الخميس، 20 فبراير 2020

البحث عن الزمن المفقود 4 - مارسيل بروست.

البحث عن الزمن المفقود 
سادوم وعامورة  - مارسيل بروست.




كان الكتاب الرابع آخر كتب سلسلة البحث عن الزمن المفقود التي رأت النور ما بين سني (1921-1922) قبل وفاة بروست المبكرة. في هذا الكتاب يُكمل بروست رحلة سارده التي يقصها في أروقة المجتمع الباريسي والفرنسي الراقي. من العنوان الذي يشير إلى الشذوذ الجنسي لبعض شخصيات الرواية، كانت هذه الثيمة هي الخلفية التي ضمت كثير الأحداث ولها التأثير في أخرى، سواء فيما يخص العالم الخارجي الذي كان سارد بروست يراقبه متمثلًا بالسيد دو شارلوس، أو العالم الداخلي والخارجي معًا فيما يخص ألبرتين. لكن هذا الشذوذ لم يستحوذ على العمل أو يكون هو المحور على العكس تمامًا إذ بدا في كثير من مراحل الكتاب الرابع مجرد إضافات أو لمحات يُعطف عليها لتبقى في الأجواء التي رسمها بروست في عمله حوله

يشهد الكتاب الرابع العودة إلى بالبيك وأمسيَّات آل فيردوران وأخذ علاقة السارد مع ألبرتين مسارات جديدة ما بين التقرب والابتعاد والشكوك بشذوذها ثم الإقرار على الزواج بها، في جو نفسي حائر مرتبك ونمط شكوكي متقلب ما هو إلا استمرارا للحالة التي كان عليها سارد بروست في الكتب الثلاثة السابقة. وبدا الحشو والتكرار في هذا الكتاب أكثر وضوحًا وبروزًا دون أي إضافات جديدة تثري العمل والقارئ بل يوحي بشدة على أن بروست لم يكن يملكُ شيئًا يفعله سوى الكتابة، الأمر الذي أثَّر في العمل كثيرا وجعل الحشو والتكرار في الأمسيات أو تصوير جو العلاقة مع ألبرتين مملًا بعض الشيء، وأن على القارئ أن يكون شبيهًا مع بروست في عدم توجب فعله شيئًا سوى القراءة. فحياة الكاتب الخالية من المشاغل والالتزامات انعكست في العمل جليًا بل وتطلّبت نموذجًا معينًا من القرّاء لا تختلف حياتهم كثيرًا عن حياة بروست، السبب الذي يوضح لنا نفور الكثير من الأدباء والقراء قراءة العمل، أو حتى التهكم بالقول أن قراءتها بحاجة إلى الدخول إلى السجن حتى يتفرغ القارئ لها كليًا

منح أسلوب السرد الذي اتبعه بروست في روايته باعتماده على سرد فعل الذاكرة المتقافز الإمكانية في تجاوز بعض الأحداث ضمن تسلسها الذي سردها فيه ثم العودة إليها بشكل حر في العرض والتضمين والاستدراك، في نوعٍ من ذاكرة الذاكرة، والسرد الاسترجاعي الذي هو أساس العمل لكنه سرد استرجاعي ثانوي ضمن جسد السرد الاسترجاعي الرئيس. هذه التقنية التي استعان بها بروست في سرده، تعضد تقنية الاعتماد على الذاكرة، ولا ترابطية النص، وضياع خيط السرد. إذ السرد العشوائي التنقل والتحول كان السمة الأكثر وضوحا في الأسلوب الذي قام البحث عن الزمن المفقود عليه
كما وقد استمر الاضطراب في هوية السارد وإمكانياته في هذا الكتاب أيضًا، بل وكان أكثر بروزًا بشكل لا يمكن التغاضي عنه. فعلى سبيل المثال يغيب عن شخصية السارد ما وقع بين دو شارلوس والطبيب كوتار، بعد أن راسل دو شارلوس الأخير ليكون شاهدًا عليه في المبارزة التي أشاع أنه سيفعلها بسبب تلميحات تخص موريل، إذ كان سارد بروست بعيدًا مكانيًا وليست له القدرة على معرفة ما دار بين الاثنين لكنه يسرد كأنه سارد عليم يعرف ما تفعل شخصياته وأين تذهب وماذا يجول في أذهانها، وعلى الرغم من هذا الفارق بين قدرة من يسرد أحداثه بضمير المتكلم وبين قدرة السارد العليم فإن السرد يتشكل من قدرة الاثنين معرفيًا دون أن يبنى الحدث على هذه المعرفة أو يؤثر هذا الخلط في نوع الحدث ومآلاته. فكون شخصية السارد لها (علم فوق المكان والزمان) لا يُعرف مصدره فإنها تبقى تمضي مع الحدث كما لو أنها لا تعرف. هذا الذي يُثبت أن بروست يتحكم بالسرد بشكل فاقع دون توارٍ فهو يعطي الحرية الكاملة لسارده أن يتناول حياته وأحداثه فيها كونه هو الذي يعود بالزمن إلى الخلف باحثًا في مجريات سنينه الخالية وما وقع بها، لكنه يتدخل بذات الوقت في بعض المقاطع والأسطر جاعلًا من سارده مجرد قناع مزيف متهرئ مكشوفة هوية من يقف خلفه، فيقصيه كليًا مؤقتًا رغم عدم إشارته إلى هذا، وبوجود صوت السارد ولغته وطبيعة أسلوبه الواحدة نقف على حقيقة (صوت سارد بروست، ومعرفة بروست الكاتب الكلية). وتماهى كثيرًا بروست في هذا دون أن يضبطه، وحتى إن كان تماهيًا مقصودًا إلا أنه أخلَّ بهُوية السارد وزاد اضطرابها دون كبح أو حتى تدارك ما فعله في الكتب الثلاثة الأولى


ذلك لأن تقلبات القلب مرتبطة باضطرابات الذاكرة
سادوم وعامورة. 



تكثر الإشارة في هذا الكتاب أيضا إلى مخاطبة القارئ مباشرة
  • سوف يقول القارئ... 
  • سيادة القارئ... 
  • مع أني لا أريد أن أخلف لدى القارئ انطباعًا 

أو افتراض وجود مستمع ينصت
- وقبلما أحكي عن ذلك لا بد لي أن أقول...

هذه الأمثلة الأربعة توضح تمامًا، كما تبيّن لأول مرة في الكتاب الثالث، أن السارد هنا (هل هو الشخصية "سارد بروست" أو هو بروست نفسه) يوجه خطابه إلى القارئ، والسؤال الذي يُطرح هل العمل أصبح رواية أو هو مذكرات أو هو تذكّر حر استخدمه بروست أسلوبًا لسرد عمله؟ 
في الكتاب الأول يبدو العمل أنه تذكر دون أي إشارة إلى كتابة مذكرات أو أن الخطاب موجه مباشرةً إلى متلقٍ قارئًا كان أو مستمعًا، ثم يظهر السارد العليم في قسم حب لسوان، ثم يعود الأمر إلى نمط التذكر العادي في ظلال ربيع الفتيات "الكتاب الثاني"، وكذلك في الكتاب الثالث "جانب منازل غيرمانت" حتى يوجه الخطاب مباشرة بقوله: ويجب أن نقول...، ثم في الكتاب الرابع "سادوم وعامورة" أضحى الأمر واضحا بتوجيه النص إلى قارئ. هذا التوجه الواضح يجعل كفة أن بروست يعترف أن عمله كتابة لنص نثري يسرده للقارئ دون محاولة أن يعطي العمل طابع التذكر لشخصية ما تغوص في ماضيها أو أنه مذكرات تخص فردًا من الناس دون غيره أثناء تدوينها بل على العكس تماما هي مكتوبة للقارئ


سادوم بروست 

ارتبط بروست بحب حياته سائقه الشخصي، وأمين مكتبه لاحقًا، ألفريد أغوستينلي (1888-1914)، الذي التقى به في كابورغ في عام 1907. كانت علاقة الحب من طرف واحد، وانتهت بشكل تراجيدي في عام 1914، عندما لقي ألفريد، الطيّار المتدرب، حتفه في البحر الأبيض  المتوسط


سادوم وعامورة 

من الالتقاءات البارزة في روايات البحث عن الزمن المفقود ما بين حياة بروست وشخصيات رواياته تمثلت في تصوير حياة الشذوذ الجنسي لبعض شخصياته ذكورًا وإناثًا، والتي قيل عن بروست إنه كان على علاقة بسائقه الشاب أغوستينلي. تعود أولى الإشارات إلى الشذوذ الجنسي في الكتاب الأول "جانب منازل سوان" والحادثة المتعلقة بأوديت والتي كانت مثار شك وحيرة ومتابعة سوان الذي كان وقتها هائمًا عاشقا لأوديت، زوجته المستقبلية، إلا أن التصوير لهذه العلاقة السحاقية "عامورة" بقي سطحيًا إلى حد ما
ثم تظهر بعض التلميحات في الأحداث في الكتاب الثاني لا سيما في بلدة بالبيك، والعناية التي أبدها البارون دو شارلوس بحق سارد بروست وعلى الرغم أنها لم تشِ بالكثير فإن تصرفات البارون بدت ذات نوايا مبطنة وغير سليمة. لتبرز في الكتاب الرابع هذه العلاقات الشاذة ما بين البارون دو شارلوس وجوبيان اللذين رآهما متلبسين السارد دون أن يكشف هذا لهما، ثم في علاقة البارون مع موريل المحمومة. الجانب الآخر من هذه العلاقات الشاذة تمثل السحاق سواء ما كان يخص شخصيات ثانوية أو دون الثانوية مع قريبات بلوك، أو ما يخص تلك التي بين ألبرتين من جهة وبين أندريه وأُخريات من جهة أخرى. لم يمتكن سارد بروست من الوقوف بشكل قاطع وبات على سحاقية ألبرتين لكنه بقي في حالة من التأزم والمراقبة والصراع النفسي الذي تفاقم تباعًا بشكل زاد من اضطراب العالم الداخلي لهذه الشخصية التي لا تعرف ماذا تريد في كثير من المواقف، فلا هي تجد الراحة في الحب، هذا الحب الذي عاش متقلبًا فيه ومتنقلًا من واحدة إلى أخرى وإن في عوالمه الداخلية فحسب دون أن يظهر هذا الشغف إلى الخارج. يزداد الشك بألبرتين زيادةً تُكبر من حجم الهوة التي تبتلع سارد بروست شيئًا فشيئًا مخلوطة بنوع من الغيرة التي لا تلبث أن تأخذ مسارات مجهولة الدوافع تقرّبه منها في محاولة لتملكها بل والتفكير حتى بالزواج منها لكن سرعان ما يجد نفسه متراجعًا وثمة ما يثنيه عن أمره هذا

وبالعودة إلى شخص الكاتب "بروست" فأنَّ اثنين من أهم نظائره هما الشخصيتان: الأولى  "سوان" اليهودي الذي يتشابه مع بروست في كونه يهوديا من جهة الأم، وأنه الشخصية المثقفة والمتعلمة التي تحمل جزءًا كبيرًا من بروست كما يصفها المتتبعون لحياة بروست، والأخرى هي البارون دو شارلوس التي تعد من أهم الشخصيات التي ابتكرها بروست وتحمل في طياتها الشذوذ العلاقاتي والرغبة العاطفية المنحرفة المتقابلة مع علاقة الحب لبروست غير المتبادلة مع أوغستينلي


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق