الرواية الأولى لـ آن برونتي، الأخت الصغرى للأخوات برونتي (شارلوت وإيميلي)، والتي نُشرت مع رواية إيميلي "مرتفعات وذرينغ" في ثلاثة مجلدات (اثنان لرواية إيميلي وواحد لرواية أغنيس) في كانون الأول عام 1847 من قبل الناشر Newby. وسبقتهما أختهما شارلوت بشهرين بنشرها رواية "جين إير" الرواية التي ذاع صيتها وقتها ووصفتها مجلة ويستمنستر ريفيو أنها رواية الموسم.
كان الزمن كفيلًا بالكشف عن مستوى الأخوات الثلاث شعريًا وروائيًا، كان الاعتراف بموهبة الأخوات الثلاث شعريًا متأخرًا إلا أن الاعتراف بالموهبة الروائية جاء مبكرًا ولا سيما الأختان الكبريان شارلوت وإيميلي (إيميلي برواية واحدة، وشارلوت بعدة روايات). كلما مرّت السنوات؛ أُزيحت آن إلى ظل أختيها رغم نشرها لروايتين (أغنيس غري، ونزيلة ويلدفيل هال)، فأهملها النقّاد تدريجيًا حتى أضحت ظلًا لأختيها أو مجرد شخص آخر ضمن الأخوات برونتي كما تكتب كاثرين وايت في مقدمة طبعة وردزورث.
لم يكتفِ هذا الإهمال بروايتيها بل وحتى بسيرة حياتها، إذ لم يكتب عنها شيء حتى عام 1954 عندما كتبت إيستل تروث أول سيرة عنها ثم تبعتها وينفريد جيرن في عام 1959. (وهي سيرة غنية بالتفاصيل والمعلومات والشروحات عن حياة آن وعملها وأدبها الروائي والشعرية).
يبدو الإهمال الذي تزايد خلال السنوات التي لحقت وفاة آن في الرواية الأولى "أغنيس غري" طبيعيًا لكنه غير طبيعي مع رواية نزيلة ويلدفيل هال. تتحدث رواية أغنيس غري بأسلوب مذكرات على فصول منوعة وقصيرة ومتصاعدة زمنية بتباطئ أو ذي قفزات كبيرة، عن حياة أغنيس غري وعملها مربية لدى عائلتي بلومفيلد ومورّاي في بلايك هال وهورتون لودج.
يلتقي هذا العمل في كثير من أحداثه مع سيرة حياة آن الشخصية مما يجعله "سيرة روائية" تكشف فيها عن مصاعب العمل مربية، وتنتصر فيها لذاتها ضد القدر الذي حرمها من الحب في نهايتها ومنحها السعادة التي افتقدتها. هذا الاعتماد الكبير على حياتها تصفه شارلوت بقولها: "اعتمدت آن على خبرتها في العمل مربيةً" وتقول إنه "مرآة عقل الكاتبة". فنحن هنا مع شهادة من شخص قريب من آن في أيام حياتها القصيرة في هاورث ووفاتها في سكاربرا (1820-1849). إضافة إلى التشابه الكبير ما بين شخصيات العمل والأشخاص الذين التقت بهم آن في حياتها سواء في منزلها كما في (ويتسون الخوري وويتمان الخوري الذي عمل مع والدها "والذي أحبته آن"، وأفراد أسرة بلومفيلد التي عملت لديها أغنيس واستغنت عن خدماتها بعد شهور قلائل وأسرة إنْغام التي عملت لديها آن واستغنت عنها كذلك في مدة نفسها، وأسرة موراي وأفرادها "بنتان وولدان" وأسرة روبنسون "ثلاث بنات وولد" واستمرت مع الأسرتين أغنيس وآن مدة خمس سنوات، تركت آن العمل عند أسرة روبنسون لأسباب تتعلق بأخيها برانويل وعلاقته بالسيدة روبنسون وتركت أغنيس العمل لدى أسرة موراي بعد وفاة والدها وافتتاح أمها لمدرسة ساعدتها أغنيس في إدراتها).
لا يمكن الاعتماد كليا على رواية أغنيس غري بأنها سيرة ذاتية حقيقية لآن لكن يمكن الاستفادة من كثير من أحداثها سواء في الكشف عن مشاعرها وما واجهته في عملها مربية من سوء معاملة وازدراء ومحاولة إلغاء ذاتها وكيانها وجعلها مفرغة من أي وجود شخصي وهذا ما تؤكده آن نفسها في مقدمة الطبعة الثانية من رواية "نزيلة ويلدفيل هال" بقولها: ولقد نسخت أغلب هذه الفصول من حياتي متوخية بدقة شديدة كل أنواع المبالغة. وما قد يزيد فكرة الاعتماد على روايتها في توثيق أو تأكيد بعض الأحداث في حياة آن، هو ما نراه واضحة لدى وينفريد جيرن وكتابها عن آن، إذ استخدمت الكثير من مقاطع الرواية لتؤكد مشاعر آن أو في إسقاطها على حياة آن للخروج باستنتاجات عن طبيعة مشاعرها ورغباتها وعواطفها ولا سيما تلك التي كنتها آن لويتمان الخوري الذي أحبته حبًا وانتهى دون تحقيق شيء بوفاة ويتمان عندما كانت تعمل آن لدى أسرة روبنسون. وكذلك في استخدام اعتراف أغنيس في كون الشعر ملجأها بعد التعرِّض لقسوة الحياة واضطهادها- ليكون دليلًا على أن كثير من قصائد آن الذاتية هي تعبير صادق عن مشاعرها سواء في الحب أو الحنين إلى الماضي أو رؤاها الدينية وعقيدتها.
تبدأ رواية أغنيس غري بتقديم أغنيس نفسها بضمير المتكلم في الزمن الماضي مسترجعةً في مذكراتها ما مرَّت به، وكاشفة قُبالة القارئ الذي لم تكن لتكشفه لأعز أصدقائها، وعارضةً تاريخها الشخصي الذي قد يكون في الأخير لا يستحق كل عناء قراءته، لكنها بالكاد مؤهلة للحكم عليه. تنقلب ظروف حياة أسرتها بعد استثمار والدها الفاشل مع تاجر صديقه بغرق السفينة وما تحمله من بضائع كان يُمني الوالد -الذي كان خوريا مثل والد آن- بتحسين وضعه المادي عبرها، لتبدأ بعدها رحلة أغنيس ذات الثمانية عشر ربيعا من أجل العمل مربية (وهي وظيفة شائعة في القرن التاسع عشر في إنجلترا، إذ كانت الجامعات مقتصرة على الذكور، وعلمت الأخوات الثلاث في هذه المهنة) المهنة التي تعد المحور الذي ركزت عليها الرواية في فصولها الأولى، وهي بمثابة احتجاج وبيان استنكار للمعاملة السيئة التي تواجهها المربية في بيوت الأسر التي تعمل في تعليم وتقويم أطفالها (ذكورًا وإناثًا من بعد سن النطق وحتى سن البلوغ "للإناث"). إذ المربية كائن معدم الوجود في نظر الأسرة الموظِّفة، فلا هي عبد يطيع فقط ولا هي معلم مُربٍّ بصلاحيات يفرض من خلالها سلطته على طلبته لا سيما أولئك المشاغبون والأشقياء ومن تنقصهم التربية ذوو الطباع الهمجية والمسرفة الدلال. نقرأ هذا الوضع السيئ الذي تعيش المربية أغنيس في الفصول الأولى بعملها لدى أسرة بلومفيلد ومعاناتها مع الشقي الصغير توم (يشعر القارئ برغبة جارفة بضربه) الذي لم تكن تملك أغنيس عليه أية سلطة، وتقول متهكمة إنها تطيعه وأخته لا العكس.
حتى الآن فإن الأحداث مجرد سرد عادي بلا أي مزية، وتبدو الشخصيات جميعًا مجرد ظل شخصيات، حضورها صوري كالسرد الذي يغرق بالتقريرية الوصفية دون أي متعة أو إثارة- وهو ما تكتب عنه آن في مقدمة الطبعة الثانية من رواية "نزيلة ويلدفيل هال": اتُّهمت قصة أغنيس غري أنها مفرطة التلوين...". وبعد فشل عملها لدى بلومفيلد تنتقل للعمل لدى أسرة موراي، فإن العمل يأخذ منحًى أكثر ثباتًا ورسوخًا وتحكم الراوية سيطرتها على عملها وفي جعل شخصياتها ذات كيان واضح يمكن الحكم عليها وتحليله لا مجرد صور، فتظهر لنا شخصيات رئيسة مثل الخوري ويتسون والآنسة روزالي موراي، وشخصيات ثانوية مثل السيدة موراي، والآنسة ماتيلدا موراي، والمسنة القروية نانسي، ثم تتضح ملامح أكثر لأم أغنيس. وكذا الحال مع الأحداث التي تُلملم وتُرص مع تقدم العمل وبروز الشخصيات إلى الأمام، فيبدو العمل وكأنه انطلاق من الخلف إلى الأمام، من الظلمة إلى النور، فتقف الشخصيات قُبالة القارئ، وتضاف بعض المتعة والحبكة، لكن ما يبقي مُعيبًا للعمل هو الإيقاع السريع في العمل، وبتر الأحداث، واللهاث نحو النهاية بأقصر الطرق. مع لمس قدرة آن على إعطاء المساحة الكافية لراويتها للسيطرة على سردها مذكراتها إلا أنها لم تمنحها ويبقى العمل متضعضعًا وفاقدًا للفنية المنافسة أو المُرسِّخة لنفسها في عالم الرواية، لكنها قدمت كل ما تحتاج إليه للرسوخ في عالم الرواية مع روايتها الثانية نزيلة ويلدفيل هال.
حتى على المستوى المهني لعمل أغنيس، فإن فصول أسرة بلومفيلد تركز فيها على معاناتها الشخصيّة في العمل، فتبدو أغنيس أقرب لخادمة منها إلى معلمة مربية، في حين تركز في فصول أسرة موراي على العلاقات الاجتماعية الشخصية لأغنيس سواء مع بنات أسرة موراي أو مع البيئة القروية المحيطة، وكذلك تصوير لمجتمع القرن التاسع عشر في ثورتون "وثورب غرين (في الواقع) الذي سيتضح أكثر في روايتها الثانية" سواء في السعي إلى الزواج أو نوع العلاقات التي تربط عليّة ذاك المجتمع، فتبدو أغنيس أقرب إلى وصيفة ووسيطة مستخدمة من قبل السيدة موراي لإقناع بنتها بما يصعُبُ عليها فعله. ثم بعد انتهاء عملها لدى أسرة موراي، فإن أغنيس تتمتع بكيان خاص وبمراسلة روزالي لها،
تدخل المرحلة الثالثة في تطور شخصيتها ووضعها الاجتماعي بصفتها صديقة وإنسانة بكامل حريتها وإرادتها وفكرها، ومع الطور الثالث من الشخصية والرواية، تنتهي الرواية بزواج أغنيس ويتسون.
قد تبدو هذه النهاية سعيدة في العمل إلا أنها تكشف عن ألم داخلي اجتاح آن في سنوات حياتها وحتى مماتها. إذ تمثّل شخصية ويتسون الخوري ويتمان الذي أحبته آن، ولم تستطع أن تكاشفه مشاعرها، ويبدو حبها له غير متبادل، فإن هذه النهاية هي نهاية مُتمناة للكاتبة حاولت تعويض خسارتها لمن أحبته في حياتها إلى ربح أبدي يبقى ما دامت الرواية تُقرأ فأغنيس "آن" تتزوج ويتسون "ويتمان" وتعيش معه الحياة التي تَمنتها، الحياة التي لم تحظَ بها. لذا فالنهاية حزينة لو استطعنا إدراك ما وراءها من أسس قامت عليها. تنتهي بعدها مذكرات أغنيس وبنهايتها ينتهي العمل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق