الجمعة، 22 سبتمبر 2017

آلام فيرتير- غوته.



رواية مكونة من مجموعة من الخطابات يوجهها فيرتير لصديقه، يحدثه فيها عن حياته الجديدة، ثم وقوعه في حب شارلوت، لتبدأ بعدها معاناته العميقة وشديدة الألم، حيث تلامس روحه الشقية وتعذبها حتى تسلبها اليقين من جدوى الحياة

فيرتير الرجل المرهف الإحساس يقع في حب امرأة مخطوبة لغيره، لم ينصت للتحذير فكانت العاقبة وخيمة، عذابات مستمرة وإني أشاركه هذه الآلام وأحس بما يحسه ويبقى السؤال كيف يُمكن للإنسان أن يرتكب خطأ ً يعرف سوء مآله


إن النفس حين تقع في الغرام، يصيبها العمى ويخالطها الجنون، لم يكن فيرتير واعيًا بمصيره فقط، بل ومتأكدًا تماما أنه يخطو بخطوات ثابتة نحو حتفه. إن القلب حين ينبض بالحب يتسلطُ على العقل ويحيده عن منصبه، ليقوم بعملٍ ليس أهلًا له، في ظلام الطريق المؤدي إلى اللقاء، والاجتماع مع الحبيب، يصبح العالم كله مُشرقًا وربيعًا يُزهر، حينها لا يُمكن لك أن تكذّبَ وهمًا أنت بحاجة إليه، وهنا يقول فيرتير "إننا أسعدُ حالًا ونحن واقعون تحت تأثير الأوهام البريئة الساذجة"،  فكيف يمكن للعاشق أن يسلم زمام أمره للوهم؟ من أجل فرحة يظنها ستدوم إلى الأبد بما تُعطيه من أحساس الخلود المؤقت، هذا الوهم أكبر قاتلٌ للإنسان، ومحطمٌ لآماله.


يواجه فيرتير عذاب الغيرة من الزوج، الذي أحسن إليه، ورحب به، صديقا عزيزا، فتشبُّ نار الغيرة في صدره، وتضطرم حين يجد من يحب في حوزة آخر، فهل يحق له أن يغار؟ إن هذا السؤال فيه من الإشكاليات والتداخل بين حالاته المختلفة ما يُثير الأشجان، ويُمرض الأبدان، في اللحظة التي يمتلك قلبك الحب لامرأة، يصبح من الصعب أن تميز ما لك وما ليس لك، عدم عودة ملكية من نحب لنا هو أكبر دافع للجنون، ولنا في مجنون ليلى العبر والعظات. حين تفقد من تحب قبل أن تملكه، أو بعد أن تملكه تدخل في دوامة الشك من جدوى كل شيء حولك.


فيرتير يبثُ أحزانه في خطاباته لصديقه، شارحًا له عدم قدرته على التحمل أكثر فيقرر تغير المكان، وكيف للمكان أن يغير مسار تدفق الدم من قلب الإنسان إلى قلب من يحب، كل ما ستفعله المسافات هي أن تزيد من شدة حريق الحب الذي يلتهم النفس والروح وطأة. وبالتأكيد الفشل سيكون حليفه، حين يغفل ويتناسى عن تحرير روحه المتعبة من قيد الرغبة، وهل يملك من الحول والقدرة على التحرر، في هذه الحالة، حيث يوضع على حجر المعاناة والاختبار، إن البعد أكبر معذب للإنسان وكاشف حقيقة قدرته، المسافة والقلوب دائما ما تكون علاقتها عكسية، إننا نحب من بعيد حين نرسم من نحبهم على الهيئة التي نريد، نزيل كل العيوب، ونُكملهم بالمحسنات، فكيف بمن ذاقت نفسه حلاوة جمال محبوبه حين يصيغه القدر على أكمل شكل، ويسوق الحب روحنا المولعة إلى من نحب، ستصبح المسافة التي تبعدنا عذاباتٍ متجددة وآلام مُستحدثة مُستجدّة، فيرتير ذو القلب المرهف والمشاعر المعذبة أن يُطيل بعده ليعود من أجل أن يُكمل ما بدأه.


يحاول التقرب لشارلوت ويتذوق ولو الشيء القليل منها، الفاكهة المحرمة، أن تفقد القدرة أن تحصل على ما هو أمامك وما تؤمن أنه لك، لكن تحول بينكما الأقدار، شارلوت تشاركه مشاعر حب لا تفصح عنها، حبٌ يشعر به فيرتير عن طريق العيون المعذبة، الباثة لأشجان من يرى أن غيره يتعذب بسببه ولا يملك من القدرة أن يفعل شيئًا، وهذا من أسوأ ما يصيب المرء أن لا يملك القدرة على إنقاذ من يحبهم، يراهم أمامه تهزهم ريح الشتاء الباردة، لتعصف بوجدانهم السقيم، ويراهم يتساقطون كأوراق الخريف في وسط العاصفة، يُنثرون فوق الطرقات بلا أي وسيلة للدفاع عن أنفسهم أمام الحب حين يصبح وحشًا كاسرًا.


تنحدر حالة فيرتير حتى يبدأ الخلاص ينفذ إلى قراراته، فقدان الحبيب، واستمرار الآلم الذي يقطع نياط القلب ويجعل المرء يركن إلى العدم ليريح نفسه من عذابات الضمير، فقرار الموت بالنسبة لفيرتير يحتاج إلى شجاعة، وأنه يتعلق بعدم قدرة الإنسان على الصبر بعد، حين يفقد كل مقاومته أمام الأوجاع ويقع في فخ التعاسة بسبب خسارات الحياة، ويبلغ بعذاباته دركات الجحيم، وقتها يصبح الموت أنجع الحلول وأفضلها لحالته المزرية وليوقف عذابات شارلوت، محبوبته الشقية.


فهل خيار الموت مرتبط بالخسارة على حدٍ سواء في الحب أو الحياة، يبقى الانتحار وإنهاء المرء لحياته فاقدًا لأجوبة دقيقة كونه مرتبطا بالموت، وكل الطُرق المؤدية إلى الموت لها اتجاهٌ واحد، وطريق الانتحار يعجز عن فهمه بشكل دقيق إلا من اختبره ومن اختبره لا يملك الفرصة ليخبرنا، حاول غوته سبر غور مشاعر فيرتير للموت

يكتب فيرتير رسائل ختامية لشارلوت، إننا نحن الثلاثة -شارلوت وفيرتير وألبرت زوجها- لا يُمكن أن نبقى معا في هذه الحياة، ويجب أن يختفي أحدنا وهذه معادلة العلاقة الخاطئة حين يتجاذب طرفيها ثلاثة أشخاص، خيار قتل ألبرت، قتل الزوج، يبدو خيارا منطقيا لعاشق فقد رشده السليم، وقد تقبل به من لم تتزوج عن رغبة وحب، لكن الحال مختلف مع شارلوت التي أحبت ألبرت، وشاركت فيرتير مشاعره، فيتخذ فيرتير نفسه، ليكون قربانا لهذا الحب، وينهي عذاباته، ويترك لشارلوت الحياة لتعيش ما تبقى منها براحة ودون أوجاع.


الموت إذًا، كان النهاية لحب مأساوي، لروح أنهكتها الأوجاع، ولم ينقذها البعد، ولا العزلة ولا التوحد مع الطبيعة في عملية البحث عن السلام الذاتي بين ينابيعها وغاباتها، مات فيرتير، لكن يبقى السؤال الأهم هل ما قام به فيرتير هو الصواب، يبدو أن هذا السؤال سيبقى محيرًا وأقرب للغز منه بمكان، ومن سيستطيع أن ينهي حياته من أجل الخلاص من عذابات الحب العقيم. الرواية مفعمة بالألم مثلما هي مفعمة بالحب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق