الأربعاء، 24 أكتوبر 2018

عالم الكافكاوية - ميلان كونديرا.

عالم الكافكاوية 
(كل ما ستقرأونه هو لكونديرا وما قمت به هو إعادة الترتيب لما ورد عن الكافكاوية في كتبه الثلاث "فن الرواية - الوصايا المغدورة - الستار" مستخلصا منها ما يخص الكافكاوية في حيزي الأسرة والمجتمع الشمولي)

الكافكاوية تمثل قوة كامنة أولية في الإنسان وعالمه وهي قوة كامنة غير محددة تاريخيا وترافق الإنسان حتى الأبد
الكافكاوية ليست مصطلحا سوسيولوجيا أو سياسيا، ولا تستجيب لتعريف الشمولية فلا نعثر في عالم كافكا على الرأسمالية ولا المال أو سلطته ولا التجارة ولا الملكية والملّاك ولا صراع الطبقات، وليس هناك حزبا ولا الأيديولوجية ولا مفرداتها ولا السياسة ولا الشرطة ولا الجيش

لكن هناك نزاعات في التاريخ الحديث تنتج الكافكاوية في البعد الاجتماعي الكبير: التركيز المتدرج للسلطة التي تنزع نحو الاستئلاه: تحول النشاط الاجتماعي إلى بيروقراطية؛ مما يجعل المؤسسات كلها بلا حدود ومن ثم محو شخصية الفرد الذي ينتج عن هذا التحول.
 لقد أوضحت الدولة الشمولية بوصفها تركيزا أقصى لهذه النزعات (محو شخصية الفرد داخل المؤسسة)، العلاقات الوثيقة بين روايات كافكا والحياة الحقيقية، وإذا لم يمكننا أن نرى هذه العلاقات في الغرب، ولذلك لأننا فقدنا معنى الواقع بشكل قطعي، والمجتمع الديمقراطي ليس أقل من الكافكاوية
ذلك أن المجتمع الموصوف بالديمقراطي يعرف هو الآخر أيضا العملية التي تُشيئ الفرد، وتجعل المجتمع بيروقراطيا، لقد الكوكب مسرحا لهذه العملية، وإذا كانت روايات كافكا التعبير الخيالي والشعري لهذه العملية فإن الدولة الشمولية هي تعبيرها النثري والمادي


وصف بعض مظاهر عالم الكافكاوية
1- العالم عبارة عن مؤسسة (بيروقراطية) متاهية هائلة لا يستطيع الناس عنها فكاكا، ولا يستطيعون فهمها. المؤسسة لدى كافكا آلية تخضع لقوانينها الذاتية التي وضعها مجهول في زمن غير معلوم، وهي قوانين لا علاقة لها بالمصالح البشرية ومن ثم فهي قوانين غامضة

2- يشبه الملف في العالم الكافكاوي الفكرة الأفلاطونية. إنه يمثل الواقع الحقيقي في حين أن الوجود المادي للإنسان ليس إلا انعكاسا معروضا  على شاشة الأوهام. والحقيقة، أن الأفراد ليسوا إلا ظل لملفاتهم بل أقل من ذلك بكثير: إنهما ظل الخطأ في الملف كما في حالة ك. في رواية القصر
وإذا كانت حياة الإنسان مجرد ظل، وإذا كان الواقع الحقيقي موجودا في مكان آخر، في مكان حصين، في الإنساني واللا إنساني فإننا ندخل دفعة واحدة في علم اللاهوت، وهذا ما فسره البعض أن روايات كافكا حكايات دينية رمزية. لم يكتب كافكا حكايات دينية رمزية لكن الكافكاوية (في الحياة الواقعية والتخييلية) لا تنفصل عن مظهرها اللاهوتي (أو بالأحرى اللاهوتي المزيف). 

3- لا تعرف الشخصيات في عالم الكافكاوية سبب العقوبة التي تنزل بها، وتبلغ من العبثية درجة لا يستطيع المتهم تحمل العقاب ولكي يستريح، يبحث عن ذنب اقترفه في الماضي لكي يبرر العقوبة، والعقاب هنا يبحث عن الخطيئة

4- الكوميديا في عالم الكافكاوية لا تمثل لحنا مضادا للتراجيدي (التراجيكوميدي) كما هو الأمر لدى شكسبير، فهو لا يريد أن يجعل التراجيدي (المأساوي) أكثر قابلية للتحمل بفضل خفة اللهجة؛ إنه لا يرافق التراجيدي، بل يحطمه في المهد حائلا بذلك بين الضحايا والسلوى الوحيدة التي يسعهم أن يأملوها: سلوى أن يجد الضحايا أنفسهم في عظمة (حقيقية أو متخيلة). 


عالم الكافكاوية الأُسَري

استخلص كافكا من الأسرة والعلاقة بين الطفل وسلطة الأبوين المقدسة، معرفته بتقنية الشعور بالذنب التي صارت إحدى أكبر ثيمات رواياته. كما في قصة الحكم، إذ يتهم الأب ابنه ويأمره أن يغرق نفسه، ويقبل الابن ذنبه الخيالي ويذهب ليلقي بنفسه في النهر طواعية شأن من خلفه فيما بعد، جوزيف ك. الذي سيذهب بعد أن أدانته منظمة غامضة لذبح نفسه
يُفصح الشبه بين الاتهامين والتجريمين، وتنفيذ الحكمين، عن الاستمرارية التي تربط في مبدع كافكا بين "الشمولية" العائلية الحميمية و"شمولية" رؤاه الاجتماعية الكبرى

ينزع المجتمع الشمولي، ولا سيما في تجلياته القصوى إلى مسح الحدود بين العام والخاص؛ وتُطالب السلطة التي تصير معتمة أكثر فأكثر أن تكون حياة المواطنين شفافة إلى أقصى حد. هذا المثل الأعلى الذي يتجلى بحياة بلا أسرار في أسرة نموذجية؛ فلا يحق للمواطن أن يخفي شيئا أمام الحزب والدولة، وكذلك الطفل الذي لا يحق له أن تكون له أسراره في مواجهة أمه أو أبيه. والمجتمعات الشمولية تريد أن تظهر بوصفها "أسرة كبيرة واحدة" وتروج عن نفسها هذا الأمر

فعلى الفرد في المجتمع الشمولي أو الطفل في الأسرة أن يتخلى عن عزلته وهذا الثمن الذي يدفعه. فكافكا لا يمثل لعنة العزلة بل العزلة المغتصبة
***

لا تقتصر الكافكاوية على المجال الحميمي ولا على المجال العام؛ إنها تحتويهما معا. والعام هو مرآة الخاص، في حين أن الخاص يعكس العام. والإنسان في عالم الكافكاوية لا يصارع إنسانا آخر؛ بل العالم الذي حُوِّل إلى إدراة هائلة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق