الأربعاء، 30 أغسطس 2017

كتاب النظرات والعبرات - مصطفى لطفي المنفلوطي.

كتاب النظرات والعبرات.

لقيت هذا الكتاب عن طريق الصدفة، ولمحتواه الأدبي الذي يساعد كل كاتب على الكتابة كما قرأت، جعلني أضعه في القائمة بسرعة، مُزيحًا من طريقه كُتبا أخرى، شرعت في قراءته، حتى جذبني الأسلوب الشائق والممتع، القوي والرصين، لهذا الأديب اللبيب، والفصيح
الكتاب مجموعة كبيرة من القطع النثرية والقصص والروايات القصيرة، والمواعض، والرسائل، مليئةٌ بالحكم، والنصح، في كافة المجالات الدينية والسياسية والاجتماعية والثقافية والتاريخية، حتى يكاد يُغطي كل مجالات الحياة.

يتميزُ هذا الكتاب بجمال العبارة وقوة المفردات، وروعة الصياغة والبيان ما بين سجعٍ وتصريع، غزيرٌ بالمفردات العربية، فهو أقرب لأن يكون معجمًا عربيًا، وإن دلّ على شيء فهو يدل على  فصاحة وقوة هذا الكاتب الفذ المنفلوطي.

الكتاب يعالج قضايا اجتماعية تخص المجتمع المصري، فهو أشبه ما يكون صوت للبؤساء والمحرومين واليائسين والضعفاء، ومن تعاونت عليهم نوائب الدهر وأقداره ورمتهم إلى هوة العوز والفاقة، وشظف العيش، فأجاد المنفلوطي في تصوير معاناة الضعفاء والمظلومين.
ويكتب بقلمٍ يسيل حبره حتى يفيض بالكلمات التي تفيض إحساسًا ورقة تُذيب الصخر لعذوبتها وهو يتناول قضايا الفقراء والمعتازين

الكتاب يحوي الكثير من القصص في القضاء والدين والعائلة وشؤون النساء، فيجذب بأسلوبه التعاطف، من أجل إصلاح حال الفرد وصلاح أُسرته ومجتمعه. فتارة يخاطب القاضي وتارة يخاطب المعلم، وتارة يخاطب الشاعر وأخرى الصحفي، وهكذا يدور بدورته على جميع من لهم تأثيرٌ وسلطة في هذه الحياة.

ويهتم بالتاريخ العربي بأدبه وحضارته وفنونه، فيعيب على الذين ضيعوا  تاريخهم وتشبثوا بتاريخ الغرب، جاهلين الإرث الكبير الذي وجب عليهم حمله وإعادته إلى دائرة المجد والعُلى

المنفلوطي ذو حس مرهف ورأي سديد ونظرة ثاقبة، فهو لا يكاد تغفلُ عنه شاردة ولا تخدعه حادثة ولا تعجبه زخارف كاذبة، وهذا ما يبدو جليًا لكل قارئ تمخر سفينته في بحر النظرات والعبرات، فتنُير له آراء المنفلوطي دُجى البحر اللجي، ويُوصله لبر الأمان مع فكرة واضحة المغزى، ووصف بديع الأركان، وأسلوب أخّاذ


للمنفلوطي أدبٌ رفيع وثقافة غزيرة، لملمّ من تحت أقبية الزمن حاضرها وماضيها، شرقيها وغربيها، عربيها وأعجميها، لتقف أمام كاتب قلّ نُظراءه، فهو شاعرٌ وكاتب، أديبٌ ومُعلم، وعلاقته بالشعر واضحة فهو يحفظ الكثير ويستهشد بأبيات الشعر في كل موضوع وحادثة، مُضيفًا بريقا ولمعانًا خاصًا لكل راويةٍ تُروى، وحادثة تُحكى، وحبه للشاعر الكبير المعري واضحة، فكتب موجزًا لرواية المعري رسالة الغفران، وقصة أخرى عن عودة المعري للحياة

الكتاب بأفكاره وثرائه اللغوي، هو مستودع لكل باحث عن اللغة ومفرداتها، ولكل كاتب ضنّ عليه فكره بأفكار وأساليب تفتح له المغاليق في ذاته، وتُرشده نحو الطيب من الصياغة وتبعده عن الرديء والسيء من العبارة، فكل من ضاقت عليه المفردات وعجزت أمامه العبارات ليقرأ للمنفلوطي.

ولا يبخل على القارئ، فيجيب التساؤلات عن طقوسه في الكتابة، وما يعينه عليها، فيحمل مشعل يُضيء به الأركان المظلمة عن حياته الأدبية، فيوضح الكثير، مستعينا بخبرته وضاربًا الأمثال عن تقنياته وما يعينه على الحرف والكلمة.

ينتهي هذا الكتاب الضخم بمجموعة روايات قصيرة، متمسكًا فيهن بأسلوبه الجزل الرصين، وأفكاره السامية العميقة، معالجًا فيها عدة مواضيع كظلم الأمراء، وسوء تدبير الأمور، والتأثير السيء لمن اختلط بعالم الفجور، ومحاربًا الافكار التي تدعو المرأة للقيام بأمور يصعب على الرجال القيام بها أو حماية أنفسهم منها، وكثيرًا ما تناول المرأة بكتاباته ليكون درعًا لها ضد كل ما يسلبها حقها أو يُضيّعها في بحر الحداثة المزعومة.

الجمعة، 25 أغسطس 2017

نصائح في الكتاب للمنفلوطي - تقديمي وشرحي



يكتب المنفلوطي في مقدمة كتاب النظرات والعبرات، عن الكتابة وعن طقوسه فيها، وكيف يتكب ولمَ يكتب، وكيف يجعل الكلمة طيعة بين يديه يُدب الحياة فيها، ويجعلها طيرًا يرسلها إلى حيث يشاء، فتقع في سمع القارئ، كوقع المطر على الأرض اليباب، ويكون لها الأثر الطيب، كأثر البلسم إذا داوى الجراح.
وفي سياق مقدمته يُقسم الحديث إلى ثلاثة أقسام، لعل من يقرأ ويكتب يتعض بهذا التقسيم وينال من فائدة معرفته وخبرته في عالم الكتاب.
أقسام الحديث:
وهي ذاتها أقسام الكتابة التي يتوجب على كاتب النثر أو الشعر الانتفاع منها.


١- حديث اللسان: فهو ما كانت كلماته مُزخرفةٌ، ومصبوبة في قالب الحروف بلا روح أو إحساس أو تأثير، فتضيع المعاني في جمود الكلمة، ويتوقف جريان الدم الأزرق في عروق الحروف، فتولد ميتة.


٢- حديث العقل: فهو ما يتنافس عليه الكاتب فيصيغه بكل بلاغة وإتقان، ما يكتبه إلا لينافس النحّات في عمله،ليصنع تمثالًا من الرخام ثم يحاول إقناعك أنه إنسان مثلك وهيهات هيهات لذلك، حتى تبدو لك غريبة عنك ويكتبها ليطرفك أو تُعجبك أو يبرز بها ذكائه، ويقول الشاعر 

لـــم يتخــــذ ولـــــدًا إلا مبـــالغــة  
في صدق توحيد من لم يتخذ ولدا


٣- حديث القلب: وهو ما يلامس قلبك، حتى تشعر أنه يكتبك، أو جالسٌ بقربك يصف ما تمر به، بدون تكلّف ولا سذاجة، ولا إيجاز لا يُفهم معناه ولا إطناب يضيع جمال المعنى في كثرة الوصف، والإسراف في الحديث.


ثم يذكر أمورًا تعينه حين يكتب ، وهذه أمور يتوجب على الكاتب الانتباه لها والعمل بها.



١-عدم التكلف فكان يحدث الناس بقلمه كما يحدثهم بلسانه.

٢- لا يحمل نفسه ع الكتابة حملا.
قد يعاني بعض من يكتب من عدم تجدد الأفكار وفقدان الرغبة في الكتابة، فحين تُصيبك هذه المحنة فلا تُجبر نفسك على الكتابة واصطبر عليها، فثمرة الانتظار؛ جميلُ أفكار.

٣- لا حقيقة بلا خيال ولا خيال بلا حقيقة.
وهذا ما يقصد به أن ما كنت تكتبه لا بدَّ أن يكون مرتبطًا بواقعٍ يمدهُ ويعينه ويقويه، وحين يكون الخيال مستمدًا من واقعٍ فإن سيكون طيعًا بيديك تُصيّره بيديك وترسمه بحروفك كيفما تريد وتشاء.

٤- لا أكتب لأجل نيل إعجاب الناس واستحسانهم وإنما لأجد أثر ما أكتب في نفوسهم.

وهذه التفاتة عظيمة وخاصة في عصر السوشيال ميديا، حيث كثرت المنصات، واختلط الخبيث بالطيب، والجيد بالرديء، فلا تبحث عن عدد إعجابات بالمئات، ولا تعليقات مملؤة بالنفاق والرياء، فغاية الكاتب أن يُعبر عن نفسه، وأن يمارس موهبته، أو هوايته، وحين يشارك الآخرين، فلا يجب أن ينتظر مدحًا أو قدحًا، بل أن يقيس نجاحه على مدى تأثير ما يكتب على القارئ، فهذا هو النجاح الحقيقي، وهذه هي مهمة الكاتب، أن يغير الواقع.