الخميس، 30 مايو 2019

الشيخ مصطفى صبري وخفايا إنهاء الخلافة العثمانية.

يُعد الشيخ مصطفى أحمد صبري صاحب آخر أعلى مركز ديني في الخلافة العثمانية، شهد في حياته التآمر الذي تم من قبل أتاتورك وحزبه ضد الخلافة العثمانية وما جرَّ من ويلات على الأمة الإسلامية جمعاء بإلغاء الخلافة العثمانية، كان الشيخ مصطفى الصوت الهادر والمناقش والمُفند لكل الإدّعاءات الباطلة، كاشفًا زيف وبطلان الاتحاديين "حزب الاتحاد والترقي" والكماليين "أتباع أتاتورك" في كتاب "النكير على منكري النعمة من الخلافة والأمة والدين". فما تعرّضت له الأمة بعد زوال الخلافة الإسلامية كان الضربة التي قصمت ظهرها فتشتت وتمزّقت إلى دول ودويلات يقودها ملوك ورؤوساء خضعوا للمستعمر الأجنبي.
كان أول ما قام به أتاتورك هو عزل الخليفة عن السلطة حتى بدا واجهةً لا أكثر ليس له من الأمر شيءٌ وهذا ما حذّر منه الشيخ مصطفى صبري وكان له موقف واضح وصريح: "إن إلغاء الخلافة هو مشروع لتهديم الأمة" وهذا ما حصل، وأنهم ما ألغوها إلا تنفيذًا لغاية الإنجليز وهذا ما كشفه اختلاف البرلمان البريطاني عندما قرر عدم دعم اليونانيين في حربهم ضد العثمانيين وانسحابهم معللين هذه الحركة بأن دولة تركيا الجديدة ليست كسابقتها. إن زوال الخليفة هو زوال القائد الموحد لهذه الأمة وهذا ما كان يحسب له الإنجليز حسابه، فلما ألغوا الخلافة شرّقت الأمة وغرّبت وضاعت بين أيدي المستعمرين وأضحت لقمة سائغة في أفواههم.
أصاب الخلافة العثمانية في أواخر عهدها الضعف حتى بدت عليها علامات الاحتضار فالمغرب العربي حكمه ضعيف وتتدخل فرنسا في شؤونه واحتلت في نهاية القرن التاسع عشر الجزائر وتونس وكانت الجزيرة العربية تشهد معارك بين القبائل  وقيام الدولة السعودية الأولى والثانية حتى جاء عبدالعزيز وأسس السعودية الحديثة، الذي سيطر على نجد وأصبح سلطانها ودخل في صراع مع أمير مكة الشريف حسين. وكان الاثنان على اتصال مستمر بالإنجليز الذين دعموا الاثنين وهذه سياسة الإنجليز التي جعلت القبائل تتناحر فيما بينها، حتى رجحت كفة عبدالعزيز فنال رضاهم لكن هذا لم يكن كافيا فقد استرضاهم الشريف حسين، وكما يصف الشيخ مصطفى صبري ما حدث من خيانة بعض العرب ضد الخلافة العثمانية "الطعن من الداخل" فكانت بحق طعنة من الداخل لجسد الأمة التي مزقتها شر ممزق، وليت الإنجليز أوفوا بعهدهم ووعدوهم، لا، فاُحتل العراق والشام وبيعت فلسطين لليهود وبقي الشريف حسين بسواد فعلته يشهد التاريخ بسوئها يوم أطلق النار مشيرا لبداية الثورة!
كان منصب الخليفة هو الرادع لكل محاولة احتلال لأرض العرب أو قطع فلسطين وبيعها لليهود، يقول الشيخ مصطفى: "إلغاء الخلافة ونقل الحكم لمجلس الأمة هو الضوء الأخضر لدمار المسلمين وإن المسلمين بعد هذه الفعلة لن تقوم لهم قائمة". فقام أتاتورك بإلغاء المحاكم الدينية وأبعد الشريعة عن القانون واستبدله بقوانين مدنية سويسرية، متحججا أن الشرع لا يتماشى مع التطور والحضارة، وما هذه الحركة إلا لإبعاد الإسلام وإقصاءه من تركيا تدريجيا وفتحًا لطرُق أخرى من إلغاء المدارس الدينية ومنع الحجاب ومنع لبس الطربوش حتى وصلت لإعدام من لبس الطربوش ونشر الرذيلة وأُسس التحلل داخل المجتمع التركي المسلم، ومنع استخدام الحروف العربية في الكتابة، وبهذا جعل من سكان الأناضول شعبًا أُميا بالكامل، ولم تعرف أمة في التاريخ مثل هذا الفعل. ومما بدأ يتفشى في هذه الأمة هو القومية فعزّز الإنجليز القوميات عبر من خدعوهم من المسلمين؛ فدعموا الصراع القبائل في الجزيرة العربية ليشغلوهم بأنفسهم، ونادى حزب الاتحاد والترقي بالقومية التركية والمصريون بالمصرية، فبعد أن كانت الأمة يجمعها الدين وتوحدها العقيدة أضحت القومية نداءها.

وقد خُدع العرب بأتاتورك ونضموا فيه الشعر بل عدّوه من سيعود بالأمة إلى أمجادها التليدة لكن أنّى هذا، وبعد أن أُجبر مصطفى صبري على مغادرة تركيا وتوجه إلى الإسكندرية ولاقى من سوء الاستقبال ومهاجمة الصحف له وقد عانى مصطفى صبري وهذا ما يوضحه في كتابه النكير: "بأن ما حصل زاد من بؤسه وأن انخداع المصريين بأتاتورك لا مبرر له ولا عذر وكان لا بد لهم من أن يسمعوا من كان في ظل سلطته". وتعود أسباب هذا التوافق والانخداع بأتاتورك، هو ما قام به حزب أتاتورك من بث الأخبار الكاذبة والمزعومة عن الحكومة الجديدة والتطور الذي ستشهده تركيا حين تواكب عجلة التقدم والتطور الذي تشهده أوربا، ومن الأسباب الأخرى هي الطفرة التي شهدتها مصر بعد استلام محمد علي وأولاده الحكم في مصر لمدة قرن من الزمن وما شهدته مصر من تطور وانفتاح على العالم والبعثات التي أرسلت إلى فرنسا، وتطور الحركة العلمية والأدبية وصدور الجرائد وانتشار الترجمة والتعريب والطباعة كل هذا كان له دور بتأثر الطبقة المثقفة التي احتكت مع العالم الغربي، وابتعد الناس عن الدين وانتشر الإلحاد واللا دينية عند بعضهم، وهي مقومات جعلت التأثر سريع بأتاتورك لا سيما بعد استرداد أزمير التي احتلها اليونانيون على يد أتاتورك، وهنا يحلل الشيخ مصطفى صبري كيف أمكن الدولة البريطانية العظمى التي خرجت من منتصرة من الحرب العالمية الأولى أن تنسحب وتُمنى بالهزيمة أمام أتاتورك وتترك حليفتها اليونان! لكنه لا تغيب عنه أن تركيا أتاتورك ليست تركيا العثمانية وهذه الهزيمة المفتعلة لها من النتائج أهم وأفضل من أزمير وهذا ما أثبته التاريخ بعدها باحتلال للعراق والشام بموجب الاتفاقية مع الفرنسيين (سايكس - بيكو).




إن سقوط الخلافة العثمانية ليست مجرد انتهاء فترة حكم لا بل هو سقوط للأمة في منحدر فبعد مئة عام ما زالت الأمة ضائعة في التيه، ولم تكن سياسة المستعمر سوى تفريق للجمع وتمزيق للأرض، مستغلًا العملاء وضعاف النفوس لتنفيذ مآربه، ويصف الشيخ مصطفى صبري موقفه من أتاتورك قائلا: "مهما بلغت قوة حكومة أتاتورك فهذا لن يُفرحني لأنهم في مقام أعدائي".

تفرقت الأمة وعانت ما عانت على مدار قرن من الزمن منذ نهاية القرن التاسع عشر إلى سبعينات القرن العشرين من حروب وثورات وصراعات، ليخرج اليوم من يقول أين نحن وأين الغرب غافلا وجاهلا أن اليوم هو ابن الغد وأن المستقبل هو وليد اليوم فكيف تنهض أمة وقد ضاع من يوحد أمرها "الخليفة" فقوة المسلمين في خليفة يجمعهم ويستنهض بهم لأجل أن يكون لهم موقع في عالم اليوم في أرض واحدة "أرض خلافة" وهذا ما يخشاه أعداء الأمة وعملوا ضده، فهل كان الوضع أفضل قبل زوال الخلافة العثمانية أو بعدها؟ أضاعت فلسطين حين كان عبد الحميد سلطانًا أم بعد أن جاء الدونمي أتاتورك؟

ولا نغفل الدور اليهودي الذي كان واضحًا وجليًا في إنهاء الحكم العثماني فبعد محاولاتهم لشراء فلسطين بدفع ديون الدولة العثمانية إلا رفض عبدالحميد الثاني لعرضهم أغاض اليهود وكان هرتزل  يتحين الفرص لقاء عبدالحميد وتقديم العرض إليه لكن خابت مساعيه برفض عبدالحميد فعملوا على تشويه سمعته ونشر الأكاذيب عنه واستخدام الشارع في الترويج لكل الأكاذيب ليحطوا من صورة الخليفة في نظر الأمة، متبعين نفس السياسة التي استخدموها في فرنسا وبريطانيا وضد أي شخصية ذات سلطة تقف ضد رغباتهم، وقد ظلم التاريخ شخص عبدالحميد وبالعودة لمذكراته تُبان كثيرٌ من الحقائق المخفية، ويكفي عبدالحميد أنه حين استلم الخلافة كانت الدولة مدينة بـ300 مليون جنيه فخفض الديون إلى 30 مليون فقط، وفي الجهة المقابلة ترك أتاتورك الدولة وعليها ديون تقدّر بـ400 مليون جنيه بعد أن استلم خلافة تمتد شرقًا وغربًا، وهنا يُعلق الشيخ مصطفى صبري: "إنه لم يكن ليمانع لو كان أتاتورك خليفة لكنه كان ملحدًا كافرًا بالأديان"، ومن شدة سوئه إنه قبل أن يموت عرض رئاسة تركيا للسفير البريطاني في تركيا في حادثة لم يشهد التاريخ مثلها، وكان يدور في خلده في حربه ضد الإسلام أن يحول ديانة تركيا الرسمية كما تكشف بعض الاعترافات من مقربيه الذين رفضوا هذه الفكرة بما قد تجلبه من عواقب وخيمة تُودي بكل شيء، ومن مساوئ أتاتورك وحزبه الحاكم، يقول الأمير شكيب أرسلان "ولقد كانت في السلطة العثمانية الملايين من المسيحيين يعيشون وافرين مترفين كاسبين متمتعين بامتيازات كثيرة مدة عمل الأتراك بالشرع الإسلامي، فلما جاءت دولة تركيا الحاضرة وبطل العمل بالشرع وأخذ الترك بأوضاع الإفرنج وقلدوهم في كل شيء وتحولوا إلى سياسة التمغرب لم يبق في جميع الأناضول إلا فئة قليلة جدًا من المسيحيين". كل هذا يُثبت أن أتاتورك ما جاء إلا ليخرب وما دعمه الإنجليز إلا لإنهاء الخلافة الإسلامية والنتيجة ما نعيشه اليوم وعاشه من كان في الأمس القريب في تاريخنا المعاصر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق