الثلاثاء، 26 فبراير 2019

الدين والعلم.

اسأل نفسك: ما أكثر اختراع، اكتشاف أو إبداع مؤثر في القرن العشرين؟ هذا سؤال صعب، لأنه من الصعب الاختيار من قائمة طويلة من الترشيحات، تتضمن اكتشافات علمية مثل المضاد الحيوي، الاختراعات التكنولوجية مثل الحاسوب، الحركات الأيديولوجية مثل النسوية. الآن اسأل نفسك: ما أكثر اختراع،  اكتشاف، أو إبداع مؤثر للديانات التقليدية كالإسلام والمسيحية في القرن العشرين؟ هذا سؤال صعب جدا أيضا، لأنه لا توجد لديك كثير الخيارات. هل اكتشف الرهبان أو الأحبار أو المفتون في القرن العشرين شيئا يوازي المضاد الحيوي أو الحاسوب أو النسوية؟ تطلّع في هذين السؤالين، من أين تتوقع التغييرات الكبيرة قد برزت: من الدولة الإسلامية، أو غوغل؟ نعم، الدولة الإسلامية تعرف كيف تضع الفديوهات في يوتيوب؛ لكن غادر جانبا مصنع التعذيب قليلا، ما هي الاختراعات الجديدة التي برزت من سوريا أو العراق مؤخرا؟  
مليارات الناس، بما فيهم العلماء، مستمرون باستخدام المخطوطات الدينية كمصدر للسلطة، لكن هذه النصوص لم تعد مصدرا للإبداع. فكّر، على سبيل المثال، بقبولية زواج مثلي النوع أو نساء دين في أكثر فروع المسيحية تقدما. من أين ينشأ القبول؟ ليس من قراءة الإنجيل أو القديس أُغسطين أو مارتن لوثر، بل تأتي من قراءة نصوص ميشيل فوكو "تاريخ الجنساية" أو دونا هراروي "بيان سيبورغ رسمي". ما زال المسيحيون المتدينون -بغض النظر عن تقدمهم- لا يمكنهم التسليم برسم أخلاقياتهم من فوكو أو هراروي. لذا فإنهم يرجعون إلى الإنجيل والقديس أُغسطين ومارتن لوثر، ويبحثون فيهم بإمعان. يقرأون الصفحة بعد الأخرى والقصة تلو الأخرى بتركيز شديد، حتى يكتشفوا في النهاية الذي يحتاجونه: بعض الحكمة، أو المثل، أو الحُكم، إذا فسروها بإبداع كافٍ ستعني أن الله بارك زواج المثليين والنساء بإمكانهن إدراة الرهبنة. ثم سيتظاهرون بأن الفكرة منشأها الإنجيل، في حين الحقيقة أن الفكرة منشأها كان مع فوكو. يبقى الإنجيل كمصدر للسلطة في حين لم يعد بعد مصدرا حقيقيا للإلهام. لهذا السبب فإن الأديان التقليدية لا تعرض بديلا حقيقيا للبرالية. مخطوطاتهم لا تملك الكثير لتقوله حول الهندسة الوراثية أو الذكاء الاصطناعي، وأغلب الرهبان والأحبار والمفتين لا يفهمون آخر القفزات المهمة في الأحياء وعلم الحاسوب. وإذا أردت أن تفهم هذه القفزات، فأنت لا تملك الكثير من الفرص- عليك أن تقضي وقتا طويلا بقراءة المقالات العلمية والقيام بالتجارب المختبرية بدلا من مذاكرة ونقاش النصوص القديمة.
Hoho Deus: p. 321-322.

هذا ما كتبه يوفال في نقاشه حول الدين والليبرالية في القرن الحادي والعشرين، وابتدئ من سؤاله بسؤال، كيف يُمكن أن نقارن بين وظيفة المفكرين والعلماء وبين وظيفة المتخصصين في العلوم الدينية؟ يُمكن أن نطرح هكذا سؤال حين يُنصب رجال الدين أو المشتغلون فيه أنفسهم في مجالات علمية، وحين يفعلون هذا سيقعون بخطأ فادح إذ وظيفتهم ومكانهم ليس في مجال العلوم التي تحتاج إلى تخصص ودراسة. والأهم من هذا هل عالم الدين مُطالب بالاختراع والاكتشاف؟ الجواب هنا يُعيدنا إلى خط الانطلاق ومراجعة مفهوم الدين، وسأتكلم عن الإسلام حصرا، الإسلام كدين لم ينصب نفسه، وعبر مصادره الإلهية كالقرآن والبشرية كأحاديث النبي (صلى الله عليه وسلم) أو أقوال العلماء، كمصدر للعلوم الحياتية، كالطب والتكنولوجيا والأحياء والكيمياء والهندسة والرياضيات إلخ.  بل وظيفة الدين هو تنظيم العلاقة بين العبد وخالقه، وتنظيمها بين العباد، سواء أآمنت بوجوده أم لم تؤمن، يبقى وظيفة الدين روحانية كمصدر للتشريعات الأخلاقية والحياتية، وهو بهذه الوظيفة لا يفرق عن القيم التي تنادي بها الليبرالية كحقوق الإنسان أو القوانين المدنية التي تعمل بها الدول. فهل من المنطقي أن أقول ماذا قدم المشتغلون في الأحزاب الليبرالية في مجال العلوم والتكنولوجيا وأقارنه بما قدمه العلماء المتخصصون بالعلوم والتكنولوجيا؟ هذا السؤال من أساسه واهٍ وغير قائم على فرضية صحيحة، ونابعة من عدم فهم للدين يتحملها فريقان، الأول: علماء الدين أو المشتغلون في الدين الذي يقحمون أنفسهم في مجال العلوم دون فهم أو إدراك أو دراسة والتطفل باسم الدين على العلم محاولة لإثبات صحة الدين بالاكتشافات العلمية، فهنا يُدخلون الدين في صراع مع العلم، كأن تطلب من ليونيل ميسي خوض نزال مع محمد علي كلاي. والفريق الآخر: هو الرافض للدين ككل، فهو يحاول أن يُقحم الدين في مجالات لا ينتمي إليها ويطلب منه أن يؤدي أداءً خارقا كما يفعل هراري بسؤاله ما الذي قدمه الرهبان والأحبار والمفتون من جهود في مجالات العلوم؟ والتي لا تفرق عن طلب يولسن بولت، أسرع رجل في العالم، في سباق المئة متر، لعب كرة القدم مع نادي مانشستر يونايتد.
وبالعودة إلى الدين، الدين الإسلامي، كمثال، يحث على العلم والعمل، والسعي في طلب العلم بشواهد كثيرة في القرآن والحديث النبوي، وينهى عن التكاسل والجلوس بانتظار المصير، ولا تجد أي أثر قرآني أو نبوي يأمر بالكسل أو الجهل، تجد:
"وقل اعلموا فسيرى عملكم ورسوله والمؤمنون" التوبة ١٠٥.
"اقرأ باسم ربك الذي خلق" العلق ١.
"هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها" الملك ١٥.
"بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم" العنكبوت ٤٩.
"إنما يخشى اللهَ عباده العلماءُ" فاطر ٢٨.

والآيات والشواهد في هذا المجال كثيرة، كلها تحث على العلم وطلبه والعمل فيه، دون اللجوء إلى الخمول، ولم يقل الله في كتابه أو قال بها أنبياؤه، بأنهم مصدر العلم والعلوم، أو أن القرآن هو مصدر كل علم على وجه الأرض، حتى أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: "تداووا، فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له دواء، غير داء واحد الهرم". كما رواه أبو داود والإمام أحمد. وهو حديث في الحث على طلب الدواء صُنعا وتناولا. وما محاولة إقحام الدين في هذا الصراع، إلا محاولة يائسة بائسة -بغض النظر عن فاعلها- لتجريده من قيمه الحقة، بحسن نية أو سوئها، فالدين والأنبياء لم يبعثهم الله لكي يكتشفوا النظرية النسبية ولا يخترعوا الأسلحة النووية ولا ليتشغلوا في الهندسة الوراثية، ولا لكي يصنعوا لنا حاسوب أو يؤسسوا حركات تحررية، بل ليهدوا الناس من ضلالهم ومن عبادة الإنسان إلى عبادة خالق الإنسان. وهذا الإنسان عليه أن يعمل ويكتشف ويجتهد وينسب النجاح إلى جهوده وليس إلى القرآن أو الإنجيل.

الرأسمالية والأسرة.

نقلت الرأسمالية الاقتصاد نقلة نوعية، بعد أن آمنت بالربح في الغد، آلاف السنين الخالية لم يكن الإنسان أقل ذكاءً أو لم يفكر في استثمار ماله إلا أنه لم يكن يؤمن بالربح في الغد والانتظار، أي أنه لم يكن يستثمر المال في مشاريع تدر عليه أرباحا في وقت لاحق، بل يؤمن في الربح اليومي وفي المحافظة على الثروة دون التفكير بتنميتها عبر مشاريع "غير موجودة في الوقت الحاضر" لذا فأن يقرض شخصا ما مالا على أمل أن يقوم هذا الشخص باستثمار في الغد في خلق دواء يبيعه بثمن غالٍ أو يرحل إلى أرض جديدة للبحث عن كنوز أو أن يقوم بتجربة لاختراع شيء جديد يبيعه ويرد المال مع فائدة إلى مقرضه لم تكن واردة في حساباته. مع النهضة الفكرية الحديثة، تغيرت قناعات الإنسان وبدأ يؤمن بالربح في الغد، ويقرض المال لغيره لأجل أن يقوموا بأعمال وثم يردون القروض مع فوائدها، وكانت بداية هذه العملية في حملات الاستكشاف فيما وراء البحار كرحلات فاسكو دو جاما وكولمبوس والتي نتج عنها اكتشاف الأمريكيتين وأستراليا. تطورت هذه العملية الاقتصادية فيما بعد الثورة الصناعية ودعمت رؤوس الأموال البحوث والمختبرات شريطة أن يكون المقابل مدرا لها بالمال، وهكذا توسع الاقتصاد بصورة متزايدة. وما اختلف بين السابقين والرأسماليين، بأن السابقين كانوا يستخدمون الأرباح في لذات شخصية ومنافع ذاتية دون التفكير في استثمارها في مشاريع جديدة وانتاج جديد، في حين أن الرأسمالية كان مبدأها: إعادة استثمار الأرباح في إنتاج بضاعة جديدة، وهكذا تطور الاقتصاد ونمى وتوسعت الدول ونهضت، إذ هذه الإنتاجات تمثل مصدرا للمال الذي يدعم البحوث التي تولد القوة الذي يعمل على إنتاج جديد وتوفير مصادر للإنتاج وهكذا في دورة مستمرة.
إلا أن هذا النظام واجه مشكلة تمثلت في قوة العائلة والرابطة الأسرية، التي تفرض أحيانا كثيرة واجبات أسرية، فلو قُدّر لعامل أن يعيل أباه المريض، فسوف يتغيب عن العمل وثم يكون تأثيره على إنتاج الشركة التي يعمل بها؟ فما الحل لهذه المشكلة تجيب عنها الرأسمالية عبر إضعاف الرابطة الأسرية.
"كأفضل ما يُمكننا قوله، فإنه ومنذ الأزمنة الغابرة، أكثر من مليون سنة خلت، البشر عاشوا في مجتمعات حميمية صغيرة، أغلب سُكانها ذوي نسب مشترك. الثورة المعرفية والثورة الزراعية لم تحدث تغييرا في هذا. لقد وحّدتا العوائل والمجتمعات لتكوين قبائل، ومدن، وممالك، وإمبراطوريات، لكن العوائل والمجتمعات بقيت اللبنة الأساسية في كل المجتمعات البشرية. الثورة الصناعية في الجهة المقابلة، عملت منذ أكثر من قرنين على تحطيم هذه اللبنة إلى ذرات. أكثر الوظائف المتعارف عليها للأسر والمجتمعات حُولت إلى يد الدول والأسواق".A brief history of humankind p.398  
"انهيار العائلة والمجتمع"، العائلة فيما سبق تقوم بكل المهمات لأفرادها -في الأعم الأغلب- كالرعاية الصحية والمساعدة على بناء منزل، وجمع المال له إذا أراد فتح مشروع عمل، أو اختيار الزوج أو الزوجة. وكذلك نجد أن المرأة في العصور السابقة لو توفى معيلها ولم يكن لها أسرة فإنها ستمر بظروف سيئة؛ إذ لا عمل ولا مصدر دخل ولا مجتمع مساعد أو دولة تتكفل بها، لذا فتكون حالتها أشبه بالميت.
خلال القرنين الماضيين ومع بداية الثورة الصناعية أخذت الدولة والسوق المهام التي كانت تقوم بها الأسرة، من خلال عدة مهام ووظائف كالضمان الصحي والتعليم والراتب التقاعدي، توفير فرص العمل، المساعدة على بناء منزل عبر قرض بنكي، أو تسليف المال لبدء مشروع تجاري، أصبحت مهام الأسرة بيد الدولة والسوق. إضافة إلى كل هذا فإنها توفر الأمن عبر شبكة كبيرة من العملاء والشرطة لأجل حماية الأفراد. ومن الوسائل المهمة التي تم استخدامها في سلب السلطة من يد الأسرة إلى يد الدولة هي الدعوة  إلى الفردانية:
"كونوا أفرادا -استقلالية وتفرد- تزوج من تحب ولا تطلب الأذن من والديك. عش كما تشاء حتى وإن لم تستطع تناول العشاء أسبوعيا مع الأسرة. اعمل في الوظيفة التي تحب حتى وإن اعترض المجتمع. لن تعتمد على أسرتك أو مجتمعك بعد اليوم. نحن نزودك بالطعام، والتعليم، والصحة، والرعاية، والتوظيف. وسنزودك بالتقاعد والتأمين والحماية".
p.402
هكذا عملت الدولة من أجل خلق أفرادٍ، وفككت النظام الأسري مما جعلت آلية السيطرة عليه أسهل، إضافة إلى هذا في كثير الدول الأوربية يوجد نظام السكن الفردي سواء في إستوديو أو شقق صغيرة، لا يعيش فيها أكثر من فرد، ومن نتائج هذا النظام الحياتي، كثرت الإصابة بالأمراض النفسية والاكتئاب، وأعداد المصابين بالاكتئاب والذين يتناولون عقاقير مضادة للاكتئاب مهولة. وهذا ما تم تعزيزه في خلق "مجتمع متخيل" والذي يعرفه يوفال: هو مجمتع من الناس لا يعرف بعضهم بعضا، لكنهم يتخيلون ذلك.

ولم تترك الرأسمالية أب هذا العامل يواجه المرض ويموت، بل فتحت دورا لكبار السن، ووظفت أشخاصا للاعتناء بهم، وبهذا فقد استطاعت أن تثني العامل عن الاعتناء بوالده وإبقائه محافظا على إنتاجيته واهتمت بالأب المريض عبر هذه الدور الخاصة بكبار السن.
وهي بهذا تخلق اقتصادا قويا ونظاما أسريا مفككا. فهي لا تهتم بأي أحكام أخلاقية أو روابط إنسانية بل تهتم بالإنتاج والإنتاج فقط. وكثيرا ما تساءلت عن سبب التمزق الأسري في المجتمع الأوروبي ولمَ يترك الوالدين يواجهون الحياة ومصيرهم بعد سن متأخرة في  دور للعجزة دون دفء الأسرة ورعايتها إلا ما ندر، كنت أرى أن الأمر قائمٌ على دعم الفردانية التي توفرها الحكومات للشباب فور بلوغهم، لكن ما كان ينقصني هو أن أعرف لماذا؟ ويوفال قد أعلمني لماذا فعلوا هذا، فالإنتاج هم من أي شيء آخر، وأهم ما يميز الرأسمالية أنها لا تعرف التوقف، فالتوقف هو أكبر خطر يواجه الاقتصاد الرأسمالي، وفي كثير من الأحيان يعملون على تشجيع الاستهلاك والشراء عبر طرح بضاعة جديدة، في مجالات الحياة كافة ليبقوا النمو في تزايد مستمر ومواجهة أي ركود أو نقص محتمل.

الإنسان الإله: موجز تاريخ الغد - يوفال نوح هراري. Homo Deus: A brief history of tomorrow - Yuval Noah Harari



سكن الإنسان الأرض وبدأ رحلة الانتقال من أفريقيا إلى جميع الجهات، فاستقر فيها، وعبر  نحو الأمريكيتين وأستراليا، وبعد سبعين ألف سنة تشكل لديه الوعي مبتدئا بالثورة المعرفية، تشكلت لديه رؤاه حول العالم والطبيعة والكائنات الحية الأخرى، وبدأ باستخدام لغات خاصة للتواصل، وبقي الحال إلى قرابة اثنتي عشرة ألف سنة ماضية حتى جاءت الثورة الزراعية ولحقها تدجين الحيوانات، ثم قيام المجتمعات البشرية الزراعية والإمبراطوريات، واختراع الكتابة، ثم ظهر الاقتصاد والمال والديانات والسياسة التي تمثلت في حكم الممالك والحروب، وهكذا إلى منتصف القرن الثالث عشر وبدء عصر النهضة في أوروبا وما لحقها من حملات استكشافية وتوسع معرفة الإنسان التي انتهت بالثورة العلمية التي ارتبطت بها لاحقا الثورة الاقتصادية ونشوء النظم الاقتصادية كالرأسمالية والاشتراكية، واستمرت حياة الإنسان في تطور مستمر حتى وصلنا إلى مراحل جديدة دخلت فيها التكنولوجيا والهندسة الجينية والكيمياء الحيوية والنانوتكنولوجي والإلكترونيات والسيبورغ Cyborg، وناقش يوفال هذا وأكثر في كتابه الأول موجز تاريخ النوع البشري، وفي مسعاه الحثيث المنطلق من اختصاصه في التاريخ، عمل على دراسة مستقبل النوع البشري على الأرض وما الذي ينتظره، وإلى أي مرحلة يُمكن أن يصل، وعلاقة الدين بالعلم، وكيف أصبح دين الإنسانوية هو دين مشترك يؤمن به مليارات البشر، وما الأخطار المتوقعة التي ستواجه الإنسان في مسعاه نحو الإلوهية، والخلود والشباب الدائم، في عالم سيتحكم به الذكاء الاصطناعي وقائم بما فيه البشر على الخوارزميات، وهذا ما يوضحه عنوان الكتاب الإنسان الإله، لكنه إله ليس على كل شيء قدير، بل هو يسعى لامتلاك كل أنواع القوى وأخطرها، أن يهندس الجسد البشري، ويعرف كيف يتحكم الدماغ بالجسد والوعي، ما الوعي وما فرقه عن العقل، وهل بالإمكان أن ننقل العقل البشري إلى أجهزة الحاسوب الذكية، وما دور الخوارزميات في حياتنا، وكيف تعاملنا مع الكائنات الأخرى الأضعف، وكيف سيطرنا على العالم، وفي خليط متداخل من التاريخ والسياسة والاقتصاد، وعلمي الاجتماع والنفس، والإنثروبولوجيا، والأديان والأساطير، وتطور العلاقة بين الإنسان والإله ونوابه البشريين، يأخذ يوفال القارئ في رحلة مكوكية غوصا مرة وطيرانا في أخرى
وفي مقدمته لهذا الكتاب يبدأ بما سماه جدول أعمال البشر، وكان جدول أعمال البشر في وقت ماضٍ يتشكل من نقاط هي: الموت (الذي تنتهي به حياة الإنسان)، الحرب (وكان السلم وقتها يُعرف بغياب الحرب)، والأوبئة (كالطاعون التي تعجل بنهاية الإنسان وقتلت بعض الأوبئة ملايين البشر). 
هذه هي ما كانت تملأ جدول أعمال البشر، ومع التطور الحياتي على جوانبه كافة، وجشع الإنسان ورغبته الحثيثة في المزيد ومطاردته المجهول لينهل منه قدر ما يستطيع وأكثر في نهم لا يُشبعه شيء. ظهر جدول أعمال جديد تمثل بنقاط، الخلود، وصناعة السعادة، والألوهية. بدأ الإنسان يُفكر بالخلود ولمَ لا الشباب الدائم، وكما يقول يوفال فكما أن الموت خلل تقني فإن له حلا تقنيا،  والإنسان في القرن الحادي والعشرين في تواصلية مستمرة في البحث عن طريقة تمكنه من الخلود ورغم أنه لا توجد أي نتائج مبشرة للوصول لمثل هذه النتيجة  فإن العاملين في هذا المجال ومن يدعمهم لم يستسلموا ولا يُتوقع هذا، ويقول يوفال من الصعب أن تعيش وأنت تدرك بأنك ستموت لكن الأصعب أن تعيش وأنت تبحث عن الخلود. وأما السعادة وصناعتها فهو من الأعمال المهمة التي طمح الإنسان لها وكيفية زيادتها، يتوسع يوفال في تناول موضوع السعادة وأخذها من المنظور البوذي والعلمي والبيولوجي والفلسفي، ابتداء من الاتفاق على تعريف واحد للسعادة، والسعادة في المفهوم الكيمياء الحيوية مرتبطة في الهرومونات، وفي المفهوم البوذوي فإن الإنسان مهما حصل على السعادة فهو لا يشبع منها، واللذان يتفقان على زوالها سريعا، ودعا بوذا بتعويد النفس على عدم ملاحقة السعادة وتقبلها مشاعر السعادة أو التعاسة كما هي دون الشعور بالحنين لها، لأن الشعور بالحنين يولد الرغبة المستمرة بالحصول على المزيد والتي لن يشبعها أي مراد. الكيمياء الأحيائية وصناعة السعادة الدائمة قائمة على التغيير الجيني وإعادة هندسة عقولنا وأجسادنا والتي تبدو بعيدة المنال رغم العمل عليها حتى الآن. ويقول إبقراط لمريديه الملاحقة المفرطة للسعادة تجلب الحزن. أما الإلوهية فهي تتمثل بأخذ الإنسان دور الإله فوق الأرض وإنشاء دين جديد هو دين الإنسانوية، ومسعاه في امتلاك قوى خارقة وصناعة إنسان خارق،  إلا أننا يجب علينا الاستعداد لعالم فيه أُناس خارقين ويملكون قوى عجيبة. ولفهم هذا العالم الجديد المكون من الناس الخارقين وآلهة الأرض الجدد الخالدين يحدد يوفال نوح كتابه مواضيع كتابه الإنسان الإله بثلاثة أجزاء

١- فهم العلاقة بين الإنسان والحيوانات الأخرى. فهمنا لهذه العلاقة سيبين لنا نوع العلاقة بين الإنسان المستقبلي -خارق القوى- مع الإنسان العادي وستكون أفضل مثال لنوع العلاقة المستقبلية، وكذلك المعرفة الشاملة للأسباب التي جعلت نوعا مميزا دون باقي الأنواع الأخرى من الكائنات الحية.

٢- دراسة العالم العجيب الذي قام الإنسان بصنعه في الألفية الأخيرة. وهذا المسار سيأخذنا إلى تقاطع الطرق الحالية التي وصلنا إليها الآن. ويبين كيف آمن الإنسان العاقل بالعقيدة الإنسانية.

٣- استدراك ودراسة عميقة في النوع البشري والإيمان بالإنسانوية والتي تبدأ في السنين الأولى من القرن الحادي والعشرين، التي تصف مأزقنا الحالي وأنواع المستقبل المحتملة







الجزء الأول:

المركزية البشرية، وشرارة الإنسان، في هذين الفصلين ينقسم الجزء الأول من الكتاب والذي يسرد فيه بعض المراحل المنعطفات المهمة في حياة الإنسان على الأرض، والثورات المعرفية والزراعية والعلمية، التي نتج عنهما نشوء الأديان والآلهة والأساطير، وحددت شكل العلاقة بين الإنسان والحيوان، واستخدامه لها من أجل مصلحته في الزراعة أو العلوم، هذه العلاقة التي يعتبرها يوفال مثالا واقعيا عن علاقة إنسان المستقبل الذي سيمتلك قدرات خارقة -إن قُدِّر له هذا- مع الإنسان العادي الذي لا يملك أي وقدرات، هذا الأمر الذي يبدو وربما لوقت طويل أمرا خياليا لا يُمكن تصديقه، لكننا بحاجة لفهم العلاقة التي ستنشأ قبل نشوءها، للتعامل بصورة أكثر فعالية مع المُعطيات الجديدة التي ستشكل عالم الغد. البشر ونظرا للغتهم ووعيهم الفعّال أكثر من بقية الكائنات الحية أخذوا بزمام السلطة فوق الأرض، وبدأوا بتشكيل روابط مشتركة تجمعهم، فمتثلت بأساطير وآلهة، كما لدى كثير من المجتمعات السابقة، التي تُضحي وتعطي لآلهة حتى تُبارك في الزرع وتنميه وتأتي بالمطر والخير لها، وهذا ما منح المجاميع البشرية عناصر عملت توحيدهم وضم مجاميع كبيرة في إطار واحد زودتهم بالقوى لإخضاع بقية الكائنات. إن الإنسان بوعيه هذا لم ينفصل عن الخوارزميات بل إن الكائن الحي هو عبارة عن خوارزميات، إذ ما نقوم به من أعمال مختلفة في حياتنا قائم على معادلات وخطوات تجري في وعينا وأدمغتنا تُمكننا من اتخاذ القرار وكيفية اتخاذه، وهذه المعادلات الرياضية تحصل داخل أدمغتنا وتُترجم إلى أفعال. ينتقل بعدها لتفسير هذا الوعي وكيفية عمل الدماغ في شبكة معقدة من الخلايا العصبية ونظام عصبي متوزع ومتشابك في داخل الجسد، هذا النظام شديد التعقيد ما زال لغزا لم يُفهم كيف يخلق الخبرات الذاتية والمشاعر كالحب والغضب والألم. وبقي الإنسان مدة طويلة يعتقد بأنه من يمتلك هذا الوعي مميز دون سائر المخلوقات لكن البحوث التي قام بها انطلاقا من القرن الماضي، أثبتت بأن المخلوقات الأخرى لديها وعي وإن اختلف عن وعي الإنسان وكان أقل كفاءة منه، إلا أنها بإمكانه الشعور والإحساس. ويتساءل: بما أن للحيوانات وعيا لماذا لا تسيطر على الكوكب وتُخضعنا لها، فالنحل يعمل وفقا نظام متكامل لكن ما ينقص النحل هو عدم قدرته على إقامة نظام آخر في ليلة وضحاها كأن يغير نظام الملكة إلى نظام جمهوري، وكذا الحال مع الشمبانزي فهي لا تتعاون مع أي فرد آخر دون أن تعرفه وهل هو خيّر أو شرير؟ كيف يُمكن التعاون معه؟ ومدى كفاءته؟ إلا بعد أن يقوم بجمع معلومات كثيرة عنه مما يجعل دائرة الأفراد التي يعرفها صغيرة. ومما يتميز الإنسان به عن بقية الكائنات فوق الكوكب هو المرونة الكبيرة والكفاءة العالية في إنشاء شبكة علاقات واسعة جدا مع أعداد كبيرة من البشر. هذا التعاون الكبير الذي لا يشبهه به أي مجموعة كائنات فوق الكوكب تعطيه مزية فريدة من نوعها تمكنه من السيطرة على الكوكب وبقية الكائنات. فما ميز الإنسان عن بقية المخلوقات ومنحه القدرة على السيطرة ينقسم إلى نقطتين مهمتين: الأولى متمثلة بكفاءته العالية على خلق شبكة كبيرة من التعاون مع بقية الأفراد والجماعات، والأخرى قدرته على إعطاء معنى لهذا العالم، عبر مجموعة من الحقائق بين ذاتية التي يتفقون عليها في خيالاتهم كقيمة ورقة النقود. ووما يمكن الخروج به من هذا الجزء الأول من الكتاب، هو أن الوعي لدى الإنسان مكنه من السيطرة على هذا العالم عبر ما منحه من قدرات معرفية فاق قدرات الكائنات الأخرى، وهذه القدرات جعلت أكثر فعالية في علاقته مع بقية البشر، عكس الأجناس الأخرى من الكائنات الحية، ومنحته القدرة على الخيال الجماعي الذي عزز هذا الاتحاد مع البشر بقيم مشتركة ستمثل المرحلة القادمة في تاريخه التطوري على الأرض

الجزء الثاني

يتناول في هذا الجزء العالم الذي صنعه الإنسان، وما تضمنه من اختراع الكتابة، التي مثلت الانطلاقة للخوارزميات في حياتنا عبر تدوين المعلومات والأرقام والمخطوطات الدينية وفي وقت لاحق العلوم والمعارف. مع الكتابة بدأ الإنسان يُنظم الإدارة عبر نظام بيروقراطي، وتطور العيش على الورق من تدوين المعلومة إلى تسجيل معلومات الهُوية الشخصية، إذ العالم أصبح يُكتب على الورق امتاز بسلطة قوية، سياسية أو دينية، ويسرد أمثلة في كتابه حول هذه السلطة السياسية أو الدينية التي كان الورق هو اللاعب الرئيس فيها. ويمضي الكتاب في تحديد ملامح هذا العالم وقيام الأساطير والخرافات فيه بالسيطرة على الخيال الجمعي للبشر والدول والممالك، وصراع العلم والدين، وأن العلم بدلا أن يدمر هذه الحقائق بين ذاتية (حقائق يشترك فيها خيال مجموعة من البشر دون أن يكون لها وجود فعلي أو ذاتي) فإن يستغلها في إخضاع والسيطرة على الحقائق العيانية والذاتية. ومن الملامح المهمة لهذا العالم الذي صنعه الإنسان هو الاقتصاد، وصراع الرأسمالية والاشتراكية، ويتساءل يوفال عن سر نجاح ماركس في حين تراجع دور الأديان ثم يُجيب أن الأمر أن ماركس أعطى أجوبة وحلولا للمشاكل التي واجهها العمال في القرن التاسع عشر ولم تعطها الأديان. وأما صراع مع الرأسمالية فأخذ مساحة أكبر في بيان نوعه وكيفية صعود الرأسمالية واعتمادها على الفرد وتزويدها إياه بكل ما يحتاجه والتخلص من كل معوقات تقلل إنتاجيته، والتي كانت عبر خلق أفراد أقوياء من خلال تمزيق الروابط الأسرية وخلق مجتمع ضعيف
وفي العصر الحديث وبعد انتصار الرأسمالية والليبرالية على الاشتراكية والأديان في حكم هذا العالم، دخلنا فيما يسميه يوفال الثورة الإنسانوية هذه الثورة التي تقوم على مبدأ الإنسان هو الأهم، أو بما معناه "عبادة الإنسان"، ومن هذا الأساس انتقلنا من مرحلة عبادة الآلهة وسلطة الدين وكهنته، إلى عبادة الإنسان وسلطة الإنسان، وأن الإنسان يعرف الأفضل، وأن لكل منا شخصيته الفريدة، وهو يعرف نفسه أفضل من غيره، ويفعل ما يراه مناسبا، وأنه لا توجد لأحد سلطة عليه، حتى لو كانت قوى إلاهية وأن هذه الفردانية التي يمتلكها كل منا هي مصدر التشريع والقرار. هذه الثورة الجديدة التي دعمتها الليبرالية وفي مختلف مجالات الحياة كـ:
١- السياسة: الناخب يعرف الأفضل
٢- الاقتصاد: الزبون دائما على حق
٣- الجمال: محصور في عين الناظر.
٤- التعليم: فكّر بنفسك (أي فكر بما ينفعك أنت لا غيرك).
٥- الأخلاقيات: افعل ما تراه جيدا لك بغض النظر عن أي شيء آخر
هذه النقلة الجديدة في حياة الإنسان على الأرض جعلته المحور الرئيس والوحيد، ومع تطور العلم، أصبحت الحاجة ملحة لفهم الإنسان أفضل، وهذا التطور جعل فجوة بين العلم والدين تُصبح أكبر، وهذا ما يطرحه يوفال، حول إبعاد الدين نهائيا من حياة البشر، عبر وضعه مقارنات مع العلم لا يُمكن أن تكون بأي صورة من الصور المطروحة مقبولة. وفي ظل هذا كله فإن التطور العلمي الكبير، وتوسع أُفق التكنولوجيا والهندسة الجينية والنانوتكنولوجي والمعلوماتية، ستمثل ثورة جديدة تنسف مفهوم الإنسانوية، وعبادة الإنسان وسلطته نحو آفاق جديدة بزعامة الخوارزميات

الجزء الثالث

الجزء الثالث والأخير من الكتاب هو الأكثر إثارة، وفيه يتمحور مقصد الكتاب وهدفه، حول عالم المستقبل وإنسان المستقبل ودين المستقبل. يُقول العلم بأن الكائن الحي  هو عبارة عن خوارزميات، وأننا لا نملك روحا أو نفسا، أو حتى إرادة حرة أو فردانية بل كل شيء عبارة عمليات كيمياء حيوية تجري في الدماغ، وهذه العمليات حتمية أو عشوائية لكنها ليست حرّة. وهذا ما يدخلنا سؤال من أنا؟ وكيف أتخذ القرارات، وهذا ما توضحه التجارب والمشتغلون في علم النفس، ويقسمانه إلى رواية الذات Narrating self وخبرات الذات Experiences self، حيث تسيطر رواية الذات على اتخاذ القرارات، وهي مفهوم نفسي شامل للخبرات والقصص التي يجمعها الإنسان في حياته وتعتمد على ذروة الفعل ونهاياتها، والمعدل ما بين الذروة والنهاية هو الذي يمنحنا القدرة على اتخاذ القرار، في حين تجربة الذات، تقوم على ما نختبره بعد أن تقرر رواية الذات اتخاذ قرار ما، ويوضحه يوفال بمثال أن شخص ما قرر أن يمارس الرياضة ويذهب إلى Gym هذا القرار مسؤول عنه رواية الذات، وبعد أسبوع رأى إعلان بيتزا وقرر قطع ممارسة الرياضة وأكل البيتزا، وهذا مسؤول عنه تجربة الذات، وهما متداخلان مع بعضهما ويتأثر قرارهما ببعض. لم أجد كثير من المعلومات التي تساعدني على فهم الفرق بينهما بصورة أكثر دقة، ولست متأكدا حتى من صحة المصطلح الذي ترجمته إلى العربية، لكن في المجمل إن هذين المصطلحين يوضحان بأننا لا نملك فردانية مميزة ولا إرادة حرة، بل ما نقوم به، مسؤول عنه نظام كيمياحيوي. ومن هذا الأساس تواجه الليبرالية خطرا مدمرا قامت عليه مبني على الإنسان والفردانية، ولم يعد التعارض مجرد رأي فلسفي بل حجر كونكريت تكنولوجي، يفتح الباب على مصراعيه لمعتقدات وأديان جديدة تعتمد على الخوارزميات والمعلومات لا الإرادة الحرة والفردانية، هذا الفصل الجديد للتطور المعرفي سيُفقد أولا: الإنسان فائدته في مجالي الاقتصاد والعسكرية، وسيتوقف النظام السياسي والاقتصادي عن الارتباط بالإنسان، ثانيا هذا النظام الجديد سيبحث عن قيم جماعية جديدة للإنسان وليس قيم فردية، ثالثا: فإن هذا النظام سيؤدي إلى نشوء طبقة عُليا تتميز عن بقية البشر. دخلت الخوارزميات في حياتنا بصورة كبيرة في القرن الحادي والعشرين، سواء في الاقتصاد أو الأسواق أو عبر شبكات التواصل الاجتماعية، أو عبر ما قدمته التكنولوجيا من خدمات عبر شركاتها كغوغل وأمازون، هذه التقنية التي جعلت السلطة تنتقل وستستمر بالانتقال من يد الإنسان إلى يد الخوارزميات، وكما يقول يوفال، بعد أن كان قديما في المجتمعات الدينية تسأل الراهب في المدينة لأنه يعرف أفضل منك، تغير الأمر في عصر الرومانسية بالقول اتبع قلبك، لينتقل في عصر الخوارزميات إلى اتبع مشورة غوغل أو أمازون فإنهم يعرفونك أفضل مما تعرف نفسك. وهم يعرفونك لأنهم يقرأون بريدك الإلكتروني، يستمعون لاتصالتك، يعرفون ما تقرأ من كتب،  ما تبحث عنه في محرك البحث، إعجاباتك ونقراتك في مواقع التواصل، ما تحب وتكره، وما تنساه أنت لا تنساه الخوارزميات، لذا فهي تسجل وتسجل وتسجل المعلومات عنك، والتي قد تستخدم أيضا في معرفة توجهاتك السياسية، وقد حدثت بالفعل في الانتخابات الأمريكية الأخيرة وحادثة التجسس على ملايين المستخدين في فيس بوك لمعرفة توجهاتهم السياسية مما يساعد على إعطاء نتائج لصالح الأحزاب التي تجسست. الخوارزميات دخلت إلى مجال الصحة والصناعة، فبإمكانك إجراء الفحوصات الطبية وفحص DNA لمعرفة ما قد تتعرض له مستقبلا من أمراض واحتمالية إصابتك بها وضرورة اتخاذ الخطوات المناسبة للوقاية منها، لكن هذه الخوارزميات ستقوم بتوسيع الهوة، فليس كل البشر قادرين على إجراء هذه الفحوصات مثلا، لذا فإن الشخص الذي قد يتعرض لموض في المستقبل ولم يمكنه الدفع لإجراء فحص طبي، سيكون معرضا للإصابة بهذا المرض والموت، في حين سينجو منه من ملك المال وأجرى الفحص، إذن فالخوارزميات لن تردم الهوة بل ستوسعها، مما يبقى دائما وكما يحدث في التاريخ دائما وجود طبقة مستفيدة أكثر من غيرها، كما يوجد اليوم أربعة وستون شخصا يملكون ثروة تعادل ثروة نصف سكان الأرض المقدر عددهم بـ 3.2 مليار
هذا الفتح الخوارزمي المعلوماتي، يعطينا سمتين مهمتين لهذا العالم الجديد، الأولى هو الإنسانوية- التقنية، حيث الإنسان وكل ما في الحياة من وجود أو أفكار هو عبارة عن بيانات وأرقام، فالكائن الحي خوارزميات كما تشير البحوث العلمية حاليا، والرأسمالية هي توزيع البيانات وتعدد مصادرها في حين الاشتراكية هو تفرد مصدر واحد بالبيانات، إذن فرقمنة الحياة هي سمة الحياة المستقبلية المحتملة. والثانية هي دين المعلومات، لن يعود الإنسان هو مركز الحياة بل ستكون المعلومات هي المركز، ومن خلال بناء شبكة معلوماتية واسعة تضم جميع المجتمعات البشرية، ستصبح عبادة المعلومات هي الإله الجديد للبشر، إذ تمتلك معلومات عن كل شيء، وكل نفر، وبإمكانها الوصول إلى أي مكان بأسرع وقت ممكن، وتحتوي على مزايا كثيرة، فالحياة اليوم عبارة عن صوّر - ارفع - شارك. إذ تُنتهك خصوصية ملايين الناس بإرادتهم، فكل شيء يرفع عبر الشبكة العنكبوتية، لكن هذا الأمر لا يُبشر بخير فما الذي يضمن أن من يدير هذه الخوارزميات سيديرها لمصلحة الجميع، والأهم هذه الخوارزميات تتطور يوما بعد آخر، فما الذي يضمن أن تكون المعلوماتية هي المسيطرة مُستقبلا وتعامل الهوموسبيانز كما عامل الكائنات الأخرى؟ كل الاحتمالات مفتوحة
يُنهي يوفال كتابه بالتذكير أن ما كتبه هو احتمالات متوقعة وليس نبوءات أو حقائق حتمية وينهي كتابه مطالبا القارئ بالتفكير بـ
١- العلم يتقارب من عقيدة شاملة لكل شيء، والتي تنص على أن الكائن الحي هو خوارزميات، والحياة هي معالجة البيانات
٢- الذكاء مفصول عن الوعي
٣- اللا - وعي وخوارزميات خارقة الذكاء قد تعرفنا قريبا أفضل مما نعرف  أنفسنا

هذه العمليات الثلاث تُثير ثلاثة أسئلة:
١- هل حقا الكائن الحي خوارزميات، وهل الحياة حقا معالجة بيانات؟ 
٢- ما الأكثر قيمة - الذكاء أم الوعي؟ 
٣- ما الذي سيحدث للمجتمع والسياسة والحياة اليومية حين تكون خوارزميات لا واعية خارقة الذكاء تعرف عنا أكثر مما نعرفه عن أنفسنا؟

مما يجدر الإشارة به، بعد الوصول لمنتصف هذا الكتاب، فإن كثير من الأفكار تتشابه مع كتابه الأول موجز تاريخ النوع البشري. لذا كان من الأفضل أن يجمع الكتابين في كتاب واحد ويطرحه وفق السلم التصاعدي للإنسان الذي هو سمة الكتابين. لكن لا أدري ما ظروف الكتابة التي واجهها قبل أو أثناء الكتابة ولا أستبعد الأهداف التجارية بعد شهرة كتابه الأول وترجمته لكثير لغات العالم. وفي مواضيع معينة تشابهت حتى الأمثلة، لكنه كان ذكيا فما ذكرها مفصلة في كتابه الأول اختصرها في كتابه الثاني. لكن الكتاب بمجمله مثير للاهتمام وجدير بالقراءة لفهم عالم الغد