كتاب النظرات والعبرات.
لقيت هذا الكتاب عن طريق الصدفة، ولمحتواه الأدبي الذي يساعد كل كاتب على الكتابة كما قرأت، جعلني أضعه في القائمة بسرعة، مُزيحًا من طريقه كُتبا أخرى، شرعت في قراءته، حتى جذبني الأسلوب الشائق والممتع، القوي والرصين، لهذا الأديب اللبيب، والفصيح.
الكتاب مجموعة كبيرة من القطع النثرية والقصص والروايات القصيرة، والمواعض، والرسائل، مليئةٌ بالحكم، والنصح، في كافة المجالات الدينية والسياسية والاجتماعية والثقافية والتاريخية، حتى يكاد يُغطي كل مجالات الحياة.
يتميزُ هذا الكتاب بجمال العبارة وقوة المفردات، وروعة الصياغة والبيان ما بين سجعٍ وتصريع، غزيرٌ بالمفردات العربية، فهو أقرب لأن يكون معجمًا عربيًا، وإن دلّ على شيء فهو يدل على فصاحة وقوة هذا الكاتب الفذ المنفلوطي.
الكتاب يعالج قضايا اجتماعية تخص المجتمع المصري، فهو أشبه ما يكون صوت للبؤساء والمحرومين واليائسين والضعفاء، ومن تعاونت عليهم نوائب الدهر وأقداره ورمتهم إلى هوة العوز والفاقة، وشظف العيش، فأجاد المنفلوطي في تصوير معاناة الضعفاء والمظلومين.
ويكتب بقلمٍ يسيل حبره حتى يفيض بالكلمات التي تفيض إحساسًا ورقة تُذيب الصخر لعذوبتها وهو يتناول قضايا الفقراء والمعتازين.
الكتاب يحوي الكثير من القصص في القضاء والدين والعائلة وشؤون النساء، فيجذب بأسلوبه التعاطف، من أجل إصلاح حال الفرد وصلاح أُسرته ومجتمعه. فتارة يخاطب القاضي وتارة يخاطب المعلم، وتارة يخاطب الشاعر وأخرى الصحفي، وهكذا يدور بدورته على جميع من لهم تأثيرٌ وسلطة في هذه الحياة.
ويهتم بالتاريخ العربي بأدبه وحضارته وفنونه، فيعيب على الذين ضيعوا تاريخهم وتشبثوا بتاريخ الغرب، جاهلين الإرث الكبير الذي وجب عليهم حمله وإعادته إلى دائرة المجد والعُلى.
المنفلوطي ذو حس مرهف ورأي سديد ونظرة ثاقبة، فهو لا يكاد تغفلُ عنه شاردة ولا تخدعه حادثة ولا تعجبه زخارف كاذبة، وهذا ما يبدو جليًا لكل قارئ تمخر سفينته في بحر النظرات والعبرات، فتنُير له آراء المنفلوطي دُجى البحر اللجي، ويُوصله لبر الأمان مع فكرة واضحة المغزى، ووصف بديع الأركان، وأسلوب أخّاذ.
للمنفلوطي أدبٌ رفيع وثقافة غزيرة، لملمّ من تحت أقبية الزمن حاضرها وماضيها، شرقيها وغربيها، عربيها وأعجميها، لتقف أمام كاتب قلّ نُظراءه، فهو شاعرٌ وكاتب، أديبٌ ومُعلم، وعلاقته بالشعر واضحة فهو يحفظ الكثير ويستهشد بأبيات الشعر في كل موضوع وحادثة، مُضيفًا بريقا ولمعانًا خاصًا لكل راويةٍ تُروى، وحادثة تُحكى، وحبه للشاعر الكبير المعري واضحة، فكتب موجزًا لرواية المعري رسالة الغفران، وقصة أخرى عن عودة المعري للحياة.
الكتاب بأفكاره وثرائه اللغوي، هو مستودع لكل باحث عن اللغة ومفرداتها، ولكل كاتب ضنّ عليه فكره بأفكار وأساليب تفتح له المغاليق في ذاته، وتُرشده نحو الطيب من الصياغة وتبعده عن الرديء والسيء من العبارة، فكل من ضاقت عليه المفردات وعجزت أمامه العبارات ليقرأ للمنفلوطي.
ولا يبخل على القارئ، فيجيب التساؤلات عن طقوسه في الكتابة، وما يعينه عليها، فيحمل مشعل يُضيء به الأركان المظلمة عن حياته الأدبية، فيوضح الكثير، مستعينا بخبرته وضاربًا الأمثال عن تقنياته وما يعينه على الحرف والكلمة.
ينتهي هذا الكتاب الضخم بمجموعة روايات قصيرة، متمسكًا فيهن بأسلوبه الجزل الرصين، وأفكاره السامية العميقة، معالجًا فيها عدة مواضيع كظلم الأمراء، وسوء تدبير الأمور، والتأثير السيء لمن اختلط بعالم الفجور، ومحاربًا الافكار التي تدعو المرأة للقيام بأمور يصعب على الرجال القيام بها أو حماية أنفسهم منها، وكثيرًا ما تناول المرأة بكتاباته ليكون درعًا لها ضد كل ما يسلبها حقها أو يُضيّعها في بحر الحداثة المزعومة.