونتي الحجاب عن هويتها الحقيقة حتى وفاتها ونشرت آخر رواياتها فيليت باسمها المستعار "كورير بيل". 



 

*

جرى اعتقاد على أن الأعمال المنشورة تحت أسماء كورير، وإيليس، وأكتون بيل، في الحقيقة لكاتبٍ واحد. الخطأ الذي سعيتُ إلى تداركه بكلماتٍ نافية قليلة في مقدمة الطبعة الثالثة من رواية "جين إير". ويبدو أن هذه المحاولة أيضًا باءت بفشل نيل تصديقٍ عامٍ، والآن، في مناسبة إعادة طباعة "مرتفعات وذرينغ" و"أغنيس غري" نُصحتُ لأبيِّن بوضوح كيف انبثقت هذه القضية برمتها في الواقع. 

أشعرُ في قرارة نفسي بأنَّ الوقت أزف لتبديد هالة الغموض التي لفَّت هذين الاسمين -إيليس وأكتون-. فقدَ اللغز الصغير، الذي تركَ في السابق بعضَ المتعة البريئة، أهميتَه، وتغيَّرت الظروف الخاصة به. وأصبحَ من واجبي أن أوضِّح بإيجاز أصل وملكية تأليف الروايات المكتوبة من كورير وإيليس وأكتون بيل.     

قبل نحو خمس سنوات، التمَّ شملي بأختيَّ بعد مدة انفصال طويلة، واجتمعنا مجددًا في المنزل، الذي كان في ضاحية نائية، حيث لم يُحرزُ التعليمُ تقدُّما يُذكر، ونتيجة لذلك لم يكن أيَّ محفِّز للبحث عن اتصالات مجتمعية خارج دائرتنا المنزلية، واعتمدنا بالكامل على أنفسنا وعلى بعضنا، وعلى الكتب والدراسة من أجل الاستمتاع بالحياة وشغل فراغها. وكمُنَ أسمى واعزٍ، بالإضافة إلى أكثر المُتع حيويةً التي عرفناها منذ طفولتها فصاعدًا، في محاولات تأليف أدبية؛ اعتدنا في السابق على إطلاع بعضنا على ما خطَّته أناملنا، لكن شهدت السنوات اللاحقة انقطاعَ عادة التواصل والمشاورة، وترتَّب على إثر هذا، غفلتنا عن التقدُّم الذي كان يُحرزه كلُّ منا تواليًا.   

في أحد أيام خريف 1845 وقعت بالمصادفة على مجلد أشعار أختي إيميلي بخط يدها. وبالطبع لم أكن متفاجئًا وعارفًا بأنها كانت قادرة على نظم الشعر: تفحصته جيدا، وتملكني شيء ما أكثر من الدهشة- إيمان عميق بأن ما كُتب كان أكثر من مجرد إراقة شائعة ولا بشعر يشبه ما تكتبه النساء عموما. رأيته شعرًا مكثَّفًا وموجزًا، وقويًا وحقيقيًا. وكان له وقع في أذني بموسيقى جامحة مميزة، وسوداوية، ورفيعة. لم تكن أختي إيميلي امرأة مُجاهرةً في سماتها، ولا تكشف خبايا عقلها وخفايا قلبها حتى لأعز وأقرب الناس إليها، مُحصِّنةً إياها، وغير مرخِّص التطفل عليها؛ استغرق استرضاؤها مني ساعاتٍ بشأن عثوري على أشعارها، وقضيتُ أياما في إقناعها بأنَّ قصائدها تستحق النشر. علمتُ، على أي حال، أن من يملك مثل عقلها لن يكون بلا شرارة باطنية من طموح استحقاق التشريف، ورفضتْ أن تكون متثبّطة أمام محاولات نفخي على تلك الشرارة لتلتهب. في غضون ذلك عرضت أختي الصغرى قصائد من نظمها طالبةً مني الاطلاع عليها بما أنَّ قصائد إيميلي قد أبهجتني. ولم أتمكن إلا أن أكون جائرًا في حكمي، ومع ذلك ظننتُ بأنَّ في شِعرها، أيضًا، عاطفة حلوة صادقة في ثناياه.    

طالما تعلَّقنا بشغف بحلم أن نصبح يومًا مؤلِّفين، ولم يتلاشَ هذا الحلم قط حتى حين باعدت بيننا المسافات وانشغلنا بالمهامٍ المُستغرِقةِ لأوقاتنا، بيد أننا امتلكنا الآن وعلى حين غرَّة القوة والانسجام: وشرعنا في الخطو في الاتجاه الصحيح. اتفقنا على ترتيب ديوان قصائد صغير، وطبعه إذا أمكن ذلك. ولنفورنا من إطلاع العامة على هُوياتنا ارتأينا النشر تحت أسماء كورير، إيليس، آكتون بيل، وكان هذا الخيار الغامض خَلْجَةً من خلجات الضمير باستخدام أسماء مسيحيّة رجوليّة، ولم نرغب بالكشف عن هُوياتنا النسائية -دون الافتراض في حينها أن يُعامل نمط كتابتنا وتُظنُّ أنها كتابات "نسائية"- فقد انتابنا انطباع مبهم بأنَّ المؤلفات عرْضة ليُعاملن بتحيّز فلاحظنا بأنَّ النقَّاد أحيانا يستعملون في عقابهم سلاحَ الشخصنة، وفي جزائهم إطراءً وهو ليس بالإشادة الصادقة.

ما أصعبَ ما كان عليه إصدار كتابنا المشترك الصغير. وكما كان متوقعًا فلم نحظَ نحنُ ولا قصائدنا بالانتباه الذي رغبنا به لكننا كنا على أهبة الاستعداد لهذه الانطلاقة. ومع أننا بلا خبرة شخصيّة فقد قرأنا تجارب الآخرين. كَمُنتْ المعضلة الكبرى في صعوبة نيل أجوبة من أي نوعٍ من الناشرين الذين ناشدناهم. ولشدَّة تضايقي من هذا العائق فقد أقدمتُ على خطوة جريئة بسؤال الناشر تشامبرز وناشر أدنبره، طالبًا النصحَ ولربما قد نسيا تلك الأحداث بيد أنني لم أنسَها فقد استلمت منهما رسالة ذات طابعٍ تجاريّ لكنها بردٍّ مُهذَّب ورقيق اتَّبعنا ما جاء فيها، وفي آخر المطاف شققنا طريقنا.       

طُبعَ الكتاب لكنه بالكاد عُرِفَ، وما نالتْ قصائده استحقاق أن تشتهر خلا قصائد إيليس بيل. خامرني اقتناع حازمٍ بأني لا بد أن أحافظ على أملي بصرف النظر عن أن مجموعة كبيرة  من هذه القصائد لم تنل في الواقع مقبولية الكثير من المراجعات النقدية المُبشرة بالنجاح.

فشلت البداية البائسة في تحطيمنا، ومنحَتْنا محاولةُ النجاح المحضة حيويّةً رائعة للعيش وهذا ما يجب أن نسعى وراءه. بدأ كل منا بكتابة حكاية نثرية؛ ألَّفت إيليس بيل "مرتفعات وذرينغ" وأكتون بيل "أغنيس غري" وكتبَ كورير بيل أيضًا رواية من مجلد واحد1. عُرضت هذه الحكايات بمثابرةٍ على ناشرين مختلفين في نحو سنة ونصف؛ عادة ما كانت النتيجة رفضًا مخزيًا وقاطعًا. 

قُبلتْ في آخر المطاف "مرتفعات وذرينغ" و"أغنيس غري" بشروطٍ مُفقِرةً المؤلفتين بنحوٍ ما؛ لم يجد كتاب كورير بيل المقبولية في أي مكان ولا أي اعتراف باستحقاقه النشر، وبدأ يغزو قلبه شيء مثل ارتجافة يأس. وبأملٍ لا طائل منها، حاولَ مرة أخرى مع الناشر Smith, Elder and Co ومضى وقت طويل، أقصر بكثير من المدة التي تعلَّم أن يحسبها في تجاربه السابقة، قبل وصول رسالة فتحها، بتوقُّعٍ مريع بوجودٍ سطرين قاسيين مُقنطين، لامحًا بأن السيدين سميث وإيلدر "لم يستبعدا نشر الحكاية" وأخرجَ من الظرف رسالةً من صفحتين. قرأها بارتعاشٍ. رفضتْ الرسالة في الحقيقة نشرَ الحكاية لأسباب تجارية، لكنها ناقشتْ جدارة نشرها ولا جدارتها بكياسة كبيرة، وباعتبارٍ محض، وبروحٍ عقلانيةٍ جدًا، وبحصافةٍ متنوِّرة جدًا، أبهجَ هذا الرفضُ اللطيف الكاتبَ أكثر مما قد يفعله قبولٌ ذو تعبيرٍ دارجٍ. أضافتْ الرسالة بأنَّ عملًا من ثلاثة مجلدات سيحظى باهتمامٍ لافت.  

بدأت وقتها فحسب إكمالَ "جين إير" التي عملتُ عليها حين كانت الرواية ذات المجلد الواحد تكدحُ في جولتها الشاقة في لندن: أرسلتها في غضون ثلاثة أسابيع؛ تولَّت ذلك يدٌ ودودة وماهرة. كان هذا في مستهل أيلول 1847، ونُشرت الرواية قبل نهاية تشرين الأول التالي، في حين لا تزال روايتا أختيّ "مرتفعات وذرينغ" و"أغنيس غري"، اللتان أرسلتا سلفا إلى المطبعة قبل أشهر، تنتظران بذرائع إدارية مختلفة. 

ثم ظهرتا في الأخير. فشل النقَّاد في التعامل معهما بعدلٍ. أبانت "مرتفعات وذرينغ" عن قوى غضَّة بيد أنها حقيقيّة جدًا بالكاد مُيَّزت، وأُسيئ فهمُ فحواها وطبيعتها، وأُخطئ شرحُ هُوية مؤلفتها؛ قيل إنها محاولة أوليّة وفظَّة لذات القلم الذي أنتج "جين إير". خطأ مُجحف ومُحزن! ضحكنا عليه في أول الأمر، بيد أني أنحبُ عليه من صميم قلبي الآن. أخشى من الآن فصاعدًا أن أستثيرَ التحيَّزَ ضدَّ الكتاب. والكاتب الذي بمقدوره أن يحاول التخلص من إنتاجٍ وضيع وغير ناضجٍ تحت غطاء عملٍ واحدٍ ناجحٍ لا بد أن يكون في الواقع متحمسًا بإفراطٍ للمحصلة الثانوية والحقيرة لملكية التأليف، ولا مباليًا على نحو مثير للشفقة للجزاء الذي يستحقه عن حقٍ وحقيق. إذا آمن كتَّاب المراجعات والعامة حقًا بهذا، فلا عجبَ في أنهم نظروا إلى المحتال بتجهُّم. مع ذلك لا يجب أن أُفهم بأني أبيِّن هذه الأمور لتكون عرضة لتوبيخ أو مديح؛ لا أجرؤ على ذلك احترامًا لذكرى أختي التي تمنعي من هذا. ومن جانبها فإن أي توضيحٍ مُتشكٍّ من هذا النوع كان ليعدُّ ضعفًا مُهينًا وخسيسًا.  

لهو واجبي كما هو سعادتي أن أقرَّ باستثناء واحد للقاعدة النقدية العامة. عرفَ كاتب واحد، ذو رؤية ألمعية وتعاطف حسن مع العبقرية، الطبيعةَ الحقيقيةَ لـ"مرتفعات وذرينغ" ولاحظَ بدقة منصِفة جمالياتها والتمسَ هنَّاتها. وغالبا ما ذكَّرنا المراجعون كثيرًا بفوضى المنجِّمون، والكلدان، والعرَّافون بعد أن يتجمَّعوا ويتفوَّهوا "بالنُذر الغيبية"، وتعذَّر علينا قراءة الأمارات أو تمييز التأويلات. من حقِّنا أن نبتهج فعلا حين يأتي عرَّافٌ حقيقيٌ في الأخير، رجل بين جوانحه روحٌ بديعة، مَنُ مُنحَ نورًا وحكمةً وإدراكًا؛ يستطيع بدقةٍ قراءة "خلجات وخواطر" العقل الأصلي (بغض النظر عن مدى تفرُّد هذا العقل أو تعلُّمه غير الكافي واطلاعه الجزئي)، ومن يقول بكل ثقة "هذا هو التفسير المعنيّ". 

مع ذلك، فإن الكاتب الذي أشير إليه يشاركني الخطأ بشأن ملكية التأليف، ولمن الإجحاف بحقي افتراضُ أن ثمةَ غموضًا في إنكاري السابق لهذا الشرف (شرَّف أُكْبِرُه في نفسي). هل لي أن أوكِّدَ له بأني سأكون عرضة للازدراء في هذه المسألة وفي أي واحدة أخرى تتعلق بالغموض؛ أومن أن اللغة التي مُنحتْ لنا لنبيّن مقاصدنا بوضوح، لا أن نلفُّها بشكٍ خدّاع. 


حظيت "نزيلة قصر ويلدفيل" لأكتون بيل، على غرار تلك باستقبال غير مؤاتٍ. ولا يخامرني عجبٌ في هذا. كان اختيار الموضوع غلطة برمته. ولا يمكن تصوُّر أيَّ شيء فيه منسجم مع طبيعة الكاتبة. لقد كانت مُحرِّكات هذا الاختيار نقية لكنها، حسبما أرى، سقيمة قليلا. استُحثَّتْ في حياتها على التأمل والتفكير2، وتحمَّلت مدةً طويلة وعلى نحوٍ مباشر التأثيرات الرهيبة للمواهب التي أسيء استخدامها والإمكانيات التي عُبث بها3؛ كانت بالفطرة مرهفة الحسِّ، ومتحفِّظة، وذات سجيّة محزونة؛ ما شهدته أثرَّ عميقًا في عقليتها وسبَّب لها الأذية. تغذَّتْ على هذا حتى اعتقدت أن من واجبها أن تروي كلَّ تفاصيله (بالطبع بشخصياتٍ متخيّلة وأحداث ومواقف) ليكون إنذارًا للآخرين. كرهَتْ عملها لكنها استمرَّت به. عندما تفكَّرتْ في الموضوع رأتْ في استدلالته إغواءً للانغماس في الذات. لا بد أن تكون صادقة؛ لا يجب أن تكون مُزيِّنة ولا مرقِقة أو مُطمطِمة. جلبتْ عليها هذه النتيجة المعنية تماما سوءَ الفهم، وتحمّلت بعض الإهانات -كما هي عادتها- في تحمُّل أيّ شيء مُهين بصبر راسخ وحليم. لقد كانت صادقة جدًا ومسيحية تقيّة لكنَّ مسحة السوداوية الدينية ألقتْ بظلٍ تعيس على حياتها القصيرة النزيهة. 


لم تسمح كلا من إيليس وأكتون لنفسها أن تغرقَ لحظةً واحدة في طلبِ التشجيع؛ قوَّت الهمَّة الأولى، وأيَّد التجلُّد الأخرى. كانت الاثنتان على أهبة الاستعداد للمحاولة مجددًا؛ ولن أجانبَ الصوابَ لو ظننتُ بأنَّ الأملَ وإحساسَ القوَّة كانا مُعْتملين في جوانحهما بثباتٍ.  

لكن أزِفَ تغيير مهول: أتى ابتلاء لمن الفظيع توقُّع نمط قدومه ذاك؛ لا أرى شيئًا خلا الأسى عند النظر إلى الوراء. في حرارة النهار الشديدة وعنائه فشلَ العاملان في عمليهما. انتكست حالة أختي إيميلي أولا. لتفاصيل مرضها في ذاكرتي وَسْمٌ غائر وأن يكون لها موضعٍ في فكري أو نثري لهو يفوق قدرتي. لم تكن طوال حياتها قط متريِّثة في أي عمل يقع على عاتقها، ولم تتريث في هذا الحال أيضا. لقد غادرت بسرعة خاطفة. وحثَّتْ الخطى في مغادرتنا. وفي الوقت الذي انمحقتْ جسديًا كانت تقوى عقليًا على نحوٍ لم نعهده منها قط. يومًا تلو آخر حينما رأيتها قُبالة عينيّ تعاني تطلَّعت إليها بكربٍ ممزوجٍ بالعُجب والحب. لم أرَ شيئًا مثيلًا لذلك، في الحقيقة لم أرَ قطَ ما يوازيها في أيّ شيء. أقوى من رجل، أبرأ من طفل، متفرِّدة في ذاتها. وأبشع ما في الأمر أنها في الوقت الذي فاضتْ فيه رحمة على الآخرين لم تُظهر على نفسها أيَّ شفقة، كانت روحها متصلبة حتى جرثومتها، من يديها الراعشتين، وقدميها المتوترين، وعينيها الغائرتين، وكل شيء في صحتها يُنتزع وأن تقف وتشاهد ذلك ولا تتجرأ أن تعترض لهو أمر مُوجع لا تُعبِّر عنه الكلمات. مرَّ بألمٍ شهران قاسيان من الأمل والخوف، ثم حلَّ في آخر المطاف اليوم حين قاسى هذا الكنز أهوال الموت وآلامه، وأضحتْ أعزَّ فأعزَّ على قلوبنا وهي تهزلُ قُبالة أعيننا. في نهاية ذلك اليوم، لم نملك من إيميلي سوى بقاياها الفانية، قد خلَّفها ما استهلكها. وافتها المنية في التاسع عشر من كانون الأول 1848.

ظننا أن هذا كافٍ لكننا كنا مخطئين تماما وبتمادٍ. لم ننتهِ من دفنها حتى تهاوت آن مريضةً. ما كان مرضها الذي يودي بحياتها طوال إسبوعين، قبل أن نفهمَ الإلماحة البيّنة بأن علينا تحضير أنفسنا لرؤية أختي الصغيرة تحلقها بأختها الكبيرة. وهكذا اقتفتْ مسار أختها نفسه لكن بخطًى أبطأ، وبصبرٍ يعادلُ تجلَّد الأخرى. 

ذكرتُ آنفا أنها كانت متديِّنة لذا، واستقتْ من انكبابها على التعاليم المسيحية التي آمنت بها برسوخٍ المؤازرةَ في رحلتها العصيبة جدًا. شهدتُ تأثير هذه التعاليم في ساعتها الأخيرة ومحنتها العصيبة، ولا بد أن أدلي بشهادتي على هذا النصر الهادئ الذي جُلبه إليها إيمانها. تُوفيت في الثامن والعشرين من أيار 1849.

ما الذي يسعني أن أقول أكثر عنهما؟ لا يمكنني قول المزيد ولستُ بحاجة لقول الكثير. كانتا في حياتهما الخارجية امرأتين متواريتين عن الأنظار؛ منحتهما حياةُ عزلةٍ مثاليةٌ عاداتٍ وسماتٍ منكفئة. اجتمعَ في سجيّة إيميلي الحيويّةُ المفرطة والسهولةُ. وكمنُت تحت غطاءَ ثقافة غِرَّة ونزعاتٍ غير مصطعنة وسَمْت غير متكلِّف- قوةٌ سريّة ونارٌ بصَّرت الدماغَ وأوقدتْ عروقَ بطلٍ: بيد أنها لم تُحنَّك بحكمةٍ خبيرة، وما شقتْ قواها طريقها في الحياة العملية الفعليّة، وكانت لتفشلَ في أن تدافعَ عن أكثر حقوقها وضوحًا وفي أن تشاورَ في أكثر مزياتها أصالة. لا بد من مؤِّول دائما بينها وبين العالم. لم تتمتع برغبة مرنة جدًا، وعادةً ما وقفتْ بوجه ما تهتمُّ به. كان لها طبع متَّسمٌ برحابة الصدر لكنه حميميّ وغير متوقَّع، وروحها مستقيمة تماما.

أما آن فكانت ذات طبعٍ أكثر دماثة وكبتًا؛ رغبتْ بقوة، ونار، وأصالة أختها، بيد أنَّها موهوبة جدًا بخصال هادئة تميِّزها. تمتَّعتْ بالأناة، والإيثار، والتأمُّل، والنجابة، والتحفُّظ الجسماني، وقلَّة الكلام، ووضعها كل هذا في الظل، وغطَّى عقلها ولا سيما مشاعرها حجابُ راهبة نادرًا ما رفعته. 

لم تكن إيميلي ولا آن متعلمة، وليس لديهما أدنى فكرة عن ملء أباريقهما من نبع عقول الآخرين الفوَّار؛ دائما ما كتبتا بدافعٍ الفطرة، وبإملاء البديهة، وبخزَّان مشاهداتٍ مُلءَ بما أتاحته لهما تجربتهما المحدودة. هل لي أن أختصرَ كل هذا بقولي إنهما في نظر الغرباء كانتا نكراتٍ، لكنَّهما في نظر من عرفهما طوال حياتهما وجمعته بهما عَلاقة حميمية قريبة طيبتان حقًا وعظيمتان صدقًا.  

كُتب هذا البيان لأني شعرت بأنه واجب مقدَّس أن أزيلَ الغبارَ عن شاهديْ قبريهما، وأخلِّفَ اسميهما الحبيبين نظيفين من التراب. 


كورير بيل

19 أيلول 1850


___


1- تقصد رواية "الأستاذ"، وكانت أول رواية تكتبها ولم تُنشر إلا بعد وفاتها في عام 1857. المترجم

2- تقصد تربية والدها الخوري لهن، وتأثير خالتها إليزابيث الديني ومعتقدها الميثودي المباشر في آن على نحو خاص، لأنها كانت أصغر الأخوات فحظيت برعاية خالتها المطلقة. المترجم

3- تقصد مأساة أخيها برانويل وتدهور حياته بعد علاقته الغرامية السقيمة مع السيدة روبنسون المتزوجة. كانت شارلوت تظن أن شخصية هنتغتون في رواية "قصر ويلدفيل هال" استمدَّت من حياة أخيها برانويل وهذا سبب شجبها العمل ورفض منح حقوق الاستمرار بنشره بعد وفاة آن برونتي. لكن ما غاب عن شارلوت برونتي أنَّ شخصية هنتغتون لم تكن مستمدَّة بأكلمها من برانويل فهي مزيج بين برانويل وما عايشته آن عندما عملت مربية لدى أسرة روبنسون وحياة مجتمع هذه الأسرة الفاسق والمتهتك. المترجم


قصة برانويل برونتي

برانويل برونتي 

كيف انتهى المَطافُ بالموهوب العاشق مدمنَ خمرٍ وأفيون؟


لم يقتصر الإبداع في عائلة برونتي على الأخوات الثلاث فحسب، فهناك من لعبَ دورًا مهما في حياة الأخوات، وأثَّر في أدبهن، وساهم في صيرورة أسطورة برونتي فكان محفِّزًا لاختلاق قصصٍ وخرافات عن كتابات الأخوات برونتي. ولا ضيرَ إن تساءلنا كيف يُمكن أن تكون روايات جين إير ومرتفعات وذرينغ ونزيلة قصر ويلدفيل لو لم يكن برانويل في منزل الخوري باتريك؟ بالتأكيد سنرى أعمالًا مختلفة عن التي نعرفها وقرأناها ومن دون التقليل من موهبة الأخوات الأدبية فإنَ حياةَ برانويل الميلودرامية ومأساته الشخصيّة نبعٌ من المنابع التي مدَّت الأخواتُ أباريقَهن في مجراه واستقين منه أهمَّ الشخصيات، ولنكن موقِّرين لملكة الإبداع البرونتيّة ونَقُلْ على نحو جزئي، روشيستر وهيثكليف وهنتغتن. ولن أنجرَّ خلف الحكايات الأسطورية التي جعلت من برانويل مؤلف رواية مرتفعات وذرينغ الحقيقي، فهي ادعاءات سخيفة لا دليل عليها بل ولا تتسق مع ما لدينا من شواهد سواء رسائل وما نعرفه عن طبيعة إيميلي المتحفِّظة وما يؤكِّده شعرها بأنها مؤلفة هذه الرواية الوحيدة وبلا أي مساعدة، وسأعود إلى هذه النقطة في آخر المقال. 

ولد برانويل في ثورنتون في عام 1817، الرابع في ترتيبه بعد ثلاث أخواته وقبل أختين، لكل من ماريا برانويل وباتريك برونتي. وكان برانويل سميَّ جده لأمه التاجر السيد توماس برانويل. لم تختلف طفولة برانويل عن تلك التي حظيت بها أخواته، وإن كان المحبب لوالده لأنه الابن الوحيد، فشهد في سن الرابعة وفاة أمه ماريا ثم موت أختيه لاحقا. 

تعلَّم برانويل في المنزل على يد والده في الوقت الذي كانت أخواته الأربع في المدرسة الداخلية في كاون بريدج، وبمعونة خالته كذلك. بدت عليه النجابة منذ الصغر، ففي الرسالة الشهيرة التي يتحدث فيها باتريك عن اكتشافه حدة ذهن أطفاله يكتب عن برانويل حين جاء دوره ليسأله: وعندما سألتُ برانويل: ما أفضل طريقة للتمييز بين عقول الرجال والنساء؟ أجاب: أن نأخذ بعين الاعتبار الاختلاف بين أجسادهم

قاسى برانويل في طفولته مصيبة أخرى حين تُوفيت أختاه الكبريان ماريا وإليزابيث تواليا ما بين شباط وحزيران عام 1825 بسبب الظروف الصحية والغذائية السيئة في مدرسة البنات الداخلية في كاون بريدج. كان برانويل واعيًا لهذه الفقد المرير لأختيه لا سيما ماريا الكبرى فيجسِّد مشاعرَه تجاها بعد سنوات في قصيدة "كارولين Caroline" جاء فيها: 

انحيتُ لقطفِ برعم وردة نما/ يتمايل عند النافذة، بتأنيب من بعض الألم/ سحبتُ يدي التي مُدت، فمَن أحبتها ليست هنا/ من كانت بعين حمامة تراقبني، وثمة ما ينقص تجمُّلي/ أن تُقطفَ وردتها المفضلة. 


بعودة شارلوت شارلوت وإيميلي في خريف عام 1825 بعد وفاة أختيهما؛ التمَّ شمل الأربعة مجددًا واستمرَّ تعليمهم المنزلي لك في ذات الوقت فُتحَ لهم بابٌ كبيرٌ تمثَّل في مزاولتهم الكتابة الإبداعية وتأليف موادًا قصصية وشعرية كثيرة جدًا؛ ما زال جزء كبير منها موجودًا. تكتب شارلوت عن هذه الانطلاقة: "في إحدى الليالي، وحين تتبعُ المطرَ الثلجي البارد وضبابَ نوفمبر الهائجَ عواصفُ ثلجية، وريح ليلية عاتية مؤكدة حلول الشتاء، قعدنا جميعًا نحيط موقد المطبخ ساعين إلى الدفء، بُعيد أن تشاجرنا مع تابي [الخادم] حول من يستأثر بضوء الشمعة وخرجتْ ظافرةً به، ولم نحصل عليها. تبع الحدث مدة صمت طويلة قبل أن يكسره برانويل في الأخير قائلًا بطريقة غبية، "لا أعلم ماذا أفعل" وكررت إيميلي وآن هذا. 

تابي: لماذا لم تذهبوا إلى الفراش. 

برانويل: أفضّل فعل أي شيء على هذا. 

شارلوت: لماذا أنتِ متجهمة جدًا الليلة يا تابي؟ أو لنفترض أن كل واحد فينا يملك جزيرته. 

برانويل: لو أتيحَ لي الاختيار سأختار جزيرة مان.

شارلوت: وأنا جزيرة وايت. 

إيميلي: وأنا أران. 

آن: ويجب أن تكون جزيرتي غيورنسي. 

 

بدأ الأربعة بكتابة المجلدات قصص ومجلات ومسرحيات تراوح عدد صفحاتها ما بين ستين ومئة صفحة بحجم صغير بخط ضئيل الحجم لشارلوت وبرانويل لا يُقرأ إلا بعدسة مكبرة وبصعوبة، ومن هذه الكتابات "مجلات صغيرة"، و"حكايات الجُزر" التي تذكر شارولت أنها دُوِّنت في عام 1827 بخط يدها وأخيها. كان للعبة الجنود التي حصل عليها برانويل هديةً من والده دورًا في إذكاء نار الإبداع فتشارك مع شارلوت نيابة عن إيميلي وآن كتابة قصص مملكة أنغريا وغلاس تاون وغيرهما. فلم يكن برانويل في معزل عن الكتابة الإبداعية لأخواته فهو جزء منها، وإن راودَ الأخواتُ في صغرهن كما تعترف شارلوت رغبةً أن يصبحن مؤلفات فإن لبرانويل هو الآخر هذه الرغبة التي ابتدأ بها حتى قبل أخواته. استمرَّ برانويل بمزاولة الكتابة في سنوات حياته اللاحقة ولم يتوقف حتى ولج خريف حياته المأساوي بحب مَرَضي مُهلك. 

*

وهبَ برانويل موهبة الرسم، فتنامت بعد أن عيَّن باتريك ما بين 1829-1830 جون برادلي معلمَ رسم لبرانويل وأخواته. تعلَّم الأربعة الرسم، وكان برانويل الأميز بين أخواته لا سيما في رسم البورتريه وله لوحات منها اللوحة الشهيرة للأخوات برونتي ‏رسمها في عام 1834، ورسم نفسه مع أخواته لكنه طمس صورته بعدها. وتذكر غاسكل في كتاب سيرة شارلوت بأنَّ الأخيرة أخرجت لها هذه اللوحة وأخبرتها أنها من رسم أخيها حين كانت في الثامنة عشرة من عمرها، وأختيها إيميلي وآن في السادسة عشرة والرابعة عشرة. 




من اليمين إلى اليسار: ‏شارلوت - "برانويل" - إيميلي - آن، رسم برانويل 1834


بعث برانويل برسالة في عام 1835 أكاديمية الفنون الملكية طالبًا قبوله فيها. قُبلَ في الأكاديمية وانتقل إلى لندن بعدها بيد أنه لم يكمل دراسته فيها والأسباب مختلفة وغير مؤكدة لكن المرجح هو بداية انحرافه السلوكي وتعاطيه الكحول، وعاد بعدها في عام 1838 للعمل رسام بورتريه في برادفورد لكنه وجد المنافسة شديدة والزبائن نادرين ففشل في أولى مهنه وعاد مديونا بعد عام إلى هاورث حيث بدأ بشرب الكحول أكثر وتعاطي الأفيون. تمكَّن برانويل في أواخر عام 1840 بفضل معارفه وعلاقاته من تأمين وظيفة "موظف مساعد" في محطة قطار مانشستر وليدز بالقرب من هاليفكس، ثم عُين في العام التالي بوظيفة مدير محطة قطار لودنديفوت غرب ويركشاير. استمرَّ برانويل خلال هذه السنوات بالكتابة وراسل شعراء عارضًا عليهم قصائده وترجماته منهم دي كوينسي وكوليردج، ودعاه الأخير إلى منطقة البحيرة الشهيرة فقبل دعوته وزاره.   

لم يستمر عمل برانويل في وظيفته الأخيرة فطرد بتهمة تبديد المال بعد أصبح يقضي وقتا أطول مع أصدقائه في الكتابة وشرب الخمر في الحانة بدلا من تحسين عمله. ليرجع رجلًا بائسًا إلى هاورث في عام 1842 ويعود سيرته الأولى بشرب الخمر وتعاطي الأفيون. 

تتحدث وينفريد جيرن عن هذه الحقبة في كتبها عن الأخوات برونتي: فشل برانويل في أربع مهن عمل بها: رسام، ومؤلف، ومعلم، وكاتب. أما المهنة الوحيدة التي كانت مناسبة له فهي رسام بورتريه إلا إنه أهملها كما البقية، وبدا أنَّ لا عمل مناسبًا له، على الرغم من أن غروره انحدر به إلى مهنة كاتب رسائل. وبعد التخلي عنه في عمل داخل محطة قطار عاد إلى المنزل في عام 1842 كله خزيٌ ورجل بائس من أعماقه.  

*

شهدت هذه السنوات عمل آن مربية لدى أسرتي إنغام وروبنسون (1839-1845)، وعمل شارلوت مربيةً لدى عائلتين بعد تركها وظيفة معلمة في مدرسة روو هيد لكنها عادت إلى هاورث في عام 1841 لأنها لم تتأقلم مع العمل مربية. أما إيميلي فلم تعمل سوى ستة أشهر في مدرسة لوو هِل بالقرب من هاليفكس. لتقرر الأخوات البدء بمشروع مهني وافتتاح مدرسة داخلية للبنات في هاورث، فسافرت شارلوت وإيميلي إلى بروكسل في شباط 1842 لتحسين مهاراتهن في الأدب واللغة والفنون من أجل المدرسة الداخلية لكن سرعان ما عادتا بوفاة خالتهن، ثم سافرت شارلوت وحدها إلى شارلوت في بداية 1843 وكانت سنة متقلبة بتنامي عواطف وحب مرير غير متبادل، لتقفل راجعة إلى هاورث في كانون الثاني 1844. 

أثناء بحث الأختين عن مخرج من هذا الوضع المادي والمهني المتعثِّر كان برانويل ينحدر به الحال أكثر فأكثر. وهنا ظهرت آن لتلعبَ دور المنقذة لأخيها برانويل حين أمَّنت له وظيفة مرشد لإدموند، ابن أسرة روبنسون، حيث كانت تعمل، فما زال في قلبها بقية من إيمان بأخيها ليتحسَّن حاله وينتشل نفسه من هذا الوضع المخزي. 

بدأ برانويل بالعمل لدى أسرة روبنسون مع أخته، لكن هذه الوظيفة جلبت عليه مأساته الأخيرة وأعلنت بدء فصل عاصف ستضرب عواصفه منزل الخوري وتجعله في مهبِّ رياح الموت. قضى برانويل سني 1843-1845 في عمله لكنه وقع فيما لا يُحمد عقباه.   

يتحدث الكاتب نيك هولاند عن برانويل قائلا أحب برانويل على العكس من أخواته أن يستحوذ على اهتمام الآخرين، ووجدَ أحيانا في حانة هاورث يؤدي عرضه الذي أجاده وهو كتابة الرسائل بكلتا يديه في آن واحد، وكان متحدثا مفوَّها، ورجلا جذَّابًا، ويبدو أنه لم يستغرق وقتا طويلا ليقع في غران ليديا روبنسون

تُوصف ليديا بأنها امرأة ذات جمال باهر، ويبدو أنَّ الاثنين قد انجذبا نحو بعض أو انجذاب من برانويل فقط، فهو لم يتأكد من مشاعرها تجاه قط. يكتب برانويل رسالة إلى صديقه فرانسيس غروندي في عام 1845 جاء فيها:
أفصحتْ هذه السيدة (مع أن زوجها أبغضني) عن درجةٍ من اللطف بلغت مستوى جليًا أكثر من محضِ مشاعر عادية حين كنتُ متأثرًا من أعماقي من سلوك زوجها في أحد الأيام. أنا مُعجبٌ بشخصها وسماتها العقليّة الجذَّابة، ومُدركٌ لصدقها المتواضع ومزاجها اللطيف واهتمامها الدؤوب بالآخرين بلا انتظار مقابل لكل ما تمنحه- وعلى الرغم من أنها تكبرني بسبع عشرة سنة فقد أدَّتْ كل هذه السمات إلى تعلُّقي بها، وأدى إلى تبادل مشاعرٍ لم أسعَ إلا خلف النزر اليسير منها. عانيت يوميا خلال ثلاث سنوات "بهجةً مُكدرة، وسريعا ما عُوقبتُ بالخوف

تستَّرت آن على هذه العلاقة المتولِّدة بين الاثنين على مضض، حتى بلغَ السيل الزبى، فتخلتْ عن وظيفتها في قصر ثورب غرين عام 1845 وعادت إلى هاورث، ليُطرد برانويل من وظيفته بعد مرور شهر من مغادرة أخته، إذ من المرجَّح اكتشاف السيد إدموند علاقته مع زوجته. تدهورت حالة برانويل هذه المرة أكثر من أي مرة سابقة وفاقم وضعَه سوءًا الحبُ اللاهب في قلبه والعاصفُ في حياته المضطربة، فزعزعَ استقرار عائلته في هاورث. وكان برانويل أحد الأسباب في فشل نجاح مشروع المدرسة، الذي انطلقت به الأخوات بعد عودة آن، بسبب حالته النفسية المتأزمة والمضطربة ومكوثه أقرب الوقت في البيت. 

بقي برانويل بعد عودته إلى هاورث متشبِّثًا بأمل زواج ليديا، ويبدو أنها وعدته بالزواج بعد وفاة زوجها كما تذهب وينيفريد جيرن، فازداد حماسه مجددًا في أيار 1846 بعد وصول أنباء وفاة السيد إدموند روبنسون، زوج ليديا، ظنًا منه أن ليديا ستستأنف علاقتهما. بيد أن إدموند روبنسون كان حازمًا بهذا الشأن فأوصى قبل موته بمنع لقاء ليديا ببرانويل وحرمانها من الميراث إن فعلت ذلك، كما تذكر غاسكل في سيرة شارلوت (يُنكر نيك هولاند وجود أي دليل على هذا الادعاء المذكور في كتاب غاسكل) وأوصلَ تهديدًا بقتل برانويل إن اقترب منها. تزوجت ليديا بعد ذلك البارون السير إدوارد دولمان سكوت فتصفها بسبب ذلك جيرن بالمرأة اللعوب، وغاسكل بالمرأة الخبيثة، وغيرهما بأنها امرأة متسلقة اجتماعية لن تجدَ نفعًا من زواجها برانويل وسعت أيضًا إلى تزويج ابنتيها من رجلين ذوي مراكز اجتماعية رفيعة؛ نجح الأمر مع واحدة وفشل مع الأخرى بفضل آن التي نصحتها بعدم الانجرار خلف زيجات كهذه.

*

أدمنَ برانويل في آخر ثلاث سنوات من حياته الأفيون وتعاطى الكحول بإفراط في كل مرة وجد إلى ذلك سبيلا. ووجدت الأسرة نفسها مع أخٍ مهووس ومتعاطٍ للأفيون يتسلل من البيت حين تذهب الأسرة إلى الكنيسة -يتعذَّر بعدم قدرته على الذهاب- متجهًا إلى من يؤمِّن له الأفيون في القرية، كما أنَّه استدان المال من دون علم أخواته وأبيه ووضعهم في مأزق مع دائنيه. وجرَّاء هذا التدهور الصحي والانحدار النفسي أبقت الأخوات أخيهنَ على مبعدة من معرفة مساعيهن الأدبية وتكتب في رسالة: لم يعلم أخي التعيس قط ما الذي فعلته أخواته في الأدب- لم يعرفْ قطْ أنهن نشرن سطرًا واحدًا؛ لم نستطع إخباره شيئًا عما بذلناه خشيةً أن يسبب له ذلك ندمًا على وقته الذي بدده بلا طائل ومواهبه التي أساء استخدامها. والآن لن يعرف أبدًا. لا يمكنني الإطالة في هذا الموضوع أكثر، لهو وجع مؤلم جدًا

بيد أنَّه رغم هذا الانفصال عن عالم الأخوات الإبداعي فقد كان لهُ تأثيره في كتاباتهن لا سيما جين إير وشخصية روتشيستر ومرتفعات وذرينغ وشخصية هيثكليف ونزيلة قصر ويلدفيل وشخصية هنتغتن، لا سيما الرواية الأخيرة التي يُعتقد على مستوى عام أنها لم تكن لتكتمل بدون برانويل (اعتمدت كثيرا من أحداث الرواية وشخصياتها على أخيها وحياته في ثورب غرين). ولا بد لهذا الرأي أن يُعدَّل كما تذكر وينيفريد جيرن في سيرة آن برونتي بأن تُضم له خبرة آن التي اكتسبتها بإقامتها هناك بغض النظر عن برانويل، وبمراسلات أسرة روبنسون إلى محل سكناها في هاورث في حين يُنكر نيك هولاند أن تكون هذه الشخصية مستمدة من برانويل. وسواء كان تأثير برانويل كبيرًا أو محدودًا فإن الجوَّ المتولِّد بسببه في منزل العائلة قد ألهم الأخوات بنحوٍ مباشر أو غير مباشر وبوعي منهن أو بلا وعي، ولا يمكن بحال من الأحوال إنكار تأثيره تمامًا، فأن تعيش الأخوات مع أخٍ مهووس بحب مَرَضي طوَّح به ولا تتأثر به بأي شكل لهو أمر مستبعد في نظري. لكن في المقابل لم يكن بالأخ الشرير ولا السيئ كما يحب بعضهم أن يصوِّره ويقول عنه صديقه فرانسيس غراندي: لم يكن برانويل شيطانا في المنزل بل رجل يتحرك في الضباب بعد أن أضاع سبيله. وتذكر شارلوت في رسالة لها مؤرخة في الحادي عشر من كانون الثاني/ يناير 1848: لم نذق طعم الراحة في البيت مؤخرًا. يستدين برانويل المال من معارفٍ قدامى وأتْعَسَ حياتنا… وبابا متضايق ليلَ نهار؛ لا نحظى بسوى قليل من الطمأنينة؛ هو مريض على الدوام وسقط مرة أو اثنتين في نوبات، وأي نهاية ستكون. الله أعلم. لكن مَن الذي دون كارثة أو عقبة أو يعلم ما يخططه القدر في الغيب؟ بقي فقط أن يبذل المرء قصارى جهده ويصبر على ما يقضيه الرب

تذكر غاسكل في كتاب سيرة شارلوت بأنه رفض وظيفة اقترحتها الآنسة وولر، صديقة شارلوت، وشرع في فقدان تمالك نفسه وتدمير قدراته الجسدية والعقلية. وتولت إيميلي وآن رعاية برانويل أثناء مرضه، وتفككتْ منذ وقت طويل عرى العلاقة القوية بين شارلوت وأخيها. وأشهرَ ما يُروى عن برانويل في هذه المرحلة الحادثةُ التي كاد يسبب كارثةً حين كان يحاول القراءة على ضوء الشمعة فأوقعها عندما غلبه النوم لتندلعَ النار في فراشه، وتمكنت الأخوات من إطفاء الحريق وإنقاذ أخيهن. وصلت حالة برانويل في آخر المطاف إلى نهاية الانحدار. في الرابع والعشرين من أيلول/ سبتمبر 1848 زاره صديقه جون براون، وكان برانويل ينوي الذهاب إلى الكنيسة وقرع أجراسها، بيد أنه فور تحركه التفت إلى صديقه وقال "جون، أنا أحتضر"، استُدعيَ والده وأخواته. وسرت في القوم رعشةٌ حين سمعوه يؤمن على كلمات والده. تعلِّق غاسكل هذه النهاية قائلة عاش برانويل آخر أيامه التعيسة ملازما فراشه وتوفي في صراع إحدى نوباته في صباح الأحد، في الرابع والعشرين من شهر أيلول/ سبتمبر 1848. مات وجيبه مملوء برسائل المرأة التي أحبها، مات هو وبقيت هي على قيد الحياة




         برانويل برونتي - رسم جون مارون، 1839

*

استثمرت غاسكل قصة برانويل وليديا في زيادة الجانب المأساوي من حياة آل برونتي لا سيما شارلوت مستفيدةً من علاقة الحب الفضائحية، وإكمال الصورة المرسومة لشارلوت بأنها عانت كثيرًا في حياتها بل هي صنيعة المعاناة ومنحت السيرة سمة مشابهة لعالم بوفاري وكيف أثَّر حب برانويل لليديا في روايات الأخوات، وألقت اللوم كاملًا على ليديا واتهمتها بأنها المسؤولة عن وضع برانويل مدركةً أنها بفعلتها هذه ستضع نفسها في مواجهة دعوى قانونية قد ترفعها ليديا على الكتاب الذي يعرِّض بها وإن لم يذكر اسمها صراحة وهذا ما حدث بالفعل فاضطرت في الطبعات اللاحقة إلى إعادة كتابة كل الفصول المتعلِّقة بانحدار برانويل وحذف الاتهامات الموجَّهة إلى ليديا سكوت من كتابها. 

وُصفت هذه العلاقة أيضًا بأنها أوهام رجل مريض وسكِّير، ودارت حولها الحكايات ذات الطابع التخيّلي، وساهمت في تعزيز أسطورة الأخوات برونتي وتمادى الأمر حتى وصل إلى التشكيك بملكية تأليف رواية "مرتفعات وذرينغ" وأن من كتبها كان برانويل بالتشارك مع إيميلي أو في الأقل كتب فصولها الأولى لأن عملًا بهذه الفظاظة والقسوة والعنف والدموية لا يمكن أن يُكتب من امرأة في العصر الفيكتوري، واقترنت هذه الارتباطات بإيميلي لأنها امرأة أكثر من أي سبب آخر؛ كيف يمكن لامرأة أن تكتب عملًا كهذا! وكذلك اتّهم بعضهم إيميلي بسرقتها مخطوطة مرتفعات وذرينغ من أخيها خلال مرضه، وتذكر لوكاستا ميلر في كتابها "أسطورة برونتي" مقالة وليم ديردين بعنوان "من كتب مرتفعات وذرينغ؟" المنشورة في مجلة Halifax Guardian عام 1867. ويذهب كاتبها إلى أن من كتب الرواية هو برانويل، واستند وليم وغيره إلى أسباب متخيَّلة وما من دليل واحد ملموس عندهم، وتتمحور كل هذه الحجج حول ملكية برانويل للرواية في كون إيميلي امرأة وليس بمقدورها كتابة رواية بهذا المستوى، فهم لا يرفضون الرواية بكل ما فيها من "فظاعة وعنف" بل يرفضون أن تكون كاتبتها امرأة. ما زالت متداولة هذه الخرافة حول تأليف برانويل لمرتفعات وذرينغ. وتحولت سنوات انحدار برانويل وعلاقته أثنائها مع أخواته إلى قصص أسطورية وخرافية كما في كتاب The Crime of Charlotte Bronte حين يتهم المؤلف جيمس تولي بأن شارلوت قتلت أخيها بالسم بعد أن ضاقت به ذرعًا.  

*

ختامًا، سواء كان برانويل عاشقًا تعيسَ الحظ أضاع مواهبه الأدبية والفنيّة بسبب حبٍ عقيم أو رجلًا مريضًا مهووسا مدمنًا للخمر والأفيون، فهذا لا يُقصي برانويل بحياته القصيرة عن سيرورة إبداع الأخوات برونتي وبأنه رافد مهم لنهر برونتي وهو يشقُّ طريقه في أرض الأدب. ويبقى السؤال قائما كيف ستكون روايات الأخوات برونتي لم يكن برانويل في منزل الخوري باتريك؟  

*

المراجع 


1- Anne Brontë at 200 by Nick Holland.

2- The life of Charlotte Brontë by Elizabeth Gaskell.

3- Anne Bronte by Winifred Gerin.

4- The Bronte Myth by Lucasta Miller.