الخميس، 14 فبراير 2019

هارون الرشيد في كتابي أحمد أمين ومحمد رجب البيومي.



يتناول هذان الكتابان سيرة الخليفة العباسي هارون الرشيد خامس خلفاء بني العباس، والذي ذاع صيته وانتشر عبر العصور، فتخلّد اسمه بين عظماء الخلفاء وكان على رأس قائمة خلفاء بني العباس شهرة، ويقول الأديب والناقد البيومي أن شهرته التي استمدها مما حصل في عصره من ازدهار أدبي وثقافي وعلى رأسها ما تم تدوينه عن عهده في حكايات ألف ليلة وليلة، وتصوير ليالي قصر الخلد، وهذه الحكايات التي انتقلت عبر الترجمة إلى أوروبا كان لها الأثر الكبير في ذيوع اسم الرشيد، ويكمل على الرغم أنه لم يكن بعظمة جده أبي جعفر المنصور ولم تزدهر الآداب كما ازدهرت بعصر ابنه عبد الله  المأمون إلا أنه اشتهر أكثر من هما. ويقول الأديب والناقد أحمد وهذا فضل يمنه الله على من شاء وتلعب الأقدار في خفض ناس ورفع آخرين. لكن هذا لا يعني أن يتم التقليل من قيمة الرشيد، ففي كتاب البيومي الذي مهّد فيه للدخول لعصر الرشيد فيذكر قيام دولة بني العباس بعد إطاحتهم بالأمويين في معركة الزاب عام ١٣٢ هـ لتنتهي المعركة بنتائج تمثلت بنهاية الأمويين وملاحقتهم من قبل خلفاء بني العباس ولا سيما الأولَيْن أبو العباس السفاح وأبو جعفر المنصور، حيث عملا على توطيد الحكم بالنار والحديد وأقصوا جميع الأمويين وقتلوهم ومن عاداهم ومن شك بمعاداتهم ومن خافوا منه إذ عمل السيف في كل من شاؤوا حتى استتب لهم الأمر، وكان هارون الرشيد خامس الخلفاء بعد وفاة أخيه الهادي، ويذكر البيومي في كلامه عن خلافة الأخير رغبته بقلع أخيه من ولاية العهد وإسنادها لابنه ذي الخمس سنوات، لكن المنية عجلت برأب الصدع وتولي الرشيد للخلافة. فكان عصره عصر قوة وازدهار بلغ ملك من بلاد السند شرقا إلى المغرب غربا، فكانت مملكته من أعظم الممالك أذل فيها الروم في القسطنطينية حتى دفعوا له الجزية وهم صاغرون وكانت له مراسلاته مع الملك الفرنسي شارلمان كما تنفرد بهذا الأمر المصادر الأوروبية وهو ما يبقيها حدوثها محل شك، كما قمع أي حركة أو بليلة أو ثورة تقام ضده، وقد أسند الرشيد وزارة خلافته ليحيى بن خالد البرمكي واستعمل بعدها ابنيه الفضل وجعفر، استعمالا سيتحول لوبال عليهم ينتهي بمأساة عرفتها كتب التاريخ بنكبة البرامكة. وكان من علامات هذا الازدهار التنظيم الإدراي للدولة والنُظم التي عمل بها الرشيد، ويتكلم عنها أحمد أمين بأسلوب سلس رقراق جذّاب، وما يقع به أحمد أمين من هفوات هو اعتماده في كثير مروياته عن عصر الرشيد على ما كتبه الأصفهاني في كتاب الأغاني وهو كتاب تم تجريح الأصفهاني بسببه ووصف بتتبعه مرويات الخلاعة والمجون وكل ما هو غير موثوق، إذ يُظهر عصر الخليفة عصر انحطاط وابتذال وشر أخلاقي وفساد، لذا نقرأ لأحمد أمين وهو ينقل دون تدقيق أو تمحيص وكذلك ما أخذه من حكايات ألف ليلة وليلة وكأنها كتاب تاريخ موثوق لا حكايات نسجها الخيال لا يُعرف لها كاتب حتى اليوم ولم يتفق على أصلٍ لها حتى الساعة فكيف يتم الاستناد لها، الأمر الذي يجعل بعض ما يرد في كتاب أحمد أمين، مجرد حشو لا أكثر حتى أنه وقع بتضارب فيما ينقله فعند حديثه عن الحالة الاجتماعية يركز ويكثر الحديث عن الجواري والمغنيات والشعراء الخلاعيين، ويقول وكثير من الشعب هم من الفقراء، أفلا يكون كثير الشعب هم الذين يمثلون الحالة الاجتماعية! إلا أنه في هذا قد اتبع ما صوره الأصفهاني في كتابه، ثم وفي حديثه عن مجالس الغناء يقول أنها كانت للأمراء والأغنياء الذين تكثر في قصورهم ودورهم الجواري! فهو يريد أن يعمم حالة الخواص على جميع أهل بغداد بل ويفتتح حديثه عن الحالة الاجتماعية بحديثه عن عليّة القوم بدل عامته إذ هم السواد الأعظم وصورة المجتمع الفعلية وفي هذا قد جانب الصواب! ونقطة الاستعانة بكتب الأدب والشعر كمصدر تاريخي ما ينقدها البيومي في كتابه على بعض الباحثين واعتمادهم على كتاب الأغاني وحكايات ألف ليلة وليلة واستنادهم لمروياتها كمصدر تاريخي! ويتعجب مما يفعلونه بل ويتهم بالتقصير وقصر النظر وأن عليهم العودة لكتب التاريخ الموثوقة فالأدباء ليسوا مؤرخين وما يكتبونه من خيالهم وفكرهم الذي قد يجمح لا يُصحُّ أن يستند إليه، بل الأمر بحاجة إلى بحث رصين وتدقيق وفحص وتحليل للمرويات ومقابلة بعضها لبعض حتى يصل الباحث إلى الحقيقة أو يقترب منها بدل الاستشهاد بالمكذوب والملفق والموضوع من أحاديث وقصص ومرويات تاريخية، ويلمح أحمد أمين لهذا الفرق بين المؤرخ والأديب الذي يكون أكثر حرية من الشاعر لكنه لم يعمل بوفق ما يراه صحيحا في كتابه. وأنا هنا أنصح لمن يود القراءة أن يبتدئ بكتاب البيومي ثم التعريج إلى كتاب أحمد أمين إن شاء. وما يميز كتاب البيومي هو تحليله النقدي للمرويات والآراء عن حادثة معينة، مما يرفد القارئ بمصادر إضافية وعرض تحليلي أنيق، فيمزج التاريخ بالنقد بتحليل النص والرد على الآراء الأخرى، فيثريه ويغنيه بعدة مصادر وأقوال ويستخلص قولا هو أقرب لما يراه هو الحقيقة. ويتحدث الكتابان عن عصر الرشيد الأدبي واهتمامه باللغة والشعر والأدب ومن قربهم إليه من شعراء كالأصمعي وعباس بن الأحنف وأبو العتاهية، وأما أبو نواس فينفي البيومي حضوره مجلس الرشيد إذ يقول بعدم وجود أي دليل على هذا شعري مما نظم أبو نواس بحضرة الرشيد أو قصصي يؤكد علاقته بالرشيد ونقلته كتب التاريخ، إضافة إلى البون الشاسع ما بين أخلاق والتزام الرشيد مع خلاعة ومجون أبي نواس، وكان يجتمع في مجالس الرشيد علماء اللغة العربية كالكسائي  والعارفين بالأنساب وأخبار العرب كأبي عبيدة، إذ كان هارون الرشيد محبا للشعر ونوادر الأخبار والطرف، إضافة لاهتمامه بمصالح الرعية والعدل بينهم إذ قرب له القاضي أبي يوسف وطلبه منه أن يكتب له رسالة في الخَراج، فكانت هذه الرسالة في أساليب الحُكم والفقه والسياسة والمظالم التي يتعرض لها الناس من قبل أمراء أو جباة فاسدين. وتناول الكتابان الحديث عن نساء الرشيد كأمه الخيرزان وزوجته زبيدة وأختيه عليّة الشاعرة الأديبة والعباسة. وأفرد الكتابان فصلين مختصين بالحديث عن نكبة البرامكة وأسبابها، وقد تناول أسباب النكبة البيومي بالشرح والنقد والتحليل أفضل مما قام به أحمد أمين لذا أنصح بالوقوف على ما كتبه البيومي ولا سيما ذكره لحادثة غضب الرشيد على جعفر بن يحيى البرمكي بعد أن أطلق سراح يحيى بن عبد الله بن الحسن العلوي، وما كان لهذه الحادثة من أثر كبير دفعت الرشيد بالوثوب إلى إنهاء سلطان البرامكة والقضاء عليهم قتلا وتشريدا وحبسا، وما يمتاز به كتاب أحمد أمين أنه تناول ما تعرضوا له من أحداث وما لحق الحادثة من قصص وما كتب من أشعار، وفي حين يحاول أن يبرر أحمد أمين هذه الحادثة بقول إن هذا كان ديدن الملوك وأن لك عصر أحكامه وقوانينه، يقف البيومي بالضد من الرشيد فيما فعله بالبرامكة وألقى مسؤولية خطأ هذا الفعل كاملا على الرشيد على الرغم من محاولات شحن الرشيد ضد البرامكة وإشعال غيرته منهم وما كان تحيكه زوجته زبيدة ضدهم نظرا لأن ابن الرشيد الآخر المأمون كان من أم فارسية ويميل له البرامكة في حين ابنها الأمين عربي وتخشى عليه من ثورة يتزعمها البرامكة، وما يضيفه البيومي حول أن الشرع ودين الله هو الذي يجب أن يحكم ولا يجب أن يحيد عنه أحد ولا أن يبرر أي تصرف مخالف لشرع بأي تبرير وأن الحق والإسلام هما الفيصل في الحكم والقضاء بين الناس

ومن أهم ما تم التعريج عليه في الكتابين، هو العلاقات الخارجية التي كان أبرزها جهاد الرشيد للروم، إذ سلمه والده المهدي في حياته قيادة جيوش المسلمين في قتال الروم وخرج مع والده في الجهاد فكأنه كما يقول البيومي كان يحضره لقتالهم فيما بعد، لذا فقد عركته الحياة وأصحاب من ذوي الخبرة العسكرية والمعرفة بحاجات الجيش في المعارك من استعدادات وخطط وتعبئة وآلات واستراتيجيات الحروب المختلفة، وله حادثة مشهورة مع نقفور ملك الروم انتهت بدفعه الجزية صاغرا ضعفين ما كانت تدفعه الملكة السابقة. وكذلك سفريات شارلمان مع الرشيد، وعلاقته بالعلويين التي لم تختلف كثيرا عن أسلافه في محاربة أي ثورة تنشأ يقوم بها العلويين كحال يحيى بن عبد الله وأخيه إدريس، وسجنه لموسى الكاظم ووفاته في السجن، والقضاء على الخوارج كما في حرب الوليد بن طريف الشيباني. يركز البيومي في كتابه على إظهار الرشيد بصورته البشرية العابدة والعابثة الملتزمة ذات الهفوات، فهو لا يرفعه ولا يدافع عنه بالمطلق ولا يحاربه ويخفض من قدره، وما يزود به آراءه من أقوال لباحثين ومؤرخين تُبيّن مدى اهتمامه وبحثه واجتهاده في استخلاص الموثوق في المرويات عن الرشيد، لكنه بذات الوقت يتغاضى عن حالات كموت موسى الكاظم في سجن الرشيد، لكنه في عمومه أكثر موثوقية من كتاب أحمد أمين الذي ظهرت فيه سمة عدم الجدية في البحث أو الكتابة والعرض، إذ يقع بأخطاء لو وقعت بيد ناقد ومؤرخ حذق لأبان تضاربات فيما نقل وتكلم. وهو كذلك يركّز على الجانب العابث واللاهي من حياة الرشيد، فيذكر هفواته وعلاته، في حين لا يتعرض للجانب الديني والأخلاقي للرشيد بصورة تتساوى مع نصفه الآخر، ليبدو لنا اهتمامه بلهوه ودنياه أكثر من رزانته وآخرته

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق