الأحد، 26 أبريل 2020

نزيلة ويلدفيل هال - آن برونتي.




نزيلة ويلدفيل هال - آن برونتي.


بعد ظهور روايتها الأولى "أغنيس غري" بسنة، نشرت آن روايتها الأخرى والتي فاقت روايتها الأولى حجمًا ومستوًى فنيًا وموضوعيًا في عام 1848 قبل وفاتها بعام تقريبًا. هذه الرواية هي الأخرى استمدت آن الكثير من حياتها في كتابتها ولا سيما من مصدرين مهمين، الأول عملها مربيةً لدى أسرة إدموند روبنسون في منطقة ثورب غرين، حيث عملت آن خمس سنوات واستمرت في تواصل مع بنات إدموند روبنسون (الذي تبيّنت علاقتها معهم على نحو أوضح في رواية أغنيس غري) بعد تركها العمل، والثاني على حياة أخيها برانويل برونتي ووقوعه في غرام السيدة روبنسون التي أحبها على نحو محموم بعد أن عمل مرشدًا لابنها إدموند في ثورب غرين مع أخته، وكان يمني نفسه بزواجها بعد وفاة زوجها (يمكن رؤية بعض النقاط المتشابهة التي تُذكر في رواية ويلدفيل هال إلا أنها نقاط عرضية والوقوف عندها يستدعي دراسة تحليلية ونقدية مفصَّلة للعمل ليس هذا مقامها). هذان المصدران الرئيسان اللذان ارتكزت آن عليهما في خلق شخصياتها وعرض المجتمع ونقده إضافة إلى المواضيع الأخرى التي تضمها الرواية- لا يمكن أن نُوعز فكرة العمل وإلهامه إليهما بالكامل فكما تقول كاتبة سيرة آن برونتي وينفريد جيرن: "لم تكن رواية نزيلة ويلدفيل هال مجرد دراسة عن شخصية فاسقة (شخصية هنتنغتن زوج هيلين) بل تقديم لمجتمع فاسق، ولا يمكن تعريف شخصيات الرواية بأنها تصوير لشخص محدد أو مجموعة أشخاص عرفتهم آن، لكن -وبوضوح- لأصولهم التي كانوا أبعد من أن يبحثوا فيها، إن عالم غراسدايل (حيث عاشت هيلين مع زوجها سنوات زواجها) هو في الأساس البيئة الاجتماعية لثورب غرين هال". لا ينفع القارئ الوقوف كثيرا على نقاط التشابه والتقاطع ما بين حياة آن ومن عرفتهم وبين الرواية وشخصياتها إلا في التحليل المفصّل كما ذكرت آنفا*. 


إنَّ رواية نزيلة ويلدفيل هال واحدة من بواكير الأعمال الروائية النسوية، فمواضيعها المتنوعة التي تركزت حول شخصية البطلة هيلين منحت زخمًا كبيرًا للكثير من القضايا النسوية في المجتمع الإنجليزي في وقتها، وسلَّطت الضوء على الكثير من المفاهيم مثل عمل المرأة، واستقلالها المادي، وأدوار النوعين (الجندر)، والعنف الأسري، وترك المرأة لزوجها، والزواج الإجباري، وانعدام ذات وخصوصية الزوجة، وتكريس حياتها لخدمة زوجها وسعادته، إلخ، ونُوقِشت هذه المواضيع جليا في العمل ضمن متن الأحداث الواردة فيه. ولا نحصر مواضيع العمل في الجانب النسوي فقط، بل ضمَّ كذلك مواضيع مهمة أخرى مثل تربية الأولاد والبنات والتفريق بين تربية الاثنين، التي كان لهيلين رؤيتها المخالفة لرؤية المحيط في نظامه التربوي المُفرِّق بينهما، وحال المجتمع الفاسق المتهتك وعلاقات أفراده المتضعضعة، والخيانة الزوجية، والعلاقة الزوجية السيئة ،والحب، والأمومة. كما يمكن ضم الرواية إلى أنواع مختلفة من بينها الرواية الاجتماعية، ورواية الأفكار عبر طرحها ونقاشها للأخلاق والدين والفضائل فضلا عن رواية رسائلية ورواية يوميات. 


هذا الثراء الموضوعي توزع في أجزاء الرواية الثلاثة، وتناوب كل عرض مواضيع معينة من القصة التي امتدت لأكثر من أربعمئة صفحة، وتميّز كل جزء بسارد خاص  وأسلوب سرد مختلف وزمان ومكان خاصين به. لنقف أمام عمل متكامل ومميز في بنيويته وسرديته. 


يُسرد الجزء الأول من العمل في رسائل يكتبها جيلبرت ماركهام إلى خطيب أخته هالفورد، ويقص في هذه الرسائل حال هذه السيدة الغريبة "غراهام" التي حلّت في بلدتهم وسكنت في قصر قديم "ويلدفيل هال" يعود إلى الحقبة الإليزابيثية والذي لم يُسكن منذ سنوات عديدة شغلته مع ابنها "آرثر" وخادمتها "راشيل". وبعد بداية قوطية حول هذه السيدة التي بدا عليها أنها أرملة شابة وغامضة، يبدأ سكان البلدة ومن بينهم جيلبرت وأمه وأخته في التعرف على هذه السيدة وتكوين علاقات معها، إلا أن طبيعة هذه السيدة الحذرة والمنعزلة والمتكتّمة، وتواصلها اللافت مع فريدريك لورانس (أحد سكان هذه البلدة ويُكشف عن قرابته بها في الجزء الثاني) يثير الشائعات حولها وماضيها يصل إلى التشكيك بأخلاقياتها، ينبري ماركهام في الدفاع عنها وعدم تصديق ما يقال عنها، ويقع تدريجيًا في غرامها. 

تعمل السيدة غراهام في رسم اللوحات في كسب دخلها المادي لتعيش في هذا القصر الذي هُجر طويلًا، لكنها تضيق ذرعًا بتدخلات أهل البلدة، ثم اهتمام جيلبرت بها واعترافه بحبه لها، لتكشف له عن حقيقة شخصها وماضيها وما مرت به حتى انتهى بها المطاف هنا. 


الجزء الثاني من العمل، تتولى فيه هيلين هنتنغتن (السيدة غراهام اسم مستعار لها بعد هروبها من زوجها) سرد قصتها في يومياتها في السنوات التي سبقت قدومها لتسكن في ويلدفيل هال (استرجاعية للأحداث الماضية) التي أعطتها لجيلبرت كاشفة له هُويتها وحياتها الماضية. ينقلها جيلبرت كما هي في رسائله إلى هالفورد إلا أنه لا توجد إشارة إلى هذا النقل لأن الصوت السردي صوت هيلين والأسلوب السردي هو اليوميات، ويغيب جيلبرت عن هذا لكنه يحضر قارئا لهذه اليوميات، والقارئ العادي وخطيب أخته هالفورد يقرآها بقراءة جيلبرت لها (قراءة ضمنية داخل قراءة ضمنية؛ يغيب الوسيط "جيلبرت" بل تصبح قراءته وقراءة هالفورد وقراءة القارئ متزامنة وواحدة). يمثل هذا الجزء من الكتاب القسم الأكبر من العمل، وفيه تدور أغلب مواضيع الرواية المهمة والرئيسة، فبعد بداية زواج ظنته هيلين سعيدًا ينقلب عليها وبالًا في أكثر من خمس سنوات من المعاناة. تحاول خالتها رفض زواجها من هنتنغتن محاولة تبرير اعتراضها على سوء سمعته وسلوكياته الفاسقة إلا أن هيلين ترفض ما يُشاع عنه وتصرُّ على زواجه (نرى في هذا الإصرار على الزواج ورفض ما يُقال عنه- ذات السمة حين أصرَّ جيلبرت على رفض ما أُشيع عن علاقة السيدة غراهام ولورانس فريدريك وما قيل عنها وبقي متمسكًا برأيه بشأنها ودفاعه عنها وسمعتها وأخلاقها). 

لا ينفك تطور شخصية هيلين بتقدم الأحداث وتعددها وتنوع مواضيع الراوية بل نلتمس في قراءة هذا الجزء بأحداثه المأساوية التي أصابت هيلين تطور شخصيتها سُبكت وحُبكت على نحو متقن جدا ما بين "أحبه (تقصد زوجها هنتنغتن) وأكرهه". تمر شخصية هيلين خلال هذه السنوات ما بين حياة العزوبية والزواج والهروب والترمل والزواج مجددا بمراحل مختلفة ومتعاقبة، تخلق من هيلين هيلينَ أخرى، هي في النهاية نتاج للمجتمع الفاسق الذي عاشت داخله في غراسدايل والمعاناة والمأساة والأخلاق والقدر والدين: 


عزباء متحمسة لإصلاح زوجها. 


المرحلة الأولى في شخصية هيلين تمثلت في كونها عزباء غريرة وقعت في غرام هنتنغتن ورضيت به رغم سمعته وسلوكياته التي شاهدت بعضها لأنها أحبته وطمحت لإصلاحه مفرطة التقدير بقدرتها ومخدوعة بكلامه المعسول ووعودها المُلونة "لو تتحدثين معي كل يوم سأتحول إلى قديس" هذا القديس الذي سيكشف عن قدسيته المريعة والشنيعة بعد الزواج. 


-  زوجة تحاول إرضاء زوجها وإصلاحه ثم الصِدام والصبر عليه.


بعد الزواج تتكشَّف لهيلين مساوئ زوجها وسلوكياته اللا أخلاقية وإدمانه الكحول ولقاءاته مع مجموعته المتهتكة، ويتضح لها أن مساعيها مهما تكاثفت فهي فاشلة، وأن زوجها لا يطمح لإصلاح نفسه، ولا يستمع إليها إلا من أجل إسكاتها والتخلص من مواعضها التي يضيق بها ذرعا. 


أمٌّ تلتهي بابنها ثم تحاول تقبل زوجها. 


تشهد المرحلة الثالثة من تطور شخصية هيلين منعطفًا مهمًا بعد أن تصبح أمًا، فالأمومة تحوّل اهتمام هيلين وانشغال فكرها من زوجها الميئوس منه إلى ابنها، ثم تقبل زوجها كما هو لتعلن عن أول فشل وخيبة أملها سعت لأجلها قبل وأثناء زواجها. 


اكتشاف خيانة زوجها له ومصارحته بالأمر. 


أماطت خيانة زوجها اللثام عن هيلين جديدة، هي الطور الأهم من أطوار شخصيتها في حياتها، لتظهر بهيئة قوية وصلبة لا تُبدي ضعفها قُبالة أي أحد وتعيش حياة منفصلة مع زوجها في زواج ظاهري فحسب تحت سقف واحد. يُسدل الستار عن مرحلة تهتك سري عمل هنتنغتن على إخفائها عن زوجته وليبدأ الآن -بعد معرفتها بخيانته لها ومصارحته بالأمر- فصلٌ جديد من هذه العلاقة المشؤومة ما بين الاثنين سعى فيها زوجها إلى الإساءة لها بقدر الإمكان فتواجهه هيلين بجَلَد وصبر وثبات. 


رفض الخيانة والتمسك بأخلاقها وقيمها ودينها المسيحي وتعالميه.


لم تضعف الخيانة وانفصال الحياة الزوجية بين الاثنين القيمَ والأخلاقَ التي اعتنقتها هيلين، فالتقوى والإيمان المسيحيان يلعبان دورًا مهمًا في كونهما سلوى لمصابها يدعمانها في هذه المرحلة العسيرة من حياتها وكذلك ترسًا صلبًا يحميها من الغواية والانحدار الأخلاقي والقيمي للانتقام من زوجها، فهي رغم كل هذا لا تفكر بالانتقام من زوجها عبر الخيانة وتعلل هذا "لن يجعله أفضل وسيجعلني أسوأ".  


التخطيط للهروب وحماية ابنها من تأثير والده المتعمّد ومجتمعه المتهتك.


بعد أن تضيق بها الحياة مع هذا الزوج ذرعًا فإن الطور المهم الثاني في شخصية هيلين متمثلٌ في محاولة إنهاء هذه التعاسة والبؤس الذي تعيشه، ولأجل حماية ابنها في المقام الأول من تأثير والده، فكلما كبر ابنها زاد تأثير والده السيئ فيه وتفاقم همها وتضاعف قلقلها لتلفي نفسها لا خيار أمامها سوى الهرب من هذا الجحيم الذي تعيشه. 

 

حياة ما بعد الهروب. 


في هذه القسم الأخير من يومياتها والجزء الثاني من الرواية الذي يتصل ببداية الجزء الأول، الذي يسرده جيلبرت في رسائله لخطيب أخته، تترسم آخر ملامح تكامل شخصية هيلين، فخلال بضع سنوات، تتحول من شابة ثرية غريرة محبة يملأها ويدفعها طموح إصلاح حبيبها وزوجها وسحبه من عالمه إلى أم عزباء وامرأة مستقلة تعيش في فاقة عركتها الحياة وتعتمد على نفسها في جني قوتها وتربية وحيدها. 



في الجزء الثالث الأخير من الرواية يتولى جيلبرت وهيلين مهمة السرد في رسائلهما إلى هالفورد وفريدريك على التوالي، ويكملان فيه مُجريات الأحداث المتممة لقصة هيلين التي تعود إلى زوجها من أجل الاعتناء به بعد مرضه ثم وفاته، وما يكتبه جيلبرت في رسائله (رسائل هيلين يقرأها هالفورد والقارئ بذات طريقة الجزء الثاني عبر الوسيط -جيلبرت- الضمني) عن تصميمه وإصراره في حبه الذي ينتهي بزواجه هيلين في نهاية شجية وعاطفية حملت في طياتها الصراع النفسي والرومانسية الخالصة.


تقدم آن في هذه الرواية عملًا إنسانيًا عظيمًا موضوعيًا وجيدًا فنيًا بتقديم رؤية بانورامية للمجتمع الذي اختلطت به في ثورب غرين من عدة جوانب حياتية وفكرية وأخلاقية ودينية تمثلت في شخصيات العمل الرئيسة (هيلين وهنتنغتن وجيلبرت). وتمَّ هذا التقديم عبر شقين رئيسين من السرد بضمير الشخص الأول. فما يخص الجزئين الأول والثالث فإنهما يُسردا بأسلوب الرسائل،  الجزء الأول رسائل جيلبرت فحسب، ونرى في الجزء الثالث من الرواية تمازج الصوت السردي في نسج الحدث بتوازٍ دون إخلال أحدهما بالآخر بل يتعاقبان ويتتابعان في رسائل جيلبرت إلى هالفورد وهيلين إلى فريدريك. كان الصوت السردي لكل منهما واضحًا يحس القارئ بتميّزه عن الآخر سواء من لغته أو فكره. أما السرد في الجزء الثاني الخاص بيوميات هيلين وهنتنغتن التي تدونها في أوقات متباعدة متصاعدة منذ مرحلة ما قبل زواجها وحتى فرارها. ويطبع على يومياتها سمة التحليلة للسلوكيات والعمق النفسي الذي تسبر غوره لكشف أسبابه سواء من خلال سرد الأحداث أو الحوارات. 

تُعرض الشخصيات جميعا عبر الساردين الرئيسين لذلك فهي تحدد القارئ بمنظار وسياق رؤية معين مهما حاول السارد الحياد في نقله وعرضه فإنه يحرم الشخصيات حرية الدفاع عن ذواتها وأفكارها وسلوكياتها، وهذا ما يجعلنا نُسلم إلزامًا بصدق السارد وما يرويه، ونأخذ به في تحليل صراع الخير والشر في العمل وعند الشخصيات، فأي ظلم قد يقع على الشخصيات أو إطراء مبالغ به فإن المسؤول الأول عنه هما هيلين وجيلبرت.


صراع الخير والشر 


إنَّ الموضوع الرئيس الذي يضم جميع أحداث الرواية مُشكَّلا إطارًا وخلفية هو صراع الخير والشر والفضيلة والرذيلة والدين والكفر وما يتفرع عن هذه الأطراف الستّة المتنازعة من سلوكيات وأفعال وأقوال وأفكار في الرواية. 

تتقدم هيلين لتكون رمزَ الخير المطلق كما نقرأ هذا في يومياتها عبر ما كنَّته لزوجها قبل زواجها من محاولة إصلاحه ثم نصحه والصبر عليه بعد زواجها إلى أن وصلت إلى مرحلة التسليم ثم الصدمة باكتشاف خيانة زوجها لها وإصرارها على أخلاقياتها في وجه الإغواءات رافضة الاستسلام له وسيلةً للانتقام ثم هربها فعودتها لنجدته وإعانته في مرضه المُميت. تسرد وتبرر هيلين كل أفعالها وأفكارها ومعتقداتها في يومياتها ثم في رسائلها لأخيها، هذه الخيرية والإنسانية مُزجت بإيمانها بالرب وبالعقيدة المسيحية التي تتصارع مع قوى الشر في العمل، الشر المتمثل في شخصية هنتنغتن. إن الشرانية عند هنتنغتن متعددة الوجوه سواء في معتقداته وأفكاره وأفعاله، وتجاوزت حدودها الإنسانية المتثملة في شخصه ليصبح رمز الشر الإنساني المطلق في صراعه مع الخير في العمل، وحلبة الصراع هي الحياة الزوجية. يأخذ مسار الصراع نمطًا اعتياديا تمر به هيلين وهنتنغتن، وتكون الغلبة في صالح هنتنغتن في المراحل الأولى حتى الوصول إلى مرحلة الذروة ثم تبدأ قوته بالانخفاض تزامنا مع صعود قوى الخير المتمثلة بهيلين التي تنتهي بانتصارها وخلاصها. لكن هذا الصراع هو معركة شرسة حيث حرب الأفكار والأفعال والمقاومة بين جميع القوى المتضاربة، وثمة المصرُّ على أفعاله وثمة المتردد الذي يأخذ جانب الخير مرة والشر في أخرى، مما يعطي للعمل زخمًا قويًا وتشعبًا في الرؤية لا يتمثل في القوى الكبرى فحسب. 

لا يقتصر الأمر كذلك على الشخصيات الرئيسة بل وكذلك على شخصيات دون رئيسة مثل أنابيلا وجيلبرت في هذا الصراع وثانوية مثل لورد بورو وهارغرايف وكذا الأمر في تعدد حلبات الصراع وإن كانت حلبة الحياة الزوجية هي السائدة، هذا التعدد منح صراع الخير والشر توازيًا في قواه في الوقت الذي لا يشهد تغليب طرف على طرف بالكامل وإن انتهى بموت هنتنغتن وزواج هيلين مرة أخرى، لكن هيلين لم تستطع أن تُعيد هنتنغتن إلى جادة الصواب حتى في فراش موته، وسقطته وتدهور صحته ليسا بسبب هيلين بل القدر المكتوب سلفا. ونشهد عدم تغليب نوع على نوع في الخير والشر وإن تمثل طرف الخير الرئيس في شخصية الأنثى "هيلين" والشر في شخصية الذكر "هنتنغتن" فارتدت هيلين ثوبًا ملائكيا وهنتنغتن ثوبًا شيطانيًا وبقيا في احتدام مستمر حالف القدر هيلين في صراعها وحياتها في آخر الرواية.


_____

* نرى انقسام شخص وحياة برانويل برونتي في عدة شخصيات في العمل، فالجانب المتهتك والفاسق والمنحل وإدمان الخمر نجده في شخصية هنتنغتن، وكذلك ساهم شخص إدموند روبنسون (الذي عملت آن لديه خمس سنوات) ومجتمعه في خلق هنتنتغتن، والجانب المحب والمولع بإخلاص من شخص برانويل للسيدة روبنسون في شخصية جيلبرت ماركهام الذي أحبَّ هيلين بعد تركها ثم بقاؤه مخلصًا في حبها ومنتظرًا إياها حتى تزوجها بعد وفاة هنتنغتن، وهنا المفارقة أن برانويل لم يتزوج السيدة روبنسون (تزوجت آخر بعد وفاة زوجها) بل إن عدم قدرته على زواجها والمشاكل التي واجهته والعراقيل في مسعاه هذا أودت به إلى الإفراط في التهتك وإدمان الخمر والأفيون ثم الموت بعد تدهور حالته الصحية. أما شخصية هيلين ولا سيما في جانبيها الأخلاقي والديني فهما مستمدين من شخص آن والتزامها الأخلاقي والديني المسيحيين وكذلك من حياة السيدة روبنسون. لذا يمكن -وبالرجوع إلى قول وينفريد غرين فإن شخصيات ويلدفيل هال- إن شخصيات العمل هي خليط من أشخاص عرفتهم آن وتخيّلتهم بعد صهرها معارف حياتها وعملها في بوتقة واحدة ثم استخلصت شخصيات متنوعة من هذا الخليط الذي مرَّ عليها في حياتها. 

تتعدد البحوث والكتابات حول جذور هذه الشخصيات، وكذلك فيما يخص العمل نفسه الذي أُهمل كثيرًا ولم ينل حظه من المكانة والشهرة لحساب أعمال أختيها لأن عديد النقاد قالوا إن العمل لم يقدم شيئًا أفضل من رواية إيملي "مرتفعات وذرينغ" المنشورة في عام 1846، ورواية شارلوت "جين إير" المنشورة في ذات السنة، بل وذهب بعضهم إلى أن آن أخذت من روايتي أختيها في بناء روايتها (ثمة بعض التشابه بين جين وهيلين). هذا العمل الذي مقتته شارلوت لأسباب تخص موضوعه ووصفته بأنه "غلطة بأكلمه" بل ولم تمنح الإذن بإعادة نشره بعد نفاد طبعته ووفاة أختها.  


لتحميل الرواية بالنسخة الإنجليزية:


لمشاهدة المسلسل الذي أنتجته قناة BBC المقتبس من الرواية في ثلاث حلقات (غير مترجمة) لكل جزء من الرواية حلقة: 


الحلقة الأولى: 


الحلقة الثانية:


الحلقة الأخيرة: 



لقراءة سيرة آن برونتي:

السبت، 18 أبريل 2020

الحدقي - أحمد فال ولد الدين.



كنت وما زلت أعد روايات التخيّل التاريخي التي تعيد روي التاريخ وحوادثه وشخصياته في قالب روائي واحدة من أهم وأصعب الأنواع الروائية لأنها تحتاج إلى بحث وجهد كبيرين يفوقان أي شيء آخر في بُنية العمل. إذ رواية التخيّل التاريخي (أو الرواية التاريخية) هي إعادة صياغة الماضي عبر استقراء وتفكيك كتب التاريخ الخاصة بالمرحلة المعنية أو الأحاديث المروية المتعلقة بالموضوع وما يتفرع عن هذا الاستقراء والتفكيك من الاهتمام بمواضيع اجتماعية وفكرية وثقافية ودينية ولغوية ويصل الأمر إلى الاهتمام بالطعام والملابس وآلية بناء المنازل وأمور أخرى ضرورية في تشييد أي عالم روائي فكيف بإعادة تشييد عالم الماضي الذي يملك الكثير رؤى وأفكارًا وتصورات عنه تجعل من الخطأ فيه مضاعف المحاسبة. وتتمثل العقبة الأخرى التي يواجهها المؤلف في رواية التخيّل التاريخي هو محاولة معالجة المواد المفقودة، والأحداث المُبهمة، وكيفية رأب هذا الصدع الذي يحتاج إلى تخيله الشخصي، وتحليله الذاتي، ورؤيته للموضوع وفقًا ما تفرضه عليه أفكاره وخيالاته وبما يراه يتناسب مع عمله وبحثه، وهنا بالذات تخرج الرواية من الموثوقية إلى التخيلية التي تفرض على القارئ ألا يتمادى كثيرًا مع العمل وإسقاطه على الواقع كليّا وتصديق كل ما يرد فيه حتى وإن روى أحداثًا حقيقية وتناول أشخاصًا معروفين وإلا انتفت غاية الرواية وتحولت إلى مؤلف تاريخي وهي ليست كذلك. لذا فرواية التخيّل التاريخي تبقى رواية لا أكثر ولا يمكن وضعها في ميزان واحد مع كتب التاريخ وهذا لا ينفي أن تضبط هذه الرواية مادتها في حالة تناولها لأحداث حقيقية. في حين تكمن المرحلة التالية في رواية التخيّل التاريخي في كيفية صياغة العمل وبناء أحداثه شخصياته وتقديمه للقارئ، وهنا تبرز قدرة المؤلف الفنية في الصنعة الروائية، فرواية التخيّل التاريخي ليست مجرد تجميع لأحداث الماضي في قالب روائي بل يلزمها أن تنفخ الروح فيها، وأن تجذب القارئ إلى عالمها ليسبح فيه ويعود بالزمن إلى الوراء- زمن الحدث المقصود. 

رواية الحدقي واحدة من روايات التخيّل التاريخي التي قدمت هذا النوع من المحاولات في استعادة الماضي في قالب روائي، وتسليط الضوء على شخصية تاريخية وأدبية رفيعة في تاريخ الأمة الإسلامية متمثلة في العالم الأديب واللغوي المتبحر البصري أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، صاحب المؤلفات الذائعة الصيت ولا سيما مؤلفه "البيان والتبيين"، وكتبه الأخرى التي بلغت العشرات مثل البخلاء والحيوان وغيرهما كثير. 

يقدم الكاتب ولد الدين حياة الجاحظ أو الحدقي "كما أختاره عنوانًا للكتاب" التي بلغت تسعين عامًا وبضع سنين قضاها في البصرة وبغداد في العصر العباسي الذهبي ما بين القرنين الثاني والثالث الهجريين. 

تُفتح الرواية بسرد راوٍ عليم بالحديث عن اليوم الأول لمحمد القروي الشنقيطي وانضمامه للعمل في قناة "العروبة" مدققًا لغويًا فيها. وفي هذا العالم الإعلامي الغارق في اللهجات والعربيّة المحرَّفة الكسيحة يلفى القروي نفسه في مهمة مستحيلة لتقويم هذه الألسن التي اعوّجت من كثرة لحنها وخطأها وإهمالها نحو العربية في ضبطه سواء في كلامها أو أخبارها وتقاريرها. وفي غمرة موج الانحدار اللغوي الذي يطغى على القناة يُلقى على القروي مهمة كتابة وثائقي عن شخصية تاريخية ليقع الاختيار على الجاحظ، ومع الجاحظ تبدأ رحلة القارئ الماتعة إلى مدينة البصرة ثم بغداد في رحاب الأمراء والسلاطين ومجالس الأدباء والمناظرات والحوارات في المساجد والمنازل والقصور. 
يتسلَّم القروي هنا زمام السرد ويتحول من شخصية إلى راوٍ، وفتنقسم الرواية إلى عالمين روائيين أحدهما في الحاضر والآخر في الماضي، وفي مستويين للسرد (الحدث الماضي في الحدث الحاضر). وبهذا يبقى العمل متنقِّلًا بين الاثنين. 
حاول المؤلف أن يضبط لغة العمل في الزمنيين الروائيين والتي هي أبرز ما ميّز العمل في عمومه، إذ لغة الرواية في الزمن الحاضر امتازت بالوضوح والسهولة فهي أقرب للعامية منها للفصحى في كثير حواراتها رغم محاولة القروي الحفاظ على لغته العربية السالمة من اللحن والتشويه، ليبدو غريبًا في الوسط الذي يعمل فيه، في حين يحافظ القروي/ الراوي في كتابته عن الجاحظ باللغة العربية الفصحى التي تحاول مقاربة لغة عصر الجاحظ بشكل شبه متقن. ليبرز هنا دور اللغة في تجسيد التاريخ المتناول، فاللغة هي الأساس الذي بُني عليه عالم الجاحظ قبل أي عناصر تأسيسية أخرى في العمل. تعطي لغة السرد وحوارات شخصيات عصر الجاحظ جوًا عربيًا قديمًا يتذوق فيه القارئ حلاوة العربية ويجد نفسه داخل البصرة القديمة وبغداد العباسيين. 
تتشكل رواية الجاحظ الداخلية في البصرة من أربع عناصر رئيسة:    
١- سيرة الجاحظ.
٢- البصرة وتاريخها وأهلها ومجتمعها وطوائفها.
٣- سير أعلام أهل البصرة.
٤- الحركة الفكرية  أو الدينية المعاصرة للجاحظ كالمعتزلة والثنوية.

فعلى هذه العناصر يعمل القروي على السيطرة على قصة الجاحظ قبل الانتقال إلى بغداد والتي لن يكون الجو الروائي العام فيها موازيًا للبصرة والفرق بينهما واضح إلا أنه يتناسب مع أهمية البصرة ومدة مكوث الجاحظ فيها لا سيما وهي مسقط رأسه وأرض نشأته. 

يبقى العمل يسير في خطين متوازيين ما بين الماضي والحاضر، ما بين القروي والجاحظ، ومحاولة الموازنة ما بين الحالة النفسية والعاطفية للاثنين في العمل ما بين حب القروي لزميلته حصة، وما بين حب الجاحظ لتماضر بنت الخليل الفراهيدي ثم الجارية عليّة وإن اختلفت نهايتي القصتين وفقًا لما يقتضيه سياق كل قصة. 
لا تقدم رواية القروي الشيء الكثير، ولولا التركيز على المسألة اللغوية في القناة فهي رواية عادية تتمحور ما بين اهتمام القروي باللغة العربية وعمله في قناة العروبة -وهي مفارقة تهكمية من قبل المؤلف، فقناة العروبة تجهل العربية- والعلاقة مع حصة السعودية التي تنتهي بفشلها لأسباب معروفة وأخرى مجهولة بذات الوقت، إلا أنها في النهاية لا تعطي جديدًا يجهله القارئ، ولا تقدم تحليلا اجتماعيًا، ولا تعطي بعدًا إنسانيًا للقصة، هي مجرد حكي، وكان بإمكان المؤلف أن يجعل من العمل أكثر جاذبية وجرأة وهو الصحفي الذي عمل مع قناة الجزيرة، أن يأخذنا فيما خلف كواليس القنوات الفضائية، والتضليل الإعلامي الذي تمارسه القنوات، والحملات المؤدلجة، والحرب الإعلامية، ويكشف للقارئ خبايا وأسرار هذه القنوات وسيجعل من رواية الحاضر عملًا أكثر إثارة وجذبًا لكنه آثر الطريق السهل ومن يتجنب الوعورة في عالم الأدب يعود خالي الوفاض. لذا فالجزء الذي يتناول حياة القروي كان فارقًا بضعفه الفني فالسارد عليم، والشخصيات بلا أي أبعاد جوانية وأغلبها ظلال شخصيات وصور لا غير، ليس ثمة اهتمام بالمكان أو الزمان الروائيين وبضعف الحبكة التي هي أشبه بلا حبكة ناسخة لملل حياة العمل المتكرر، أما النهاية فهي لا تتميز بشيء يذكر سوى أنها كانت شبيهة لبقية الجزء المتعلق بالقروي وقناة العروبة. 

يختلف الأمر مع رواية الجاحظ رغم أنها هي الأخرى لم تستخدم القوة الإبداعية الحرة والمتطورة في العناصر الروائية. لكن نجد استخدام تقنية الاسترجاعية ضمنيًا مع السرد بالعودة إلى الوراء عبر ذاكرة الجاحظ، وهذا ما يضفي شيئًا من الفنية على العمل الذي استمر بخط زمني تصاعدي. وثمة تنوع في أحداث العمل والحوارات والأحداث والشخصيات -التي كانت شخصيات معروفة- لكنها تبقى عدا شخصية الجاحظ شخصيات خارجية لم يقتحم الراوي عالمها الداخلي إلا في مرات معدودة جدًا رغم مقدرته على هذا وهو الراوي العليم، فقد اهتم بالوصف الخارجي والحوارات أكثر من اهتمامه ببناء الشخصيات وهذا يعود جزء كبير منه إلى كونها شخصيات حقيقية، وعملية بنائها تلزم تفكيك الشخصية في الواقع من خلال ما خلفه من إنتاج أدبي، وبذلك ستفرض كل شخصية على المؤلف جهدًا خاصًا في التفكيك ثم التشييد لكن المؤلف هنا أيضًا آثر الطريق السهل واكتفى بتفكيك شخصية الجاحظ وإعادة بنائها في عالمه الروائي. والأمر الذي يسترعي الملاحظة هو اختفاء أم الجاحظ دون الإشارة إلى كيفية موتها أو حال الجاحظ عند وفاتها ولا يرد لها ذكر بعد ظهورها في البداية ولا سيما في حضرة الخليل الفراهيدي إلا عبر ما يتذكره الجاحظ عنها، ثم الظهور الفجائي لشخصية مريم بنت أخت الجاحظ لإعانته بعد إصابته بالفالج فلا نعرف من هذه الأخت ولا كيف أتت مريم فكأنها كانت تقف خلف الستارة وأُقحمت في النص إقحامًا وهذا ما يؤخذ على الراوي القروي ومن فوقه المؤلف. 
وبالعودة إلى ظهور أم الجاحظ وهي تقدم ابنها وهو في الرابعة من عمره إلى الخليل نلاحظ أن الراوي أضفى على قدرة الجاحظ الفكرية والنفسية على حد سواء ما لا يتناسب مع سنه الصغيرة فيكتب: "شعر الجاحظ بحرج من ضحك أمه بين يدي أعقل العرب، وظهر ذلك في تعرق جبهته التي تكاد المكان الوحيد الذي يفضح مشاعره كلما حاول إخفاءها". لا يتناسب هذا الوصف للجو النفسي الداخلي لطفل يبلغ من العمر أربع سنوات وهي كما أراها سقطة في بناء شخصية الجاحظ في صغره. كما يلاحظ في العمل هو التسارع الزمني التي يكاد يبدو في بعض الأحيان كونه صفحات من حياة الجاحظ أقرب من محاولة عرض حياة الجاحظ كاملة.   
في الختام فإن الجزء المتعلق بحياة الجاحظ أراه ناجحًا رغم الملاحظات التي وقفت عندها فيه، ونحن بحاجة دائمة إلى مثل هذا النوع الروائي وإعادة الشخصيات المهمة في تاريخنا الديني الأدبي والفكري إلى الواجهة وإعطاء أمثلة ناصعة على مجد هذه الأمة وتاريخها التليد الذي يحاول تشويهه الكثير بكل ما أوتوا من قوة.

 **
الأخطاء اللغوية في العمل. 
ثمة في العمل عشرات الأخطاء اللغوية (ما بين مكرر وغير مكرر) -عدا تلك المقصودة التي نبّه عليها القروي- ولا يمكننا التغافل عنها لسببين أكره المؤلف نفسه بينهما، الأول في اختياره مهنة المدقق اللغوي لبطله، والثاني في اختيار سيرة الجاحظ اللغوي النحرير، فإن العمل هنا بالذات يقوم على اللغة السليمة قبل كل شيء آخر، فهي مجمع قوة العمل ومحوره وأساسه. وأي تضعضع فيه يجعلني أقف عنده، وهي أخطاء بعضها شائع فمثلا استخدام ظرف الزمان الدال على المفاجئة "بينما" والذي يتصدر الكلام، أداة ربط شبيهة بـ While في اللغة الإنجليزية، أو الخطأ الذي يرد في جواب الجاحظ:
هل أنت أبو عثمان؟ 
بلى! 
ونربأ بالجاحظ أن يستخدم بلى في إجابة سؤال مثبت بـ هل. وكذلك استخدام أم المعادلة مع هل في سؤال يطرحه الجاحظ! وكذلك في قوله لأبي نواس: حتى يعرف الخليفة مكانتك كأشعر أهل البصرة، والكاف للتشبيه وهي دخيلة على العربية من استخدام  As الإنجليزية في ذات السياق. وأخطاء أخرى لا بد من مراجعتها وتصحيحها فأي نقص أو سقطة تُحسب على العمل لا سيما وهي حصن هذه الرواية المنيع.

السبت، 11 أبريل 2020

أغنيس غري - آن برونتي.



الرواية الأولى لـ آن برونتي، الأخت الصغرى للأخوات برونتي (شارلوت وإيميلي)، والتي نُشرت مع رواية إيميلي "مرتفعات وذرينغ" في ثلاثة مجلدات (اثنان لرواية إيميلي وواحد لرواية أغنيس) في كانون الأول عام 1847 من قبل الناشر Newby. وسبقتهما أختهما شارلوت بشهرين بنشرها رواية "جين إير" الرواية التي ذاع صيتها وقتها ووصفتها مجلة ويستمنستر ريفيو أنها رواية الموسم. 

كان الزمن كفيلًا بالكشف عن مستوى الأخوات الثلاث شعريًا وروائيًا، كان الاعتراف بموهبة الأخوات الثلاث شعريًا متأخرًا إلا أن الاعتراف بالموهبة الروائية جاء مبكرًا ولا سيما الأختان الكبريان شارلوت وإيميلي (إيميلي برواية واحدة، وشارلوت بعدة روايات). كلما مرّت السنوات؛ أُزيحت آن إلى ظل أختيها رغم نشرها لروايتين (أغنيس غري، ونزيلة ويلدفيل هال)، فأهملها النقّاد تدريجيًا حتى أضحت ظلًا لأختيها أو مجرد شخص آخر ضمن الأخوات برونتي كما تكتب كاثرين وايت في مقدمة طبعة وردزورث. 

لم يكتفِ هذا الإهمال بروايتيها بل وحتى بسيرة حياتها، إذ لم يكتب عنها شيء حتى عام 1954 عندما كتبت إيستل تروث أول سيرة عنها ثم تبعتها وينفريد جيرن في عام 1959. (وهي سيرة غنية بالتفاصيل والمعلومات والشروحات عن حياة آن وعملها وأدبها الروائي والشعرية). 

يبدو الإهمال الذي تزايد خلال السنوات التي لحقت وفاة آن في الرواية الأولى "أغنيس غري" طبيعيًا لكنه غير طبيعي مع رواية نزيلة ويلدفيل هال. تتحدث رواية أغنيس غري بأسلوب مذكرات على فصول منوعة وقصيرة ومتصاعدة زمنية بتباطئ أو ذي قفزات كبيرة، عن حياة أغنيس غري وعملها مربية لدى عائلتي بلومفيلد ومورّاي في بلايك هال وهورتون لودج. 

يلتقي هذا العمل في كثير من أحداثه مع سيرة حياة آن الشخصية مما يجعله "سيرة روائية" تكشف فيها عن مصاعب العمل مربية، وتنتصر فيها لذاتها ضد القدر الذي حرمها من الحب في نهايتها ومنحها السعادة التي افتقدتها. هذا الاعتماد الكبير على حياتها تصفه شارلوت بقولها: "اعتمدت آن على خبرتها في العمل مربيةً" وتقول إنه "مرآة عقل الكاتبة". فنحن هنا مع شهادة من شخص قريب من آن في أيام حياتها القصيرة في هاورث ووفاتها في سكاربرا (1820-1849). إضافة إلى التشابه الكبير ما بين شخصيات العمل والأشخاص الذين التقت بهم آن في حياتها سواء في منزلها كما في (ويتسون الخوري وويتمان الخوري الذي عمل مع والدها "والذي أحبته آن"، وأفراد أسرة بلومفيلد التي عملت لديها أغنيس واستغنت عن خدماتها بعد شهور قلائل وأسرة إنْغام التي عملت لديها آن واستغنت عنها كذلك في مدة نفسها، وأسرة موراي وأفرادها "بنتان وولدان" وأسرة روبنسون "ثلاث بنات وولد" واستمرت مع الأسرتين أغنيس وآن مدة خمس سنوات، تركت آن العمل عند أسرة روبنسون لأسباب تتعلق بأخيها برانويل وعلاقته بالسيدة روبنسون وتركت أغنيس العمل لدى أسرة موراي بعد وفاة والدها وافتتاح أمها لمدرسة ساعدتها أغنيس في إدراتها). 


لا يمكن الاعتماد كليا على رواية أغنيس غري بأنها سيرة ذاتية حقيقية لآن لكن يمكن الاستفادة من كثير من أحداثها سواء في الكشف عن مشاعرها وما واجهته في عملها مربية من سوء معاملة وازدراء ومحاولة إلغاء ذاتها وكيانها وجعلها مفرغة من أي وجود شخصي وهذا ما تؤكده آن نفسها في مقدمة الطبعة الثانية من رواية "نزيلة ويلدفيل هال" بقولها: ولقد نسخت أغلب هذه الفصول من حياتي متوخية بدقة شديدة كل أنواع المبالغة. وما قد يزيد فكرة الاعتماد على روايتها في توثيق أو تأكيد بعض الأحداث في حياة آن، هو ما نراه واضحة لدى وينفريد جيرن وكتابها عن آن، إذ استخدمت الكثير من مقاطع الرواية لتؤكد مشاعر آن أو في إسقاطها على حياة آن للخروج باستنتاجات عن طبيعة مشاعرها ورغباتها وعواطفها ولا سيما تلك التي كنتها آن لويتمان الخوري الذي أحبته حبًا وانتهى دون تحقيق شيء بوفاة ويتمان عندما كانت تعمل آن لدى أسرة روبنسون. وكذلك في استخدام اعتراف أغنيس في كون الشعر ملجأها بعد التعرِّض لقسوة الحياة واضطهادها- ليكون دليلًا على أن كثير من قصائد آن الذاتية هي تعبير صادق عن مشاعرها سواء في الحب أو الحنين إلى الماضي أو رؤاها الدينية وعقيدتها. 


تبدأ رواية أغنيس غري بتقديم أغنيس نفسها بضمير المتكلم في الزمن الماضي مسترجعةً في مذكراتها ما مرَّت به، وكاشفة قُبالة القارئ الذي لم تكن لتكشفه لأعز أصدقائها، وعارضةً تاريخها الشخصي الذي قد يكون في الأخير لا يستحق كل عناء قراءته، لكنها بالكاد مؤهلة للحكم عليه. تنقلب ظروف حياة أسرتها بعد استثمار والدها الفاشل مع تاجر صديقه بغرق السفينة وما تحمله من بضائع كان يُمني الوالد -الذي كان خوريا مثل والد آن- بتحسين وضعه المادي عبرها، لتبدأ بعدها رحلة أغنيس ذات الثمانية عشر ربيعا من أجل العمل مربية (وهي وظيفة شائعة في القرن التاسع عشر في إنجلترا، إذ كانت الجامعات مقتصرة على الذكور، وعلمت الأخوات الثلاث في هذه المهنة) المهنة التي تعد المحور الذي ركزت عليها الرواية في فصولها الأولى، وهي بمثابة احتجاج وبيان استنكار للمعاملة السيئة التي تواجهها المربية في بيوت الأسر التي تعمل في تعليم وتقويم أطفالها (ذكورًا وإناثًا من بعد سن النطق وحتى سن البلوغ "للإناث"). إذ المربية كائن معدم الوجود في نظر الأسرة الموظِّفة، فلا هي عبد يطيع فقط ولا هي معلم مُربٍّ بصلاحيات يفرض من خلالها سلطته على طلبته لا سيما أولئك المشاغبون والأشقياء ومن تنقصهم التربية ذوو الطباع الهمجية والمسرفة الدلال. نقرأ هذا الوضع السيئ الذي تعيش المربية أغنيس في الفصول الأولى بعملها لدى أسرة بلومفيلد ومعاناتها مع الشقي الصغير توم (يشعر القارئ برغبة جارفة بضربه) الذي لم تكن تملك أغنيس عليه أية سلطة، وتقول متهكمة إنها تطيعه وأخته لا العكس. 

حتى الآن فإن الأحداث مجرد سرد عادي بلا أي مزية، وتبدو الشخصيات جميعًا مجرد ظل شخصيات، حضورها صوري كالسرد الذي يغرق بالتقريرية الوصفية دون أي متعة أو إثارة- وهو ما تكتب عنه آن في مقدمة الطبعة الثانية من رواية "نزيلة ويلدفيل هال": اتُّهمت قصة أغنيس غري أنها مفرطة التلوين...". وبعد فشل عملها لدى بلومفيلد تنتقل للعمل لدى أسرة موراي، فإن العمل يأخذ منحًى أكثر ثباتًا ورسوخًا وتحكم الراوية سيطرتها على عملها وفي جعل شخصياتها ذات كيان واضح يمكن الحكم عليها وتحليله لا مجرد صور، فتظهر لنا شخصيات رئيسة مثل الخوري ويتسون والآنسة روزالي موراي، وشخصيات ثانوية مثل السيدة موراي، والآنسة ماتيلدا موراي، والمسنة القروية نانسي، ثم تتضح ملامح أكثر لأم أغنيس. وكذا الحال مع الأحداث التي تُلملم وتُرص مع تقدم العمل وبروز الشخصيات إلى الأمام، فيبدو العمل وكأنه انطلاق من الخلف إلى الأمام، من الظلمة إلى النور، فتقف الشخصيات قُبالة القارئ، وتضاف بعض المتعة والحبكة، لكن ما يبقي مُعيبًا للعمل هو الإيقاع السريع في العمل، وبتر الأحداث، واللهاث نحو النهاية بأقصر الطرق. مع لمس قدرة آن على إعطاء المساحة الكافية لراويتها للسيطرة على سردها مذكراتها إلا أنها لم تمنحها ويبقى العمل متضعضعًا وفاقدًا للفنية المنافسة أو المُرسِّخة لنفسها في عالم الرواية، لكنها قدمت كل ما تحتاج إليه للرسوخ في عالم الرواية مع روايتها الثانية نزيلة ويلدفيل هال. 

حتى على المستوى المهني لعمل أغنيس، فإن فصول أسرة بلومفيلد تركز فيها على معاناتها الشخصيّة في العمل، فتبدو أغنيس أقرب لخادمة منها إلى معلمة مربية، في حين تركز في فصول أسرة موراي على العلاقات الاجتماعية الشخصية لأغنيس سواء مع بنات أسرة موراي أو مع البيئة القروية المحيطة، وكذلك تصوير لمجتمع القرن التاسع عشر في ثورتون "وثورب غرين (في الواقع) الذي سيتضح أكثر في روايتها الثانية" سواء في السعي إلى الزواج أو نوع العلاقات التي تربط عليّة ذاك المجتمع، فتبدو أغنيس أقرب إلى وصيفة ووسيطة مستخدمة من قبل السيدة موراي لإقناع بنتها بما يصعُبُ عليها فعله. ثم بعد انتهاء عملها لدى أسرة موراي، فإن أغنيس تتمتع بكيان خاص وبمراسلة روزالي لها، 


تدخل المرحلة الثالثة في تطور شخصيتها ووضعها الاجتماعي بصفتها صديقة وإنسانة بكامل حريتها وإرادتها وفكرها، ومع الطور الثالث من الشخصية والرواية، تنتهي الرواية بزواج أغنيس ويتسون. 

قد تبدو هذه النهاية سعيدة في العمل إلا أنها تكشف عن ألم داخلي اجتاح آن في سنوات حياتها وحتى مماتها. إذ تمثّل شخصية ويتسون الخوري ويتمان الذي أحبته آن، ولم تستطع أن تكاشفه مشاعرها، ويبدو حبها له غير متبادل، فإن هذه النهاية هي نهاية مُتمناة للكاتبة حاولت تعويض خسارتها لمن أحبته في حياتها إلى ربح أبدي يبقى ما دامت الرواية تُقرأ فأغنيس "آن" تتزوج ويتسون "ويتمان" وتعيش معه الحياة التي تَمنتها، الحياة التي لم تحظَ بها. لذا فالنهاية حزينة لو استطعنا إدراك ما وراءها من أسس قامت عليها. تنتهي بعدها مذكرات أغنيس وبنهايتها ينتهي العمل. 


الجمعة، 10 أبريل 2020

سيرة آن برونتي

آن برونتي، الأخت الصغرى والأقل شهرة بين الأخوات برونتي. 
‏سيرة موجزة من كتاب سيرتها الذاتية للكاتبة الإنجليزية "وينفريد جيرن" الصادر في عام 1959، وهي السيرة الثانية عن آن بعد الكتاب الأول لـ إيستيل ترست الصادر في عام 1954. 


‏للتحميل:


الاثنين، 6 أبريل 2020

الطاعون - ألبير كامو.



كان الطاعون ومنذ زمن طويل جدًا واحدًا من أشد الأوبئة وأشرسها حتى وقت قريب التي هددت الحياة البشرية وحصدت أرواح الملايين على مدى قرون وقرون، والتاريخ مليء بأخبار هذا المرض اللعين وما سببه من كوارث وخلّفه من خسائر في الإنسان وما جرَّه عليه من ويلات. حتى أصبح الطاعون وكما يشير يوفال نوح هراري في مقدمة كتابه Homo Deus ضمن الأوبئة (كالطاعون وغيره) التي شاركت أولويات أعمال البشر رفقة الموت (نهاية الإنسان) والحرب (بدوافعها الاقتصادية والسياسية) وعمل الإنسان في عقود ما بعد الحرب العالمية الثانية على التقليل من هذه الأخطار الثلاثة والسعي بل ومحاولة التغلب عليها وقهرها، ويتمادى في تفاؤله كثيرا بأن عصر الحروب والأوبئة قد ولّى ونحن اليوم في صراع قهر الموت! ونحن اليوم نعيش في عصر جائحة كورونا التي حصدت أرواح عشرات الآلاف وتجاوز عدد المصابين بها أكثر من مليون، جعلت الإنسان يتراجع خطوة إلى الوراء ويكتشف مدى ضعف الدفاعات الصحية وما أكثر هشاشتها في مواجهة اللا متوقع والمجهول من الأمراض، حتى أضحت كبرى الدول في حاجة إلى مستلزمات صحية وقائية أولية كالقفازات الطبية وأقنعة الفم والأنف، وهنا نطرح السؤال ما معنى الدولة العظيمة حين يقهرها ويحجز مواطنيها في البيوت ويفرض عليهم الحجر الإجباري؟ ما معنى الاقتصاد القوي حين تكون الدول في حالة عوز شديد لمستلزمات وقائية أولية يمكن أن تنتج بأرخص المواد وأقلها كلفة وجهدا ولا تستغرق وقتًا طويلا في إنتاجها؟ لمَ كل هذه الهشاشة؟ ولماذا كان رهاب الإرهاب والتطرف هما ما يشغلان بالهُم، ولم يعدّوا العدة لمواجهة العدو المجهول، مثل فيروس بالعين المجردة، بل ولا يستطيع أن يعيش بنفسه دون أي مُعيل يقتات عليه؟ كل هذه التساؤلات وغيرها بدأت تُطرح مع تكهنات نهاية نُظم الحكم الحالية، والقيم اليبرالية التي قضوا سنوات يبشرون بها والتي أبانت عن خوائها الإنساني حين وضعت تحت ضغط الاختبار الحقيقي، وإلا ما معنى أن يُهمل كبار السن أو أن تكون حياتهم ليست ضمن الأولويات؟ كيف سيثق شاب اليوم بعالم الغد الذي سيكون هو الآخر طاعنًا في السن قد يواجه اليوم مصير آبائه، وتغيرّ مفهوم الاقتصاد، والمجتمع، والعائلة، والرعاية الصحية، وسياسة الحكم، كل شيء بدأ التكهن بأنه انتهى وحان الوقت اتخاذ مسار جديد، بل وذهب البعض أن الخوف كل الخوف يتمثل في نهاية عصر ما بعد الحداثة والعودة إلى الحداثة أو حتى ما قبل الحداثة وهذا ما نرى أماراته مع ارتفاع العصبية القومية وعلو صيحات "بلدنا أولًا" معيدة إلى الأذهان نشوء القوميات في نهاية القرن التاسع عشر والتي كانت سببًا رئيسًا في اندلاع الحرب العالمية الأولى ثم ظهور الحركات الفكرية المتطرفة واندلاع الحرب العالمية الثانية التي أودت بحياة الملايين وقلبت نظام العالم رأسا على عقب وقلبت موازين القوى، ولا يبدو الأمر مستبعدًا مع اتهام أمريكا بأن الصين هي المتسبب بفيروس كوفيد-19، ومع الضربة القوية للاقتصاد الأمريكي، الدولة القائمة كما يدل تاريخها الحديث أنها دولة حرب وليست دولة سلم، فإن كل الاحتمالات واردة، وأن الأوبئة قد تأتي بالموت والحروب على حد سواء، ونعود إلى الأولويات التي ظنَّ الكثيرون أنها قد تُجوِزَت. 
تقدم لنا رواية الطاعون لألبير كامو رؤية لإنسان الأوبئة، الإنسان الحديث الذي عايشه كامو وكذلك الإنسان المعاصر -أنا وأنت وكل من حولنا من مختلف الأعراق والمعتقدات- هذا الإنسان الذي يبدو أنه ومنذ أن خبره وعركه كامو لم يتغير فنراه يقول على لسان الراوي:
"لقد كان مواطنونا في هذا الصدد كجميع الناس: كانوا يفكرون في أنفسهم، وبعبارة أخرى كانوا إنسانيين: لم يكونوا يؤمنون بالبلايا. إن البلية ليست في مقدور الإنسان. ومن أجل ذلك يقول المرء لنفسه إن البلية غير حقيقية، إنها حلم مزعج وسيمر. لكن لا يمر أبدا، ومن حلم مزعج إلى حلم مزعج، يمر الناس أنفسهم، والإنسانيون بالدرجة الأولى، لأنهم لم يأخذوا حيطتهم. ولم يكن مواطنونا أشد ذنبا من سواهم، فكل ما في الأمر أنهم كانوا ينسون أن يكونوا متواضعين، وكانوا يفكرون أن  كل شيء ما برح ممكنا في نظرهم. وهذا ما يفرض أن البلايا كانت مستحيلة. وإذن فقد كانوا يتابعون أعمالهم التجارية، ويُعدُّون الأسفار، وكانت لهم آراؤهم. وأنى لهم أن يفكروا بالطاعون الذي يلغي المستقبل والتنقلات والمناقشات؟ لقد كانوا يعتقدون أنهم أحرار، ولم يكن أحد حرا ما دامت ثمة بلايا".
ويقول آخر في نفيه لاحتمالية وقوع الطاعون: "هذا مستحيل. الجميع يعرفون أنه اختفى من الغرب" 
ويقول: "والواقع أن البلايا هي شيء شائع. ولكنك تصدقها بصعوبة حين تسقط على رأسك". 
إنها صدمة الإنسان الحديث والمتأله في عصري الطاعون والكورونا تواليا، الذي ظنَّ أنه قهر كل شيء، وأنه في منأى عن أي شيء، لقد خلدَ إلى الراحة والدعة وتشبَّث بالحياة ومتعها وملذَّاتها ولم يتوقع أن يُصاب بأي أذية من الطبيعة، يعيش على الآمال التي رغم تبددها وانقشاع غبار الأمل الذي ملأ قلبه فإنه يجد صعوبة في تصديقها، ونرى اليوم أنَّ كثيرًا من الدول التي تفشّى فيها فيروس كورونا كان السبب الأول فيها هو الاستهانة والاستخفاف، وبتعبير كامو صعوبة تصديق أن هذا سيحدث لنا ومعنا! 
يضرب مدينة وهران الجزائرية في سنة ما من العقد الرابع في القرن العشرين وباءُ الطاعون، الذي يتفشَّى سراعا حاصدًا أرواح المئات أسبوعيا، لتحجر المدينة على نفسها ويمنع خروج أهلها، ويبقون لوحدهم في مواجهة الطاعون العدو الذي لا يعرفون وسيلة لقهره، وكل ما عليهم هو المقاومة والانتظار لعله يتقهقهر ويتوقف من ذاته عن التفشي. 
يسرد الراوي وهو ذاته الطبيب ريو ما وقع في هذه الشهور العصيبة سواء من خلال مشاهدته العينية وحضوره وسط المصابين الذين يعالجهم والموتى الذي يخسر في إنقاذ حياتهم من الطاعون الدمّلي الذي يقتات على أجسادهم وأربّياتهم. لذا فيتمحور قيمة العمل في عرضه وتحليله لـ"إنسان الأزمات" وما أكثر الأدلة التي نراها اليوم المؤكدة لنظرة كامو الثاقبة ونحن نشاهد عيانًا تكررها. حين انتشر الطاعون بين أهل وهران كثرت الشائعات في كيفية القضاء عليه فنقرأ "وكان بحسب أحد المقاهي أن ينشر إعلانا بأن ’الخمر الجيد يقتل الميكروب‘ حتى تتعزز في الرأي العام الفكرة الطبيعية القائلة بأن الكحول تقي من الأمراض المعدية". أيُّ متابعٍ لأخبار الكورونا قد قرأ بلا شك انتشار خبر مشابه في إيران (بؤرة الفيروس في الشرق الأوسط) عن شرب عدد من المصابين للكحول ومواد أخرى على أمل أن يُشفون متسببين أما بوفاتهم وإما آذية أسرهم مثل الطفل الذي فقد بصره بسبب تناول الكحول وهو مصاب بالفيروس. ولا يختلف الأمر كثيرا في عرضه الجانب الديني الذي سعى إليه بعض الأفراد فنقرأ: "وحدث في أواخر هذا الشهر أن عزمت السلطات الكنسية في مدينتنا على مقاومة الطاعون بوسائلها الخاصة بأن تنظِّم أسبوعًا من الصلوات الجماعية". وكذا الحال نراه في عصر الكورونا من "التواكل" على العبادة والدعاء دون الالتزام بالإجراءات الوقائية ولا البحث عن إيجاد علاج، وكأن العلاج ينزل بالدعاء وحده! وهذا ما يقع فيه الخلط واللبس سواء من طائفة بعض المؤمنين الذين لم يأخذوا بالأسباب وبين الملحدين المنكرين لأي قدرة إلهية على كشف البلاء والوباء لأنهم غير مؤمنين بوجود هذا الإله من الأساس، لنقف بين نوعين من البشر كل منهم يرى الله من منظوره الضيّق، فإن كشف البلاء من الله لا يعني أن ننتظر قاعدين نزوله فهذا منافٍ للإيمان بالله الذي حثَّ أنبياؤه المسلمين على السعي خلف الدواء، ولا يعني أن ننكر قدرة الله على كشف هذا البلاء، فالحكمة من البلاء أن يراجع الإنسان ما قدمت يداه، وأن ما يقع عليه من مصائب خارقة غالبًا ما تكون من صنع يده، وإلا أليس قلة عدد أجهزة التنفس التي أدت لموت المئات من صنع يد الإنسان قبل أن يكون بسبب الفيروس! أليس قلة الاحتياط والتدبير من صنع يد الإنسان قبل أن يكون بسبب الفيروس! البلاء حين ينزل فهو لطمة على وجه الإنسان الذي تمادى ليعرف مقدار حجمه الحقيقي وأن التقدم العلمي لا يعني أنه وقف على أسباب السماء والوجود فهو أحقر من أي يملك الأسباب، وهذا لا من أجل التقاعس والكسل وقلة التدبير، بل لأجل المثابرة مع التواضع، والنشاط مع الرفق بالآخر، والتخطيط دون مكر الأذية بغيره سواء كان إنسانًا أم حيوانًا أم نباتًا. 
رواية الطاعون رغم ضعفها فنيًا فإن موضوعها يغطي على أي هنَّة في العمل سواء في تطور الحدث وانتهاء الطاعون والسرد وبناء الشخصيات، فهي وإن لم تقدم الشيء اللافت في فن الرواية فإنها قدمت الكثير في رواية الإنسان. فهي ليست مجرد قراءة وتحليل للإنسان بل وهي تصوير استباقي للمستقبل الذي لم يعايشه كامو وبائيًا تُصاب فيه الأجساد لكنه عايش حاضرًا بوبائه الفكري المتمثل في النازية، التي اجتاحت ألمانيا ثم كانت الشرارة في الحرب العالمية الثانية التي أنهكت أوروبا وما زالت تداعياتها مستمرة حتى يومنا هذا. فما ثمة فرق بين وباء يصيب الأجساد وآخر يصيب الأفكار ما دام المصاب واحد والضحية واحدة، وهو الإنسان. ويفوق وباء الفكر وباء الجسد لأن الأخير يرجى شفاؤه بأن يقهر المرض نفسه أو يقهره الإنسان، إلا أن وباء الفكر لا يُقهر لذا فإن أقوى الأسلحة هي الأسلحة الفكرية التي بإمكانها تدمير العالم والطبيعة والوجود ولا تبقي شيئًا خلفها. 
لكن في الأخير ما موقفنا نحن من كل هذا سواء ما يحثُّ عليه كامو في الرواية في مواجهة الطاعون/ النازية أو جائحة الكورونا في حقبة ما بعد الوباء؟ 
يكمن موقفنا هو في صراع الذاكرة والنسيان وبتعبير أكثر دقة في: صراع التذكر والتنسية، صراع الفرد والقوى المركزية المسيطرة التي تحاول خلق ذاكرتنا وتشييئها كما تريد، فهنا يأتي دورنا في عدم النسيان بل ومواجهة الأكاذيب المستقبلية وغسيل الأدمغة بشأن الكوارث والمصائب حتى لا تتكرر أو في الأقل ألا نكون اللاعب المُغفَّل في اللعبة. هذا ما أكّد عليه كامو في عمله وما سعى إليه بدوره هو القصِّ حتى لا ينسى الأفراد ما وقع فالطاعون ما زال ينتظر وتقهقهره في معركة لا يعني أنه خسر الحرب. 
يقول ليانكه، الكاتب الصيني والأستاذ الجامعي، في محاضرة له قبل أقل من شهرين عن عالم ما بعد كورونا وصراع التذكر والنسيان وعن دور الكاتب في هذا:
"بالنسبة لنا، نحن الأشخاص الذين يضيفون معنى إلى الحياة بسبب حب الكتابة، والأشخاص الذين يرغبون بعيش كامل حياتهم معتمدين على هذه الشخصيات الصينية، وطلاب الدراسات العليا في جامعة هونغ كونغ للعلوم والتقنية المتواجدون على الإنترنت حاليا، وكذلك بالطبع المؤلفون المتخرجون أو الذين ما زالوا يدرسون في فصل الدراسات العليا للكتابة الإبداعية في جامعة رينمين في الصين- إذا تخلينا عن ذكرياتنا حول سفك الدماء والحياة، ما معنى الكتابة بعد هذا؟ ما قيمة الأدب؟ لماذا يحتاج المجتمع إلى الكتّاب؟ كيف تختلف كتابتك اللا متوقفة والعديد من المؤلفات التي كتبتها، عن الدمية المُسيطَر عليها من قبل الآخرين؟ إذا كان الصحفيون لا ينقلون ما يشهدونه، والمؤلفون لا يكتبون عن ذكرياتهم ومشاعرهم، والناس في المجتمع الذين يستطيعون الكلام ويعرفون كيف يتكلمون دائما ما يرددون ويقرأون ويصرحون بتصويب سياسي غنائي نقي، من الذي يمكنه أن يخبرنا ما معنى أن نعيش على الأرض كائناتٍ من لحم ودم؟".
أدرك كامو هذه الحقيقة سواء حقيقة نسيان الناس أو تنسيتهم أو دور الكاتب الحقيقي فيكتب: 
"وارتفعت من الميناء المظلم الصواريخ الأولى للاحتفالات الرسمية. فحيَّتها المدينة بصرخات طويلة صماء. لقد نُسي كوتار وتارو وكل الرجال والنساء الذين أحبهم ريو وفقدهم أمواتًا أو مجرمين، لقد نُسوا جميعًا. لقد كان الشيخ على حق، فإن الناس هم هم لا يتغيرون. ولكن في ذلك تكمن قوتهم وبراءتهم، ومن هذه الزاوية كان يزداد قوة وامتدادًا وينتشر حتى السطيحة، وبينا كانت حزمات النور المتعددة الألوان ترتفع في السماء، عزم الدكتور ريو على أن يكتب القصة التي تنتهي هنا، كي لا يكون من أولئك الذين يصمتون، وليشهد في صالح هؤلاء المصابين بالطاعون، وليترك على الأقل ذكرى الظلم والعنف اللذين تكبدوهما، وليقول بكل بساطة ما يتعمله الناس في أثناء الأوبئة، وأن ما يستحق الإعجاب والتمجيد في البشر أكثر مما يستحق الاحتقار والزراية".
لذا فلا تنسَ واستعد للجولة الثانية من حرب التذكر والنسيان في عالم قائم على الاستبدال المعلوماتي والتعديل الذكرياتي بشكل مستمر.
           

السبت، 4 أبريل 2020

رواية الرجل في المَعقِل العالي - فيليب ديك. (مُترجمة)

رواية الرجل في المَعقِل العالي.
ترجمة: عوليس. 


تعرض هذه الرواية- من روايات التاريخ البديل والخيال العلمي- حقيقة مغايرة عما عرفناها، إذ تدور أحداثها في عام 1962، بعد هزيمة الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، وسيطرة النازيين واليابانيين على معظم العالم، ليبدأ عصر جديد من الديستوبيا والتطور العلمي وغزو الفضاء. ما بين شخصيات متعددة تتوزع أحداث الرواية بصورة شبه متساوية لتؤدي دورها على حدة تارة ومع بعضٍ في أخرى. بسرد راوٍ عليم ومستعينا بشخصياته أحيانا، يقدم فيليب ديك عملًا روائيا ذا طابع سينمائي في جو من الطاوية والتشويق والمؤامرات والمفاجآت. المترجم.


وُلِد فيليب في شيكاغو عام 1928، وقضى معظم حياته في كاليفورنيا. قصد لمدة وجيزة جامعة كاليفورنيا في بيركيلي عام 1947. يعد فيليب واحدا من أكثر روائيي الخيال العلمي غرابة وأسيلهم إنتاجًا، ومزجت أعماله الفكر الفلسفي بعناصر سوريالية. فازت روايته "الرجل في المعقل العالي" بجائزة هوغو لأفضل رواية خيال علمي لعام 1963. إريك براون.


للتحميل: 
https://drive.google.com/file/d/1d5BfdppBNJzrwN3tAmYjV21IheKTcDwl/view?usp=sharing



مسرحية "ذو العقل يشقى" - غريبايدوف. (مُترجمة)

مقدمة المترجم مؤمن الوزان.

تعد مسرحية "ذو العقل يشقى" واحدة من الكلاسيكيات الأدبية المهمة في الأدب الروسي، وأفضل أعمال ألكسندر غريبايدوف، وتأثر بها أدباء مثل دوستويفسكي وأنطون تشيخوف. لم تُنشر المسرحية الشعرية الكوميدية والهجائية للمجتمع الروسي لمرحلة ما بعد حملة نابليون إلا في عام 1833 بعد موت الكاتب بأربع سنوات، إذ منعت الرقابة نشرها لما وجدته فيها من سخرية وتهكم من المجتمع الموسكوفي وطبقة عليّة القوم والانتقاد لسلوكياتها الزائفة والعلاقات القائمة على المصلحة والنفعية.

ولد الشاعر والمسرحي والدبلوماسي الروسي غريبايدوف في موسكو ما بين (1790-1795)، درس في جامعة موسكو ونال درجة الماجستير في الفيلولوجي، وانخرط بعدها في برنامج الدكتوراة إلا أنه تركه ولم يكمله. 
كانت حياة غريبايدوف، التي جمعته بصداقة مع شاعر روسيا الأكبر ألكسندر بوشكين، حافلة بالأحداث رغم قصرها فقد انضمَّ إلى الجندية المقاومة لحملة نابليون على روسيا في عام 1812، وخدم في روسيا البيضاء قبل استقالته عام 1816، ليشترك بعدها في ثورة ديسمبر عام 1825 ضد القيصر نيكولاس الأول، واعتقل في سنة اللاحقة لكن أطلق سراحه بعدها بمدة. 
عُيّن غريبايدوف سفير روسيا في طهران عام 1828 إثر زواجه بستة أشهر من نينا ذات الستة عشر ربيعا، وبعد الحرب الروسية - الإيرانية ومعاهدة تركمانجي المهينة والتي تخلت فيها إيران عن عدة مناطق في جنوب القوقاز ومناطق أخرى لصالح الإمبراطورية الروسية. 
كانت تلك المدة مليئة بشعور العداء تجاه الروس في إيران، ولم تكن بالأجواء الطيبة بتاتا وزاد من حدتها هرب أرمينيتين من جواري حريم الشاه وسبقهما هرب مخصي أرميني وطلبوا اللجوء في السفارة الروسية، وعلى الرغم من طلب الشاه إعادتهم فقد رفض السفير هذا، وكانت المعاهدة تجيز للجورجيين والأرمينيين العودة إلى جورجيا وأراضي أرمينيا الشرقية، لتزداد حدة غضب الدهماء ويطوقوا السفارة الروسية في طهران ويتحول الأمر إلى غوغائية، الأمر الذي اضطر غريبايدوف على الموافقة بإعادة الهاربات لكن بعد فوات الأوان، إذ اقتحمت الدهماء السفارة وقتلت موظفي السفارة وألكسندر الذي قطع رأسه، ورميت جثته من النافذة وسُحلت في الشوارع، وعرض رأسه في كشك كباب في الحادي عشر من شهر شباط/ فبراير 1829.
بعد أربعة أشهر في حزيران/ يونيو سافر بوشكين إلى جنوب القوقاز والتقى بعدد من الرجال الإيرانيين الذي ساعدوه للحصول على بقايا جثة غريبايدوف، ودفنها في تيلفس - جورجيا. 

تدور أحداث المسرحية في روسيا داخل منزل بافيل أفاناسيفتش فاموسوف، رئيس مكتب حكومي، الذي يُحبُّ ابنته صوفيا بافلوفنا الشابُ الألمعي الذكي ألكسندر تشاتسكي، وكان قد ترعرع معها في منزل فاموسوف بعد موت والده، إلا أنه يتركها ويسافر ليعود بعد ثلاث سنوات ويجد أن الوضع لم يكن كما كان، وأن رغبته بالزواج منها تواجهها عقبات كثيرة أبرزها مولتشاين مساعد فاموسوف، والذي كان يسكن معهم في المنزل أيضا. 
تقع صوفيا في غرام مولتشالن بعد سفر تشاتسكي، لكن طبيعة مولتشالن الوغدة والنفعية التي تجعله يخادع ويفعل كل شيء ليحافظ على عمله والسكن في منزل فاموسوف تخلق الحدث في المسرحية، وفي ظل هذه الأحداث الدرامية ذات الطابع الهزلي والساخر والتهكمي الناقد للمجتمع الروسي تتداخل الأحداث وتظهر شخصية الكولونيل سكالوزب سيرجي سيرجفيتش، الذي كان  فاموسوف يرغب بتزويجهِ ابنته، وسكالوزب هذا، رجل لا يهمه شيء سوى المناصب والترفيعات والمكانة الاجتماعية العالية التي يسعى ليترقيها (كانت فئات المجتمع الروسي مقسمة إلى طبقات ورتب اجتماعية) ثم تظهر الشخصيات الأخرى فوق خشبة المسرح تباعًا صانعة الحدث في المسرحية.
تدفع طبيعة تشاتسكي المرحة والذكية والتهكمية إلى رفض العادات الكثيرة للمجتمع الروسي وكيفية تعاملهم المزيف والمجوف اعتمادا على المظاهر، وينفر من الولع الروسي بكل ما له علاقة بفرنسا والفرنسيين واللغة الفرنسية، وتبرز قيمة المسرحية في هذه النقطة ذات النقد الذاتي اللاذع للمجتمع الروسي وقتئذ. ويبقى تشاتسكي رغم كل ألمعيته يلاحق صوفيا لمعرفة مشاعرها التي تنفر منه بشدة، ليقع تشاتسكي ضحية ذكائه ورفضه للمظاهر الاجتماعية المنافقة والتقليد الخاوي لكل ما هو آتٍ من خارج البلاد. 
تتوزع المسرحية في أربعة فصول، انكشفت في نهايتها الحقائق في مأساة هزلية (تراجيكوميديا)، التي تعد من أبرز سمات العمل التي خصص لها جاستين وليام بحثًا بعنوان "توقُّعُ تشيخوف: العناصر التراجيكوميديّة في مسرحية غريبايدوف (ذو العقل يشقى)" لجامعة أوهايو، ويذكر في مقدمة بحثه:
"غلبت القراءة الأيديولوجية على دراسات مسرحية غريبايدوف "ذو العقل يشقى" في القرنين الماضيين. ففي السنوات الأولى بعد نشرها، أطلقت المسرحية شرارة الجدل ما بين النقّاد المحافظين والكتّاب الرومانسيين-الديسمبريين بشأن وصف المجتمع الموسكوفي. أما النقّاد المتقدمون في أواخر منتصف القرن التاسع عشر، أمثال فيسارين بيلنسكي ونيكولاي دوبروليوبوف، فقد أشادوا بالعمل على أنه أول الأوصاف الحكيمة للواقعية الروسية، العُرف الذي استمرَّ، حسبما رأيا، مع بوشكين وغوغول. وسيمجِّد النقّاد السوفييت قراءة "ذو العقل يشقى" في القرن العشرين.  
كانت القراءة السياسية للعمل مُسيطرة، فاستعرض العديد من النقّاد العمل على أنه بيان الحركة الديسمبريّة، وأن تشاتسكي هو بطلها وخطيب الحركة المفوّه. حتى الشكلانيون لم يكونوا في منأى عن هذا، فقد ركّز يوري تينيانوف على النماذج التاريخية لشخصيات المسرحية أكثر من جوانب الإبداعية الشكلانية. أما الدراسات الغربية للمسرحية فهي محدودة نسبيًا، وتضمَّنت إعادة تقييم لبعض شخصيات المسرحية وتحليلات لوزنها الشعري ولغتها".

لهذه المسرحية أثر واضح في الأدب الروسي فقد ذكرها دوستويفسكي في رواية المراهق وكذلك في رسائله، وذكرها أنطون تشيخوف في قصة العازف الأجير ورواية حكاية مملة حين يقول: 
إن مسرحية ذو العقل يشقى ليست مسرحية مملة فإنها تهب عليَّ من خشبة المسرح ذات رائحة الروتين التي كانت تثير فيَّ الملل منذ أربعين عاما مضت، عندما كانوا يضيفونني عواءً كلاسيكيا ودقا على الصدر، وبعد كل زيارة للمسرح أخرج أكثر محافظة عما كنت عليه عند دخولي.   
ويقول في موضع آخر من ذات العمل: 
لماذا يجب على الممثلين أن يحاولوا إقناعي بكل الوسائل بأن تشاتسكي، الذي قضى وقتا طويلا يحدث الحمقى والمُحب لفتاة حمقاء، كان رجلًا ألمعيًا...
ويقول عنها الممثل المسرحي كونستاتين ستانسلافسكي (الذي أحدث ثورة في عالم التمثيل المسرحي الروسي وأدّى وشارك في أداء مسرحيات لتشيخوف من أبرزها مسرحية "النورس" الشهيرة): تُعد مسرحية "ذو العقل يشقى" من النوع الهزلي. وتبرر مشاهد كثيرة بأكلمها هذا الأسلوب المسرحي، لكن ثمة كثير من أسى الكاتب المر بحق وطنه وشعبه في هذه المسرحية العظيمة... لقد أظهر المسرحيون الكلاسيكون حبًا عميقًا لشعبهم ووطنهم عبر إنزال دموع الجمهور المخفية وسط ضحكهم- وهي سمة معبّرة في العديد من الأعمال الفنية الروسية. 

وذكرها أيضا بولغاكوف في مسرحية الجزيرة القرمزية. 

وعلى الرغم من كل هذه الشهرة فإن المسرحية لم تترجم إلى العربية حتى  اليوم عن الروسية، وها أنا أضع بين يد القارئ النص الكامل المترجم نثرًا لهذه المسرحية الشعرية عن اللغة الإنجليزية بترجمة A.K.Vagapov، آملًا أن تكون ترجمتي قد حافظت على روح النص وأن تكون حافزًا للمترجمين عن اللغة الروسية الالتفات إلى هذا العمل ونقله بشكل أدق وأفضل عن اللغة الروسية مباشرة دون الحاجة إلى لغة وسيطة كما فعلتُ أنا. وأما العنوان "ذو العقل يشقى" المقتبس من بيت المتنبي: 
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله 
وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم  

فلا أعرف أول من اختاره أو اقترحه على الرغم من وجوده بهذه الصياغة في الأعمال المترجمة لدوستويفسكي وتشيخوف وبولغاكوف، وغيرهم.






للتحميل: 

الخميس، 2 أبريل 2020

ما بين شرق المتوسط والآن... هنا حيث سجن منيف الكبير.

شرق المتوسط 



هذه الرواية التي تعد إعادة تأسيس لروايات أدب السجون العربي، وصرخة تجاه الظلم الذي يتعرض له المعارضون السياسيون في سجون الحكومات العربية، وهي تُخلّد مرحلة خطرة في تاريخ الوطن العربي والأنظمة القمعية الدكتاتورية التي أخضعت الشعوب العربية لها بالنار والحديد، وتفتح الباب للروائين القادمين في الكتابة عن هذه القضية، وكسر تابوهات السلطة وجرائمها ضد كل من يعارض سياساتها


الرواية الصادرة سنة ١٩٧٥، في المرحلة التي لحقت إنهزام العرب أمام الكيان الصهيوني سنة ٦٧، لحظة الشك القومي لدى العرب وما جرته تلك الهزيمة من ويلات، وكذلك عناد السلطات العربية وتشبثها بالحكم، وقمع وإبادة كل من يقف بوجه سياساتها التي أخضعت الأمة لأعدائها وكسرت الشعوب، ومزّقتهم، فكانت هي المعول الذي يُحطمون فيه البيت العربي.


ويمثل رجب، أحد ضحايا الأنظمة العربية القمعية، التي تلاحقه لتعتقله بعدها، ويتعرض داخل السجن لشتى أنواع العذاب ويُقاسي مرارته، ويُعامل بمعاملة تُنافي حقوق الإنسان، وأي حقوق سيحصل عليه العربي إذا دخل للسجون هذه،  ولا يقتصر الأمر على السجين السياسي أو المتهم فقط، فعائلته ومن يعرف يكونون كذلك في خطر الملاحقة والاعتقال، وقد يستخدمون كذلك نوعًا من الضغط عليه، ولا يهم إن كان بريئًا أو متهما المهم أن يعترف بما يُطلب الاعتراف منه


إن الشرق المتوسط لا يُسلط منيف الضوء فيها على التعذيب الجسدي الذي يتعرض له المعتقلون له، وسوء المعاملة داخل السجون فحسب، لكن كذلك تصف عملية قتل الإنسان من الداخل وتدميره النفسي، وخلق مسخ مشوّه، وتحطيمه وجعله رثًا كثوب قديم، في السجن إن لم تمت تحت التعذيب فإنك ستموت كمدًا، مما أصابك ومما تجره عليك تبعات الاعتقال، وما قد يُصاب به من تحبهم جرّاء فقدانك، إن الموت النفسي لهو أخطر ما يواجه هؤلاء المعتقلون بعد خروجهم من السجن، وصراعهم مع الماضي الذي سحقهم بين رحاه، وبعثهم أمواتًا غير أحياء


الشرق المتوسط ليست تخص بلدًا دون آخر، فهذا الكاتب المناضل الثوري، عركته الحياة، وفهم هذه الأنظمة وعرف كيف يُديرها القادة ومن دونهم من جلاوزة النظام وزبانية السلطة، بل هي للوطن العربي بدول شرق المتوسط وجنوبه، فالنظام القمعي واحد، ودكتاتورية السلطة ذاتها، والمعارض والذي يقف بوجه هذه الحكومة يناله المصير ذاته، والعجيب في الأمر رغم مرور أربعة عقود على صدور الرواية، ما زالت الأمة العربية تُقاسي الأمرين تحت نفس الأنظمة الدكتاتورية، وإن ذهب نظام جاء من هو أعتى وأسوأ منه، وما زال المعارضون ومن يفكر بقلب نظام الحكم والخروج عليه تناله العواقب نفسها، حيث لا صوت للشعب. ولا مستقبل واضح الملامح له في ظلال هذه الأنظمة



***




الآن... هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى


يعود عبدالرحمن منيف بعد خمسة عشر عاما برواية جديدة، لينشر رواية أخرى عن معاناة السُجناء السياسين، وخاطًا بقلمة رواية أخرى في أدب السجون، لكنها هذه المرة أكثر تفصيلا وأكثر عمقًا وسردًا وأحداثًا، فبعد رجب يظهر لنا طالع العريفي وعادل الخالدي وغيرهم الكثير


فكرة الرواية ربما لا تختلف كثيرا عن رواية شرق المتوسط، لكنه يكتبها لأنه يُريد أن يوصل للقراء وللعالم العربي أن رواية واحدة لا تكتفي، وإن كنتم نسيتم رجب، سأعود بشخصيتين لن تنسوهما وسأحفر بكل ما أوتيت من قوة قصتهما في أذهانكم يا أصحاب الذاكرة السمكية، وكذلك يوجهها للحكومات القمعية التي كانت وما زالت تقمع كل من يُعارضها، مستندين على جلاوزة وجلاديين مُسخوا وحوشًا، لا يرتون إلا بالدماء ونهش لحم المساجين، وينقل منيف بشاعة السجون وقذارة الواقع والمصير الذي كان يُحيط ويتربص بكل السجناء السياسيين، وعملية مسخ الإنسان ونزع روحه بكل بطءٍ وذلٍ خلف القضبان، كيف يكون للصمت قوة تقهر ملايين الكلمات، وتُزلزل الأرض تحت أقدام الجلّاد، حين يفقد التعذيب سطوته أمام التحمل، ويفقد الكرباج قوته أمام الصمت، وتضيع قسوة الضربات في أرض الصبر، حين تفقد الحياة قيمتها في لحظة وحين تبلغ قمة مبتغاها في أجزاء من الثانية، في لحظة تأمل، يصل المرؤ بحرية روحه وفكره إلى هدفه بسرعة، فيغنيه شعوره ذاك عن كل عمره الذي يُقضى في سجن منزوٍ في أرض فلاة


تُقسم هذه الرواية على أربع مراحل


المرحلة الأولى: وهي وصول عادل الخالدي إلى براغ لتلقي العلاج، فبعد سنين من السجن والتعذيب والقهر، يُرسل إلى براغ، لكي يتعالج، هم لا يريدونه أن يموت عندهم، كما يُبرر خالد إرساله للعلاج، يدخل بنا منيف مباشرة إلى صلب قصته، وعلى لسان خالد، كانت معرفة طالع العريفي هي التي غيّرت حياته، فطالع هو الماضي هو القضية هو الوطن، هو الشريك الذي قاسمه نصيبه من الموت والحياة المليئة بشتى أنواع المأساة

ويُسلط الضوء منيف وهو الذي قضى من حياته ردهًا في براغ، على التعامل الذي يلاقيه الهاربون من فخ الموت إلى أوروبا في مدة علاجهم، كيف يُعامل الإنسان إنسانا لا يعرفه ويهتم به، في حين يُذيقه ابن بلده سوء العذاب. وهذه المرحلة التي يتواجه فيها خالد وطالع ويعيشان معًا، يتقاسمان حاضرهم وماضيهم، وكما كان سلاح رجب هو التدوين، حتى يسمع العالم عذاباته، يُقنع خالد طالعًا على كتابة قصته في السجون التي قضى فيه سنينًا عديدة


المرحلة الثانية: (حرائق الحضور والغياب


العهد القديم لطالع، وهنا يبدأ منيف بالعودة إلى الماضي حيث البدايات، حين يُلقى القبض على طالع، بتهمة المعارضة والوقوف ضد الحكم، وتبدأ رحلة التعذيب لأجل الاعتراف، وبعيدًا عن كل أنواع التعذيب النفسي والجسدي، وعملية مسخ الإنسان عن كيانه، يُركّز منيف على إبراز قضية مهمة في مواجهة كل أنواع العذاب، ألا وهو اللجوء إلى الصمت، وكيف يكسر الصمت طغيان الجلاد، ويجعله يخسر معركته رغم كل أسلحته التي يحملها، الصمت القلعة التي يلجأ لها طالع، حصينة ومنيعة، فرغم قذاعة الشتيمة وأثر القسوة في التعذيب، يقف الصمت أمام صاحبه جبلا منيعا، يُنسيه لحظات الموت ساعة حضورها، وينقله من عالم الواقع إلى عالم اللا واقع، إلى البعيد حيث لا ينتمي إليه الجسد، كائن أثيري قوامه الصمت


لا يُريد منيف من هذه المرحلة أو التي تلحقها، إلا أن يكون صوتا لمن لا صوت له، أن يُبّلغ الذين يسكنون خارج السجن بمعاناة أهل داخله، فقيمة ما يكتب بعيدًا عن جانبها الأدبي، وهدف الأدب الإنسانية وغاياته، فهو يتكلم نيابة عن الجميع، في عصرٍ القمع والموت، فشجاعته بالكتابة، وتضحيته بكل شيءٍ حتى يُوصل أصوات المنسيين في سراديب التغييب القسري، هي وقفة شُجاع أمام طواغيت السلطة وزبانية السعير الدنيوي


ولا يخفى على القارئ إن طالع من أهل موران، وهي السلطنة والبلاد التي كتب عنها منيف خماسيته "مدن الملح"، فهنا يُحدد المكان (دول الجزيرة العربية، والسعودية تحديدا)، لكن بالتأكيد لا يقتصر الأمر على  ما يحدث في سجون موران، بل موران كغيرها من بلاد شرق وجنوب المتوسط


المرحلة الثالثة: (هوامش أيامنا الحزينة)


رحلة الخالدي في سجون البلاد، يُعتقل خالدٌ، وتبدأ رحلته الملحمية الموزعة على أكثر السجون قسوة وسوءًا في عمورية، لا تقل مأساة خالد عن مأساة طالع، فما دام السجّان واحد فالعقاب الذي يُصبُّ فوق أجسادهم واحد أيضا وإن تغيّرت أساليبه واختلف منفذوه

كان تركيز منيف في المرحلة الثانية من الرواية على الأثر النفسي والجسدي للتعذيب في السجون الحكومية ضد المعتقلين السياسيين، تحول الأمر في المرحلة الثالثة إلى سجل تدويني للسجون، وما يحدث في كل منها، ومن ينفذ، وكيف تُدار الأمور فيها، ففي كل مرحلة ينتقل خالد إلى سجن مختلف ما بين السجن المركزي والعفير والقليعة، وهذه المرحلة مختصة أيضا بحياة السجون، وتصويرها على حقيقتها، وواقعها الأليم، والعلاقة بين السجناء، فبغض النظر عن اختلاف قضاياهم إن كانت جنائية أو سياسية، إلا أن هناك نوع من الترابط ينشأ ما بين الفرقتين، يدفعهم إلى الوقوف بصف واحد أمام الجلاد


الرواية تفتقد لعنصر الإثارة والحبكة، فهي في كثير من فصولها وصفية لما يحدث داخل السجون ويتعرض له السجناء، وتقريرية في تبيان وذكر التفاصيل، فهي كبحث كبير، تبرز قيمته على أهمية ما يُذكر فيه، وتبرز قيمة منيف السردية، وباعه الطويل في الكتابة، ورصانته وقوته في جعل الرواية ذات مستوى واحد، يبقى في رونقه نفسه من البداية حتى النهاية


المرحلة الأخيرة: هذه المرحلة مترابطة مع المرحلة الأولى التي في ختامها يُسافر عادل إلى باريس، والمرحلة الثالثة، التي يلتقي فيها عادل ببعض الرفاق القدامى، ليشقَّ طريقًا جديدًا في حياته، ويُدوّن ماضيه المظلم في عمورية، وليكون صوتًا يصرخ وينادي من بعيد، ويُعرّف العالم في خارج بلاده ما يحدث في داخل بلاده. ختام الرواية يبقى مفتوحا لكل النتائج والتبعات، وحضور الماضي، والعيش في عذاباته، والعمل على تغيير حاضرٍ حتى يتنسى لمن يأتي من الجيل القادم، أن يكون واعيا وعارفًا كيف يجب أن يعيش ويتصرف ويقرر وينفذ قرارته، وليعرف من يواجه

إن هذه الرواية وسابقتها شرق المتوسط، تُثبت أن الكلمة في كثير من الأحيان لا يقل وقعها وأثرها من ضرب السيف، فهي تكشف المستور، وتُبرز المخفي وتُظهره للعلن، بمثل هكذا أعمال يُمكن أن تُزعزع أنظمة وحكومات، حين تكون عملا صادقا مؤثرًا، فهي ترس للدفاع عن المظلومين وسلاحا بيد من يريد أن يغير الواقع، هنا في دول شرق وجنوب المتوسط