مذكرات عوليس
١ أكتوبر.
عوليس الرواية التي فصلت تاريخ الرواية إلى جزئين ما قبل عوليس وما بعد عوليس كما يصفها مترجمها للعربية د. طه محمود طه، للكاتب الإيرلندي جيمس جويس، تحتوي على أكثر من ربع مليون كلمة، احتاج د. طه، لعشرين عاما من العمل لكي يكمل ترجمتها على أتمِّ وجه، الرواية التي تحتوي على كل شيء، يخص إيرلندا وتتناول كل المواضيع، تحتوي على أسماء الشوارع وأرقامها، وطرق سكك الترام، وأسماء الكنائس، والطرق، والموانئ، والولادات والوفيات، ومكاتب البريد وطوابع البريد، وحفلات الزواج، وحالات الطلاق، تتناول مواضيع الشرف والعهر، والحمامات العمومية، والأسواق والمكتبات والمطابع، وتأبين الموتى، وتشيعهم إلى مثواهم الأخير، حتى قالوا فيها ظلم جويس، من جاء بعده من الرواة، لأنه لم يترك شيئًا إلا وذكره في روايته.
- الكتب الجيدة كما السيئة تفوح رائحتها من بعيد.
٢ أكتوبر.
بدايتي مع هذه الرواية، أكثر من ٧٥٠ صفحة، بصفحات ذات قطعٍ طويل، من أول وهلة قدّرت أني سأستغرق ساعة كاملة لقراءة ٣٠ صفحة، بعد شروعي بالقراءة بدا الأمر أكثر صعوبة، الرواية ذات لغة صعبة، وقوية، وأسلوب يجعلك تضيع فيه، بكل سهولة ولا تجد نفسك إلا وقد مرت عليك بعض الحوارات التي لا تعرف كيف بدأت ووصلت لهذه النقطة، مع جهد ذهني كبير أنهيت قراءة عُشرها، بقراءات تكونت من عدة جلسات.
- مستر ديزي، يَسألُ ستيفَ، إيرلندا لها الفخر بأنها لم تضطهد اليهود، ألا تعرف ذلك؟ كلا. وهل تدري لماذا؟
لماذا يا سيدي؟ سأله ستيف وقد بدأ يبتسم.
- لأنها لم تسمح لهم بدخولها أبدًا. قال مستر ديزي بافتخار.
(عوليس)
٣ أكتوبر.
ما زلتُ بذاتِ الرغبة والاستمرارية في القراءة، الوقت يمضي، ويتضح لي أن تقديري لعدد الصفحات المقروءة في الساعة الواحدة أقل من ٣٠ صفحة، توقف العداد عند ٢٠ صفحة في الساعة، لا أهتم كثيرًا بهذا الأمر، الأهم بالنسبة لي هو تنظيم وقت القراءة، وحساب عدد الساعات التي أقرأها في اليوم الواحد، مع عوليس قررت أن تكون عدد الساعات هو ثلاث ساعات في اليوم.
الرواية فيها الكثير من القصائد الشعرية والأغاني الشعبية، فهي سجل وديوان للشعراء وأغاني إيرلندا، وهذا ما وجدته في روايات مدن الملح، ففيها الكثير من الأبيات الشعرية والأغاني الشعبية.
جويس يعرف عدة لغات، هذا ما أعطاه القدرة على تضمين جمل من لغاتٍ أخرى، في روايته، صادفتني الكثير من الجمل أثناء الحديث بين الشخصيات باللهجة العامية، استنكرتُ هذا بادئ القراءة، لكن الأمر يبدو وكأن جويس قد ضمن الحوارات ببعض الردود بلكنات إنجليزية مختلفة، ترجمتها د. طه إلى اللهجة المصرية ليُبقي الرواية في نفس النظام والنسق اللغوي الذي كُتبت فيه، فيقول إنه كتب معجمًا خاصًا بمفردات جويس.
- وما هو الجُبنُ إذن؟ هو جثة اللبن.
(عوليس)
٤ أكتوبر.
هذه الرواية تعتمد بصورة كبيرة في حواراتها وسردها على علامات الترقيم، بفوازرها ونقاطها، حتى تكاد الفارزة تؤثر على سير الحوار، وفهمه، أبطال الرواية يناقشون شكسبير وأعماله، ويبدو تأثر جويس واضحا بهامليت، والملك لير، مسرحيتي شكسبير.
إنطباعي ما زال إيجابيا هذه الرواية، تأخذ الكثير وتعطي القليل، غريبة، سحرية، وأنانية.
- فتى مسكين! لا يزال صبيا. شيء مؤسف. مؤسف فعلا. أي أحلام ترادوه، وهو لا يرى، فما الحياة إلا حلما له. وأين هي العدالة إذا ولد هكذا؟
(عوليس)
٥ أكتوبر.
الأحداث والحوارات في مواضيع شتى، ما أن تُمسك بخيط إحداها حتى تجد نفسك في حضرة موضوع آخر، بعض الأحيان أفقد الصلة بيني وبين الحوار ومجرياته، الدين والرياضة والفن، والمسرح، والحفلات الغنائية، والسياسة، والمعاملات التجارية، غنية إلى حد الترف والإسراف، فهي تصف حال مدينة كاملة، أحيانا نجد صعوبة في تتبع حياة شخصية روائية واحدة، فكيف ببتبع شخصيات كثيرة في شمال المدينة وشرقها، جنوبها وغربها، تعيش مع الكل ومطالب أن تستوعب الكل. الرحلة نحو النهاية ما زالت غامضة، تبدو كل كلمة متشبثة بالورقة، داخل صندوق جويس السحري، ولا تكشف كل أسرارها، لا يحق لك المكوث طويلًا، فهناك المزيد ينتظرك في الصفحة التالية.
- أمريكا، قلت له بهدوء، هكذا، وما هي أمريكا؟ كناسة كل البلاد بما فيها إيرلندا.
أليس هذا صحيحا؟ إنها الحقيقة.
(عوليس)
٦ أكتوبر.
تناقش القضية الكثير من الأمور السياسية، وحكم بريطانيا على إيرلندا، والأوضاع السيئة لهذه السلطة، فهي اعتراض واضح لهذا الوضع الذي يزداد سوءًا بمرور الوقت، الظروف السيئة للفلاحين، التي جعلت الإيرلنديين يهاجرون. والعلاقة التي تربط الإنسان بأرضه تبقى وثيقة وغريبة رغم كل ما يشوبها من مساوئ.
- ومن وصل منهم لأرض الأحرار تذكر أرض العبودية.
(عوليس)
٧ أكتوبر.
يستمر جويس في تنوع المواضيع التي يسردها في روايته، الحب والإعجاب، وتلك الحالة التي يعيشها المرء ذكرا كان أو أنثى، في عالم التطلعات والخيالات والتوقعات، والتحليل لما يود الآخر أو ماذا سيقوم به لأجل أن يلفت انتباه الآخر، فيوظف كل طاقاته وموهبته في صياغة الحدث ووصفه بإسلوب قل نظيره في بقية الروايات، اللافتُ للنظر في هذه الرواية، أني أجد صعوبة في تخيّل المحيط الذي يلف الشخصيات والعالم الذي تدور فيه الأحداث، هذه الرواية بخيلة جدًا فهي تمنعك من أن تأخذ مطلق حريتك في التصور، وتجسيد الأماكن وحتى شكل الشخصيات، تُصارع مُخيلتك، وتهزمها بسهولة.
- كل إنسان مولود المرأة.
(عوليس)
٨ أكتوبر.
هي رواية مختلفة ليست كغيرها، تُجبرك على إعادة النظر، في كل ما قرأته يومًا، لتعيد ترتيب نفسك وفكرك وأسلوبك حين تقرأ أي كتاب، تشعر أن النص المروي مشوه إلى حد الكمال، فما يكتمل إلا لينتقص، وما ينتقص إلا ليكتمل، كأنه دالة موجية.
لا يهتم جويس في روايته هذه بذكر تفاصيل المكان، ولا التركيز على ما يوجد في الغرفة أو المكان الذي يجري فيه الحدث المروي، على العكس تماما على سبيل المثال روايات ماركيز وأسلوب ماركيز في الاهتمام بالتفاصيل الدقيقة في المكان ووصفه بدقة متناهية كأنه لوحة مكتوبة. إن التنوع في اللغة واستخدام اللهجة العامية واللغات المختلفة تعطي نمطية مختلفة للرواية تدل على مدى أهمية اللغة وفروعها من اللهجات المختلفة في إحداث آثر مهم وإيقاع خاص في نفس السامع، لأن المخاطب الأول في الحوارات هم الشخصيات التي تتبادل أطراف الحديث وبذلك يكون القارئ شاهد أو مستمع ثانوي أو حتى شخصية تُضاف من خارج الرواية، يجب عليه أن يدرك أهمية تضمين لغات مختلفة أو استخدام لغة دارجة على سير الحدث وردود فعل شخوصه.
- كنت أعرف أنك من أصل طيب من لهجتك في الكلام.
(عوليس)
٩ أكتوبر.
أسلوب مسرحي، حوارات ذات ردود قصيرة، الجميع يناقش ويتحدث ويصرخ ويحلل ويتذكر كأنهم جوقة موسيقية، كل يعرف دوره، يقوم جويس، بصناعة تحفة فنية بأسلوبه وتعدد الأصوات في الآن الواحد، انتقال سريع ما بين رد شخصية وأخرى، الجمادات تتحدث، الخيالات، الذاكرة، الذنوب، فانتازيا، حوريات، نباتات، كل شيء ينطق، يندمج سوية، من أجل لوحة أدبية بديعة.
- لست أهلا لتلمس ثوب امرأة شريفة (تلم رداءها حولها) انتظر أيها الشيطان. لن تشدو بأغاني الحب بعد الآن. آمين. آمين. آمين. آمين.
(عوليس)
١٠ أكتوبر.
لم يعمل جويس على بناء علاقة قوية مع القارئ، بل ترك الباب مفتوحًا أمامه، فإما أن يحب القارئ الرواية، ويُنشئ صلة مع الأحداث والشخصيات، وإما يبقى متخبطا في بحر لُجّي. وهي ثقة بأن ما يكتب لن يتكرر، وعليك أيها القارئ أن تبذل كل جهدك الفكري والذهني من أجل هذه الرواية وليس العكس.
أدب البحر يأخذ حيزه أيضا بين صفحات الرواية، وعلاقة أهل دبلن بالبحر والإبحار، فلم تفت جويس، أن يستغل موقع مدينته الجغرافي، في روايته.
- في هذا البلد يبيع الناس الجسد ولكن ليس لديهم القوة لشراء الروح.
١١ أكتوبر.
على مشارف النهاية، وما زال جويس مصرًا على أن يُفاجئ قُراءه، بأسلوبٍ جديدٍ، حيث يسرد ما يدور بين ستيفن وبلوم، بطريقة تساؤل أو سؤال ويجيب عليه، مراعيا الجوانب النفسية والتحليلة والفكرية، والماضي، والحاضر وتطلعات المستقبل، والمكان والهيئة وحالة المكان.
تمتاز هذه الرواية بتنوع أساليب السرد، فهو لا يعتمد أسلوبا واحدًا، فتراه يُنوع الأساليب بطريقة تتلائم مع الحدث أو الحوار، وهذا قلّما نراه عند الروائيين الآخرين.
- أي مشكلة عائلية كانت تشغل باله كثيرًا، إن لم يكن أكثر، من أي مشكلة أخرى؟
كيف نشغل وقت زوجاتنا.
١٢ أكتوبر.
اليوم كان هو اليوم الختامي، مع رواية عوليس، وكما هي عادته في الرواية بتنوع أساليب السرد، ينتهي الفصل الأخير بسرد حديث واحد متكامل، يتناول مواضيع متعددة، قطعة واحدة لا تُجزئها فواصل، أو علامات الترقيم، حتى الحوار جزءٌ من السرد.
- الرواية بحد ذاتها كاملة بتنوعها، فهي ليست قصة إنسان، أو نمط حياة معين، بل هي قصة مدينة دبلن ومن سكن دبلن، تضم جميع مكونات المجتمع، وكافة مجالات الحياة، والزمان بحاضره وماضيه، ومستقبله، لا تدور حول موضوع واحد، بل تدور كل المواضيع فيها وحولها، حتى يكاد القارئ يشعر أنه، في حلقات متعددة ومتاهات لا يعرف كيف يخرج من إحداها حتى يدخل في الأخرى، عوليس، أكثر من مجرد رواية، فقيمتها تتعدى حدود الأدب، لتصبح وثيقة دُوّن فيها كل شيء، فتكاملها بشموليتها، وقوتها بكثرة تفرعاتها، فريق كامل، يؤازر بعضه بعضا، عوليس لن تتكرر، هذا العمل الأدبي الإبداعي أقل ما يُوصف بأنه ظاهرة روائية لا تجد لها مثيلًا، فبعد قرن من الزمن على كتابتها، أتى جويس بما لم يأت ِ به أحد قبله ولا بعده، وما زالت روايته صامدة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق