الأحد، 15 ديسمبر 2019

تاريخ النقد الأدبي الحديث 2 - رينيه ويليك

الكتاب الثاني 
الحركة الرومانسية. 

إن العصر أو الحركة الرومانسية في الآداب الأوروبية من المراحل التي لا يمكن تجاوزها أو التغاضي عنها في تاريخ الأدب العالمي مما حملته في طياتها من آثار وتأثيرات وشعراء وأدباء حتى يومنا هذا في بلدان كفرنسا وألمانيا وإنجلترا التي شهدت قمة الحركة الرومانسية ولا سيما البلدين الأوليين ثم شاعت لتعم البلدان جميعا والأدب كله. 
يمتد هذا العصر منذ نهايات العقد الأخير من القرن السابع عشر وإلى ثلاثينات القرن التاسع عشر كما يعينه الدارسون، ويحدد ويليك معنيين لهذه الحركة الرومانسية من خلالها يمكن أن تفهم انطلاقة النقد وسماته: 
- إن هذه الحركة ثورة ضد الكلاسيكية الجديدة، والتي تعني رفضا للتراث اللاتيني واعتناق رأي في الشعر يتركز على التعبير والانفعال وتوصيله. 
- تأسيس نظرة للشعر قائمة على الجدلية والرمزية. وعمل نقاد مثل الأخوين شلجل وآخرين على حماية هذه النظرة من الغوص في النزعة الانفعالية والطبيعية والتصوف. 
لكن القارئ لآراء وشروح نقاد وشعراء العصر رومانسي يلتمس في أقوالهم الصوفية والفلسفية وغوصها فيها، مما يجعل الحركة الرومانسية تشوبها الكثير من الاتجاهات الفكرية والفلسفية والنزعات النفسية التي يجعل الوقوف على رؤية واضحة وذات معالم محددة من الصعوبة بمكان. 
ولا بد من التأكيد على ما ذكره ويليك بأن العصر الرومانسي جاء رد فعل على عقلانية عصر التنوير والحركة الكلاسيكية الجديدة والمادية الميكانيكية، وكان من إرهاصات هذا العصر حركة العاصفة والاندفاع في ألمانيا والتي تمثلت بشكل كبير في رواية "آلام فرتر 1774" لغوته(1749-1832)، وتقص الرواية الشاب فرتر (وهو كناية عن الحب الفوري) المفعم بالحياة والعاطفة ووقوعه في غرام شارلوت المخطوبة، ليعاني ويقاسي من آلام هذا الحب اليائس الذي يقوده إلى الانتحار، لتجتاح أوروبا حالات انتحار تقليدية، ويرتدي الكثير من الشباب ومن بينهم غوته نفسه معطفَ فرتر الأزرق وصدريته الرجالية البرتقالية وبنطاله الأصفر، وكذلك لا يمكن أن نغفل عن القول الذي يشير على رواية "هيلواز الجديدة La Nouvelle Heloise" للسويسري جان-جاك روسو (1712-1778) إلى أن هذه الرواية تمثل بداية الحركة الرومانسية، لما استذرفته من الدمع من مآقي أوروبا كما يصفها رونالد سترومبرج في كتاب "تاريخ الفكر الأوروبي الحديث". في حين يشير رأي آخر بأنها تمثل مرحلة ما قبل العاطفة الرومانطيقية (الرومانسية) "فقد غلّفت توصيفاتها الحساسة للطبيعة والعواطف السامية هذه المرحلة" (Writers Their Lives and Works). 
وهناك العديد من الأدباء الآخرين الذين مثلوا الحركة الرومانسية وعاشوا في النصف الأول من القرن التاسع عشر (قمة عصر الرومانسية) أمثال السيدة دي ستايل التي تعد من المؤسسين لهذه الحركة في أوروبا عموما وفرنسا خصوصا، وهي من الشخصيات الجدلية لا سيما بمناهضتها لحكم نابليون وحياة المنفى وعلاقتها المتعددة- حتى قيل عنها أنها تناهض نابليون وتمارس الجنس بالحيوية ذاتها والحماس نفسه، وشاتوبريان الذي يعد أب الرومانسية الفرنسية، وكذلك فيكتور هوجو الذي عدَّ شاتوبريان معبوده، رغم اختلافاتهما السياسية، والشاعر الإنجليزي وردزورث وكوليردج (جمعتهما صداقة أيضا)، وكيتس، ولورد بايرون الذي وصف بأنه جسّد بألمعيته وفكره المتحرر رومانسية القرن التاسع عشر، ولدينا أيضا المسرحي الألماني شيلر الأشهر في العصر الرومانطيقي، وأثارت مسرحيته "اللصوص" تفاعلا مشاعريا واستحسان الجمهور، وجمعته صداقة مع غوته وأنشآ معا "كلاسيكية فايمار" وهي تطوير لنظرية عن علم الجمال والحرية البشرية. 

وتتجلى الكثير من مظاهر الحركة الرومانسية في إعادة إحياء المؤلفات والأعمال التي أهلمت أو لم تلقَ التفاتا في عصر التنوير كنظرة الاحتقار التي وسم بها دانتي وكوميدياه، في حين عُدت في عصر الرومانسية من الأعمال الخالدة، ويصف بعض النقاد أن "عصر التنوير كان عصر النثر، وعصر الرومانسية كان عصر الشعر"، ويمكن الإضافة  للعصر الرومانسي الأدب المسرحي ولا سيما التراجيدي والدرامي، وهذه الأجناس الأدبية التي لاقت اهتمام النقاد التي سنمر عليهم بعد حين، ولم تلقَ الرواية ذاك الاهتمام الملموس، فالتركيز كان مصبوبا بالكلية على الشعر والرومانسية وإن ظهرت بعض الأعمال الروائية التي عبّرت عن العاطفة الرومانسية كما في أعمال فيكتور هوغو وستندال. 

وبالعودة إلى الكتاب الثاني لويليك فهو يتناول النقد الأدبي الأوروبي لهذا العصر -الممتد قرابة أربعين عاما- متمثلا بأشهر نقّاده الألمان والفرنسيين والإنجليز والإيطاليين، ومحتوى الكتاب يؤكد لي رأيي في الكتاب الأول أن الكتاب كان الأولى أن يعنون بـ "أعلام النقد الأوروبي الحديث" فالكتاب مفصل في دراسة النقّاد بشكل مقسّم ابتداءً من الأخوين شلجل مرورا بالرومانسيين الألمان الأوائل إلى النقاد الإنجليز كجفري وشيلي، ووردزورث وكوليردج إلى الفرنسيين كالسيدة دي ستايل وشاتوبريان وستندال وهوجو -نلاحظ أن الكثير من هؤلاء النقاد قد زاولوا الكتابة والنقد-، انتهاءً بالرومانسيين الألمان الصغار، والفلاسفة الألمان الذين تحدثوا وكتبوا عن علم الجمال (الأستطيقا) وهم: شوبنهاور وهيجل وسيلجر وشيلماخر. لهذا فالكتاب هو دراسة أكاديمية في مؤلفات وآراء ونقودات هؤلاء وما كتبوه في تحليل المؤلفات الشعرية والمسرحية في القرون التي سبقتهم أو التي عاصرتهم، وتواجه القارئ الذي فوّت قراءة الأدباء الذين تناولهم الكتاب أو لنقل القارئ غير الدارس- مشكلة أن الآراء والشروحات المطروحة (يعمل وليك على نقل الآراء ويربطها ويشرحها) تفترض سلفا أن القارئ على اطلاع قد قرأ هذه الأعمال، وهي من الكثرة بمكان أن القارئ لو قرأ بعضها فلن يقرأها جميعها، لذا فقد تكون القراءة المتسلسلة غير مثمرة كثيرا، يزيد الصعوبة أن الكتاب هو أكاديمي بامتياز ورغم هذا فلا يمكن تفويت الكثير من محتواه الذي يثري بشكل أو بآخر. وأما السبب الذي يدعو ويليك لتناول فلاسفة الجمال الألمان أو من لهم أطروحات في الأستطيقا هو أن النظرية الأدبية في رأي ويليك لا يمكن أن تُفصل عن علم الجمال من جهة، والتاريخ الأدبي ومجرد الرأي الأدبي من جهة أخرى.      
يلاحظ القارئ للكتاب الثاني أن العصر الرومانسي بكثرة نقاده وأدبائه والمؤلفات والآراء لا يمكنه الخروج برؤية واضحة يحصر فيها الآداب للرومانسية أو التي تدخل في إطار هذه الحركة أو الإجابة عن ماهية هذه الحركة ومعناها، فمع الكم الهائل من الدراسات والآراء والشروحات، تجد المتضارب منها والمتباين في النزعة الطبيعية والصوفية والانفعالية والعاطفية ورفض العقلانية وتحرير المشاعر، وفي هذا السياق يقول رونالد سترامبروج: 
"ما المذهب الرومانسي؟ الحق أن هذا السؤال بقي محيرا للأدباء طوال قرن من الزمن. فتعريف الرومانسية أمر مربك ومحير، ولذلك من حقنا القول إن هذا العجز عن تعريف المذهب الرومانسي هو بمثابة فضيحة القرن. فهذا المصطلح اتخذ له العديد من المفاهيم والمعاني. فرومانسية شاتوبريان مثلا كانت كاثوليكية، ولكن بسبب بغضه للثورة الفرنسية أصبحت ملكية. أضف إلى ذلك أن رومانسية هوغو كانت جمهورية (علما أنه بدأ محافظا) ليبرالية وحتى ثورية. فأن تتألم وتكابد، وأن تصلي وتقاتل (كما قاتل لورد بيرون في اليونان) وأن تغامر في رحلات بحرية، وأن تتصل بالطبيعة، وأن تتمتع بحس تاريخي، فأنت عندئذ رومانسي. وأن تعشق بانفعال وأن تتجاوز الحدود الأخلاقية التقليدية، فأنت عندئذ رومانسي أيضا. لكن القرن الثامن عشر، عرف ومارس جميع تلك المواصفات الرومانسية، شأنه في ذلك شأن القرون الأخرى جميعا. فأن تقرأ عن القرون الوسطى، وتطالع أشعار ذلك الشاعر شبه البدائي أوسيان، وأن تتعشق أيضا الكلاسيكية الغابرة، اليونان الجميلة وآثارها الحزينة… فهذا أيضا رومانسي، ناهيك بالقدر، إذ إنه رومانسي بدوره… وهكذا ترانا نتساءل أي شيء لا يكون رومانسيا إذا قمنا بإنجازه بالروح اللائقة به؟ ولهذا نقول إن الرومانسية هي مصطلح مزاج وأسلوب، أكثر منها مصطلحا لنظرية أو عقيدة أو مذهب، ومن العسير على المرء أن يقوم بتعريف الأمزجة والأساليب". 
   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق