كتاب عن فن الرواية مقسم إلى خمسين فصلا، كل فصل يتناول موضوعا معينا يمثل عنصرا من عناصر الرواية، أو ميزة من مميزاتها أو إحدى الأساليب اللغوية أو السردية أو الفنية في الرواية، ما بين الافتتاح والسردية والرمزية والسريالية والتضمين والميتاقصصية وصوت المؤلف، والتشويق وتيار الوعي والأسماء والعناوين والنهاية إلخ من عناصر روائية، يبدأ كل فصل بمقطع من إحدى الروايات المعروفة، وينطلق بعدها في شرح وتفصيل مستعينا بأمثلة من روايات لروائيين آخرين في توضيح كل فصل من فصول الكتاب.
وهنا بعض الملاحظات المُستقاة من الكتاب:
افتتاح الرواية هو أهم منعطف يأخذ القارئ لبدء طريق قراءة الرواية التي بين يديه، كبدء جريان النهر من منابعه، ومهما اختلفت طرق بداية الرواية من حوار أو وصف أو سرد فلسفي أو مُدخل تعريفي، تبقى الأهمية كيف تُوقع القارئ في حبائل قصتك وتُجبره على الاستمرار في القراءة.
كان صوت المؤلف في الرواية عند بداياتها بارزًا، وهو ما عرف في معظم الروايات بعلمه الكلي ومعرفته المطلقة للرواية وأحداثها وشخصياتها عند السرد، وعملت الرواية الحديثة التي انطلقت في أواخر القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين -تقريبا- على إقصاء صوت المؤلف لصعوبة وجود إنسان عارف على كل جوانب الحياة التي تتطور باضطراد واضح وجلي وترك عملية السرد لوعي الشخصيات أو يتم السرد على لسان الشخصيات، في نطاق علمها المحدود، وما قامت به الرواية ما بعد الحداثة، هو إبراز صوت المؤلف في بعض الأحيان داخل الرواية حتى تُعطي للقارئ معرفة مسبقة أن ما تقرأه مجرد خيال!
التشويق هو أسلوب يستخدمه الكاتب في السرد وفي أسلوب طرحه الأسئلة ومن ثم العمل على الإجابة عنها في نهاية المطاف، قد لا يطرحها بشكل واضح وصريح، لكنه ُ يُثيرها في نفوس قُرائه ثم يُجيب عنها بالطريقة ذاتها التي أثارها في نفوسهم.
لغة الرواية هي الوسيط الذي يستخدمه الكاتب بين "الواقع -حقيقيا كان أم متخيلا-" والقارئ، وكان لزاما هنا أن تكون لغة الكتابة متناسبة مع الشخصيات بما يتوافق مع عمرها- سن صغير تعني لغة ساذجة، مراهقة- لغة مضخمة ومبالغ بها -ليس دائما بالتأكيد- كبيرا في السن- الحكم والاتزان، إلخ. ومتناسبة أيضا مع خلفياتهم الاجتماعية والثقافية والفكرية والعملية، وكل ما بشأنه أن يؤثر على لغة المرء، حتى لا تبدو اللغة مصطعنة من قبل الراوي ولا تنتمي إلى الشخصية أبدا.
أسماء الشخصية، في مرات كثيرة يكون الكاتب مجبرًا على اختيار أو حتى اختراع أسماء جديدة من أجل أن يُعطي الاسم أبعادًا أخرى ترتبط بالحبكة أو مدلول الاسم، لذلك العلاقة بين الدال والمدلول التي تقوم بعض الأسماء بقيادة القارئ إلى حقل معرفة ومعنى لا يُمكن للكاتب أن يذكره بوضوح لكنه من خلال الأسماء يُوحي بها ويُدرجها في بُنية عمله الروائي.
لكن السؤال الذي يُطرح ماذا لو كانت الأسماء التي تُعطى للشخصيات بلا أية دلالة أو مضمون خفي أو فكرة متماهية مع الاسم؟ ما أراه هو قصور من الروائي إن اختار الأسماء دون تفكير أو حدس أدبي، ونوع من الفوضى التي يُقحم الرواية فيها وأن الأسماء التي لم نخترها بأنفسنا -ولم تخترها الشخصيات بأنفسها- هي دلالة على عبثية كثير من الأشياء التي نرى أنفسنا محاصرين بها دون إرادة كالأسماء مثلا.
لرواية عوليس لجيمس جويس، حضورٌ دائم، ولا يكاد يخلو كتاب يتحدث عن الرواية لا يتطرق إلى رواية عوليس وما استخدمه جويس من تقنيات لغوية وسردية رقت به ليكون من أفضل أو الأفضل الذين كتبوا روايات تيار الوعي. عوليس الرواية التي تحدث في يوم واحد في دبلن، وما احتوته من استخدامات لغوية ونحوية وبلاغية عقّدت وصعّبت قراءتها للناطقين بالإنجليزية وجعلت من ترجمتها إلى اللغات الأخرى مهنة لا تقل صعوبة من كتابة جويس لروايته.
الرواية التي اُقتبس اسمها من اسم أوديسيوس (عوليس هو اسمه في اللاتينية) وحتى شخصياتها التي مثلت أبطال الأوديسة (بنيلوبي"زوجة أوديسيوس" = موللي "زوجة بلوم"، تليماك = ستيفن) وبالطبع (بلوم = أوديسيوس) وتيهانه في البحر في رحلة العودة إلى موطنه، يقضي بلوم يومه في دبلن برفقة ستيفن، الرواية التي تأخذ قارئها في رحلة داخل وعي أبطالها مستخدما جويس كل تقنيات تيار الوعي كالتداعي والذكريات والمونولوج الداخلي مع تدخلات سردية غير مباشرة، تُضفي للرواية مزية في تاريخ تطور الرواية إضافة للذكاء اللغوي والنحوي والبلاغي وتضمين معظم حوارات وأحداث الرواية بالأفكار والاستعارات والرموز، جعلها فب مقام لم ينتزع عمل ما مكانتها أو اقترب منها.
تتجلى مهمة الراوي الأصيل، في طريقته التي يجعلنا نرى الأشياء كما نحس بها لا كما هي معروفة. وينقل العادي والمألوف إلى مرتبة اللا مألوف بأسلوبه الأدبي الحصيف، وفكره اللامع الذي تُصيّره لغته إلى يد أثيرية عظيمة مهمتها رفع الستار الذي يُغطي الحقيقة المتعارف عليها ويجعلنا في حضرة رؤية جديدة لا تم لسابقتها بصلة.
لربما تكون المفاجأة الصادمة أكثر اللحظات متعةً وإدهاشًا للقارئ أو حتى من يُِشاهد عملا سينمائيا أو مسرحيا، وتبقى هذه الصدمة والنقطة في تحول موازيين القوى من الشمال إلى اليمين أو العكس، هي نقطة محورية في سير العمل الأدبي إلى منعطف آخر أو ينتهي فيه، ما أفضله أنا أن تكون الصدمة هي النهاية التي يُختم بها العمل، حتى أُعطى الوقت الكافي لفهمها والشعور باللذة دون أي إضافات أخرى قدم تمنع عني هذه اللذة بالكامل. يبقى على الروائي أو الكاتب أن يُجهز القارئ أو المشاهد إلى هذه الصدمة مادًا إياه بما يحتاج من معلومات تُنبئه بحدوث شيء غير متوقع لكن ما هو؟ هذا هو الحافز الذي يعرف الكاتب الألمعي جعل القارئ في حماس مستمر حتى يصل لنقطة المفاجأة.
التسلسل الزمني في الرواية (كرونولوجي) شهد في الرواية الحديثة ورواية ما بعد الحداثة تغييرا، حيث لم يعد هناك خط زمني تتابعي، بل أصبح الزمن عبارة عن قطع مجزئة يقوم الكاتب بترتيبها وفق ما يراه مناسبا لروايته، مستخدما تقنيات متعددة كالاسترجاعية Flashback والاستباقية Forward، والتنقل الزمني اعتمادًا على الذاكرة ما بين الحاضر والماضي والمستقبل "تنبئا أو توقعًا" ومن أهم الروايات التي أعطت للزمن قيمته وبيّنت مدى صعوبة الحديث عن الزمن الماضي دون أن يقع صاحب الحدث بأخطاء في سرد الأحداث بتتابع أو التداخل الزمني بين الأحداث أو اسقاط حدث دون انتباه، وأن عملية تذكر صعبة جدا وتحتاج إلى جهد جبار، كانت روايات البحث عن الزمن المفقود للروائي الفرنسي بروست.
نقول أحيانا أن لغة هذه الرواية جميلة، بديعة، شعرية، غنائية، تنبض بالإبداع، بليغة، فخمة، وكل الصفات التي نصفها بها لغة الرواية. ونقول في روايات أخرى، أن اللغة فيها جافة، فضة، معقدة، لا تنبض بالحياة، صعبة، ثقيلة. ونقول في روايات أخرى، أن اللغة بسيطة، ساذجة، مفككة، عادية، لا يُميزها شيء، لغة يومية.
وأسلوب السرد هو الثوب الذي تُحيكه اللغة الروائية، فهناك ثوب يُصمم بإداع وتميّز، وثوب آخر لا يُمكن أن نقول عنه سوى أنه ثوب!
لذلك كان لزاما على الكاتب والروائي الذي يبحث عن التميز أن يكون متمكنا من لغته ومفرداته، ويجد المستوى الذي يلائم روايته، ويبقى في حالة وسطية معتدلة بعيدة عن التعقيد المصطنع أو التبسيط المنفر الساذج. حتى يعرف كيف يخلب لب القارئ أثناء القراءة.
الكتابة عن الزمن الماضي أو الكتابة عن المستقبل، تبقى محصورة في إطار الحاضر الذي نكتب عنه، فحين يكتب كاتبٌ ما في القرن العشرين عن رواية تدور أحداثها في القرن التاسع عشر، فمهما بلغ اهتمامه بها سيبقى أمام معضلة الكتابة عن هذا الزمن بعناصر عصره، ولا يمكنه بحال من الأحوال أن يكتبها بلغة ورؤية كاتب في القرن التاسع عشر، قد يقرأ القرن التاسع عشر بصورة أفضل من الكُتّاب الذي عاشوا فيه، ولكنه سيبقى حبيسا في طريقة قراءته النابعة من الزمن الحاضر. ولا يختلف الأمر كثيرا عند الكتابة عن الزمن المستقبل، تبقى التنبؤات والتطلعات وفقا لما بين يدي الكاتب من معلومات وقراءات مستقبلية علمية أو سياسية أو اجتماعية، إلخ، لكن يبقى السؤال ما مدى دقة أو صحة حدوث ما كتب؟ هذا ما لن يعرفه الكاتب الذي يحاول أن يسبق زمنه.
الرمزية في الرواية، عنصر فني مهم فيها، وتكاد أحيانا تفي في التعبير عن أفكار كبيرة استعارةً أو مجازا عن حوادث تحدث في الرواية، ويعمل الكاتب هنا على ضرب عصفورين بحجر واحد، الأول هو الرواية وسرد القصة من خلال الأحداث، استخدام المجاز أو الاستعارة عن قضية مهمة لا بد أن يتطرق له الروائي لكن ليس بأسلوب صريح ومباشر، إذ يُضفي بشاعرية لغته وإبداع روايته مزيات لعمله، كثير هي الروايات ذات الأبعاد الرمزية.
عنوان الرواية، هو العنصر الأول الذي يجذب القارئ لأي رواية، وفي الأخص لو كان الراوي مبتدئًا أو غير معروف، إذ يُوحي عنوان الرواية بمحتواها، أو يشير إشارة إلى ما قد يحصل عليه القارئ من قراءتها. قد تختلف العناوين بين أن تحمل أسماء شخصيات أو أماكن أو استعارات، وقد تخضع لتغيرات دور النشر بما يلائم الحالة الاجتماعية أو السياسية في البلد الذي تُنشر فيه. ما يجذبني من العناوين هي تلك التي توحي بالاستعارة والغموض، كـ الشياطين وحدائق الرئيس وعوليس وقلب الظلام وملك في منفى العمر، إلخ.
وفي الذات الوقت أرى نفسي أنفر من الروايات ذات العناوين التلغيزية أو المستوحاة من لغات مندثرة أو أسماء لا يُعرف معانها إلا باستخدام قاموس أو معجم!
النهاية، هي الفصل أو الحدث أو النتيجة (النهائيات) التي تصلها الرواية، بعضها سعيد وبعضها غير سعيد، وبعضها لا يُمكن أن نصف نهاية كونه مفتوح على احتمالات عدة، أي نهاية تُثير اهتمامي وأحبذها أكثر من غيرها؟ بالتأكيد لا يمكن أن أختار نهاية لا علاقة لها بمتن الفصول السابقة أو يحاول الكاتب التحذلق فيها على القراء ولا يعني في ذات الوقت أن تكون النهاية ساذجة وسطحية ونتيجة فقط، بل أن تمثل انعطافا كبيرا في الرواية، نُقطة تُحبس فيها الرواية وتُختزل الرواية وتداعيات الأحداث في الرواية، نهاية تُثير في تساؤلات عما جرى وكيف جرى، وتدفعني للعودة وتصفح بعض المواقف والفصول مجددا حتى أتقين مما أرداه الكاتب بهذه النهاية، رواية آلام فيرتر لغوته، تنتهي بانتحار فيرتر وانهيار شارلوت بعد سماعها خبر وفاته، إنه الحب الذي كان سببًا لمعاناة فيرتر المعلنة ومعاناة شارلوت السرية والمخبّئة كونها متزوجة، كانت النهاية أكثر تراجيدية لكنها أوحت بعظمة الحب الذي كان متن ومحور الرواية تلك السيرورة التي انتهت بالموت وبإعلان غير مباشر من شارلوت بانتصار الحب في داخلها، لا يُهم كيف سيكون حال شارلوت بعد هذا، فهذا الانهيار يُمثل منعطفا في حياتها بالتأكيد لن تشبه حياة ما قبل انتحار فريتر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق