الخميس، 30 مايو 2019

الله والإنسان في القرآن (علم دلالة الرؤية القرآنية للعالم) - توشيهيكو إيزوستو.





يبحث كتاب الله والإنسان في القرآن (علم دلالة الرؤية القرآنية للعالم) للياباني توشيهيكو إيزوستو، في بعض المفردات القرآنية بانيا حولها بحثه في دراسة علم الدلالة القرآنية وكيف تغيرت معاني بعض الكلمات بعد دخولها في سياقات آي القرآن، لتصنع عالما جديدا لم تكن العرب في الجاهلية تعرفه ولتبقى هذه المعاني الجديدة هي المسيطرة على الكلمات ثمَّ تدخل في تحديد رؤية القرآن لهذا العالم، إذ ترتبط الكلمة - المركز (الكلمة المركز: هو مصطلح مفتاحي ذو أهمية استثنائية يتجمع حوله مجال مفهومي أو حقل دلالي محدد ومستقل ضمن المعجم ككل) بكلمات أخرى في حقل دلالي (الحقل الدلالي: مجموعة من المفاهيم أو المصطلحات التي تترابط في ما بينها لتؤدي وظيفتها في إطار النظام المفهومي الشامل.) وقد تكون هذه الكلمة - المركز مجرد كلمة افتتاحية (كلمة افتتاحية: كل كلمة ذات أهمية خاصة ويؤطرها حقل دلالي بعينه ضمن نظام المفهومي الكلي وتؤدي دورا حقيقيا حاسما في تشكيل الرؤية البنيوية للعالم) في حقل دلالي آخر.
ولكل كلمة معنى أساسي كان متعارف عليه في الجاهلية يعني شيئا ما، ومعنى علاقي (هو المعنى السياقي أو الإضافي الذي يلحق بالكلمة نتيجة لدخولها في نظام علاقات جديد في نظام مفهومي جديد).  فكلمة كُفْر أو كَفَر مثلا إذا ذكرت في القرآن أشارت إلى الكفر بالله وتكذيب أنبيائه والجحود بحق الله ورسله، عكس لو ذكرها العرب في الجاهلية فإنها تعني الجحد أو عدم الشكر فقط، وبهذا يكون للمعنى العلاقي (المترابط بكلمات أخرى) سطوة وقوة على المعنى الأساس والكلمة.
تتضح منهجية الكاتب في فصول الكتاب التسعة إذ يتتبع التاريخ التطوري لكلماته المفتاحية في استخدامات العرب في الجاهلية واستخدام القرآن الجديد لها وتبرز هنا سعة اطلاع الباحث على الموروث الأدبي العربي عبر استشهاده بأبيات الشعراء لتؤكد على معاني الكلمات التي كان متعارف قبل أن تتغير فيما بعد في سياقاتها المفهومية والعلاقية الجديدة، مقيما مقابلات ما بين ما كان وما أصبح، إضافة إلى أن بحثه اللغوي يشمل تأثير الديني والعقائدي كاليهودية والمسيحية في بعض الكلمات مثل لفظ الجلالة "الله". كل هذا يضعنا أمام بحث ماتع وشائق يتعرف فيه القارئ على رؤية قرآنية جديدة لم يعهدها من قبل فالمطروح في متن هذا الكتاب بهذه الرؤية اللغوية والتحليلية المستندة على علم الدلالة يضفي إلينا فهما جديدا لا للقرآن الكريم فقط بل وللّغة العربية كذلك. يكشف الأمر عن جمال موضوعي للّغة التي يتحدثها الإنسان وكيف أن الكلمة تتأثر في سياقٍ دون آخر وتحصل على معانٍ جديدة بل وتجذب إليها في مركزيتها كلمات أخرى إذ تتحول الكلمة الواحدة إلى عالم من الكلمات وكل كلمة تجذب كلمات أُخر ليتزود القارئ بمفاهيم عن اللغة. وفي بعض الأحيان لا تكتفي الكلمة بطغيان معناها العلاقي على الأساسي بل نجد أن معناها الأساسي قد غاب بصورة شبه كاملة، فكلمة تقوى لو قرأها أو سمعها المسلم ستعني مباشرة: الخوف من الله واتباع أوامره واجتناب نواهيه، والموروث الديني يحمل عشرات الشواهد في هذه المعنى، في حين أن لهذه الكلمة معنى أساسيا عرفه عرب الجاهلية متمثلا في اتقاء المرء أو الحيوان ما يخفيه أو يؤذيه، ولم يكن لها هذا البعد الديني والروحاني. الكلمة هنا لا تنتقل فقط من معنى أساسي إلى آخر جديد، بل كذلك تتغير ماهية حقلها وترتفع إلى مكانة أسمى نظرا لارتباطها الجديد المتمثل بالخوف من الله، هذا الخوف يجعل الكلمة تنتقل كما المسلم من عالم الأرض المادي إلى عالم السماء الروحاني، فكأن لكل كلمة جسد وروح، عرف العرب جسدها وأشار الإسلام إلى روحها، حتى طغى اللاهوت على الناسوت، وأضحيا كيانا واحدا. هذا الأمر يمكن تطبيقه على كثير كلمات في كثير مجالات واتجاهات وحقول مختلفة.
ينقسم الكتاب كما ذكرت إلى تسعة فصول، خصصت الفصول الثلاثة الأولى إلى تعريف القارئ بعلم الدلالة والمصطلحات المفتاحية التاريخية وأساس بنية رؤية القرآن للعالم. وخصص الفصل الرابع في البحث في لفظ الجلالة "الله". وانقسمت الفصول الخمسة الأخيرة (متضمنة فصل الجاهلية والإسلام) في تبيان العلاقة ما بين الله والإنسان عبر:
العلاقة الوجودية بين الله والإنسان.
العلاقة التواصلية اللغوية بين الله والإنسان.
العلاقة التواصلية غير اللغوية بين الله والإنسان.
العلاقة الأخلاقية بين الله والإسلام.




*التعاريف الواردة بين الأقواس مصدرها ثبت التعريفي في آخر الكتاب.




الشيخ مصطفى صبري وخفايا إنهاء الخلافة العثمانية.

يُعد الشيخ مصطفى أحمد صبري صاحب آخر أعلى مركز ديني في الخلافة العثمانية، شهد في حياته التآمر الذي تم من قبل أتاتورك وحزبه ضد الخلافة العثمانية وما جرَّ من ويلات على الأمة الإسلامية جمعاء بإلغاء الخلافة العثمانية، كان الشيخ مصطفى الصوت الهادر والمناقش والمُفند لكل الإدّعاءات الباطلة، كاشفًا زيف وبطلان الاتحاديين "حزب الاتحاد والترقي" والكماليين "أتباع أتاتورك" في كتاب "النكير على منكري النعمة من الخلافة والأمة والدين". فما تعرّضت له الأمة بعد زوال الخلافة الإسلامية كان الضربة التي قصمت ظهرها فتشتت وتمزّقت إلى دول ودويلات يقودها ملوك ورؤوساء خضعوا للمستعمر الأجنبي.
كان أول ما قام به أتاتورك هو عزل الخليفة عن السلطة حتى بدا واجهةً لا أكثر ليس له من الأمر شيءٌ وهذا ما حذّر منه الشيخ مصطفى صبري وكان له موقف واضح وصريح: "إن إلغاء الخلافة هو مشروع لتهديم الأمة" وهذا ما حصل، وأنهم ما ألغوها إلا تنفيذًا لغاية الإنجليز وهذا ما كشفه اختلاف البرلمان البريطاني عندما قرر عدم دعم اليونانيين في حربهم ضد العثمانيين وانسحابهم معللين هذه الحركة بأن دولة تركيا الجديدة ليست كسابقتها. إن زوال الخليفة هو زوال القائد الموحد لهذه الأمة وهذا ما كان يحسب له الإنجليز حسابه، فلما ألغوا الخلافة شرّقت الأمة وغرّبت وضاعت بين أيدي المستعمرين وأضحت لقمة سائغة في أفواههم.
أصاب الخلافة العثمانية في أواخر عهدها الضعف حتى بدت عليها علامات الاحتضار فالمغرب العربي حكمه ضعيف وتتدخل فرنسا في شؤونه واحتلت في نهاية القرن التاسع عشر الجزائر وتونس وكانت الجزيرة العربية تشهد معارك بين القبائل  وقيام الدولة السعودية الأولى والثانية حتى جاء عبدالعزيز وأسس السعودية الحديثة، الذي سيطر على نجد وأصبح سلطانها ودخل في صراع مع أمير مكة الشريف حسين. وكان الاثنان على اتصال مستمر بالإنجليز الذين دعموا الاثنين وهذه سياسة الإنجليز التي جعلت القبائل تتناحر فيما بينها، حتى رجحت كفة عبدالعزيز فنال رضاهم لكن هذا لم يكن كافيا فقد استرضاهم الشريف حسين، وكما يصف الشيخ مصطفى صبري ما حدث من خيانة بعض العرب ضد الخلافة العثمانية "الطعن من الداخل" فكانت بحق طعنة من الداخل لجسد الأمة التي مزقتها شر ممزق، وليت الإنجليز أوفوا بعهدهم ووعدوهم، لا، فاُحتل العراق والشام وبيعت فلسطين لليهود وبقي الشريف حسين بسواد فعلته يشهد التاريخ بسوئها يوم أطلق النار مشيرا لبداية الثورة!
كان منصب الخليفة هو الرادع لكل محاولة احتلال لأرض العرب أو قطع فلسطين وبيعها لليهود، يقول الشيخ مصطفى: "إلغاء الخلافة ونقل الحكم لمجلس الأمة هو الضوء الأخضر لدمار المسلمين وإن المسلمين بعد هذه الفعلة لن تقوم لهم قائمة". فقام أتاتورك بإلغاء المحاكم الدينية وأبعد الشريعة عن القانون واستبدله بقوانين مدنية سويسرية، متحججا أن الشرع لا يتماشى مع التطور والحضارة، وما هذه الحركة إلا لإبعاد الإسلام وإقصاءه من تركيا تدريجيا وفتحًا لطرُق أخرى من إلغاء المدارس الدينية ومنع الحجاب ومنع لبس الطربوش حتى وصلت لإعدام من لبس الطربوش ونشر الرذيلة وأُسس التحلل داخل المجتمع التركي المسلم، ومنع استخدام الحروف العربية في الكتابة، وبهذا جعل من سكان الأناضول شعبًا أُميا بالكامل، ولم تعرف أمة في التاريخ مثل هذا الفعل. ومما بدأ يتفشى في هذه الأمة هو القومية فعزّز الإنجليز القوميات عبر من خدعوهم من المسلمين؛ فدعموا الصراع القبائل في الجزيرة العربية ليشغلوهم بأنفسهم، ونادى حزب الاتحاد والترقي بالقومية التركية والمصريون بالمصرية، فبعد أن كانت الأمة يجمعها الدين وتوحدها العقيدة أضحت القومية نداءها.

وقد خُدع العرب بأتاتورك ونضموا فيه الشعر بل عدّوه من سيعود بالأمة إلى أمجادها التليدة لكن أنّى هذا، وبعد أن أُجبر مصطفى صبري على مغادرة تركيا وتوجه إلى الإسكندرية ولاقى من سوء الاستقبال ومهاجمة الصحف له وقد عانى مصطفى صبري وهذا ما يوضحه في كتابه النكير: "بأن ما حصل زاد من بؤسه وأن انخداع المصريين بأتاتورك لا مبرر له ولا عذر وكان لا بد لهم من أن يسمعوا من كان في ظل سلطته". وتعود أسباب هذا التوافق والانخداع بأتاتورك، هو ما قام به حزب أتاتورك من بث الأخبار الكاذبة والمزعومة عن الحكومة الجديدة والتطور الذي ستشهده تركيا حين تواكب عجلة التقدم والتطور الذي تشهده أوربا، ومن الأسباب الأخرى هي الطفرة التي شهدتها مصر بعد استلام محمد علي وأولاده الحكم في مصر لمدة قرن من الزمن وما شهدته مصر من تطور وانفتاح على العالم والبعثات التي أرسلت إلى فرنسا، وتطور الحركة العلمية والأدبية وصدور الجرائد وانتشار الترجمة والتعريب والطباعة كل هذا كان له دور بتأثر الطبقة المثقفة التي احتكت مع العالم الغربي، وابتعد الناس عن الدين وانتشر الإلحاد واللا دينية عند بعضهم، وهي مقومات جعلت التأثر سريع بأتاتورك لا سيما بعد استرداد أزمير التي احتلها اليونانيون على يد أتاتورك، وهنا يحلل الشيخ مصطفى صبري كيف أمكن الدولة البريطانية العظمى التي خرجت من منتصرة من الحرب العالمية الأولى أن تنسحب وتُمنى بالهزيمة أمام أتاتورك وتترك حليفتها اليونان! لكنه لا تغيب عنه أن تركيا أتاتورك ليست تركيا العثمانية وهذه الهزيمة المفتعلة لها من النتائج أهم وأفضل من أزمير وهذا ما أثبته التاريخ بعدها باحتلال للعراق والشام بموجب الاتفاقية مع الفرنسيين (سايكس - بيكو).




إن سقوط الخلافة العثمانية ليست مجرد انتهاء فترة حكم لا بل هو سقوط للأمة في منحدر فبعد مئة عام ما زالت الأمة ضائعة في التيه، ولم تكن سياسة المستعمر سوى تفريق للجمع وتمزيق للأرض، مستغلًا العملاء وضعاف النفوس لتنفيذ مآربه، ويصف الشيخ مصطفى صبري موقفه من أتاتورك قائلا: "مهما بلغت قوة حكومة أتاتورك فهذا لن يُفرحني لأنهم في مقام أعدائي".

تفرقت الأمة وعانت ما عانت على مدار قرن من الزمن منذ نهاية القرن التاسع عشر إلى سبعينات القرن العشرين من حروب وثورات وصراعات، ليخرج اليوم من يقول أين نحن وأين الغرب غافلا وجاهلا أن اليوم هو ابن الغد وأن المستقبل هو وليد اليوم فكيف تنهض أمة وقد ضاع من يوحد أمرها "الخليفة" فقوة المسلمين في خليفة يجمعهم ويستنهض بهم لأجل أن يكون لهم موقع في عالم اليوم في أرض واحدة "أرض خلافة" وهذا ما يخشاه أعداء الأمة وعملوا ضده، فهل كان الوضع أفضل قبل زوال الخلافة العثمانية أو بعدها؟ أضاعت فلسطين حين كان عبد الحميد سلطانًا أم بعد أن جاء الدونمي أتاتورك؟

ولا نغفل الدور اليهودي الذي كان واضحًا وجليًا في إنهاء الحكم العثماني فبعد محاولاتهم لشراء فلسطين بدفع ديون الدولة العثمانية إلا رفض عبدالحميد الثاني لعرضهم أغاض اليهود وكان هرتزل  يتحين الفرص لقاء عبدالحميد وتقديم العرض إليه لكن خابت مساعيه برفض عبدالحميد فعملوا على تشويه سمعته ونشر الأكاذيب عنه واستخدام الشارع في الترويج لكل الأكاذيب ليحطوا من صورة الخليفة في نظر الأمة، متبعين نفس السياسة التي استخدموها في فرنسا وبريطانيا وضد أي شخصية ذات سلطة تقف ضد رغباتهم، وقد ظلم التاريخ شخص عبدالحميد وبالعودة لمذكراته تُبان كثيرٌ من الحقائق المخفية، ويكفي عبدالحميد أنه حين استلم الخلافة كانت الدولة مدينة بـ300 مليون جنيه فخفض الديون إلى 30 مليون فقط، وفي الجهة المقابلة ترك أتاتورك الدولة وعليها ديون تقدّر بـ400 مليون جنيه بعد أن استلم خلافة تمتد شرقًا وغربًا، وهنا يُعلق الشيخ مصطفى صبري: "إنه لم يكن ليمانع لو كان أتاتورك خليفة لكنه كان ملحدًا كافرًا بالأديان"، ومن شدة سوئه إنه قبل أن يموت عرض رئاسة تركيا للسفير البريطاني في تركيا في حادثة لم يشهد التاريخ مثلها، وكان يدور في خلده في حربه ضد الإسلام أن يحول ديانة تركيا الرسمية كما تكشف بعض الاعترافات من مقربيه الذين رفضوا هذه الفكرة بما قد تجلبه من عواقب وخيمة تُودي بكل شيء، ومن مساوئ أتاتورك وحزبه الحاكم، يقول الأمير شكيب أرسلان "ولقد كانت في السلطة العثمانية الملايين من المسيحيين يعيشون وافرين مترفين كاسبين متمتعين بامتيازات كثيرة مدة عمل الأتراك بالشرع الإسلامي، فلما جاءت دولة تركيا الحاضرة وبطل العمل بالشرع وأخذ الترك بأوضاع الإفرنج وقلدوهم في كل شيء وتحولوا إلى سياسة التمغرب لم يبق في جميع الأناضول إلا فئة قليلة جدًا من المسيحيين". كل هذا يُثبت أن أتاتورك ما جاء إلا ليخرب وما دعمه الإنجليز إلا لإنهاء الخلافة الإسلامية والنتيجة ما نعيشه اليوم وعاشه من كان في الأمس القريب في تاريخنا المعاصر.

الأربعاء، 29 مايو 2019

أسماء الأدباء وشخصياتهم الخيالية وتأثيرها في اللغة 2.

كتبت في المقالة الأولى عن موضوع تأثير الأدب في اللغة الرابط وموضوع دخول الأسماء سواء أسماء الأدباء أو شخصياتهم في اللغة لتكون صفات أو ألفاظ كناية، تغني فيها الكلمة عن طويل الشرح والإسهاب في التشخيص والوصف، أكمل في هذه المقالة الكتابة عن الجانب اللغوي وكيفية اشتقاق هذه الصفات والألفاظ من الأسماء، وآخذًا بعدها أمثلة ستة عن ذات الموضوع ليكون في مجموعها عشرة، تفتح الباب أمام القارئ للتوسع في الموضوع والوقوف عليه بصورة مغنية كما أرجو.

عند أخذ صفة كيخوتيّ Quixotic التي أصلها الاسم دون كيخوته Don Quixote، فإن لهذه الصفة تندرج  في اللغة الإنجليزية تحت ما يُعرف بـ"Eponymous" ونظيره في العربية "المُسمّى".

فما الـEponymous؟ له عدة تعريفات منها:

- شخصية في مسرحية أو كتاب التي يكون اسمها عنوان المسرحية أو الكتاب.

- هي كلمة تشير إلى شخص أو شيء أو كيونية ما.

- هي صفة الاسم eponym، الذي قد يكون شخصا أو مكانا أو شيئا ما، إذ تشير هذه الصفة إلى هذا الاسم أو معناه أو دلالته فحين نقول العصر الإليزابيثي فنحن نشير إلى فترة حكم الملكة إليزابيث، وحين نقول: فلان بريطاني فإننا نشير إلى أنه من بريطانيا، الدولة المعروفة. لذا فإن المعلومات تتداعى في الذاكرة عن كل ما له علاقة بلفظة  بريطاني وتربطه بصفات معينة لا يشترك بها سواه مثل أنه يتحدث اللغة الإنجليزية ويعيش في قارة أوروبا وهلمَّ جرا.

وهذه الصفة "Eponymous" غير محددة بمجال ما فقد تكون أدبية أو اجتماعية أو سياسية أو علمية، إلخ. ويكتب حرفها الأول حرفا كبيرا في اللغة الإنجليزية لأنها محسوبة على Proper adjective "الصفات الأصلية" وهي الصفات المشتقة من Proper nouns "الأسماء الأصلية".
لذا فحين نكتب Quixotic فنكتب حرف "Q" كبيرا إينما يرد وفقا لإملاء اللغة الإنجليزية في الكتابة.

هذا فيما يخص الـ"Eponymous" في اللغة الإنجليزية لكن هل يوجد له نظير موضوعي له في اللغة العربية؟
نعم، وهذا النظير متمثل في موضوع النسب. يقول الدكتور محمد فاضل السامرائي في كتابه الصرف العربي ص. 203:

"النسب: هو إلحاق آخر الاسم ياء مشددة مكسور ما قبلها للدلالة على نسبة شيء إلى آخر. والذي تلحقه ياء النسبة يسمى "منسوبا" نحو دمشقيّ ويمانيّ وهاشميّ.
فالمنسوب: هو ما لحق آخره ياء مشددة مكسور ما قبلها للدلالة على نسبته إلى المجرد منها".
الشاهد في موضوعنا قوله:
"وفي النسبة معنى الصفة، لأنك إذا قلت (هذا رجل دمشقيّ) فقد وصفته بهذه النسبة".

لذا فحين تترجم صفات "Eponymous" إلى العربية يجب أن تُصاغ وفقا لقواعد الصرف العربي في النسب.
والآن مع أمثلة عن هذه الصفات:

أورويليّ  Orwellian:

تُطلق صفة أورويلي على الحكم الشمولي في البلاد، حيث الدولة أو الحكومة تراقب وتتجسس على كل شيء يقوم به المواطنون ومحاولة معرفته. توجد حالات كثيرة في القرن العشرين عن مثل هذه النوع من الحكم لا سيما في البلدان ذات الطابع الاستخباراتي أو الشيوعي مثل الاتحاد السوفيتي،  نرى اليوم مثالا حيا في دولة كوريا الشمالية. صفة أورويلي مشتقة من اسم الروائي الإنجليزي جورج أورويل (1903 -1950) صاحب الرواية الشهيرة 1984، التي عبّرت عن حال المواطن في هذا النظام الشمولي الدكتاتوري، والحكم الأوتوقراطي سواء في شخصية الحاكم أو الحزب الواحد. كان تأثير الرواية في الواقع أكبر من تأثير عالم الديستوبيا الذي خلقته في شخصيته الرئيسة وينستون والحزب الحاكم المتمثل في الأخ الأكبر فعلى الرغم من شيوع كثير روايات تناولت العالم الشمولي والحكم القمعي، فإن رواية أورويل هي الوحيدة التي كان تأثيرها في اللغة متمثلا بصفة الأورويلي نظرا لقيمة الرواية الأدبية وأسبقيتها وما لكاتبها من باع في مجال الأدب السياسي وعمله الصحفي سيما أثناء الحرب الأهلية الإسبانية. تطور هذا الحكم الشمولي وخرج من نطاق الاستخبارات الحكومية ودخل في نطاقات شبكة الاتصالات والتواصل التي يستخدمها المواطنون كالهواتف ومواقع التواصل أو أن تستخدم التكنولوجيا الحديثة في مراقبة مواطنيها كما في النظام الصيني ومشروع الSocial Credit System، وكثير من الأنظمة تقوم بهذه العمليات التجسسية في هذا العالم خلاف ما تبديه من حريات، ويصف يوفال نوح هراري في كتابه الدروس الواحدة والعشرون في القرن الحادي والعشرين هذا العالم بـ Big Data Watching You على غرار الأخ الأكبر يراقبك التي أعلن عنها أورويل في روايته.

رابليهيّ Rabelaisian

تطلق هذه الصفة على النكت القوية الصارخة أو الكاريكاتير المتطرف أو الواقعية الجريئة والداعرة أو البذاءة. واشتقت هذه الصفة من اسم الكاتب الفرنسي فرانسوا رابليه (1493/4-1553) وتشير إليه وإلى كتابيه بانتغرويل وغارغانتو، وازدحمت حكاياته في هذين الكتابين "بالفُحش وغالبا بالفكاهة الخرائية (دعابات مرتبط بالبراز Scatological Humour): بعض الفصول مملوءة بقوائم من الشتائم المبتذلة؛ بعض الشخصيات أُعطيت أسماء فظّة؛ وعناوين الفصول نفسها إشارة لحس رابليه الفكاهي". ما يذكر في كتاب أدباء (حيواتهم وأعمالهم).


الساديّ والساديّة Sadist and Sadism.

إن السادي صفة تطلق على الشخص الذي يمارس العنف والتعذيب الجسدي من أجل الوصول اللذة أو لأجل المتعة فقط، وهذه الممارسات التي تعرف بـ"السادية" مشتقة من اسم النبيل الفرنسي والثوري السياسي والفيلسوف والأديب المركيز دو ساد (1740 - 1814) الذي عرف بكتابته الجنسية الداعرة والمنتمي لمدرسة الدعارة الأدبية. ويكتب محمد عبد الرحمن في تقديمه لرواية جوستين لدو ساد "السادية انحراف جنسيّ تستقى فيه اللذة الحسية من الألم المبتلى، أما المركيز دو ساد فأول من وجد في العنف مادة أدبية". عبّر دو ساد عن انحرافاته السلوكية والجنسية في أعماله مثل: رواية جوستين ومئة وعشرون يوما في سدوم.

شكسبيريّ Shakespearean

تطلق هذه الصفة "شكسبيري" وهي المشتقة من اسم الكاتب المسرحي الغني عن التعريف وليم شكسبير (1564-1616) على العمل المسرحي المتقن والرصين الذي يبلغ من الجودة تقربه من أعماله المسرحي شكسبير أو "الشخصيات الدرامية أو النثر المميز أو الأقوال ذات الحكمة والبصيرة النافذة" كما يكتب سكيتي هيندريكز، وتطلق أيضا على كل ما له علاقة بشخصيات شكسبير المسرحية وأعماله.

كافكاويّ  Kafkaesque

إن حياة وشخصية ومعاناة الأديب التشيكي فرانز كافكا (1883- 1924) بكل تقلباتها وصعوبتها التي انعكست في أعماله التي ذاع صيتها وتُرجمت إلى أغلب لغات العالم الحية وأسست ما يعرف بالسوداوية الأدبية وحياة الوظيفة السيئة في ظل النُظم البيروقراطية الصارمة والساحقة للموظف. يكتب ميلان كونديرا عن ما سمّاه بـ"عالم الكافكاويّة": "هناك نزاعات في التاريخ الحديث تنتج الكافكاوية في البعد الاجتماعي الكبير: التركيز المتدرج للسلطة التي تنزع نحو الاستئلاه: تحول النشاط الاجتماعي إلى بيروقراطية؛ مما يجعل المؤسسات كلها بلا حدود ومن ثم محو شخصية الفرد الذي ينتج عن هذا التحول". ويكتب عن عالم الكافكاويّة الأسري: "استخلص كافكا من الأسرة والعلاقة بين الطفل وسلطة الأبوين المقدسة، معرفته بتقنية الشعور بالذنب التي صارت إحدى أكبر ثيمات رواياته. كما في قصة الحكم، إذ يتهم الأب ابنه ويأمره أن يغرق نفسه، ويقبل الابن ذنبه الخيالي ويذهب ليلقي بنفسه في النهر طواعية شأن من خلفه فيما بعد، جوزيف ك. الذي سيذهب بعد أن أدانته منظمة غامضة لذبح نفسه. يُفصح الشبه بين الاتهامين والتجريمين، وتنفيذ الحكمين، عن الاستمرارية التي تربط في مبدع كافكا بين "الشمولية" العائلية الحميمية و"شمولية" رؤاه الاجتماعية الكبرى".
لذا فصفة كافكاويّ تعني السوداوية والكآبة واليأس والعالم القاسي المظلم غير المعتد بالقيم والأخلاقيات.

مكيافيليّ Machiavellian

تشير هذه الصفة إلى الفيلسوف ومؤسس مدرسة التنظير والتحليل السياسي الواقعي الإيطالي نيكولو مكيافيلي (1469 - 1527). إن أهم ما قام به مكيافيلي هو كتابته لكتاب "الأمير" الذي يعد من أهم الكتب السياسية والتي فصّلت ودرست نظرياته في القرن العشرين، وكُتب ليكون كتاب توجيهات وتعليمات للحكام وكيفية الحكم، ورغم نشره بعد موته فقد نال هذا الكتاب وصاحبه من الشهرة الكبيرة التي جعلت من اسمه دلالة على النفعية السياسية والوصولية على أكتاف الآخرين، ومن اسمه اشتقت صفة المكيافيليّ والمكيافيليّة.

المصادر:
- الصرف العربي للدكتور محمد فاضل السامرائي.
- ثلاثية ميلان كونديرا عن الرواية.
- رواية جوستين - ماركيز دو ساد. ترجمة محمد عبد الرحمن.
- مقالة ثمانية أدباء أصبحت أسماؤهم صفات. لسكيتي هيندريكز. موقع Big Think.
- Writers/ Their lives and works. .
- Wikipedia.
- 21 Lessons for the 21th century - Yuval Noah Harari.

الأحد، 26 مايو 2019

في هدي القرآن في السياسة والحكم - امحمد جبرون.



كنت قد تعرفت إلى صاحب هذا الكتاب الأستاذ جبرون في المقهى الأدبي الأورو-عربي حين استضافه ليلقي محاضرة تناول فيها بإيجاز فكرة هذا الكتاب داعيا فيه إلى تجديد فقه المعاملات والسياسة، لأحصل على نسخة من كتابه مع نية قراءته بأقرب فرصة، وهذا ما حدث، إذ كنت متحفزا لقرائته متنبها بجميع حواسي لما سأجده في هذا الكتاب لذا فقد كانت رحلة شائقة وشاقة، والكتاب في فصوله الخمسة تجاذبني ما بين القبول والرفض فيما طرحه، مما يجعل الحكم عليه من الصعوبة بمكان، فالكتاب في فصول منه هو طرح فقهي وبحث في مناهج الآخرين في التجديد الذي يبحث فيه الكاتب امحمد جبرون سواء من قالوا بالتجديد الفقهي أو من نادوا بالحاكمية (تحكيم النص)، وفي آخر بحث في قيم القرآن، لأجد نفسي ما بين إعجاب ونفور مما قرأته، لذا أرى ألا أتعمق كثيرا فيما سأكتبه لأسباب منها ألا حاجة أراها في جعل الكتاب مثار جدل وهو ما زال كما أراه في مرحلة البداية التي لم تنضج بعد فكثير من المحطات تحتاج تفصيل وتوضيح أكثر وغيرها تحتاج مراجعة حتى لا تبدو فضفاضة متروكة على الغارب، وأن يعود القارئ إلى الكتاب ليقرأه بنفسه ويبقى النقاش مع من قرأه مفتوحا. وسأقدم في السطور التالي قراءة عن هذا البحث الذي كان مهما في بعض ما أورده ورائعا لا سيما في فصله الأخير هدي القرآن في الحكم والسياسة.
الأستاذ امحمد جبرون، باحث مغربي يُعنى بقضايا التاريخ والفكر السياسي الإسلامي. والحاصل على شهادة الدكتوراه في التاريخ. وأستاذ في المركز الجهوي لمهن التربية الإسلامية والتكوين بطنجة. والحاصل على الجائزة العربية للعلوم الاجتماعية والإنسانية في دورتها الأولى (2012) وعلى جائزة المغرب للكتاب (2016)، وله العديد من الكتب من ضمنها مفهوم الدولة الإسلامية: أزمة الأسس وحتمية الحداثة؛ وآخرها كتابه في هدي القرآن في السياسة والحكم (أطروحة بناء فقه المعاملات السياسية على القيم). ولد في عام 1971 في شمال المغرب ويستقر في المغرب حاليا.
ينقسم بحثه في هذا الكتاب إلى خمسة فصول ومقدمة وخلاصة. فيقدم لبحثه من نواحي الفرضية والمنهج والمفاهيم والتصميم، وما يجدر نقله مما ورد في مقدمته عن علاقة القرآن والسياسة في المجال العربي والإسلامي قوله: "فإن كان المتقدمون قد استدلوا بنصوص القرآن وأحكامه على وجوب الرياسة والحاجة إليها، وهو ما أثمر تاريخيا ظهور الخلافة ونشوء فقه الأحكام السلطانية والسياسة الشرعية، فهذا الاستدلال، ومع مرور الزمن، ما عاد مقنعا، وأمسى في كثير تفصيلاته مُتجَاوزا". فهو ينطلق من فكرة التجاوز الزمني والتاريخي ويضيف في موضع آخر: "... فأحكام "القرآن السياسي" التي تمثل المظهر الأساس لمفهوم الحاكمية السياسية -بحسب فرضيتنا- مُتجاوزة تاريخيا وسننيا كما يدل على ذلك الواقع من وجوه متعدد بعد أكثر من أربعة عشر قرنا". فهو في فرضيته التي تنص على تجاوز التاريخ لبعض الأحكام السياسية -والتي كانت تحتاج إلى تفصيل أكبر وطرح مرضٍ وذكر بدائلَ- يدعو فيها كما يكتب: "قلب جذري للفقه التقليدي في مجال السياسة والحكم، حيث تتيح للفقيه تجديد أحكام القرآن وتوليد ما لا يتوقع من أحكام المعاملات السياسية بما يناسب العصر، وبصورة تحفظ الرسالة الأخلاقية للقرآن الكريم وتحقق هيمنته وتتيح تخليق المجالات السياسية الجديدة التي أحدثها التطور الاجتماعي والإنساني، والتي لا أحكام للقرآن فيها". ويمكن إجمال رؤيته بكلماته إذ يقول: "هي السعي إلى بناء أخلاقية السياسة والحكم في المجال الإسلامي استنادا إلى القيم، بدلا من الأحكام، وذلك ببيان الوصف التاريخي لهذه الأحكام واتصالها الوثيق بظروف التنزيل من جهة، وبيان القيم/ الثوابت الأساسية مناط الأخلاقية المتعالية عن الزمان والمكان المنصوص عليها في كلّيات القرآن والكامنة أيضا وراء الأحكام/ الصور، من جهة ثانية" و"تؤسس لـ {أصول فقه جديدة} في مجال المعاملات السياسية". و "صوغ نظرية توفيقية وتوافقية بين الإسلام والحداثة السياسية…".
جدير بالذكر بأن هذا البحث هو في تجديد الأحكام السياسية والمعاملاتية ولا تتجاوزها إلى الأحكام الاجتماعية والاقتصادية التي يرى أن البت فيها يحتاج إلى مزيد من الجهد والبحث.
يتناول الفصل الأول من الكتاب موضوع آيات القرآن ذات البعد السياسي في ضوء التاريخ وأسباب النزول، يقوم في هذا الفصل بنتبع آيات الحدود والعقوبات والولاء والبراء والبيعة والحكم بما أنزل الله والعلاقة مع المخالفين، في سعيه إلى لملمة أسبابها وتاريخ وفلسفة تشريعاتها التي وقع في تناقض واضح حين قال أن فلسفة الأحكام نابعة من فلسفة القبيلة ص 60، وعاد ليناقض هذا الرأي في تأكيده للحداثة السياسية لآيات القتال في "قانون التدافع" ص64-65، وفي قضية السلم التي اعترف فيها بـ"التفوق الأخلاقي للقرآن على الأحكام والأعراف التي كانت تؤطر للحرب والسلم لدى عرب الجاهلية". ص81، وهذا يدل على أن للقرآن فلسفة إلهية في جميع أحكامه وإن حصل توافق ما بين حكم عرف العرب سابقا كالرجم والجلد وقطع يد السارق لا يعني هذا بالضرورة أنه جاء نابعا من فلسفتهم وهذا ما يثبت الواقع الاجتماعي والسياسي نقيضه في كثير من العادات التي كانت سائدة وأنهاها الإسلام ليؤكد على رؤية منهجية جديدة للعرب في عصر الإسلام.
كانت غاية هذا الفصل  البحث في آيات الحدود والمعاملات السياسية والحكم في ضوء تاريخ وأسباب النزول من أجل الوصول إلى فهم كامل وواضح دون أن تأخذ الآية مجردة من ظرفها الزمني وأسباب نزولها. ويمكن تلخيص النتيجة النهائية لهذا الفصل بـ(ص102):
- تجديد رسالة الإسلام الخالدة وتقديمها بأسلوب عقلاني ومقنع للعالمين!
- إن لم نستطع النفاذ إلى ما وراء النص/ الحكم، والفصل بين القيمة وظروف الحكم، وصورته، فإنه يصعب علينا إنتاج فقه جديد يساير وتيرة الحداثة المتسارعة التي تجتاح العالمين العربي والإسلامي.
- تسمح الدراسة المقارنة للأحكام السياسية في القرآن، والغوص في ظروف تنزيلها التاريخي، للفقيه فك الارتباط بين القيمة الأخلاقية ووعائها الشكلي-التاريخي، وإلا فإنه لن ينجح في رهان المعاصرة و#التجديد_الديني.
- جانب عظيم من المشكلة يقع على عاتق علم أصول الفقه الذي وثّق الصلة بين القيم الأخلاقية وهيئة الأحكام وصورها، ولم يتح الفرصة للتمييز بين الرهان القيمي للقرآن والتحققات التاريخية المحدودة لهذا الرهان.
كان الفصل الثاني من الكتاب في "أصول الفقه: من إشكالات الخطاب إلى إشكالات التاريخ في القرآن السياسي أنموذجا". وينقسم إلى قسمين الأول هو أزمة فهم النص الشرعي في اللحظة المعاصرة والآخر منهم الفهم الأصولي من إشكالات الخطاب إلى إشكالات التاريخ في الأحكام السياسية.
هذا الفصل من أكثر الفصول التي أختلف فيها مع الكاتب سواء في منهجيته أو أحكامه أو ما ذكره وهي تحتاج إلى نقاش طويل وتحليل ونقد كل سطر كتب في هذا الفصل. فقد بحث في أزمة الفهم والتأصيل الفقهي والناسخ والمنسوخ والتعارض الظاهري ما بين بعض الآيات إلا أن أهم ما يجدر نقله عن الناسخ والمنسوخ وتجديد فهم آيات الأحكام هو ربطه ما بين تجديد آيات الأحكام وتجديد طاقتها الرسالية من جهة وتحرير الآيات من ثنائية "الناسخ والمنسوخ" من جهة ثانية، ويزيد قائلا ص 127 في منهجية يستند إليها مفادها: "إن أصول الفقه الجديدة التي نتطلع إليها، لا تهتم بمبحث الناسخ والمنسوخ، ولا تتبع أحكامه، لكنها تهتم بالقواعد الأخلاقية الثابتة التي  يجري عليها وفوقها الأحكام ناسخها ومنسوخها ومهما اختلفت الأزمنة والظروف…" لعل هذا الكلام يحمل من الخطورة المنهجية والتجديدية نسف البحث كاملا عبر تجاوزه الناسخ والمنسوخ، وفي هذا تعارض للناسخ والمنسوخ المثبت في آيات الذكر الحكيم والأثر المتواتر عن النبي (صلى الله عليه وسلم)، وإن كان هذا القول يشمل آيات منسوخة دون أخرى، فكان يجب عليه تهذيب الصياغة لا إطلاقها بلا حدود وقيود، وإلا فإنكار الناسخ والمنسوخ يدخل الباحث في مطبّات لا تنفع دعوته التجديدية التي كان مصيبا في كثير مما طرحه بل كان نابعا عن فهم عميق واستدلال قيّم. هذا الفصل في مجمله هو الأحكام السياسية الواردة في القرآن وإشكالية تطبيقها في الوقت الحالي في ظل الحداثة السياسية، إلا أن دعواه لم تقم -كما أراها- على أسس متينة في بعض جوانبها لا سيما في موضوع الحكم، وعلاقة الحاكم والمحكوم فلم يفرّق ما بين "وعاظ السلاطين" والطغاة الذين يستخدمون الدين لاكتساب الشرعية في الحكم من جهة، والقول الفصل في حكم الشرع الحق الذي نصت عليه آيات الذكر الحكيم وأقوال العلماء والفقهاء ذوي المكانة المعروفة الناهية عن الظلم والاستبداد والطغيان واغتصاب الحكم واستعباد الشعوب المسلمة.

تناول الفصل الثالث من الكتب المحاولات التجديدية في فقه النص السياسي، عبر ثلاثة فروع:
- المنهج المقاصدي: الداعي إلى تطبيق الشريعة آخذا فيها بعض الشخصيات المعاصرة مثل البوطي والقرضاوي والريسوني.
- المنهج اللغوي: الداعي إلى الغوص اللغوي في آيات القرآن وهو أشبه ما يكون بالتفسير الإشاري والتأويل اللغوي غير المقنع والشاذ آخذا ثلاثة من أعلام هذا المنهج هم محمود طه والحاج حمد ومحمد شحرور.
- المنهج التاريخي: الداعي إلى قراءة النص بصورة متحررة من الاتجاهات، والآيات محكومة بسياقات تاريخية محددة، وتحويله من مفهوم "النص الإلهي" إلى مفهوم "النص الإنساني"، وجوانب الإسلامي عرضية يمكن تجاوزها إلى عرضيات أخرى تتوافق مع ثوابث الإسلام، كما لدى آركون والجابري ونصر أبو زيد وسروش تواليا، الذين أخذهم في عرض منهجهم التجديدي.

بحث الفصل الرابع من الكتاب في هدي القرآن، ويخلص فيها إلى نتيجة القيم الأخلاقية والعدالة للنص القرآني يتحقق على أرض الواقع بحسب المتاح التاريخي وبإمكاناته، "الشيء الذي يجعل هذا التحقق نسبيا ومحدودا من جهة، ومفتوحا في المستقبل على آفاق للتحقق أرحب وأوسع من جهة ثانية".ص231
إذ يرى أن الأحكام المنصوص عليها مرتبطة بظروف خاصة قد انتهت ولا مانع من التجديد فيها ما دام الجوهر الأخلاقي والعدالة الداعية لها ثابتة وموجودة وأن تطبيقها قائم على المتوفر والمنطقي للزمن الذي تطبق فيه وبما أن الزمن تجاوزها فهذا يوجب التجديد فيها ويأخذ من فقه عمر (رضي الله عنه) أدلة على التجديد الفقهي للأحكام، إلا أن تناوله لفقه عمر لم يكن دقيقا ولا مستفيضا بل هو أخذ لما وصل إليه عمر من نتائج دون توضيح المسار الذي مرَّ به فعمر لم يخرج على الأحكام الثابتة بالنص بل هو اجتهاد فيما لم يؤكد عليه بنص محكم من جهة، واجتهاد في تجديد الحكم انطلاقا من ظروف وحيثيات خاصة ومؤقتة دون التعارض مع النص وتغيير للأحكام المثبتة.
وتبقى دعوى التجديد في الأحكام لتصبح إمكانية تطبيقها واردة و"منطقية" لمن لا يقتنع بالمحكم المنزل أرى فيه تجديدا لا قيمة له وتأثير في الوقت الحالي، فإن النص المحكم المأمور بتطبيقه والثابت بالتواتر عن النبي المرسل (صلى الله عليه وسلم) لن يتم تطبيقه سواء أكان "تراثيا" أو "ما بعد حداثي" فالعلة ليست في الأحكام بل في محاربة الدين ورفضه، ونحن نرى الكثير من الدول الإسلامية لا تطبق أحكام الشرع لا في الحدود ولا المعاملات ولا غيرها، سواء كانت -كما يراها البعض- بسبب الاستعمار والتأثير الغربي أو في "لا منطقية ومعقولية" تطبيقها، فهي كلها أسباب غير مقنعة أو كافية، فالشريعة معطّلة من الأساس، وتعطيلها نابع لا من المسلمين أو أصول الفقه أو "اللا معقولية" بل في السياسة الحاكمة وسدنة الحكم، حتى وإن كانت بعض أحكام الشريعة تطبق في دول معينة فهي عائدة إلى المجتمع لا الدولة وإن كانت كثير الدول تدّعي أن دينها الإسلام إلا أن هذا مجرد ادّعاء لا أساس قوي له في أرض الواقع، لذا فـ"التجديد" في بعض الأحكام والحدود التي يُدعو إليها بعضهم يمكن أن يلتفت إليه إذا كانت لدولة الإسلام والشريعة شوكتها أما أن تكون لا شوكة لها فأن تبقى معطّلة بالإجبار والتأثير الخارج عن سيطرة المسلم خير من دعوى تجديدها وتبديل الأحكام التي أنزلها الله وأمر بها نبيه، لا سيما وأن هذا التجديد لن يخرج من عالم التنظير والنظريات وسيبقى بعيدا عن التطبيق بعد المشرق عن المغرب، فكأن أصول الفقه اليوم تطبق ونحتاج إلى تخفيف بعض أحكامها أو أن في اللحظة التي سيجدد فيها الحكم الفقهي سيتم تطبيقه بلمح البصر! هذا خداع للنفس وتقصير في قراءة الواقع، فالمشكلة ليست في تطبيق الشرع ولا في وسائله ومعقوليته بل في أن كثير الدول بسلطتها ومجتمعها قد ابتعدت عن الدين والشرع حتى بدا لها أنه غريب وقميء ومتخلف ولا يناسب العصر الحالي مع الغزو الثقافي والاجتماعي والسياسي لذا فالأولى أن يتم قراءة الشريعة بطريقة معاصرة لأجل إخراج المفاهيم الحقة من قيود المفاهيم الخاطئة والفاسدة التي ألبسها إياها الجهلة والمتسلطون والمتاجرون بالدين ومن فوقهم من الطغاة لتبرر حكمهم. ويتوافق الفصل الأخير من الكتاب مع ذكرته في أهمية تجديد الفهم للشريعة لا تغيير أحكامها، وهو من الفصول المهمة من الكتاب أو أهمها الذي كان بعنوان "هدي القرآن في السياسة والحكم" فهو يقدم رؤية نقية عن القيم الهدي القرآني في إطار الحرية والمساواة، والعدل والمسؤولية، والمعاهدة والمعاقدة والمبايعة، والمصلحة والمعروف والخير، والكرامة، وهذا المبحث فيه قراءة واعية وتشخيص دقيق للقيم الجوهرية للإسلام والقرآن.

تصويبات:
- ذكر في الصفحة 79 أن "... سعد بن عبادة..." هو من حكم في يهود بني قريظة بعد خيانتهم النبي (صلى الله عليه وسلم) والمسلمين في غزوة الأحزاب (الخندق) سنة خمس للهجرة.
الصواب أن من حكم فيهم هو سعد بن معاذ (رضي الله عنه) بعد أن طلب اليهود منه أن يحكم فيهم وكان حليفا لهم في الجاهلية.
- ذكر في الصفحة 91 "... أخي المهلل الشاعر". الصواب المهلهل ولقّب عدي بن ربيعة التغلبي بـ المهلهل لأنه أول من هلهل الشعرَ أي رققه.
- كتب في الصفحة 276 "... إما مملوكة تُباع وتُشرى...". الصواب "تُباع وتشترى" أو "تُباع وتُبتاع"، لأن كلا باع وشرى يعنيان البيع وهذا ليس المقصود من حال المملوك الذي يباع ويشترى.





الثلاثاء، 14 مايو 2019

أسماء الأدباء وشخصياتهم الخيالية وتأثيرها في اللغة.

إنَّ الأدب بعظمائه سواء أكانوا أدباءً أم شخصيات خيالية يعكس من جهة الحياة بمختلف محطاتها ورحلاتها ومن جهة أخرى يتغلل إلى حياة الإنسان بتأنٍ وتؤدة  وإلى كل ما يمت له بصلة فيجد نفسه بعد مدة قد تطول أو تقصر وهو يعايش هؤلاء الأدباء أو شخصياتهم، حتى إن لم يكن من محبي الأدب والقراءة فإن أذرع الأدب التأثيرية تصل إليه وتقتحم عالمه رغما عنه. ما سأتطرق إليه هو عن جوانب هذا التأثير والوصول الأدبي فيما يخص اللغة وكيف أصبحت أسماء الأدباء أو شخصياتهم، صفة أو لفظ كناية، تغني عن الإسهاب والإطناب في الشرح والوصف لما يراد الحديث عنه، فتأتي هذه الصفات والألفاظ لتؤدي المهمة بسرعة ونجاعة قلَّ نظيرها، وما يميز هذه الخاصية هو أنَّ لا حدٌّ لها فما دامت اللغة قادرة على خلق الألفاظ والاشتقاقات وما دام الأديب مستمر في الإبداع في الكتابة عن الإنسان غائصا في أعماق نفسه البشرية؛ فنحن بحضرة عشرات الصفات وألفاظ الكناية القادمة، وهذا ما يجعل اللغة ابنة الإنسان والإنسان ابن الأدب.
لكن قبل الولوج إلى أمثلة التأثير الأدبي في اللغة لا بدَّ من التعريج إلى كيفية تأثرنا بالأدب وشخصياته فيخلدون في المخيال الإنساني أكثر من بعض الشخصيات الحقيقية. وما الذي يدفع القارئ أن يتعاطف مع مدام بوفاري أو أن تُستثار دموعه لمصير آنا كارنينا في الوقت الذي لا يتعاطف مع ملايين الناس الذي يلقون حتفهم لأسباب كثيرة في هذا العالم، أو أن يستذكر شخصيات روائية تخييلية مثل شخصية شارلوك هولمز وينسى شخصيات حقيقية أخرى في الوقت ذاته في قضية ما؟ وهو سؤال مهم يقوم على عدة أركان يُجيب عنه أمبرتو إيكو في كتاب اعترافات روائي ناشئ:

- يقول ألكسندر دوماس: "فمن مميزات الروائيين أنهم يخلقون شخصيات تقتل شخصيات التاريخ. والسبب في ذلك أن المؤرخين يكتفون بالحديث عن أشباح، أما الروائيون فيخلقون أشخاصا من لحم وعظم".

- تقوم بعض استراتيجيات الرواة على خلق دراما تستدر دموع الجمهور. وأن ظاهرة التعاطف لا تمتع بقيمة وجودية أو منطقية، ولا يمكن أن تثير اهتمام أحد عدا السيكولوجيين. ويضيف إيكو إذا كنا نتماهى مع الشخصيات التخييلية ومع مصائرها، فإن سبب ذلك يعود، وفق مواضعات سردية، إلى أن نهيئ أنفسنا داخل عوالم ممكنة لقصصهم، كما لو أنه عالمنا الواقعي. وإن عملية انتزاع دموع قارئ ما لا تعود فقط إلى المميزات التي تتوفر عليها الشخصية التخييلية، بل أيضا إلى العادات الثقافية للقراء، أو العلاقة القائمة بين انتظاراتهم الثقافية والاستراتيجية السردية.

- الأنطولوجيا ضد السميائيات: يقول إيكو لا أهتم بأنطولوجيا الشخصيات التخييلية. فلكي يصبح موضوع ما موضوعا لدراسة أنطولوجية يجب اعتباره موجودا في استقلال تام عن كل ذهن يفكر فيه. وسبب حزننا على موت شخصية تخييلية مثل آنا كارنينا، فلن يكون بمستطاعي تبني وجهة نظر أنطولوجية، وأنا مضطر للنظر لآنا كارنينا باعتبارها موضوعا ذهنيا، موضوعا للمعرفة. ولا تعد مقاربتي من طبيعة أنطولوجية، بل هي من طبيعة سيميائية: فما يهمني هو معرفة ما المضمون الذي يتطابق في نظر قارئ مؤهل، مع التعبير "آنا كارنينا" خاصة إذا كان هذا القارئ يسلم بأن آنا كارنينا لم ولن تكون أبدا موضوعا له وجود مادي.
- إثباتات تخييلية ضد إثباتات تاريخية: في الوقت الذي قد نشكك في موت هتلر في مخبأ أرضي، لكننا لا نشك أبدا بموت آنا كارنينا، ويضع إيكو هذه المقابلة على محكين هما الشرعية التجريبية الخارجية والتي من خلالها نطلب دليلا على موت هتلر في مخبأ أرضي، وعبر الشرعية التجريبية الداخلية (بالمعنى الذي لا يلزمنا بأن نستخرج من النص ما يثبت ذلك)، واستنادا إلى هذه الشرعية، سننظر إلى من يؤكد لنا أن آنا كارنينا تزوجت من بيير بيزيخوف* بأنه أحمق، أو في الأقل ليس مطلعا على الأمور بما يكفي، في حين نسمح لشخص ما أن يشكك في موت هتلر.
*
ويتحدث الروائي الراحل حسن مطلك عن "تأثير ما بعد القراءة" (تأثير الرواية والأدب في القارئ) فيقول: "إني أتذكر (زوربا) مثلما أتذكر صديقي (أحمد)، أتذكر (تاراس بولبا) القوقازي. فمن يضمن أنني لا أعرفه فما الفرق بينه و(زوربا) بالنسبة لي كلاهما يمثلان ذكرى، يمثلان خبرة عشتها وأحببتها…".
***
من هنا ينطلق تأثير الأدب في الإنسان، وينشِّط خياله وأفكاره ويجعلها أرضا خصبة لتستقبل هذه الشخصيات، فتنمو فيه وتنشأ معه وتدخل إلى حياته مرحبا بها كأنها حقيقة لا يخالطها شك، فكان لزاما أن يتم استحضار هذه الشخصيات أو من خلقوها عند الحاجة، وبما أن اللغة هي السبيل الذي أوصلنا إليهم وأوصلهم إلينا؛ فستبقى اللغة سبيلنا إلى استدعائهم أيضا. وسآخذ أربعة أمثلة -اثنين من أسماء الأدباء واثنين من أسماء شخصياتهم- عن صفات وكنايات من الأدب دخلت اللغة من بابها المشرع:

- كيخوتي Quixotic

حين كان سيرفانتس في السجن تشكلت في ذهنه الخطوط الأولى لرواية دون كيخوته لترى النور بعد خروجه من السجن. وتعد رواية دون كيخوته أول رواية حديثة في الأدب، طُبع الجزء الأول منها  عام 1605 ولحقها جزء آخر متمم في عام 1615، ليكتمل عمل أدبي روائي لم يشبهه عمل من قبله، يذكر كتاب "أدباء: حيواتهم وأعمالهم": جرّب سرفانتس العديد من الصيغ والأشكال الأدبية في حياته، لكنه في دون كيخوته خلق قاعة من المرايا. بالرغم من أن البطل يرتحل في عالم الواقع مع رفيقٍ واقعي إلا أن القارئ يُسحب إلى خيالات البطل المجنون. الفكاهة، والمأساة، والتوترات الاجتماعية لذلك العصر تطفو على السطح بتفاعل ما بين الحقيقة والوهم. الرواية عَرَضية، بقصص من شخصيات متعددة توسع المشهد، وبمرجعية ذاتية هزلية: وعت الشخصيات دورها في العمل، واستغل السارد الظهور المنتظم لها لمناقشة حيلة عمله وتأثيرات الخدعة في الأدب.
يأخذنا سيرفناتس مع بطله دون كيخوته، الفارس المبعوث في زمن ليس بزمانه، باحثا عن عصر لم ينتمِ له، عصر الفرسان وشهامتهم واستعدادهم للتضحية لأجل حبيباتهم، فكانت حياته هذا البطل منبعا لاشتقاق صفة من اسمه، كيخوتي Quixotic. وتعني كلمة كيخوتي المثالية اليائسة أو المتطرفة أوغير الحقيقية، إذ يهيم الإنسان عالم الخيال ونسيان الواقع. يذكر كتاب أدباء: حيواتهم وأعمالهم: "وتنطبق الكلمة كليا وبجدارة على حياة سرفانتيس بصعودها وهبوطها في حياته الحربية وحبسه، والسرد القصصي الذي غمر فترة من التاريخ الإسباني المشحون بالصراع".

فإن رأيت شخص حالما يعيش في مثالية لا يمكن تطبيقها على أرض الواقع فيكفي أن تصفه بـ كيخوتي.

- دون جوان (خوان) Don Juan

دون جوان شخصية أسطورية خيالية، ظهرت أول مرة في العمل المسرحي "محتال إشبيلية والتمثال الضيف" للإسباني تيرسو دا مونيلا الذي كتبها في القرن الرابع عشر، وظهرت الشخصية في مسرحية غاوي النساء (الفاسق).

تحكي الأسطورة عن فاسق يهوى إغواء النساء مهما كان عمرهن ومن ثم تركهن بالعار الذي لحق بهن، حيث يفتخر بإغوائه النساء، وقدرته على إسقاطهن في حبائله، وامتازت حياة دون جوان بالعنف والمقامرة، مما يدفعه إلى أن يبقى متجولا باحثا عن اللذة والمتعة.
يُقتل دون جوان في إحدى المرات دون غونزالو ويغوي ابنته الدونة آنا، ويقوم بصنع تمثالين لهما، ومرَّ ذات يوم دون جوان بتمثال الدون فدعاه للعشاء سخرية واستهزاءً به، ولكن سخرية القدر تلحقه ويُلبي التمثال دعوة العشاء ويُخبره بقرب أجل هذا الفاسق الذي عاش مذنبا ومخطئا وغارقا في الشهوة.
يؤمن مونيلا ومن رؤية نابعة من مجتمعه "أن كل إنسان يضرب القيم بعرض الحائط وينحرف ويعيش مع آثامه بسعادة سيدفع الثمن قبل الموت. تُظهر شخصية دون جوان كـ"شيطان" يكون مجبرا دائما على دفع ثمن أخطائه، ليذكرنا بأننا جميعا مضطرون لدفع الثمن جرّاء أفعالنا السيئة وفي النهاية "الموت يجعل الجميع متساوين".

اسم دون جوان لم يبقَ حبيس المسرح، بل أصبح يعبر اليوم عن الرجل ذي العلاقات النسائية المتعددة "زير نساء". فإن كان لديك رفيق مثل هذا فإن اسم دون جوان سيكون ملائما له.  

- بايروني Byronic (البطل البايروني The Byronic Hero)

لم ينحصر تأثير الأدب في اللغة على الشخصيات الخيالية وأسمائها فقط بل أيضا وصل التأثير فيها من حياة الأدباء وأسمائهم، ومن بين هؤلاء الذي كان لهم الأثر اللغوي من بعده هو الشاعر الإنجليزي لورد بايرون، الذي اشتق من اسمه صفة "بايروني أو البطل البايروني" وكما يبين كتاب أدباء حيواتهم وأعمالهم: "إن عبارة البطل البايروني مرادفة للشخص المزاجي المنبوذ الذي يعرض السوداوية والرومانسية الكئيبة، ويعلّق بسخرية على المجتمع. تعكس هذه الشخصية إلى مدى كبير "شخص بايرون": الذي كان متطرفا في فكره وعمله؛ إذ يكتب: أنا مزيج غريب من الخير والشر، لذا فإن من الصعب أن تصفني. يؤكد الأبطال "النموذج البايروني" في بعض أعماله مثل تشايلد هارولد، وكونراد في القرصان، ومانفيرد.
وألهم بايرون خلق هذه الشخصية التي أصبحت صفتها مشتقة من اسمه من رحلات قام به عام 1809 إلى مواقع البرتغال وإسبانيا ومالطا واليونان وتركيا، وأول ذكر لهذا البطل البايروني كان في قصيدة "رحلة تشايلد هارولد" ونشر مقطعان من هذه القصيدة الطويلة في عام 1812، ليستمر ظهور هذه الشخصية  في بقية أعماله.

فالبايروني إذن هو ذاك الشخص الرومانسي الكئيب ذو المزاج السوداوي الساخر من مجتمعه واللاذع في هجائه والذي تمثّل خير تمثيل في قصائد لورد بايرون وحياته.

- صافوي "سحاقية" (Sapphic) وصافوية "سحاق" (Sapphism)

لا يختلف الأمر كثيرا مع اسم صافو الشاعرة الإغريقية التي عاشت في القرن السابع قبل الميلاد والنسبة إليه في النُظم الشعري سوى أن ما أُثير عنها من تهمة علاقتها العاطفية بإحدى طالباتها، ربط اسمها بالسحاق وأصبحت بالنسبة لكثيرين رمزا من رموز المثلية الجنسية الأنثوية ومصطلح Sapphic love "الحب السحاقي" أكثر ما أُشيع واستخدم إضافة إلى Sapphic ومن معاني هذه الكلمة سحاقية أو ما له علاقة بالسحاق وكذلك Sapphism التي تعني السحاق. وبل من المثير للسخرية أن كلمة Lesbian "سحاقية" مشتقة وإشارة إلى جزيرة Lesbos التي ولدت فيها صافو. بقيت هذه التهمة ملتصقة بها دون دليل قاطع عليها  في الوقت الذي تشير فيه بعض المصادر مثل The Suad "الموسوعة البيزنطية لعالم البحر الأبيض المتوسط القديم" إلى زواجها وأن لها ابنة باسم كليس Cleïs، في حين ينفي آخرون هذه المعلومة ويستندون إلى أن صافو في قصيدتها: إنشودة إلى أفروديت، تصرفت كأنها ذكر. ويصف الباحث أندري لاردينوس جدلية جنسانية صافو بأنه "تساؤل صافو الأعظم".

المصادر:
1- اعترافات روائي ناشئ - أمبرتو إيكو.
2- الكتابة وقوفا - حسن مطلك.
3- Writers: Their lives and works.
4- Oxford Dictionary.
5- Wikipedia.

التصوير الفني في القرآن الكريم - سيد قطب.



رحم الله سيد قطب على ما خطته أنامه في هذا البحث الشائق الماتع، الذي يُبين فيه رجاحة الفكر وسلامة العقل وجمال الخيال الإنساني حين يستخدمه الإنسان المسلم في استعراض عظمة الله في كتابه الكريم وآيات الذكر الحكيم. ما قام به سيد قطب في بحثه هو إعادة قراءة الآي الكريم بعيني الأديب اللبيب والمفكّر الحاذق الذي لم يقف على ما وصل إليه السابقون من تفسير القرآن وذكر البلاغة اللغوية والبراعة الإلهية في تبيان عظمة القرآن اللغوية التي تمحورت في الدعوة إلى الله ونبذ الشرك لتشد أزر النبي (صلى الله عليه وسلم) في دعوته قومه إلى عبادة الله عز وجل، فما كان من الرجل إلا أن أعاد قراءة هذه الآيات مجردًا إياها من أي تفسير أو معانٍ سابقة وغائصا في البحث فيها وفي ألفاظها ومعانيها، منطلقا بتسائله وتعجبه من قول الوليد بن المغيرة عن القرآن: والله إن  لقوله لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه ليحطم ما دونه ويعلو ولا يعلى، ومن سبب إيمان عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) بعد سماعه القرآن. ونحن نعلم أن أهل مكة وقتها كانوا ذوي فصاحة وبيان وبلاغة ومن حكم موقعهم فقد التقوا بالحجيج القادمين من كل مكان فزادت لغتهم ثراءً عبر ما تخيّروه من ألفاظ وتقعّروا في اللغة حتى لم يُشقْ لهم غبار في السبق بمعرفة البليغ والفصيح والمُعجِز. فأنى للوليد أن يعجب بالقرآن رغم كفره وشركه وماذا وجد فيه وكيف لامس آي الذكر الحكيم قلبه وجَنان عمر سيما وأن القرآن في سوره المكية أول الدعوة كانت تخاطب الذهن والآي مصاغة بصورة مركزة على اللغة والبيان والإبداع اللغوي العجيب فكانت كثير السور المكية في الحقبة الأولى قصيرة غايتها بعد الدعوة إلى الله الإفحام وتحدي لقوم عركوا اللغة وروضوها وبلغوا فيها ما لم يبلغه سواهم فجاءهم القرآن متحديا إياهم ورافعا سقف التحدي فيما يجيدونه فأبهتهم وأخرسهم عبر تحديهم أن يأتوا بعشر سور ثم سهّل لهم التحدي أن يأتوا بسورة واحدة مثله وهم أهل لغة وفصاحة لكن هيهات هيهات. إذن من هنا ينطلق سيد قطب في بحث الشائق هذا عبر التصوير الفني في القرآن، إذ كثير الآيات تعتمد على التصوير وإثارة الخيال والحس فيجسّد لهم الأمثلة المطروحة عبر صور يلمسونها في الكلمات ويستشعرونها في الآيات، فتأتي الآية معجزة لغويا عبر اختيار الكلمات المناسبة ومعانيها التي تؤدي الغرض أفضل تأدية، إضافة لما تثيره موسيقاها من جو عام رهيب يجذب العقل ويسحره فيذهله، وتامة تصويريا بما فيها من تناسق وانسجام وتناغم ما بين الصورة والألفاظ المعبرة عنها والإطار والثيمة المطروحة داخلها وفيها، فتبلغ من الإبداع منتهاه والبلاغة إعجازها ومن رائع البيان عظيمه. ويمكن أن أوجز أهم ما تناوله فصل التصوير الفني (اللغوي والتصويري [الرسم] والموسيقي) بنقاط لا تغني عن قراءة البحث مفصلا:

١- تناسق الألفاظ لتعطي الكلمة وجرسها سمات الجو العام الذي تتحدث عنه وإيقاعه.

٢- تُعطي الصور المعروضة تجسيدا وتشخيصا وتخييلا للأمثلة المطروحة.

٣- تناسق الموسيقى والإيقاع الصوتي للكلمات مع الموضوع إذا كان إخبارا أو قصا أو عرضا.

٤- توازن واتساق الفواصل، توافق طول الجمل وقصرها مع الموضوع.

٥- التناسق الفني للكلمات وهي تعطي صورة ذات وحدة موضوع واتساق، إذ تنسجم في هرمونية واحدة لا يخرج عنها يُخلُّ بإبداعها الفني والتصويري. مثال:

"قل أعوذ برب الفلق، من شر ما خلق، ومن شر غاسقٍ إذا وقب، ومن شر النفاثات في العقد ومن شر حاسد إذا حسد".

الفلق: الفجر
الغاسق: الليل.
النفاثات: الساحرات
الحاسد: صاحب حسد وضغينة في نفسه.

التوازن الفني في الصورة: فجر وليل وساحرة وحاسد، الظلمة كلها في هذه الآيات، حيث تنشر الجمل الظلام وتؤدي الكلمات ومعانها هذا الغرض بإبداع رباني عجيب، يعجز عنه أشعر الشعراء وأفصح الفصحاء.
وهناك سور أخرى تلتزم بذات الأسلوب ولها ذات السمات.

٦- التقابل في الصور، فلا اختلالات ولا تشويهات ولا تناقضات. والمقابلة ما بين حال وحال، مع استخدام كلمات واصفة لكل منهما، مما يعطي الصورة المتخييلة أو المثال المطروح-الذي يُمنّى به المخاطب أو يحذّر- ما تحتاج إليه من دقة الوصف وانطباقها التام والمنسجم مع الموضوع المتحدث عنه. مثل آيات الإنفاق في سورة البقرة (آية الصفوان والربوة).

٧- تناسق الإطار والثيمة مع الصور المطروحة والموسيقى التي تولدها الكلمات، كما في سورة العاديات حيث جو الفرقعة والصخب الذي تثيره الخيول أثناء عدوها، وسورة الضحى وجو الرحمة والرأفة الذي تفيض به الكلمات الرقيقة وموسيقاها الشفيقةً. وفي سورة الليل حيث ثيمة الموضوع صُبغت بلونين هما الأسود والأبيض، حيث الخياران هما اللذان يقسّمان العالم الذي تطرحه الآية وأمثالها المضروبة وصورها المعروضة.

يتناول الفصل الثاني من الكتاب القصة في القرآن، وهو بحث في منطلقه بحث كبير يحتاج إلى الكثير من الدراسة والتفصيل والتحليل إلا أن ما طرحه سيد قطب في الكتاب من أمثلة قصصية وغرضها والديني في القرآن إضافة إلى بناء الشخصيات وتحليلها في بعض قصصه، كان طرحا يسيرا سهلا وفي بعض المواضع طرحا سطحيا أكثر مما هو أدبي فني، إذ تحمل قصص القرآن كل العناصر المطلوبة في كتابة دراسة أهم وأعمق، وهو ما كان يخطط له سيد قطب ولا أعتقد أن الفرصة أُتيحت له بعدها ليكمل مشروعه الذي يبدو عليه الإغراء والدعوة في دراسة القصة في القرآن أو بنائها وتطور شخصياتها، وما لاحظته أنا في بعض السور من أسلوب سرد وسمات سردية تستحق الدراسة عسى أن يسهل لنا هذا في المستقبل. وبالعودة للكتاب فإن القصة في القرآن قد أدت غرضا دينيا في الدعوة النبوية إلا أنها لم تستغنِ عن العناصر الفنية للقصة من ناحية العرض والفواصل والانتقالات والاستباقية الفلاش فورورد والاسترجاعية الفلاش باك، إضافة إلى عرض مختصر للقصة (برومو) قبل الدخول في تفاصيلها، وكذلك ما نالت به القصص من بناء كرونولوجي تتابعي (من الولادة إلى الوصول إلى النهاية مثل قصة موسى [عليه السلام]) في حين أخريات ابتدأت من الحدث المهم، إضافة إلى اختيار النهاية المناسبة، كل هذا نجده في قصص القرآن وأكثر. ويستعرض الكتاب في فصل القصة بعض الشخصيات التي تناولها القرآن وليحللها مثل شخصية موسى وإبراهيم ويوسف عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام.

ومن المواضيع التي يتناول الكتاب عرضا مبسطا وسريعا هو النماذج الإنسانية بجانبيها الكافر والمؤمن وما كل جانب من سمات وأشكال وأنواع مختلفة في كل حال ومكان وزمان.
ينتهي الكتاب بالحديث عن طريقة القرآن في المخاطبة والمجادلة وهو حديث يجمل ما تم تناوله في مواضيع هذا الكتاب، الطريقة القرآن التي تمثلت في الطرح الذهني عبر التصوير الفني ومخاطبة الحس والخيال والذهن في الجدل لا عبر الكلام المجرد فقط. وأجمل ما تم الإشارة إليه وينسب سيد سابق هذه الإشارة اللطيفة إلى  العقاد ذكره وجود الوسط الحي أو الوسيط الحي الذي تعرض فيه أهوال يوم القيامة عبر المرضعات والسكارى في سورة الحج وشيب الولدان في سورة المزمل وفرار المرء من أقرب الناس إليه أبويه وأبنائه وزوجه في سورة عبس، إضافة إلى ما يشير إليه سيد سابق وما سماه الريشة الإلهية التي تمنح الجمادات حياة إذا لمستها وتكسيها ثوب الحركة مثل تنفس الصبح وحركة الليل وكلام الأرض والسماء وصفات ظل من يحموم إذ هو لا بارد ولا كريم.
وجدير بالذكر أن بحث التصوير الفني، هو جزء من بحث أكبر لم يكمله سيد قطب على حسب علمي، إذ كان يطمح أن يتوسع فيه ويخطط أن يكتب فيه أكثر كما يوضح في ثنايا كتاب ويتعمق أكثر في التصوير الفني والقصة والخطاب الوجداني في القرآن وطريقة القرآن في الخطاب.