الأحد، 31 ديسمبر 2017

الرواية التاريخية، ثلاثية غرناطة كمثال

ثلاثية غرناطة - رضوى عاشور 

يكاد لا يختلف اثنان على أن الرواية التاريخية هي أصعب الروايات التي تتناولها أقلام الكُتّاب، فهي محفوفة بالمخاطر لا يتجرأ للكتابة فيها إلا القلة، تتجلى صعوبة الرواية التاريخية إن الكاتب مطالب أن يقرأ المادة التاريخية ويتشبع بها فيكون جزءًا من عالم آخر لم تكن له اليد الطولى فيه وهو عكس باقي المجالات التي رغم صعوبة العمل الروائي لكن تكون للراوي اليد العليا بخلق الأحداث والشخصيات والأفكار وأماكن وقوع الحدث وزمانه، كل هذه العوامل عدا الشخصيات يجد المغامر في كتابة الرواية التاريخية نفسه مجردا منها، فهو محاط بأحداث معينة وزمان ومكان معينين، فبدل أن يجعل شخصياته تلج لعالمه، يكون هو مطالبا بالدخول لروايته قبل شخصياته، حذرًا أشد الحذر من زلة قدم تودي به وبعمله إلى مسالك السؤال والفحص والنقد والكذب والتدليس
والآمر الآخر الذي يتوجب القيام به هو استنطاق كتب التاريخ، فعملية قراءة كتب تاريخ التي تؤلف مادته ليست كافية، فمهمته التالية هي كيف يُجلس التاريخ إلى طاولته ويبدأ سؤاله واستنطاقه وأخذ الجواب الصحيح من بين عدة أجوبة خاصة إذا كانت المرحلة تلك يلفها الغموض وتشوبها التضاربات وقلة الأخبار المؤرخين وندرة الشواهد، وهنا بالضبط تكمن مهمة الروائي حين يجمع خيوط كثيرة لتكتمل الصورة أمامه ليعيد تشكيلها بأسلوب أدبي روائي يوضح لنا ما التهمته الظلمة في بطون كتب التاريخ العملاقة، فيخرج الروائي بعباءة المؤرخ مرتديا تحتها قميص الروائي الذي يحاول جهد إمكانه إبقاءه بعيدًا عن بصيرة القُرّاء، فمهتمه ذات خلفية تاريخية بواجهة رواية أدبية.

قبل الشروع لقراءة رواية تاريخية يجب أن نرفع القبعة للكاتب التي ضحّى بالكثير لأجل أن يغامر ويسافر إلى الماضي ويغوص باحثًا عن الصحيح  ليُشبعَ النهم الذي يضطرم في نفوس الناس ويروي ظمأهم للحقيقة

كثيرٌ من المؤرخين يوردون مادتهم التاريخية بإسلوب يبعد كثيرا عن شاعرية الكتابة، التي قد يحتاجها القارئ أحيانا، ونعذر المؤرخين فهم لا ينقلون قصة أو حكاية بل تاريخا قد واجه بعضهم الصعوبة في ترصد الخبر ونقله، وواجه البعض ندرة الخبر كما في أحداث معركة بلاط الشهداء التي تجنب الكثير الخوض فيها وذكر تفاصيلها مكتفين بنقل هزيمة المسلمين وانكسارهم فيها، ويعلل البعض ربما كانت الواقعة مؤلمة جدا -ولا نشك في هذا- فحاولوا تجنبها وتجنب تذكر مرارة الهزيمة والألم الذي ألمَّ بهم بعدها فكتبوا عنها أخبارًا قليلة تكاد تعد على أصابع اليد، وكذلك يواجه المؤرخون والباحثون عن الحقيقة هذه الندرة وقلة الأخبار حول ما حدث لمسلمي غرناطة بعد سقوط مملكة غرناطة آخر ممالك المسلمين في الأندلس سنة ٨٩٧ هـ في القرن السادس عشر ميلادي على يدي الملكين فرناندو الخامس وإيزابيلا ، وما تعرضوا له من تنكيل وتعذيب وتضييق وتهجير وتقتيل واستعباد
رضوى عاشور -رحمها الله- رُزقت الشجاعة للكتابة عن تلك المرحلة المأساوية قليلة الأخبار، لا لتكتب كتاب تاريخ ولو تصفحنا كتب التاريخ عن الأندلس سنجد أن بعد سقوط الأندلس الكلام يقل جدًا عن أحوال المسلمين ذاكرين فقط نقض بنود اتفاقية الملكين والسياسة القمعية التي تعرض لها المسلمون، فيذكر الكاتب الإسباني آنخيل جونزالز فالنسيا إن الحضارة الإنسانية فقدت الكثير من الموروث العربي الإسلامي الأدبي والعلمي بعد أن تم حرق أغلب ما كتبوا وما تبقى لنا هو بعض الكتب العربية أو تلك المترجمة لللاتينية أو العبرية، رضوى لم تتراجع بل اتسمت بشجاعة فائقة لتكتب رواية

ثلاثية غرناطة.

هذه الثلاثية مكونة من ثلاث روايات، الأولى هي غرناطة ونشرت في عام 1994. والرواية حائزة على جائزة أفضل كتب في مجال الرواية لعام 1994 من معرض القاهرة الدولي للكتاب.

١- غرناطة

تدور أحداث الرواية حول السنين التي تلت سقوط مملكة غرناطة، وردة فعل أهالي غرناطة- حي البيازين بعد السقوط وحياتهم في ظل القشتاليين، لتنقل بصورة وكلمات حية حياتهم ومعاناتهم والتغيير الاجتماعي الذي طرأ عليهم سواء على مستوى الديني أو مستوى التعليم أو اللغة أو الملبس.

سعد ونعيم وحسن وسليمة ومريمة، الشخصيات الأكثر حضورًا في الرواية كل منهم يمثل جانبا من أهالي غرناطة فحسن صاحب الأسرة الذي يحاول أن يحمي أسرته من ظلم القشتاليين بشتى الطرق، وسعد يمثل الجانب الذي رفض الرضوخ للقتشاليين واختار حياة الجهاد والمقاومة، ونعيم يمثل جانب مختلفًا عنهما نوعا ما فكونه أعزبا لم يكن يعر للأسرة ذاك الشأن الذي من أجله قد يغير حياته خاصة بعد أن فقد الأمل بالزواج مع تقدم سنه فيعمل لدى قس مساعدًا وخادما له، سليمة تختار طريقًا أراده لها جدها بين الكتب رغم ما تحفه حيازة الكتب من  مخاطر، وتعمل كذلك في الصيدلة وتحضير بعض الأدوية التي تتعلمها من الكتب، أما مريم فهي تمثل دورة الزوجة التي تهتم بعائلتها وشؤون منزلها مع ما تتمتع به من رجاحة عقل وذكاء

الرواية ليست فقط موضحة وناقلة لفترة زمانية معينة، بل كذلك تبيّن للقارئ وتعرفه على عادات أهل غرناطة في أوقات أفراحهم (كالأعراس أو حين يُرزقون بذرية) وأتراحهم 
(كالمآتم)، والمطبخ العربي الغرناطي بأكلاته المتنوعة، والأسواق والطرق والحمامات، تنقل حياة غرناطة بكافة مجالاتها في الصفحات لتعطي القارئ ذلك البعد الثالث بجغرافية المكان وحضور الزمان وتجسّد التاريخ ليعيش القارئ بربوعه دون الشعور بغربته بين الصفحات.

تتمتع رضوى عاشور، بأسلوب سلس جدا بعيد عن التكلف  أو الغوص في سرد ممل لا يجني القارئ منه أي ثمرة، الرواية كأنها كُتبت بسطر واحد، تناسق وانسجام لا يكل القارئ منها، كلماتٌ حية، متناغمة مع الحدث المروي، كل شيء في هذه الرواية يُبهر.

النقطة الوحيدة التي أرى رضوى لم توفق بها هو مستهل الرواية الذي كان من الأفضل مع هكذا عمل أدبي تاريخي يكون أكثر تناغما مع جسد روايتها العذب.

٢- مريمة

تُكمل رضوى في رواية مريمة الحديث عن الموريسكيين في النصف الثاني من القرن العاشر في غرناطة والعلاقة بين جيل الموريسكيين الأول الذي تمثل بمريمة وزوجها حسن الذي عاصروا وشهدوا سقوط غرناطة والجيل الثالث من الموريسكيين الذي تمثل بحفيدها علي

أحداث الرواية تسير بنسق منتظم لم يعكر صفوها حضور نعيم، ولا حتى الموت الذي أخذ شخصياتٍ من حياة مريمة وعلي. تمثل العلاقة بين الجيل الأول والثالث التفاعل الوجداني والحياتي للرواية والرغبة والعمل على نقل الموروث العربي للأبناء والأحفاد، وهذا ما يثبتع بعض الآثار العربية الموريسكيين الذي كتبوا الكلمات القشتالية بحروف عربية في قصائدهم وكتاباتهم من أجل الحفاظ على الهوية بأقصى إمكانيات ممكنة مع مراعاة التشديد القشتالي المفروض عليهم الذي أجبرهم على الرحيل في آخر المطاف، وهنا تبرز رضوى ما يشد الغرناطيين نحو وطنهم والعلاقة بين الأرض وساكنيها، وهذا الرابط الذي يمتلكه كل إنسان نحو بلده والمكان الذي نشأ فيه، حتى يصل لدرجة  تفضيل الموت على الانتقال وهذا ما أوضحته رضوى، ونرى الاتصال الوثيق ما بين الرحيل الغرناطي والرحيل الفلسطيني، فلذلك يكون وصف الرحيل والشعور أقرب لذهنية الكاتب ومشاعر القارئ حيث أن الحدث لا يبدو عليه غريبا.  

بما إن الترحيل لم يشمل الموريسكيون جميعا، فقد قُسموا إلى قسمين، إحدهما كُتب عليه الجلاء، والآخر نال البقاء، نظرا لضرورة وجودهم الاقتصادية وفائدتهم الحرفية وحاجة المجتمع القشتالي لهم، بقي من بقي ورحل من رحل، لكن بقت في غرناطة دماءً عربية حتى اليوم.

٣- الرحيل


نهاية الثلاثية كانت في رواية الرحيل، ببطلها حسن، وحياته في قرية الجعفرية، حسن الذي اضطر للرحيل من غرناطة وجد نفسه غريبا في هذه القرية يتشارك الناس حياتها، والعمل في بساتينها ويأكل خيرها

الرواية تدور بشكل رئيسي حول حياة الموريسكيون في ظل الإقطاع القشتالي وهذا هو النظام الذي طال أوروبا ولم يسلم منه الموريسكيون، والمعاناة التي يعيشونها في ظل حياة أشبه بحياة العبودية


الرواية تمضي حتى خط شبه مستقر سردًا وأحداثا، وحتى الحوادث العارضة والجديدة تندمج في ذات المستوى الرتيب من السرد، لتنتهي حياة الموريسكيين بقرار الترحيل الإجباري نحو عدوة المغرب

إن ما تعرض له العرب والمسلمون في الأندلس بعد سقوط غرناطة آخر ممالك المسلمين في الأندلس، وما لحقتهم من أحداث، اعتمد فيها القشتاليون سياسة التغيير الديموغرافي للأرض، لذلك كانت النتيجة مأساوية على الاندلسيين فرغم بقاء العرب فيها لمدة ثمانية قرون، لم يتبقَ منهم إلا إعدادٍ قليلة جدا حتى اللحظة، عملت رضوى على تحضير وتهيأة لحدث الرحيل بذات الإيقاع الذي نظمت فيه سردها، حتى أتى وكأنه تحصيل حاصل، وخطوة كانت نتيجة لتلك الحياة، فلم تكن النهاية رغم قساوتها، مُثيرة لأشجان القارئ



ثلاثية رضوى والعلاقات الزوجية الفاشلة 

ما يُلاحظ على رضوى أن العلاقات الزوجية لأبطالها كانت فاشلة، فعانوا ما بين سوء الزوجة أو الزوج أو بقاء بطلها أعزبا يحلم بظل امرأة يستقر في حناياها

فأبو جعفر الورّاق علاقته مبهمة مع زوجته، ولم تكن هناك أي ملامح يُمكن من خلالها القارئ أن يتصوّر العلاقة بينهما، وأما سعد وسليمة فعلاقتهما لم تنجح رغم وجود الحب وتنتهي بهجر سليمة ذات الطباع السيئة تجاه زوجها إلى الجبل والالتحاق بمقاتليه، حسن ومريمة علاقتهما ذات وتيرة متباينة ما بين الهدوء والشجار، وكذلك أبقتها علاقة بعيدة كل البعد عن الحياة الزوجية السعيدة، حتى وفاة حسن لم يكن له ذاك الأثر في حياة مريمة، ونعيم الذي يبقى يحلم بزوجة وبعد عمر طويل يلتقي بفتاة يحبها، يعلم القارئ في صفحات الثلاثية اللاحقة لارتباطه بها أن زوجته ماتت دون ذكر لمستوى أو نوع العلاقة بينهما.


الجيل الثاني من الموريسكيين، هشام ابن حسن رغم عدم حضوره إلا في شذرات فهو يشبه زوج عمته سعد، فيرحل تاركا زوجه وابنه ليلتحق بالجبل ومقاتليه وتختفي أخباره نهائيا، ولا يوجد أي ذكر لعلاقته مع زوجته عائشة التي تموت دون أن يكون لها وزن في الرواية.

الجيل الثالث الذي تمثل بعلي، فهو لا يفرق كثيرا عن نعيم، يحلم بامرأة يتزوجها ويقع في عاطفة مشبوهة تجاه طفلة، أو يطفئ نار شهوته مع مومس، ويبقى حتى النهاية أعزب بلا امرأة.

حتى ما يتم ذكره عَرَضا من علاقات زوجية بين الفلاحين الذين سكنوا قرية الجعفرية، كانت حول تعرض الزوجات للضرب!

ما الذي أرادته رضوى من هذه السوداوية في نسج قدر أبطالها وجعله تعيسا في حياتهم الزوجية  أهي رسالة أن لا حياة زوجية سعيدة، أم حنق كان يعتلج في نفسها ضد الرجال فجعلت حياتهم منكّدة؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق