الأحد، 2 يوليو 2017

قراءة لرواية مدن الملح


قراءة لخماسية مدن الملح- عبدالرحمن منيف.
مؤمن الوزان

مدن الملح-التيه 

الجزء الأول من رواية مدن الملح والذي يروي فيه بداية الاستثمارات في الجزيرة العربية للنفط والتحول الذي يطرأ لمجمتع البادية نحو الحضر والتغيير نحو بيوت الصفائح "البركسات" والإسمنت،  بعد أن كان وادي العيون يعتمد على القوافل في تجارته البسيطة للبيع والشراء ويستخرج الماء من الآبار تأتي الشركة المستثمرة للأرض وتبدأ بعدها الصراعات بين أهل البادية والشركة ومناصريها ويوضح منيف الخلاف بين الموافق لهذا التغيير والمعارض له. رواية مدن الملح وثيقة تأريخية لذلك العصر موضحًا وكاشفًا الخبايا والحقائق حول الحياة في البادية من الناحية الاقتصادية والاجتماعية وكيفية تعاملهم مع الاستثمار الأجنبي وما هي فكرتهم تجاهه، تتدخل أروقة الرواية أحيانًا الخيال والتنبؤات لبعض الأحداث. وينتقل محور الرواية إلى مدينة حران وكيفية تحول هذه المنطقة من مكان عادي أقرب أن يكون للمجهول إلى شعلة مُضيئة في هذا العالم الجديد المولود وما لهذا التغيير من عقبات ومشاكل ونتائج. للرواية أبعاد سياسية واضحة في صفحاتها كاشفةً كيفية تحول أصحاب الأرض وملاكها إلى مجرد عبيد على هيئة عُمال ودور السلطة في تيسير عمل الأجنبي في الأرض على حساب أصحابها. من أكثر المميزات لهذه الرواية التوضيح والعرض الشائق والمثير لكيفية تعامل البدو بادئ الأمر مع الاختراعات التي تصلهم كالمنظار والراديو والسيارة وتفاجئهم بهذه المخلوقات العجيبة التي تنزل في وسط خيمهم.










مدن الملح: الإخدود

الجزء الثاني من رواية مدن الملح وفيه يستكمل منيف تطور الحياة بعد اكتشاف النفط وقيام الدولة الجديدة المواكبة لتطور العالم، تدور أحداث الرواية في سلطنة موران وهي تورية لأنه يقصد بها "السعودية المعاصرة" ويتم معرفة هذا الشيء بصورة واضحة أثناء قراءة الرواية، ويستمر السرد التاريخي لسيرة المملكة من نواحي الاجتماعية، السياسية، الاقتصادية وكيف تكونت العديد من دوائر الدولة والحكومة بل هي أقرب لتكون المنهاج والطريق الذي تم سلكه لتأسيس المملكة، يغوص القارئ في أعماق تلك المدينة ليتعرف على مساوئ السلاطين وحاشيتهم وكيف تجري الأمور في ظل خيمتهم الكبيرة. الرواية متشعبة في كل الاتجاهات والزوايا فغطت كل ما أراد منيف إيصاله لنا، لا يغيب الجانب الروائي والخيالي في حياة بعض الشخصيات فيختلط الخيال بالواقع لكنهما يسيران بنسق متساو فلا يطغى أحدهما على الآخر، أكثر ما أراد منيف تبيينه أنك مهما ارتقيت في سلم الحكومة والسياسة لا بدَّ أن تبقى في حلقة سيزيفية دائمة، متعرضًا للخسارة في أي وقت ومهما كنت ذكيًا ومتنبهًا ستُضرب من حيثُ لا تحتسب.


مدن الملح: تقاسيم الليل و النهار

الجزء الثالث من رواية مدن الملح و فيه يعود منيف إلى فترة البدايات لقيام سلطنة موران ويبحث في كيفية نشأتها، وكيف جرت عملية سيطرة السلطان خريبط على المنطقة والمعارك التي دارت بينه وبين أعدائه من أجل إحكام السيطرة على موران وما جاورها من مناطق ورسم الحدود بالاتفاق مع بريطانيا، يظهر دور بريطانيا واضحا في إصدار الأوامر ودعم الأطراف المتنازعة ماديا ولوجستيا من خلال القناصل والمبعوثين والمستشارين ما بين الطرفين وهذا دأب الغرب وسياستهم في إخضاع الشرق لهم و لسيادتهم، دور بربطانيا بدا جليا من خلال موفدهم إلى موران "هاملتون" هذه الشخصية والتي لا يخفى على القارئ أن المقصود بها هو المستشار البريطاني الذي ينفذ أوامر بريطانيا  من خلال إبداء الآراء وعرض الأفكار والتقرب من أصحاب الشأن  في شبه الجزيرة العربية كصديق، في فترة بداية العقود الأولى من القرن العشرين وهو زمن أحداث الرواية كما ينوه منيف في أول كلمات هذا الجزء، ودور هاملتون في إعطاء الأوامر وكونه وسيط بين موران وبريطانيا وكذلك ما قام به من عملية تدريب كاملة من كافة النواحي للأمير الذي سيكون له شأن فيما بعد لحكومة موران

*يجب أن يكون ترتيب هذا الجزء هو الثاني من أجل فهم وقوع الأحداث وترتيب زمنيتها بصورة صحيحة هو أن يكون والإخدود هو الثالث، لكن يبدو من المحتمل أنَّ كتابة هذا الجزء لم يكن مُخططًا له قبل كتابة الإخدود أو هي  حركة أراد منيف من خلالها إضافة الإثارة لروايته







مدن الملح: المُنبت

يتناول الجزء الرابع من الرواية حياة السلطان ومعاونيه وأسرته في المنفى وكيف دارت الأحداث في ألمانيا بعد أن تم الانقلاب عليه بعد سفره إليها، ركّز فيها بصورة واضحة على الحكيم وحياته بعد أن أُجبر على السفر خارج موران وكيف تدهورت مكانته بعد أن كان مستشار السلطان وصاحب سره، الأحداث بصورة إجمالية كانت خفيفة بدون أي إثارة على عكس الأجزاء البقية، وبرأيي هذا الجزء هو الأقل أهمية في هذه السلسلة، بقاء الأمل لدى خزعل بعودته إلى موطنه وانتقامه ممن كان السبب في الانقلاب وعزلهُ من السلطة وتذكره كيف كانت تجري الأمور في ظل سلطته وحكمه كانا هما الروح التي ظلّت تدفعه إلى الصبر والانتظار وتداعب خيالاته.


مدن الملح: بادية الظُلمات 

خاتمة الملحمة الروائية العظيمة لتاريخ منطقة الجزيرة العربية وكيف تم قيام الدولة التي ما زالت إلى الآن تحكم الأرض القسم الأول من الجزء الأخير وفيه يتمُّ العودة إلى لاستكمال وتوضيح بداية قيام سلطنة موران في عهد خريبط مكملًا ما ترك لها من أحداث غير مُكتملة في الجزء الثاني "الإخدود" بذات الإسلوب المميز في لسرد لكل أجزاء الرواية، أما القسم الآخر فهو يمثل المرحلة الأخيرة من تاريخ السلطنة المسرود، ولم تختلف سياسة السلطان الأخير عن سابقيه وما رافقه من دكتاتورية الحكم وتعسف السلطة في حق أبناء موران. ولتنتهي حقبة في تاريخ موران سادلةً الستار على أسرار السلطة الحاكمة والتي لا يخفى على القارئ مدى حقيقة المعلومات المذكورة بالرغم من تداخل النَفَس الروائي كحال بقية الأجزاء.


الرواية بجميع أجزائها بعيدة عن التحليل النفسي والغوص بأعماق التصرفات البشرية كعادة بعض الروايات، خفيفة، سلسلة وتُعلّم القارئ ثقافة البادية وأهلها، الرواية غنية بالأمثال والأشعار، فثراءها لا يقتصر على قيمة ما سُرد فيها فهي ديوان للشعر وكتاب أمثال وحكايا وقصص.
كان لسان حال منيف هو لسان الجميع والمجتمع الذي عانى من ويلات السلطة، وهي وثيقة تُعرّي كل من صعد لسدة الحكم والملوكية، وهذا ما بدى واضحًا في حياة منيف وما تخللها من أحداث مُثيرة للجدل تبيّن أن ما ذكر وكتب لم يكن مُجرد رواية

هذه الرواية هي أعظم الأعمال الأدبية العربية في القرن العشرين، ولربما هي نبوءة منيف؛ بأن مدنكم هي ملحية ومصيرها الذوبان والاندثار، وبقيت روايته هذه ممنوعة في السعودية حتى وقت قصير، والجدير بالذكر أن مواقفه المعارضة لأنظمة دول الخليج وسياستها النفطية، وقد تم سحب الجنسية السعودية منه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق