الخميس، 11 يناير 2018

كيف تقرأ الرواية؟

لا شكَّ لدى أي قارئ، أن الرواية كُتبت في عالم غير العالم الذي تُقرأ فيه، وإن كانت تستمد أُسس نشأتها من الواقع، فتبقى شخصياتها بأسماء مختلفة ويقوم الكاتب بإضفاء لمسته الخاصة عليها، في النتيجة سنخرج بأن الرواية لا تنتمي لزماننا ومكانها في بُعد آخر لا يُدركُ كنهه إلا الراوي، وكل رواية مهما كانت عظيمة أو تافهة، فهي تنتمي لعالم واحد هو عالم الخيال والفكر، فكما في عالمنا هناك العالم والجاهل والقوي والضعيف، والشريف والنذل، فعالم الرواية كذلك فيه مستويات مختلفة، والكاتب العظيم يعرف كيف يقطف العظمة، والكاتب الرديء يبقى تائها يبحث عن أي ثمر، فيجد ثمرًا أكل منه الدود لكنه لا يُبالي فهو يبحث عن أي ثمر

وهنا يجب أن نقف ونفحص جودة الثمرة المقروءة، كيف بإمكاننا أن نتذوقها ونعرف طعمها وجودتها، بالتأكيد ما قُطف في أرض الخيال لن يُؤكل إلا في أرض الخيال.

على القارئ قبل أن تمخر سفينته في عباب بحر الورق والكلمات، أن يُطلق عقله ووعيه وفكره من جسده ويبتعد إلى عالم بعيد، إلى العالم الذي كُتبت فيه هذه الرواية، فربما يعود إلى الماضي أو ينطلق إلى المستقبل، لا يهم، المهم تجهيز النفس للزمن الذي تُستوجب أن تُقرأ فيه الرواية، بعض الرواة من دهائهم يترك زمن عمله، مفتوحا وشاسعا، خطٌ لا ينتهي لا تعرف أوله من آخره هل نحن في القرن العشرين أم القرن المئة؟ تبقى هذه مهمة القارئ الحذق الذي يجمع أوصال الحكاية ويشد وثاقها، لا يعني أنه سيصل لزمن الحدث الجاري، بل يصنع زمنًا خاصًا -هنا لا قواعد نتبعها ولا قوانين تحدنا- يتلائم فيه الحدث مع الزمن المتوقع. قد تبدو أحيانا أُحجية وبما إن عقول القرّاء مخالفة ستتباين الأزمنة، وبالتالي تختلف الآراء، فنجد عملا ما، يمدحه أحدهم إلى درجة التقديس، ويذمه آخر إلى درجة التدنيس

بعد أن تجد زمانها وتتشبع به، ويتسرب إلى خارجك، حتى يُصبح زمانك زمانها، ووقتك وقتها، فتضيع في أرجائها، وهذا ما يُفسّر حالتنا حين نقرأ كتابا ما، وتمر الساعة تلو الأخرى دون أن نعي حركة الزمن، ببساطة لأننا نقرأها في زمانها وليس زماننا. وهنا ستكون مهمة القارئ الأخرى سهلة في البحث عن المكان الذي تدور فيه الحكاية، إن أشار الكاتب للمكان وكنت تعرفه لن يصعب عليك تخيل الطرق أو الأماكن أو المنازل والأنهار والجسور وما إلى ذلك مما يُشير إلى المكان، أما إن لم تكن تعرفه أو لم تزره من قبل أو لم يذكره الكاتب، ستُجهز نفسك في كل الحالات أن تنتقل للبحث عن المكان سواءً كنت تعرفه أم لا، فمهما كان الكاتب صادقا في مكان وقوع الحدث، ستغيب عن ذهنه تفاصيل فيضيف لمكانه تفاصيله الخاصة، طريق لم يسلكه أحد قبل بطله الخيالي
إن نجحت في هاتين المهتمين، ستغدو إحدى شخصيات الرواية، ستكون الراوي والمروي له، تتأصل في الرواية، كأنك هناك تنتظر الكاتب أن يأتي ويقصك مع من يقصهم في عمله، تفكيك العمل الروائي هو الخطوة الأهم التي يجب أن تخطوها الآن، تُحلل الشخصيات كأنك من كتبها، لهذا نجد أن بعض الشخصيات تُشبهنا، أو نقع في غرامها، أو تستأثر اهتمامنا، لأننا عرفنا كيف نقرأ الرواية، كيف ننصهر في بوتقة واحدة مع الروائي وشخصياته، كيف نكتب الحدث قبل وقوعه ونتفاعل معه، نحزن ونفرح، نبكي ونضحك، هذا لأننا عرفنا كيف نقرأ

إن عملية تفكيك العمل الروائي ليس فقط انصهار وتفاعل وانسجام وتناغم، بل هو البحث عن الجواب الذي قد نسأله لماذا قال هنا هذا القلم ولمَ تصرف هناك ذاك التصرف، فهم ما يدور في نفس الشخصية، قد يُبرز الراوي جزءًا ويغيب عنه جزءٌ آخر، حين يُكتب اسم شخصية ما في الرواية، لن يستطيع الراوي أن يسبر غور شخصيته إلا بما تريد الشخصية وما الشخصية إلا انعكاس لشخصية أخرى في ذهن الراوي حقيقية أو خيالية، وبالتالي ستبقى نظرته لهذه الشخصية ناقصة، وتبقى الشخصية الروائية في جوانب عدة مملوءةٌ بفراغ يجب على القارئ ملأه وهنا سيتنوع القرّاء كلٌّ يملأها على هواه، لكن إن ما زلت في عالم الكاتب في زمن الشخصية ومكانها، تجلس مع الكاتب على طاولة ما ستبوح لك الشخصية شيئا لم تبحهُ للكاتب، لن تكذب ولن تكون شخصيتين بل واحدة، نظرةٌ للكاتب وأخرى للقارئ

إن القراءة ليست مجرد تفكيك رموز للوصل للمعنى ومن ثم الفهم والإدراك، بل هي تصوّر وخيال، تُنشئ لنفسك عالما جديدًا تتراقص فيه الرموز أمامك، تتجمع الحروف، تتكون الكلمات، تتراص الجمل، واحدة تلو أخرى تلو أخرى، امتلأت صفحة، اكتمل حدث، حدث آخر، دورة تلوى أخرى، عالم موازٍ لإداركنا، حين يتخيل أو يتذكر الرسام صورة ما، ويقوم برسمها فهو يقوم بنقلها من عالم ما ورائي إلى عالم ملموس ومادي، فحين تقرأ الرواية يكون الأمر معاكسا تنقل نفسك من عالم ملموس ومادي إلى عالم ما ورائي، بعيد وقريب كل ما عليك فعله هو إيجاد الباب لتلج عالم القراءة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق