السبت، 19 يناير 2019

الحروب الصليبية كما رآها العرب - أمين معلوف.



تعد الحروب الصليبية التي انطلقت بتحريض ودعوى البابا أوربان الثاني عام ١٠٩٥، بداية التحضير لهذه الحروب، حيث كان الناسك بطرس يدور على القرى والحقول يحرّضهم على السفر إلى المشرق وتحرير بيت المقدس الذي شهد موت المسيح- كما يؤمنون- من المسلمين المتوحشين، لتبدأ بعدها رحلة حروب ومعارك استمرت لثلاثة قرون من الزمن، وعادت بأشكال وأسماء متغيرة وإن استخدمها بوش الابن صريحة قبل غزو أمريكا لأفغانستان ولحقها العراق. وتشابه قيام كيان صليبي بعد احتلال بيت المقدس سنة ١٠٩٩ الكيان الصهيوني وإعلان دولة الكيان سنة ١٩٤٨ في فلسطين (المملكة الصليبية- كما يطلق عليها أستاذ التاريخ الإسرائيلي شلومو ساند) بدعم الإنجليز والفرنسيين وثم دعم الأمريكيين. ولهذه الحروب الأثر الكبير في خلق عالمين شرقي وغربي متعاديين ما زال العداء له سماته المستمرة حتى اليوم.

كتاب الحروب الصليبية كما رآها العرب، ومما يُشير له العنوان فهو سيحكي هذه الحروب من وجهة نظر عربية وكما شاهدها العرب الذين كانت أرضهم خصبة لهذه الحملات التي وصلت لثمانٍ. هذا العمل السردي التاريخي هو أول أعمال الأدبية التي نشرها الروائي اللبناني أمين معلوف عام ١٩٨٣ باللغة الفرنسية، ليستمر بعدها في نشر الأعمال الروائية السردية التاريخية ذات الطابع التخيلي، كروايات سمرقند وليون الأفريقي وحدائق النور، والذي مثّل ظاهرة أدبية في التخيّل التاريخي وقف فيها على أحداث مهمة في التاريخ المشرقي وانطلق منها لكتابة رواياته، ولا يختلف الحروب الصليبية كما رآها العرب عن غيره إلا أنه تمثّل بكونه كتاب سرد تاريخي اعتمد في تدوينه على المؤرخين المسلمين كابن الأثير مؤرخ الموصل والزنكية الشهير وابن القلانسي مؤرخ دمشق وبهاء الدين مؤرخ حياة صلاح الدين أثناء رفقته إياه، والرحّالة كابن جُبير الذي كان حاضرا في فترة تحرير بيت المقدس عام ١١٨٧م، كل هذا يُعطي للعمل الطابع التاريخي التوثيقي والمخاطب فيه هو الأوروبي في المقام الأول ليطلع عليها كما كانت في حقيقتها من قبل المغزو، وكما يشير الناشر أنها لتبين الحروب الصليبية التي لم يعرف عنها الأوروبيون -غير أولئك المتخصصين- إلا ما صدر عن المشاركين بها والتي قد تكون عن هوى وغرض، لذلك عمل أمين معلوف على قلب الصورة.

العمل مقسم على فصول متفرقة ليس بينها رابط عدا التسلسل الزمني، والتي اتخذت من حوادث مهمة كانطلاقة السرد، والذي كان عبارة عن قراءة في مصادر هذه الحروب الصليبية وهضمها ثم إعادة إنتاجها بأسلوب روائي شائق، والبناء على أحداث معينة تمتاز بطابع يُمكن الكاتب من جعلها متنا روائيا وتخيّلا تاريخيا، كما هو الأمر مع طقوس تنصيب بلدوين الأول وريثا لثوروس الأرميني على إمارة الرُّها، لم يكن العمل مُثقلا بتدخلات الكاتب، مما يجعله سردا تاريخيا أكثر من كونه سردا تخيلا تاريخا، وتبقى الهفوة الوحيدة عامدا لذلك أو ساهيا، إلا أن السهو في هكذا أعمال ليس أمرا معتادا أو مقبولا وعلى الكاتب أن يتحرى قبل أن يُدلس أو يستند على روايات ضعيفة أو مشكوك بصحتها أو ينفيها العقل والمنطق والواقع، وكانت هفوته حول مقتل عماد الدين زنكي، عماد الدين والذي كان قائد الصحوة والذي جاهد وعمل على توحيد الأمة في الموصل والجزيرة الفراتية وبلاد الشام لمدة تسعة عشر عاما حتى اغتياله على يد خادمه، وما فعله أمين هو ما كتبه بأن هذا القائد المجاهد الذي كان في أرض الرباط والجهاد محاصرا بجيشه قلعة جعبر، أنه ذات ليلة في الحصار نام متجرعا كمية من الكحول! ليقوم خادمه يرنقش باغتياله وليموت بعدها. فكيف يجتمع الجهاد والرباط مع المبيت وبطنه مملوءة خمرا! أنسي أو لم يعلم أمين أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كما روى الطبراني في الأوسط، قال: الخمر أم الخبائث، فمن شربها لم تقبل صلاته أربعين يوما، فإن مات وهي في بطنه مات ميتة جاهلية. إضافة إلى أن هذه الشبهة لا أصل لها ولا تجتمع في رجل قضى عمره مجاهدا موحدا جامعا للأمة في وقت عصيب وخطر شديد.
هذا لا ينفي قيمة هذا العمل السردي التاريخي لكنه يوضح لنا مدى تحري الصدق فيما قاله في كتابه قبل الأخذ به كتاريخ موثق. والمترجم لم يتوانَ أو يقتصد في جهده في تخريج الأحاديث الواردة في الكتاب وما وصل إليها ووضع في هوامش الصفحات مصادرا أحال إليها أصل المرويات المنقولة.
كما أنني لا أنصح بالبدء بهذا العمل دون الاطلاع وقراءة مستفيضة عن الحروب الصليبية في مصادر موثوقة وكتب تاريخ حتى يكون كتاب الحروب الصليبية كما رآها العرب ذات قيمة فنية سردية قبل أن تكون مصدرا للمعلومات والأخبار عن هذه الحملات والحروب، وحتى تكون قراءة وتدارس هذه المرحلة العصيبة من تاريخ الأمة ذا نفعٍ وفائدة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق