الثلاثاء، 27 أبريل 2021

كتاب إيدَا The prose Edda - سنوري ستورلوسون

إنَّ كتاب سنوري ستورلوسون أول وأهم مصدر عن الميثولوجيا الإسكندنافية، وقد ألَّفه سنوري قرابة عام 1220. أما أقدم مخطوطاته الموجودة فقد كتبت في عام 1300، وهناك نحو سبع مخطوطات من كتاب سنوري الذي كتبه باللغة الآيسلندية، واحدة من اللغات الأوروبية القروسطية القلائل التي كُتب الشعر بها بالعامية وكذا الحال مع كتابة الأطروحات بالعامية عن الشعر كما يشير أحد مترجمي الكتاب أنتوني فاولكيس. 

كان لهذا الكتاب أهمية كبيرة سواء فيما يخص الميثولوجيا الإسكندنافية بما احتواه من قصص في القسم الأول من الكتاب أو عن اللغة الشعرية وتنوعها في القسم الثاني من الكتاب أو الشعر والقصائد التي كانت توزعت ما بين القسم الثاني والثالث. 

يعود أول ظهور لهذا الكتاب في عام 1665 في كوبنهاجن عندما نُشرت طبعة كتاب إيدا بترجمتين دنماركية ولاتينية واستمرَّت بعدها ترجمات هذا الكتاب إلى اللغات الإسكندنافية والفرنسية والألمانية والإنجليزية. ومن أوائل الترجمات إلى الإنجليزية كانت في عام 1916 عبر آرثر جيلكريست برودور واقتصرت على مقدمة الكتاب والقسم الأول والثاني فيما كان القسم الثالث ونظرًا لصعوبة إيجاد الكلمات المقابلة فعجز المترجم عن نقله إلى الإنجليزية، ولكن نُقل الكتاب لاحقا في ترجمات كاملة مثل ترجمة أنتوني فاولكيس، أستاذ الآيسلندية القديمة في جامعة برمنغهام، في عام 1998. 

نُقلَ الكتاب إلى العربية بعنوان سنورا إدَّا من المترجم د. موسى الحالول في عام 2013، لكن ترجمة اقتصرت على المقدمة والقسمين الأول والثاني، والثاني ليس كله بل حتى فقرة المعركة الأبدية، أو ما تسمى بالعاصفة Storm أو عاصفة الثلج هيادنينغز Snow-Shower of Hiadnings، وهي المعركة التي دارت بين الملكين هوغني وهيدن بعد أن خطف الثاني ابنة الأول، هيلدر، وبعد رفضه التسوية مع الملك هيدن تقاتلا من الصباح حتى المساء، وفي المساء تذهب هيلدر إلى أرض المعركة وتُحيي الموتى بالسحر الأسود وهكذا تستمر المعركة حتى معركة نهاية العالم راغنروك أو قَدَر الآلهة The Weird of Gods، وهي المعركة التي يموت فيها عدد آلهة الإسكندنافيين من ضمنهم أودين وثور ولوكي، ثم يعود بعض الآلهة إلى الحياة ويُخلق بشريان منهما تُعمَّر الآرض مجددًا. لكن القسم الثاني لا ينتهي بمعركة نهاية العالم والمرقَّمة بالفقرة 49، إذ تأتي بعدها أسئلة أخرى عن كنايات الشعر وألفاظه ولغته وتورياته حتى الفقرة 74 الأخيرة، إضافة إلى أن القسم الثاني يحوي قصائد سواءً عن بعض القصص الواردة أو عن لغة الشعر وهي ليست مترجمة بالكامل إلى العربية. وأحسب هذه النسخة العربية التي قرأت منها عن ترجمة آرثر جيلكريست ويشوب الاختصار بعض فقراتها عندما قابلتها مع ترجمة آرثر.

 

سنوري ستورلسون 

    

ولد سنوري في عام 1179 في آيسلندا، لعائلة أرستقراطية خُلع اسمها Sturlung على حقبة من الاضطراب والعنف في أوائل القرن الثالث عشر، التي تأتّى عنها خسارة آيسلندا لاستقلالها وخضوعها لحكم ملك النرويج. لفَّ حياة سنوري كما يشير آرثر جيلكريست الكثير من الغموض والحيرة، لكنه كان كاتبًا وشاعرًا ورجل قانون في البرلمان الآيسلندي، وزار النرويج مرتين، ولا يعرف إلا القليل عن حياته ما بين سني 1199، وهو تاريخ زواجه، و1241، وهو تاريخ اغتياله على يد ابن زوجته، غيزور ثورفالدسون. 

يصفه أنتوني بأنه لم يكن بالرجل الجذَّاب لكن اعتُرفَ به واحدًا من أعظم الكتَّاب الآيسلنديين، وظهر في كتبه شخصًا متحضرًا وذكيًا وحسَّاسًا. عاش سنوري في حقبة شهدت ازدهارا سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا وأدبيًا في آيسلندا وشهدت أيضًا سلطة الكنسية التي أصبحت أقوى من ذي قبل وشنَّت هجامتها على المكانة التقليدية للزعماء العلمانيين. 

برز حينها أيضًا أدب الملاحم والشعر ذو المواضيع المحليّة لكنها لم تكن المواضيع الوحيدة كما يذكر أنتوني في مقدمته للكتاب. راود سنوري طموح سياسي وضحَّى بكل شيء من أجل تحقيق ما أراده ولكي يصبح أقوى رجل في آيسلندا وزار ملك النرويج، هاكون، من أجل طموحاته السياسية. ويشير آرثر بأنه من أجل مسعاه فقد تعهَّد بقَصْدٍ على خيانة بلاده لصالح ملك النرويج، هاكون، الذي رغب بضم آيسلندا إلى سلطانه، ولم يكن ينقص سنوري إلا الشجاعة لتحقيق حرية بلاده، وبعد خمس عشرة سنة دون تحقيق أي شيء لصالح للبلاط الملكي النرويجي فقد أثيرت الشكوك حوله وحلَّ السخط عليه بعد مغاردته البلاط الملكي دون إذن هاكون الذي أمر بقتله على يد غيزور في عام 1241. استطاع هذا الملك فرض سلطته في آيسلندا في سني 1240 - 1260 بعد توحيدها وتمكَّن من إخضاعها في عام 1262 لسلطانه ودان له زعماء آيلسندا بتوقيع اتفاقية "العَهْد العريق".    

اعتنق سنوري الديانة المسيحية لكنه لم يجعلها تؤثر في محتوى كتابه الذي تعامل مع العقائد الوثنية لشعوب المنطقة القديمة، بل وبدا حريصًا على ذكر أخبار الآلهة وقصصهم ومعتنيًا بالأشعار ومقدِّمًا مادة مفصَّلة عن تلك الحقب الخالية دون أن يبرز معتقده المسيحي في طيات كتابه.   

لسنوري مؤلفات أخرى مثل Heimskringla وهو أجود كتاب عن التاريخ الآيسلندي، وقد يكون كذلك صاحب أجود الملاحم الآيسلندية Egils Saga، ويشكك آرثر جيلكريست في نسبة كتاب Heimskringla قائلًا إنَّ نسبة هذا الكتاب إلى سنوري غير محسومة رغم أن هذا الكتاب مع كتاب نثر إيدا متشابهين في الهيكلة والبيان.  

    

معنى الاسم إيدا Edda


لا يوجد اتفاق على أصل هذا الاسم ومعناه وتنوعت الآراء، من بينها أن سنوري قد قضى شطرا من حياته ما بين سنة الثالثة والتاسعة عشر في منقطة أودي Oddi حيث تعلَّم على يد حفيد سايموندر العالِم Saemunder the learned، والذي أسس مدرسة في أودي، وألَّف سنوري كتاب اسمه إيدا على اسم المكان كما يذهب المترجم آرثر جليكريست إلى هذا الرأي. وثمة رأي آخر يقول بأن سنوري، الذي ضمَّ كتابه بعض القصائد من كتاب إيلدر The Elder أو إيدا الشعري Poetic Edda، قد يكون جعل اسم كتابه على اسم الأصل الذي تعلَّم منه وقرأه وأخذ منه. والرأي الثالث الذي تقبله القواعد اللسانية هو اعتقاد سنوري بأن الكتاب الأصل اسمه كتاب الأودي أو الكتاب في أودي، ويُمكن أن يعبَّر عنه بالآيسلندية بـ أودابوك Oddabok أو إيدا Edda. ويذكر المترجم أنتوني أن الاسم قد يكون مشتقا من الكلمة Edo  اللاتينية -التي لا بد أن لسنوري حظًّا منها- وواحدة من معاني هذه الكلمة "أنا أؤلِّف".  

وأطلق اسم Edda لاحقا، ابتداءً من القرن السابع عشر على المجاميع الشعرية التراثية المكتشفة والمجهولة الشاعر ولها ذات المواضيع التي في كتاب إيلدر أو إيدا الشعري، لذا فلا بد من التفريق ما بين Poetic Edda الشعري وProse Edda النثري. 


محتوى الكتاب


يتوزع الكتاب في أربعة أقسام هي المقدمة، التي تقدِّم قصة الخلق وفقًا لنصوص الديانات الإبراهيمية، وشرح عن حال العالم والطوفان، وتقول بإن آلهة الإسكندنافيين سكنوا في آسيا، خير بقاع الأرض مناخًا وثراءً ونماءً، وبالتحديد في أرض الترك، في طروادة، وأنَّ أودين ينحدر من صلب ثور الذي كان من نسل بريام ملك طروادة. وينحدر من أودين شعب الذي سكن أراضي إسكندنافيا بعد أن هاجروا إليها مع أودين وتوزعوا فيها وأنشأوا ممالك ذات نظم مشابهة لمملكة طروادة، وعُرفوا باسم شعب آيسر Aesir-people وAesir تعني آلهة Gods أي شعب الآلهة. ويشير آرثر جيلكريست بأن هذه المقدمة في رأي الكثير من دارسي الكتاب مزيَّفة. يبدأ القسم الأول من الكتاب ويُعرف بـ خدعة غلفي Gylfaginning، ببحث ملك السويد غلفي عن أسرار شعب آيسر الذي رأى فيهم مَكَرة يستأثرون بالخيرات لأنفسهم ويجذبونها إليهم. لينطلق بعدها في رحلة إلى أسغارد، مدينة الآلهة، متنكرًا ومستعيرًا اسم غانغليري ويتلقي بملك مع رجلين هم تواليا هار وجافنهار وثريدي. يبدأ بعدها غانغليري بطرح أسئلة عن الآلهة والخلق والزمان وبدايات العالم وكل ما طرأ على ذهنه ويتناوب هؤلاء الثلاثة على الإجابة عن هذه الأسئلة بقصص يُستشُهد على بعضها وأحداثها بالأشعار من كتاب إيدا الشعري. ضمت هذه الحوارات العديد من القصص عن الآلهة وأسمائهم وأحوالهم ومغامراتهم وصفاتهم، وذكرت قصة قَدَر الآلهة أو راغناروك التي تنتهي بدمار العالم وموت بعض الآلهة ثم تعود الحياة رويدًا بعدها. 

أما القسم الثاني فهو البيان الشعري أو ما يعرف بِـ Skaldskaparmal، وهو محاورة أيضًا ما بين الإله براغي ورجل يُدعى إيغير Aegir أو Hler هلير -وهو رجل يعيش في جزيرة تعرف بجزيرة هيلر ويقال إنه إله البحر- الذي يأتي إلى أسغارد ويخبره براغي بقصص وأخبار وقعت بين الآلهة وجرت عليهم. وتردف أغلب الأحداث والقصص بقصائد نُظمت فيها أو عنها، وفي المحاورات الأخيرة بين الاثنين كانت عن كنايات الشعر وتورياته، وهي أشبه ما تكون بإرشاد وتعليم لفنون الشعر الآيسلندي ولغته. 

أما القسم الأخير من الكتاب، ويعرف بHattatal فيضم ثلاثة أغانٍ منفصلة من من مئة واثنين مقطعٍ شعري نظمها سنوري في مدح ملك النرويج هاكون، وحموه الإيرل سكولي  باردسون. يتخلل هذه المقاطع الشعرية تعليقات سنوري عن الشعر وبحوره. 


الخميس، 22 أبريل 2021

المذكرات التي كشفت الجانب المظلم من أسطورة ستيف جوبز.


بقلم: نيلي بوليز. 

المصدر: صحيفة النيويورك تايمز. 

ترجمة: مؤمن الوزان. 


يكشف كتاب "Small Fry*" حقائق عن ستيف جوبز. تسامحه ابنته، فهل نفعل نحن كذلك؟ 


كتبت ليزا برينان-جوبز مذكرات عن والدها المشهور. التفاصيل مروعة، لكنها لا تريد المذكرات أن تبقى مخفية. 

عندما أخبر ستيف جوبز ابنته ليزا بأنه لم يُسمِّ جهاز "آبل ليزا"، فهي لم تكن كذبة قاسية على فتاة صغيرة، ليزا تصر أنه كان يعلمها "ألا تتشبث بثيابه". 

وحين رفض جوبز أن يثبت جهاز التدفئة في الحمام، فهو لم يكن قاسي القلب، بل كان يُنشئها على "قيمة النظام". وعندما كان السيد جوبز يحتضر أخبر الأنسة برينان بأن رائحتها "مثل مرحاض" لم يكن انتقادا لاذعا، بل كان معبرا عن "صدقه".


إنه لشيء غريب يدعو لكتابة مذكرات مدمرة بتفاصيل مروعة، لكن هذه الأشياء -في الحقيقة-  ليست مدعاة للاحتقار في نهاية الأمر. وهذا بالضبط ما وضحته السيدة برينان في مذكراتها "Small Fry"، وفي سلسلة من المقابلات أجريت في الأسابيع الماضية. تعرف شركة آبل، بفضل عشرات الأفلام والسير الذاتية، العناوين الرئيسة من حياة الأنسة برينان المبكرة: السيد جوبز الذي أنجبها بسن الثالثة والعشرين ثم أنكر أبوته لها رغم مطابقة ألـ DNA، ومنح النزر اليسير من العطف المادي والمعنوي حتى بعد أن أصبح "إله عصر الحاسوب الأول". تجتهد السيدة برينان  في مذكراتها التي طرحت للبيع في الرابع من أيلول/ سبتمبر 2018، لاستعادة قصة حياتها لأجل ذاتها. 


تعود الذكريات الساذجة الأولى لحياتها مع وبدون السيد جوبز في ثمانينات القرن الماضي في منطقة سيليكون فالي في كاليفورنيا، حيث اختلط الفنانون بالهيبيين بالتقنيين، حيث ازدهرت الأفكار حول بناء المستقبل، وبدأ تدفق مليارات الدولارات يستحوذ على الواجهة. اعتمدت الأنسة برينان وأمها الفنانة كريسان برينان في عيشهما على مساعدات الشؤون الاجتماعية، وحرمت المراهقة من ثروة والدها. في صفحة تلو أخرى في المذكرات، يتعامل جوبز بوحشية مع ابنته وما حولها من الأشخاص. تخاف الأنسة برينان جوبز الآن، في هذه الأيام وقبل صدور الكتاب -صدر في أيلول/ سبتمبر عام 2018- من أن يُستقبل الكتاب على أنه تشهير بالجميع، وليس أكثر من صورة دقيقة عن عائلتها كما ترغب. وهي قلقة من أن تكون ردة الفعل حول إرث الرجل مشهور أكثر من قصة امرأة شابة- سيتم محوها مجددا، لكن هذه المرة من مذكراتها الخاصة. ما تريده الأنسة برينان من القرّاء، في عشية النشر، هو أن يعرفوا بأن: ستيف جوبز رفض ابنته لسنوات، لكن ابنته سامحته. منتصرة، وتحبه، وأن يكون الكتاب مشهدا جديا وهزليا في الوقت ذاته، ويكون فايروس يربك ويخلط الأمور، وتؤكد أنها لن تجني شيئا.تعني مسامحة الأنسة برينان شيئا واحدا، محاولة خادعة،  تطلب فيها من القارئ أن يسامح السيد جوبز، وهي تعلم بأن هذا يبدو صعبا ومثيرا للمشاكل.


 ‘الجزء السيئ من القصة العظيمة‘


غادرت برينان جوبز أمريكا، بعد الجامعة، للعمل في مجال المال والأعمال في لندن وإيطاليا، وتحولت بعدها للعمل في التصميم، ثم عملت في الكتابة للمجلات والصحف الأدبية. بسن الأربعين اليوم، قد تجنبت طويلا الإعلام ولم يُتعرف عليها قط، وقد استطاعت بمهارة التملص من مؤرخي سيرة والدها (باستثناء واحد: آرون سوركين، الذي أطلق عليها لقب "البطلة" في فلمه الذي استعرض سيرة حياة والدها سنة 2015). تقول برينان بأنها لا تثق بوالتر إيزاكسون** الذي كتب سيرة والدها الذاتية الغيرية ذائعة الصيت سنة 2011.

تقول برينان: "لم أتحدث قط مع والتر، ولم أقرأ كتابه، لكني أعلم بأني ظهرت سيئة مع والدي ولست مهمتة إذا ما تعرض لسوء. وأشعر بالعار لكوني الجزء السيئ من القصة العظيمة. وأشعر بأني مترددة".

تبحث في كتابها عن استعادة الاعتبار والتخلص من بعض العار من خلال وصفها لطفولتها غير المعروفة. من هم شخصياتها الرئيسة ولماذا حدث كل هذا. تعود برينان إلى مدينتها وتلتقي بعائلتها وأصدقائها وأمها، وعشاقها السابقين، وحبيبة والدها السابقة. كانت المدينة في طفولتها خضراء بأشجار الكالبتوس وساحاتها المليئة بالمشردين. وهي الآن أعظم مدينة لصناعة الثروة في تاريخ العالم، وما يزال جوبز بطلها الخارق. 

بدأت برينان العمل بأفضل صورة ممكنة على كتابها وليس بُعيد وفاة والدها سنة 2011 بكثير. سنوات من الكتابة، شعرت باستعجال الناشر (بينغوين) وخشيت أن يستغلها وينتفع من إرث والدها. أرادت العمل مع ناشر صغير، الذي سيعمل معها ويمنحها ما تريده من الوقت. غيرت الناشر إلى كروف، وبأخذ الاعتبار وتصديق ما تقوله (فقد رفض المتحدث باسم دار بينغوين التعليق على هذا الأمر). 

وواحد من أسباب تأخر كتابها هو دخولها في خضمِّ حديث الساعة في الوقت الذي  تشعر بضعفها والرفض الذي تواجهه النساء عند الحديث عن الرجال أصحاب المكانة الرفيعة. كتابة مذكرات ستيف جوبز ناجمة عن إحساس دائم ورغبة بالنشر، لكن برينان جوبز سهلت الأمر لنفسها من دون قصد تناغما مع الناس الذين كانوا متشوقين ومتلهفين لكتابها ولديهم أفكار واعية عن بعالم جوبز.  



‘أتمنى لهم عيد شكر سعيدا‘ 


لم يكن يتخيل أحد على الإطلاق ولادة برينان في السابع عشر من مايو/ أيار 1978، في مزرعة بلدية في ولاية أوريغون. والداها اللذان التقيا أول مرة في ثانوية كوبرتينو، كاليف، وكانا في سن الثالثة والعشرين. وصل جوبز بعد أيام من ولادتها وشارك في تسميتها لكنه رفض إشاعة خبر أبوته لها. عملت الأم كريسان برينان (زوجة جوبز الأولى ووالدة ليزا برينان جوبز)، لإعالة أسرتها، في تنظيف المنازل وتلقي المساعدات الحكومية. ودفع تكاليف الطفل فقط بعد إشعار الحكومة لجوبز بضرورة تولى مساعدة ابنته. تصف المذكرات تنامي اهتمام جوبز البطيء بابنته وأخذها للتزلج وزياراته لمنزلها لرؤيتها. وانتقلت للعيش مع والدها مدة قصيرة أثناء دراستها الثانوية، عندما كانت أمها تكافح لجني بعض المال ولتخفيف من حدة مزاجها، لكن جوبز كان باردا وله طلباته المتطرفة من قِبل أفراد عائلته، وكان الجيران قلقين على المراهقة ليزا، وفي إحدى الليالي التي كان فيها جوبز خارجا، قاموا بنقلها من منزله إلى منازلهم. دفع الجيران تكاليف دراستها الجامعة رغم رغبة جوبز. (أرجع المال إليهم لاحقا). 

قالت برينان في مقابلة بأنها "لا تريد إبعاد الناس الذين تحبهم عنها ولكنها اعترفت بأن مذكراتها قد تفعل هذا". إضافة إلى ذلك فإن كل شخصياتها الرئيسة في مذكراتها على قيد الحياة. و"أتمنى لهم عيد شكر سعيد". وصفت والدتها بأنها روح متحررة التي راعت إبداع ابنتها، لكنها كانت متقلبة، وحادة المزاج وأحيانا مهملة. "كان من الصعب جدا الإقرار بهذا. إنه أمر قاس جدا جدا، لكنها سوف تتفهم هذا". 

 يُسلطُ  الضوء على الجانب المظلم غير المعروف من شخصية جوبز في المذكرات. ففي إحدى الليالي وعلى العشاء، التفت جوبز إلى ابنة أخيه سارة، التي أساءت له دون قصد بطلب اللحم، وسألها لها "هل فكرت يوما بمدى فظاعة صوتك؟ أرجوك توقفي عن الحديث بهذا الصوت المقزز، أضاف، ويجب عليك بالفعل أن تشاوري نفسك وتعرفي ما خطبه وتحاولي معالجته". تصف برينان أباها بأنه كان يستخدم المال مرارا لتخوفيها أو إرباكها. ويقرر أحيانا عدم الدفع في آخر لحظة. وتكتب: "يخرج من المطعم دون دفع الفاتورة". وعندما وجدت والدتها منزلا جميلا وطلبت من جوبز شرائه لها وليزا، وافقها الرأي حول جمال البيت وابتاعه لنفسه، وانتقل هو زوجته لورين بويل جوبز للعيش فيه! 

تقول كريسان برينان عن ابنتها بأنها قللت من فوضى طفولتها "فهي لم تعرف إلى أي مدى كان الوضع سيئا، إذا كان بإمكانك أن تصدق هذا". تحتوي المذكرات كذلك على ذكريات سعيدة تصور عفوية جوبز وعقله الفريد. عندما ذهبت برينان إلى اليابان في رحلة مدرسية، يصل جوبز إلى ابنته بدون سابق إشعار، ويخرجها من برنامج الرحلة يومًا واحدا. يقعد الأب وابنته ويحدثها عن الله وكيف يعرف ما يجول في أنفسنا. وتكتب ليزا "لقد كنت أخاف منه، وفي ذات الوقت أشعر برعشة حب تتدفق فيَّ". 

أخبرتني برينان "عندما بدأت الكتابة لم أفكر بأنه سيبدو مثيرا للاهتمام على الورق، وقد كنت محبطة جدا، وتلاشت كل رغبة بالكتاب حينها". انتقلت ليزا المراهقة مع والدها، الذي منعها من رؤية أمها ستة أشهر، مستخدمًا إياها وسيلة إجبار على توطيد علاقتها  مع عائلتها الجديدة. انتقل جوبز في ذات الوقت  من إهمال عائلته الجديدة إلى السيطرة عليها. عندما بدأت ليزا بالتأقلم في مدرستها الثانوية، وانضمت لنادي الأوبيرا وترشحت لتكون رئيسة الفرقة الجديدة، انزعج والدها "هذا أمر لا يجدي، وأنت لا تنجحين لتكوني عضوة في هذه العائلة. أنت لست معنا مطلقا، إذا أدرتِ أن تصبحي جزءا من هذه العائلة، عليك أن تتصرفي على النحو اللائق".     

لتسترضي والدها، انتقلت برينان إلى مدرسة أخرى بالقرب من منزل والدها. وواصلت لتصبح رئيسة تحرير صحيفة المدرسة. قالت مرشدتها السابقة هناك، معلمة مادة الصحافة إستر وجسيكي عن "Small fry": كتاب صادق. والحوار الذي دار بينها وبين جوبز كان صادقا تماما. الكتاب هدية لنا جميعا. 

أُرسلت النسخ الأولى من المذكرات إلى العائلة والأصدقاء. أدلت السيدة باول جوبز، وأطفالها، وأخت جوبز، مونا سيمبسون، بهذا التصريح إلى مجلة التايمز: "ليزا جزء من عائلتنا، لذا من المحزن أن نقرأ كتابها، الذي يختلف بصورة محزنة عن ذكرياتنا في هذه الأوقات. صورة ستيف على أنه لم يكن الزوج والأب الذي عرفناه. أحبَّ ستيف ليزا، وأبدى أسفه بأنه لم يكن الوالد الذي يجب أن يكونه خلال طفولة ليزا المبكرة. وكان من المريح جدا لستيف بأن تكون ليزا في البيت في آخر أيام حياته، ونحن كلنا امتنان لهذه السنوات التي قضيناها معا عائلة واحدة".



‘تحرر‘  


ذهبتُ مع السيدة برينان، في إحدى صبيحات آب الحارة في بروكلين، إلى مكان إقامتها (أستوديو). شقة صغيرة بجدران من القرميد التي طلته بالأبيض وأرضية من خشب البامبو طلته بالأسود. أخبرتني بأنها قامت بتغطية المرايا حولها بالورق أثناء كتابة Small fry". "لا يمكنني رؤية نفسي في المرآة" وأضافت "لأنها تشبه- أوه، الذات". 

قالت السيدة برينان بأنها كانت متوترة حول كل ما تود وصفه بصورة واقعية من حياته، ولذلك طلبت أن تستخدم كلماتها الخاصة. "وجهي غير متساو" قالت. "أملك عينين صغيرتين. أتمنى لو لدي غمازات، لكني لا أملكها. أعتقد الآن صدقا أني أبدو راضية". وودتُ مقاطعتها بأنها تملك ملامح دقيقة، ونمش، وكان طولها قرابة 5,2 قدم، بشعر بني محمر قريبا. "أنفي" أجابت برينان "ليس دقيقا بنحوٍ مميز". انتقدت نفسها بقسوة، وقالت بأنها كانت مرعوبة من كتابة "مذكرات شهيرة". وقالت كنت متأكدة بأن النيويوركر لن ترغب بعمل مراجعة للكتاب، منذ السنوات خلت، حدث اجتماعها الأول في كروف بسبب إليزابيث سخاميتز، مديرة التحرير، التي قامت به خدمةً لصديق مشترك.

"كانت فكرتي الأولى حول نشر هذا الكتاب ’بأني لا أفعل شيء من هذا لا القبيل. لا أعرف كيف تُنشر مذكرات حول مشهور‘".  قالت السيد سخاميتز، التي حصلت على مذكرات أدبية  "الصاد للصقر" عن عالمة الطبيعة هيلين ماكدونالدز. لكن شيئا ما حول كتابات السيدة برينان جوبز جعلني أعيد النظر وقالت "من أول صفحة كانت لغتها ناضجة، مفاجئة، ولا يمكن التنبؤ بها. لقد قرأتها، وكتابتها تامة بالفعل". 

استخدمت السيدة برينان جوبز ذات السكين اللغوية في الحديث عن نفسها كما فعلت مع الآخرين. كتبت باشمئزاز من استخدام قصص حول طفولتها لتثير عاطفة الآخرين، وتشعر بالخزي من إسقاط اسم والدها أثناء مقابلة الانضمام إلى هارفرد.   

نشرت مجلة فانتي، في الفاتح من آب، مقطعا من مذكراتها تحت عنوان بالخط العريض "أملك سرا. أبي هو ستيف جوبز". وبعد ليال قليلة، اتصلت السيدة برينان بي، قلقلة. لقد كرهت العنوان، والقراء في مواقع التواصل الاجتماعي، يتناقلون التفاصيل الأكثر قسوة عنها- خاصة "تعليق المرحاض". 

"كان يقول الحقيقة". أخبرتني السيدة برينان، مضيفة أن عطر ماء الورد زال، وأنها لم تكن منتبهة. أحيانا يكون الجميل أن يخبرك الناس ما الذي تشبهه رائحتك". 

كان كتاب برينان، والذي كتب بدقة بأسلوب أدبي، تذكيرا مقلقا لكن أسطورة والدها مهولة ولم يكن بإمكانها التحكم في كيفية تلقي كلماتها. وعند اختيار السارد في النسخة الصوتية، رفضت أحدهم لأنه صوته كان أجشَّ وتعوزه روح الدعابة. اجتهدت السيدة برينان كثيرا في مذكراتها وعرضت الصورة الوحشية التي كان بإمكان جوبز الوصول إليها، ولأجل فعل هذا، كانت مضطرة لتعيش القسوة مرة أخرى، وتريد استعادة هذه القسوة لتحبها. 

"تحصل على إرثك، تتسلم كتلة من الفحم، أو أي حزمة مريعة أخرى" وأخبرتني في نقطة أخرى: "وتستغرق الكثير من الوقت لتقلب هذه الحزمة المريعة، وتميط اللثام عن شعلة ما، لتتحرر ببعدها". 

                          

‘مشاهد غير لائقة‘ 


إذا كانت السيدة جوبز قلقة من ردة الفعل حول اقتباس "المرحاض" قد تكون غير مستعدة لما سيحدث عندما يقرأ القراء مواقف مزعجة أكثر. بعض المرات في "Small Fry" عمل جوبز ليبدو غير مسؤولٍ أمام ابنته. تصف برينان عناقه لأخته في أحد الأيام "يجذبها إليه ليقبلها ويحرك يديه بالقرب من ثدييها، ثم يرفع فخذها، ويأنُّ بطريقة مسرحية". 

عندما تحاول برينان المغادرة، يوقفها والدها "هيي ليز" ويضيف "ابقي هنا، لديك جو عائلي، وإنه من المهم المحاولة لتكوني جزءا من هذه العائلة". أبقى جالسة، أحملق في الأفق مشتكية وواجمة.

وتشدد برينان في مقابلة بأنها لم تشعر بالتهديد من والدها قط، وتظهره هذه المواقف أخرقَ فحسب. لم يكن هذا العرض لهذه المشاهد حالات عرضية، قالت أم برينان التي وصفت غير راضية محادثة جنسية بين جوبز وابنتهما ليزا، عندما تركت ليزا ذات التسع سنوات برعاية والدها، وعندما عادت للمنزل مبكرا، وجدت جوبز مع الفتاة، "عندما كان يغيضها بسبب طموحاتها الجنسية، ويسخر منها جنسيا على نحو فاضح. ويمازحها حول أغراض غرفة نومها مشيرا لعلاقة ليزا بهذا الفتى أو ذلك".

في إحدى أماسي شهر آب، كنت أتحدث مع السيدة برينان في المطبخ، وكانت تصنع عصير فواكه، وتأكل طعاما صحيا، وزوجها السيد بيل، كان موظفا مدة طويلة في شركة مايكروسوفت ولديه ابنتين، ومن زوجته ليزا لديهما طفل رضيع، تقول ليزا: "عندما أرى زوجي وأسلوب تعامله مع ابنتيه- متجاوب، لطيف، وعاطفي، بطرق أحبها والدي". وتضيف "أحبَّ والدي أن يكون رجلا مثله، وأحاط نفسه برجال مثل زوجي، لكنه لم يستطع أن يكون هذا الشخص". وبعد عقود لدعمه قانون العناية بالطفل، حذف جوبز أبوتها مرة أخرى. ويلاحظ كتاب "Small Fry" أن في سيرة الذاتية لجوبز في موقع آبل، يذكر الرئيس التنفيذي بالمهووس بالمعلومات بأن لديه ثلاثة أطفال. لكنه في الحقيقة يملك أربعة.




‘باول جوبز‘ 


كانت زوجته السيدة باول جوبز أشهر من ورث شعلة وإرث السيد جوبز بتركة بلغت 21 مليار دولار. شاركت باول في الأعمال الخيرية، وأطلقت "منظمة إيمرسون" وهي منظمة تسعى من أجل نشاط ليبرالي سياسي، والاستثمارات الربحية، وتملك باول جوبز النصيب الأكبر من مجلة أتلانتيك. 

لعبت السيدة باول نوعا ما "دورا فاعلا" في كتاب "Small Fry" وقالت برينان بأن زوجة أبيها جلبت لها صور العائلة لتطلعها عليها، لكن رافق أغلب ذلك تعليقاتها الساخرة. وأخبرتني برينان بأنها أعطت السيدة باول "أفضل جملة" في كتابها. وتظهر في موقف حيث تذهب باول مع جوبز بدون المراهقة ليزا إلى جلسة علاجية، وكانت برينان تبكي وتقول بأنها شعرت بالوحدة وكانت بحاجة من والديها أن يتمنيا ليلة سعيدة.

في نهاية مطاف حياة السيد جوبز، اعتذر أخيرا من ابنته. تطلق برينان على الاعتذار بأنه "نهاية فلمها". كتبت في كتابها بأن السيد جوبز كان متأسفا لأنه لم يقضِ وقتا أكثر معها، وغيابه في مرحلة نضجها، ونسيانه أيام عيد الميلاد، ولا يراجع الملاحظات أو الاتصالات. ترد ليزا، بأنها تعرف بأنه كان مشغولا. وبأن جوبز تصرف بالطريقة التي تصرف بها لأنها كانت تسيء إليه. ويجيب جوبز في الكتاب مشيرا إلى حدث قبولها في هافارد: "لم يكن عدم حضوري بسبب انشغالي. بل السبب أني كنت غاضبا لأنك لم تَدْعِنِي إلى حفل نهاية الأسبوع في هارفارد. 

وكان يبكي ويقول لها مرارا وتكرارا "بأني مدين لك" وهو مشهور بعدم قدرته على الإفصاح والتعبير عن ندمه بلغة يسيرة. 

قد ينتاب السيدة برينان نوعا من ندم الكاتب حين يشق كتابها طريقه عبر رفوف متاجر الكتب. لكن التفاصيل المميتة -التي تبدو كأنها خناجر تغرز بقسوة في أسطورة السيد جوبز- تثبت أكثر من اختبار الDNA بأنها ابنة أبيها. ترك جوبز في النهاية ابنته وإرثا بالملايين -ذات المبلغ الذي حصل عليه أطفاله الآخرون-، ولم تكن لها حصة من الإرث. وقالت برينان لو كان لها نصيب من تلك المليارات، فهي قد تتصدق بها إلى مؤسسة بيل وميلندا غيتس- وهذا انحياز غريب نحو غريم والدها الملحمي في المنافسة. وتتساءل، هل سيكون هذا أمر منحرف جدا؟ وتجيب، أشعر بأن مؤسسة غيتس تقوم بأشياء جيدة فعلا، وأعتقد بأني سأعمد على تسخين البطاطا فقط".  وقالت برينان بأنها كتبت "Small Fry" بطريقة ما لتكتشف لمَ حرمها من النقود حتى عندما تضخمت ثروته في الوقت الذي كان يصرف بحرية على أطفاله وزوجته باول. وقالت بأنها الآن ترى أن الأمر كان حول تعليمها كيف يُمكن للمال أن يُفسد. "ينتابها شعور جيد ونوع من الجمال والتنوير تجاه شخص مثل هذا". وتستمر بالتساؤل "لمَ كان عليه أن يتبنى قيم نظام مثل هذا ويطبقها بقسوة عليَّ؟". 

وتضيف "بإمكانك أن تتبنى قيم هذا النظام لكنك غير قادر على تنفيذها بالكليّة؟ وأنا بإمكاني أن أتخيل كوني غنية ومشهورة، وما يُدهش أن تتمسك ببعض قيم نظامك. هو لم يطبق قيمه على نحو صحيح ولا عدل. لكني أشعر بأني ممتنة لهذا". 

أخبرتني برينان بأن تحب العبث بقوة غريبة كائنة في كتابة مذكرات صادمة لأن القارئ يعلم بأنها قد أجادت كتابتها. إنها الآن في موقع مميز لكتابة هذه المذكرات، وبعد كل هذا، وبصفتها كاتبة مذكرات ومترددة حتى، فإن لها الكلمة الأخيرة. 

سألها السيد جوبز -في نهاية الكتاب- في إحدى ليالي حياة، حين كان يشاهد مسلسل "النظام والقانون" في فراشه؛ هل ستكتبين شيئا عني؟ أجابت بـ لا. 

"حسنا، أجاب، والتفت ليكمل مشاهدة التلفاز". 


* Small Fry: يمكن أن تترجم إلى مذكرات تافهة، أو مذكرات شخص مجهول. لكني آثرت إبقائها في صيغتها الإنجليزية. 

**والتر إيزاكسون: كاتب أمريكي وصحفي وبروفيسور التاريخ في جامعة تولان. 











الخميس، 15 أبريل 2021

صراع الأصوات السردية بين روايتي جين إير وبحر سارغاسو الواسع

 

قراءة في رواية بحر سارغاسو الواسع لجين ريس 


"لا بدَّ أن شارلوت تكنُّ ضغينة ما لجزر الهند الغربية، وكنت غاضبة بشأن ذلك وإلا لمَ قادت تلك الهندية الغربية إلى ذلك الجنون الفظيع". 


إنَّ هذا التعليق الذي تقوله ريس يمثل مفتاحًا لفهم رؤيتها التي عادت من خلالها إلى رواية شارلوت برونتي "جين إير" لتستقرئها وترد الاعتبار الذي غاب عن بيرتا مايسون أو أنطوانيت كوسوي وفقا للتاريخ الحياتي الذي كتبته لشخصيتها، التي كانت على نحو ما نظيرة من نظائر جين ريس المولودة عام 1890 لأب ويلزي وأم خلاسية وسليلة أحد مالكي العبيد المُستعمرين في الجزيرة، التي لم تُلغَ العبودية فيها حتى عام 1834. عانت ريس في طفولتها من تشتت الهُوية والانتماء في جزيرة الدومينيكان، إحدى جزر الهند الغربية. وقد شابهت أنطوانيتُ/ بيرتا جينَ ريس في كونها من جاماكايا، إحدى جزر الهند الغربية، ومن عائلة كانت مالكة للعبيد، وذات بشرة بيضاء، مما جعلها وأمها من قبلها تقاسي رفض السكان المحليين وكراهيتهم. ليبدأ منذ وقت مبكر في حياة أنطوانيت/ بيرتا التمزق الهُوياتي وإحساس اللا انتماء الذي ضرب الشخصية والكاتبة على حد سواء واستمر معهما حتى وفاتهما. 


الصرصور الأبيض يعبر بحر سارغاسو 


ابتدأت معاناة جين ريس في حياتها في جزيرة الدومينيكان لكونها بيضاء البشرة مما سبب عرقلة انسجامها في المجتمع المحلي ورفضها إياه، ولُقِّبت في المدرسة بالصرصور الأبيض، اللقب الذي خلعته على شخصيتها أنطوانيت أيضًا. أدَّت معاناة جين هذه في الدومينيكان أن تصلي في صغرها لتصبح سوداء وفاقم سوء حالها علاقتُها غير المتوافقة مع أمها بسبب هذا الإرث الاستعماري الذي رأت أمها فيها منصفةً بإفراط مع مجتمعها المحلي مما ولَّد لديها إحساس اللا انتماء، وبعد انتقالها في عام 1907 بسن السادسة عشرة إلى إنجلترا فقد قاست أكثر ابتداءً مع خالتها التي انتقدت فيها عدم الإحساس الامتناني لفتاة مُستعْمَرة ثم الرفض الذي تعرض له في إنجلترا أثناء الدراسة الجامعية في كامبريدج حيث لُقِّبت بالزنجية وعيبَ عليها لكنتها مما اضطرها للكلام همسًا. انحدرت حياتها إلى فوضى مستمرة لم تفارقها حتى وفاتها في عام 1979. لكنها زاولت الكتابة في خضمِّ هذه الحياة العاصفة والمتقلبة والمشتتة والمُعلَّمة بالخروج الدائم من العلاقات الغرامية الفاشلة والشائبة بإدمان الكحول والشعور بالغربة والحنين إلى البلد الأم والزيجات الفاشلة والعلاقة السيئة مع ابنتها، ومن بين أعمالها التي رفعت من شأنها كانت رواية بحر سارغاسو الواسع الذي نُشرت في عام 1966 بعد غياب عن الأنظار والكتابة قرابة عقدين من الزمن؛ اُعتقدَ فيهما أنها تُوفيت لكنها ظهرت مجددًا وبقوة لتعيد بيرتا عبر بحر سارغاسو، الواقع في وسط شمال المحيط الأطلسي ولا بدَّ للمسافر الآتي من جزر الهند الغربية وإلى إنجلترا (أو العكس) أن يقطعه، إلى جامايكا في ردٍ على واحدة من أشهر كلاسيكات الرواية الإنجليزية، جين إير، لشارلوت برونتي. 

إنَّ هذا الصراع الذي اشتعل فتيله مع شارلوت برونتي كان القاعدة التي انطلقت منها جين ريس لتكشف للقارئ ذلك الماضي وسيرة الحياة التي قاستها أنطوانيت/ بيرتا حتى وصلت إلى تلك النهاية الفظيعة التي اختارتها لها شارلوت برونتي في روايتها. 


بيرتا مايسون - جين إير 


إنَّ أول ظهور لبيرتا مايسون هو في رواية جين إير التي لا يعرف القارئ للرواية إلا القليل عنها والتي تتكشَّف هويتها تدريجيًا وعلى نحو متفرِّق. فقد وُصِفت في رواية جين إير بأنها خلاسية أصلها من جامايكا، تزوجها روتشيستر حسب روايته بسبب أبيه البخيل الذي نوى أن يحرمه من الإرث ويمنحه كله لأخيه الأكبر لكي لا يقسم ثروته، وكان له صديق في جزر الهند الغربية، مستر مايسون، ولديه ابنة سيزوجها ويمنحها ٣٠ ألف جنيه إسترليني، كانت كافية للابن وزواجه وتأمين حياته بعدها. هكذا تم الزواج الذي يرى روتشيستر فيه نفسه ضحية لأن الجميع شاركوا بخداعه وأخفوا عنه حقيقة تلك الأسرة ذات اللوثة العقلية المتوارثة والبنت ذات الطباع المخبولة التي سرعان ما اكتشف حقيقة جنونها وإدمانها الخمر إثر زواجه وتفاقمت خلال السنوات الأربع الأولى من زواجهما وعيشهما معا في جامايكا مما اضطره لحبسها هناك قبل أن يقرر العودة إلى لندن وحبسها في قصر ثورنفيلد والتكتم على أمرها. ليعيش في السنوات العشر التالية حياة متنقلة بين إنجلترا وإسكتلندا وأوروبا ويتقلب في علاقته مع السيدات حتى وصلت جين إلى قصر ثورنفيلد. لم يضع روتشيستر أي احتمالية أخرى في روايته لأسباب ما حدث سوى تلك التي ربطها بزوجته وطبيعتها المخبولة وتصرفاتها المشينة. 

هكذا فقد كانت بيرتا حبيسة في علية قصر ثورنفيلد، وقال عنها روتشيستر بعد أن فُضح أمر زواجه منها بأنها مجنونة ومن أسرة مجانين في ثلاثة أجيال، وأمها مجنونة وسكيرة. تدرَّج ظهورها في الرواية منذ مهاجمة غامضة على ريتشارد مايسون، أخيها غير الشقيق، وبعض الصرخات القوية التي سُمعت في القصر كما تذكر جين إير، ساردة الرواية. ثم تأكد وجودها بظهور غريب لها قبل الزواج المزمع عقده بين جين وروتشيستر حين تراءت لجين في غرفتها قبيل طلوع الصبح، وكان وصف جين لها فظيعا وبشعا، ومزق ذلك الشبح المخيف خمار عرسها، لكن روتشيستر حاول تكذيب ما حصل ووعزه إلى تخاريف ومخاوف وكوابيس وأن لا بد التي فعلتها كانت إحدى الخادمات. 

*

لم يكن لبيرتا صوتا سرديا في رواية جين إير، فلم تمنحها شارلوت أي فرصة للدفاع عن نفسها، أو تمكنها من إسماع صوتها، وبقيت في كل مراحل الرواية مقصيّة ومهمَّشة وليس لها أي صوت، في الوقت الذي كان لغريمها، روتشيستر، المساحة الكاملة لحكي ما حدث له مع زوجته وإلقاء اللائمة عليها وحدها. وصوِّرت بيرتا في حالة أقرب ما تكون إلى الهمجية وجُنَّت فاقدة عقلها ومحاولةً الانتقام من زوجها روتشيستر دون أن تفسح شارلوت المجالَ لبيرتا الرد على روتشيستر الذي اكتفت بشهادته عنها. 

كان مصير بيرتا هو الانتحار وإحراق قصر ثورنفيلد قبل ذلك، فهي تبقى في الرواية مجنونة محبوسة ومهمشة وتعامل مثل حيوان أو أقل، بل وتكون نهايتها هي بداية سعادة جين بزواجها روتشيستر التي كانت بيرتا عائقا أمامه لكونها زوجته التي حبسها في بيته مخفيًا إياها عن الأبصار والأسماع. 

فحينما كانت تتّرقي فيه حياة وذات جين إير كانت بيرتا تنحدر حياةً وذاتًا لتصل في النهاية إلى القدر المحتوم، القدر الذي كان أشبه بوصفة تكميلية تجميلية داخل العمل وأحداثه دون أن يكون له وزن أو قدر فلم يؤبه لها في النص، ولم تظهر إلا لإكمال الصورة الشيطانية العنيفة التي رُسمت لها وحبست فيها. لقد سلب روتشيستر بيرتا من حياتها وأتى بها إلى لندن آخذا ثروتها ومسيئا معاملتها وحابسا إياها في الأخير لتعيش غربة مضاعفة تنتهي بالانحدار إلى الجنون التام والبهيمية وأخيرا الموت. وفي الوقت الذي سلبها روتشيستر كل شيء فقد سلبتها شارلوت صوتها السردي وتركتها حبيسة الصفحات حتى حررتها جين ريس. 


صراع الأصوات السردية 


لم تُرد جين ريس الدفاع عن أنطوانيت/ بيرتا أو إدوارد روتشيستر بل ما فعلته هو إفساح المجال لكليهما في تولي مهمة سرد القصة، قصتهما، دون أن يكون لها رأي خاص أو نظرة متحيِّزة تجاه أي من الاثنين، وتُرك الأمر للقارئ لمعرفة القصة ومن فيهما الجاني أو الضحية، وهنا يكمن الرد على رواية شارلوت التي سلبت صوت بيرتا السردي ومنحته روتشيستر الفرصة وحده ليتكلم ويكيل التهم إلى خصمه دون أن ينال الخصم هو الآخر فرصة الرد على تهم خصمه. إنَّ تعددية الصوت السردي في جين ريس يأخذ العمل إلى إلى حقل آخر من الصراعات الاستعمارية (المُستعمِر والمُستعمَر) والانتماء والاغتراب وتشكل الهُوية وصراعاتها الذاتية والغيرية، لذا فهذا النص من النصوص المهمة في دراسات ما بعد الاستعمار الذي ذاع صيتها في القرن الماضي وكان لهذه الرواية حضورها المميز في هذه الحقل الدراسي الذي يمثل صراع السرد فيها صراعًا أكبر بين التابع والمتبوع وكيف تؤثر الخلفية الاستعمارية في صوت الكتابة وفكر الرواية، هذا التأثير الذي كانت جين ريس واعية له وسعت إلى إشراع الباب أمام روتشيستر وأنطوانيت ليعرضا القصة دون تدخل أو إسكات أو إخفاء للحقائق أو تحيُّز مُسبق لطرف دون آخر. 

لكن قبل ذلك فثمة سؤال يُطرح هل كانت شارلوت برونتي واعيةً بإقصائها الآخر وتهميشه في نصها أو أن الأمر محض حبكة روائية صادفَ لسوء الحظ أن تقع عقدة الأحداث في بيرتا الجامايكيّة؟

يعود تاريخ بدايات الاستعمار والسيطرة الإنجليزية والإسبانية لجزر الهند الغربية منذ منتصف الثاني للقرن الخامس عشر ثم أصبحت الكثير من تلك الجزر منها جامايكا والدومينيكان جزءًا المقاطعات البريطانية التابعة للمملكة المتحدة منذ منتصف القرن السادس عشر. لذا فمن المستبعد أن يكون اختيار شارلوت -مع كل هذا الإرث الاستعماري التاريخي لبلدها في تلك الجزر النائية والقصيّة في الجانب الآخر من المحيط الأطلسي- اختيارًا عبثيًا أو غير مدروسًا فالتعامل مع الآخر البعيد عن أرضه بتلك القسوة والوحشية والحبس ستكون له تبعاته القانونية فيما لو كانت بيرتا إنجليزية أو حتى أوروبية، لكن الأمر مختلف تمامًا مع كونها غريبة في أرض لا تنتمي لها، بلا أهل أو أصل، لذا فإنَّ كل قيمتها القانونية في إنجلترا هو في كونها زوجة إنجليزيّ، أي تابعة لزوجها ولا تأثير أكبر لها وإلا لما تجرأ روتشيستر على هذا الفعل. يكمن هنا الشطر الأول الذي يبدو هو ما أثار حفيظة جين ريس ودفعها إلى اتخاذ موقف عنيف من الرواية، والشطر الآخر هو ذلك الجنون والنفسيّة المتوحشة والصفات البهيمية التي خلعتها شارلوت على بيرتا، فهذا المصير المجنون هو مصير ليس مصير بيرتا بل مصير الآخر الذي لم تهذِّبه الحضارة والمدنيّة بعد، وتلك النفسية المتوحشة هي نفسية الإنسان البدائي الذي استعمره الأبيض وامتهنه وصيَّره عبدًا له، ولم يكُ له أن يكشف عن هذه النفس المتوحشة لولا السلوكيات البهيمية التي يستطيع من خلالها أن يقرر الأبيض درجة تحضُّره ومستواه العقلي وقابلية تهذيبه. رأت جين ريس في رواية شارلوت كل هذا، لكنها لم ترها تهمة أو سمة تخص بيرتا وحدها، بل تخص سكان الهند الغربية، وفي الأخير تخصها هي، نفسها، التي رأت في نفسها بيرتا، لا ليست بيرتا، لسان حالها يقول، بل هي أنطوانيت، وإن سلْبَها صوتها وذاتها وثروتها وأرضها وحياتها لا يمكن أن يكتمل دون أن تُسلب اسمها، فالاسم هو ما يُعرَّف به الإنسان، ووقتما تغيَّر اسمه تغيَّر رسمه. فقد أعادت ريس إلى بيرتا هُويتها القديمة، الأصلية التي لا بد أن تعرف بها بعيدًا عن الرواية الآخر "الزاعم بفوقيته"، أن يُعاد لتلك المرأة المحبوسة كاملُ ذاتها وهُويتها، أن تعودَ بيرتا إلى أنطوانيت المرأة الجامايكية، الإنسان، لا الآخر التابع البهيمي المحبوس. 


أنطوانيت تروي وروتشيستر يرد  


تتوزع رواية بحر سارغاسو الواسع في ثلاثة أقسام، اثنان منها لها الحصة الأكبر في الرواية يسرد القسم الأول أنطوانيت بدايات حياتها وعلاقتها مع أمها في جامايكا ومحيطها والثاني خاص بروتشيستر الذي يتحدث عن قدومه إلى جامايكا من أجل زواج أنطوانيت مايسون ثم سنواته اللاحقة معها في هذه الجزيرة قبل أن يقرر العودة إلى إنجلترا، والقسم الأخير يعود الصوت لأنطوانيت التي تتحدث عن حالها في قصر ثورنفيلد ونهاية حياتها التي كانت شارلوت قد اختارت أن تكون في روايتها مأساوية بحرق أنطوانيت للقصر وانتحارها. 

تبدأ رواية بحر سارغاسو بسرد بضمير المتكلم على لسان الصغيرة أنطوانيت التي تعيش مع أمها في جزيرة جامايكا لكن هذه الحياة مضطربة وعنيفة ولا يوجد فيها التئام كامل مع المحيط الذي كره الأم والبنت كونهما من سلالة المستعمرين وإن كانت الأم والبنت خلاسيتين تنتميان إلى هذه الأرض، لذا فقد بدأت رحلة التشتت والضياع بعيدًا عن الذات وعدم التشكل للهُوية والانتماء لدى الصغيرة مبكرًا وفاقم الأمر ما كانت تعاني منه الأم من كراهية الآخرين لها، ووفاة زوجها الذي لا ندري متى حصل لكنه كان كافيًا ليجعل من حياة الصغيرة أنطوانيت مع أمها حياة مضطربة فالأم التي سرعان ما بدأت تحاول الانعزال والابتعاد عن ابنتها، وحتى بعد زواجها مايسون ثم مهاجمة السكان المحليين لمنزلهم وقتل ابنها الصغير، فقد انحدر حالها كثيرًا ما بين هذه العزلة والكراهية والخوف وإدمان الرَّم. أما أنطوانيت فهي الأخرى فقد أُقصيت بعيدًا عن أمها بطلب من الأخيرة وعاشت في دير. هكذا لم يكن لأنطوانيت هُوية تشعر بها حتى بتقدُّمها في السن، وكان الاغتراب عن الذات متشكِّلًا بسوء العلاقة مع الأم وتلك الكراهية التي تشعر أن الآخرين يكنونها لها، ولم ينتهِ الأمر هنا لكنه ازداد أكثر بعد زواج روتشيستر الذي حدث سريعًا وأملت أن تجد فيه نجاتها أو حتى خلاصها لكنه كان مرحلة ختامية من الاضطراب والتشتت العقلي. 

يبدأ بعد روتشيستر بالسرد وهو العارف تمام المعرفة أن قدومه إلى جامايكا وزواجه أنطوانيت هو بترتيب من والده وأخيه ومايسون لأجل الثروة التي ستحصل عليها أنطوانيت من السيد مايسون بعد زواجهما، لذا فإن هذا الزواج لم يكن يُشكل لديه إلا حاجة ملحَّة حتى لا يعيش حياة بلا ثراء. وفي الوقت الذي بدا على أنطوانيت أمارات الرفض بل حتى تصريحها بالرفض فقد أقنعها بقبول الزواج. يبدو روتشيستر هو الآخر في ضياع أو بحث عن حياة مستقرة لكنه واعٍ أكثر من أنطوانيت بحقيقة ما يُريد، لذا فلم يُكوِّن أي عاطفة حقيقية أو حب تجاه الأخيرة التي سريعًا ما شعرَ تجاهها بمشاعر غير وديّة ثم عرف عبر دانيال كوسوي، الذي زعم أنه ابن غير شرعي لكوسوي والد أنطوانيت، أنَّ من تزوجها وأمها وأخيها مصابون بالجنون ولوثة العقل وأنه قد خُدع بهذا الزواج. يظن روتشيستر نفسه ضحية مؤامرة حيكت ضده اشترك فيها والده وأخوه ومايسون لزواج أنطوانيت، وإخفائهم عنه حقيقتها المجنونة. تُعلِّم هذه المعرفة المتأخرة انحدار العلاقة بين الزوجين، وتتفاقم بمرور الوقت، يصبح فيها روتشيستر جلادًا عبر تجاهله أو قلة اكتراثه بأنطوانيت التي يُشرع عملية سلبها هُويتها والإمعان في زيادة ضياعها بتسميتها بيرتا، هذا السلب للاسم يلقى ردًا رافضًا من أنطوانيت التي تعاقر شراب الرم بكثرة وتنعزل عن روتشيستر، الذي يخونها مع خادمة وتعرف بذلك ويسعى روتشيستر لعدم إخفاء خيانته لكي يزداد وضها أنطوانيت/ بيرتا سوءًا، وفي محاولة حثيثية لكسب حبه، الحب القليل الذي محضها إياه، لكنه يرفض أن يمنحها حتى هذا الحب القليل، ليتحول كل شيء حول أنطوانيت كارهًا لها ونافرًا منها حتى من ظنته خلاصها وملجأ الأخير. ينتهي هذا الصراع بين الاثنين إلى ترك أو فرار روتشيستر من جامايكا وأخذه بيرتا معه إلى إنجلترا وحبسها في قصر ثورنفيلد.            


من الجاني، ومن الضحية؟ 


في خضمِّ هذا الصراع بين الاثنين، دون إغفال الماضي الشخصي لكل منهما تبدو عملية الفصل بينهما ومعرفة الجاني من الضحية أمرًا يزداد صعوبة ويتعقَّد بكشف أوراق الاثنين. فأنطوانيت تعاني منذ طفولتها في حياة مضطربة وعائلة ممزقة ومجتمع رافض وهُوية غير واضحة الملامح وتتزوج رجلا جاء إليها من أجل ثروتها لا أكثر بتخطيط من والده الذي قرر حرمانه من ثروته وسرعان ما يعرف أن حقيقة زوجته أو ما يشاع عنها هو الجنون الضارب في أسرتها فيجد نفسه قد وقع ضحية من طرفين لكنَّ هذا لا يرفع عنه مسؤولية الشروع في زواج كان يعرف منذ البداية أنه بُني لأجل المصلحة لا أكثر لكنه لم يستطع أن يتحمل أن يُخدع من الطرفين، ففي الوقت الذي كان أحد الطرفين بعيدًا عن انتقامه فقد كان الطرف الآخر والأضعف قريبًا والانتقام منه في متناول اليد. لكن هذا الطرف الأضعف، هذا الآخر ليس بالإنسان السوي الكامل، فهو يعيش صراعاته الداخلية التي تعزله عن العالم وعن زوجه، ويبدو أن انحدارها في بئر الجنون والاضطراب النفسي لا محالة. وتتبادر نيَّات السوء لدى روتشيستر إلى ظهور مبكرًا مما يعجل من انحدار زوجته التي بدأها بسلبها اسمها، ثم الإساءة في المعاملة وخيانتها دون محاولة إخفاء ذلك على العكس كشفه للأمر واعترافه بعد حبه لها وأنه لن يمنحها حبه ثم كراهيته للمكان الذي يعيشان فيه. ينتقل هذا الاضطراب السلوكي والنفسي من أنطوانيت إلى روتشيستر لكن الأخير يستقبله بكامل وعيه وإرداته عكس الأولى التي تبدو أنها واقعة منذ طفولتها في شِركِ الحياة المشؤومة، فقد كانت بحاجة إلى دفء الأسرة وحب الآخر لها، لذا فقد طلبت من روتشيستر أن يحبها وسعت لنيل المساعدة من العجوز كريستوفن لتجعل زوجها بسحر الأوبيا  يحبها. هل كانت تبحث أنطوانيت عن الحب فعلًا؟ إنَّ الإجابة عن هذا السؤال مبهمة لأن أنطوانيت ذات شخصية غامضية ومتقلبة ومضطربة فليس بالضرورة أن ينقذها الحب من كل هذا الضياع لكنه فقدانه بالتأكيد سيُشرف على نهايتها التي عجَّل فيها روتشيستر بأخذها من موطنها في سلب آخر لوهيتها بعد اسمها ثم حبسها في ضربة قاضية يُنهي بها سلامتها العقلية ويختم على جنونها.  

إنَّ أنطوانيت ضحية حياة أكثر مما هي ضحية شخص، ضحية تاريخ استعمار لجزر الهند الغريبة، ومعاملة الآخر المختلفة معاملة دونية، ضحية البيئة التي رفضت اندماجها ورأت فيها صرصورًا أبيضَ وأنها لا تنتمي إلى هذه الأرض وبذات الوقت لا تشعر بالانتماء إلى أرض الآخر ومرفوضة منه كذلك، ضحية لحياة أسرتها المضطربة وعلاقتها السيئة مع أمها التي تركتها لتنحدر إلى جنون وإدمان الرم، ضحية مايسون ووالد روتشيستر اللذين عملا على تزويجها روتشيستر، ضحية روتشيستر الذي تزوجها لأجل الثلاثين ألف باوند ثم أساء معاشرتها وأخذها معه إلى إنجلترا لتعيش حتى نهايتها المأساوية. 

لقد أجادت ريس في رسم صورة كاملة لحياة أنطوانيت ورفع الستار عن الخلفية التي شكلت حياة بطلتها دون أن تقف معها علانية أو تهاجم خصمها صراحة، عرضت الأمر والحقيقة من كل الزوايا المحتملة، فهل ثمة حقيقة واحدة يمكن العودة إليها والاحتكام إليها أو أن الحقيقة التي لفَّت صوت روتشيستر وأنطوانيت ستبقى متنقلة بينهما إلى الأبد؟   


المراجع والمصادر:

أدباء حياتهم وأعمالهم: جين ريس، ترجمة مؤمن الوزان.

جين إير - شارلوت برونتي، ترجمة منير بعلبكي.

بحر سارغاسو الواسع - ترجمة فلاح رحيم


الاثنين، 5 أبريل 2021

دفاعًا عن أوديسيوس

 (المكر السيئ والخيانة الزوجية)


ثمة تُهمتان تُثاران أحيانا ضدَّ أوديسيوس مفاد الأولى هو خداعه ومكر السوء وحيلته التي يستخدمها في الشر، والثانية في كونه خائنًا لزوجته عكس بينيلوبي التي بقيت مخلصة له رغم سنوات بُعده عنها. 

أما التهمة الأولى فمصدرها الفهم الخطأ لعبارات الحيل التي يصف بها هوميروس بطله كـ الواسع الحيل  والكثير الحيل وما شابه من العبارات التي أراد بها هوميروس مدح بطله لا ذمه، وهذا ما يعضده عبارات وصفية أخرى مثل ناهب المدن والمحارب القديم فقد قيلت في مقام مدح لا ذم والسياق يؤكد هذا. وكثير من هذه العبارات كما أشار بحث باري اللغوي أنَّ أوديسيوس صاغها لكي تلائم الأوزان الشعرية وقوافي الأبيات بما يتوافق مع الوزن الشعري السداسي الذي استخدمه في نظم ملحمتيه. إذن فبعيدًا عن مدح هوميروس لأوديسيوس بوصفه كثير الحيل فإن كثيرًا من هذه الأوصاف هي مصاغة لإقامة الوزن الشعري أكثر مما هي في الأساس مدح أو ذم أوديسيوس. ونأتي الآن لأخذ أمثلة من هذه الحيل التي قد تُؤوَّل ذمًا بحق أوديسيوس ابتداءً بحيلة الحصان الخشبي الشهيرة. إنَّ حيلة الحصان الخشبي وإن كانت قد جلبت الهلاك والبلاء للطرواديين والدمار لمدينة طروادة الحصينة فإنَّها خَدعة حربية لا يمكن ذمَّها لأن في الحرب كل شيء متاح ما دامت الغاية هزيمة الطرف المقابل وهذا ما حدث في حرب طروادة وما جلبه حصان أوديسيوس من نصر للآخيين وإنهاء سنوات الحرب والحصار العشر. ويمكن أن يُحاكم أوديسيوس في اشتراكه بالحرب ضد الطرواديين لكنَّ الحرب في الأساس لم يشنها الآخيون -ظاهريا- على الطرواديين بدون سبب بل كانت بسبب اختطاف الأمير الطروادي، باريس ابن بريام، لهيلين زوجة ملك إسبارطة مينيلاوس. لذا فإنَّ الطرواديين هم من كانوا البادئين بالاعتداء وهم سبب الحرب التي نشبت بينهما. والأمر الآخر فإنَّ أوديسيوس ولكونه ملك إيثاكا فهو مرتبط بمواثيق وعهود تجبره على الالتزام بالإبحار مع الملك أجاممنون نحو طروادة. نتيجة لكل هذا فلا يمكن بحال من الأحوال أن نأخذ حيلة حصان طروادة من منظور المكر الذي يسيء لأوديسيوس. أما الحيلة الثانية المشهورة لأوديسيوس فهي التي كانت مع بولوفيموس في كهفه، وكيف خدعه أوديسيوس بشرب الخمر ثم فقأ عينه أثناء نومه. وهذه الحيلة لم يلجأ إليها أوديسيوس اعتداءً على السيكلوب بل هي وسيلة لإنقاذه نفسه ورفاقه من قبضة السيكلوب الآكل للحم البشر والذي كان قد بدأ سلفًا بأكل عددٍ من رفاقه وتوعَّد بأكل البقية وفي آخرهم أوديسيوس إكرامًا له على الخمر التي سقاها إياه. وهنا أيضًا لا يمكن أن تُؤوَّل الحيلة بالمكر السيئ ضد أوديسيوس فقد التجأ إليها دفاعًا عن النفس لا ظلمًا أو تجاوزًا على حقوق الآخر. أما الحيلة الثالثة الشهيرة فهو حيلة التحول إلى شيخ من أجل الانتقام من الخطَّاب التي تنتهي بالمذبحة في ساحة بيته. وهذه الحيلة لا تخص أوديسيوس وحده ولا يستطيع بمفرده أن يقوم بها لكنَّها أتت بفضل الإلهة أثينا وتدبيرها فهي حيلة مشتركة ابتدأتها أثينا ثم أتى الدور على بينيلوبي التي أعلنت مسابقة القوس والفؤوس الاثنتي عشرة وأكملها أوديسيوس بالانتقام. وكما هو واضح فإنَّ  الحيلة هي أكثر الحيل التي لا يمكن أن تُؤول بحال من الأحوال سوءًا بحق أوديسيوس فما فعله كان بدافع أخذ الثأر ممن أهان شرفه ودنَّس بيته واستنزف خيراته عدوانًا وضايق زوجته طالبًا منها الزواج وتآمر على قتل ابنه. 

إنَّ سمة الحيلة والمكر عند أوديسيوس هي ممزوجة في طباعه ولا يعني أنَّه لا يُخطئ أو كل ما يقوم به مستعينًا بدهائه ومكره هو صواب، فنرى توبيخ آخيلوس له حين أتاه أوديسيوس رسولا من أجاممنون يسترضيه من أجل العودة إلى الحرب لكن آخيلوس يأبى ويصف أوديسيوس بالرجل الذي يقول شيئًا ويخفي شيئًا آخر، وأنَّه -أي آخيلوس- يفضل الموت على هذا. تكشف هذه الكلمات والاتهام لأوديسيوس عن صيت شائع عن أوديسيوس بأنه رجل ليس بالسهل الواضح ولا الغرِّ اليسير خداعه لكنه داهية ومحنِّك وصاحب حيلة وخديعة يعرف كيف يُنجي نفسه من المخاطر بفضل ذكائه وليس هو الذي يقع في شر أعماله ومكر السوء. 


أما التهمة الأخرى التي توجَّه إلى أوديسيوس بأنه خائن لزوجته وبكونه شريك فراش لأخريات عكس بينيلوبي، الزوجة الوفيَّة، فهذا ما يمكن تفنيده من الأوديسة نفسها التي تذكره شريكًا لفراش سيرسي وكاليبسو. 

إنَّ أول ذكر لعلاقة أوديسيوس مع المرأة يبدأ في الحلقة الخامسة مع كاليبسو لكنَّ هذه العلاقة ومكثه معها كانت غصبًا ورغم إرادته وعكس رغبته، وحال أوديسيوس خلال هذه السنوات السبع سيئة ملئها الأسى والدموع على إيثاكا المُبعدَ عنها. فيذكر هوميروس (ترجمة أمين سلامة): 

  "… فانطلقت الحورية الجليلة إلى أوديسيوس العظيم القلب، بعد أن علمت برسالة زيوس فوجدت أوديسيوس جالسًا على الشاطئ، يذرف الدموع من عينيه بلا انقطاع، وقد أخذت حياته تذوي، إذ كان يتحرق شوقا الرجوع إلى وطنه، لأن الحورية، لم تكن بحال من الأحوال، موضع غبطة ناظريه. وكان عليه أن ينام الليل إلى جوارها في الكهوف الفسيحة رغمًا عنه، وضد إرادته، أما في النهار فكان يجلس فوق الصخور والرمال، معذبًا نفسه بالعبرات والأنين والهموم، وكان يتطلع إلى البحر الصاخب، ويتحسر ذارفًا الدموع". 

لا تحتاج أبيات هوميروس إلى شرحٍ وتعليق فهي دالة على ذاتها بذاتها بيانًا وإفصاحًا عن حقيقة العلاقة التي ربطت الاثنين. ويأتي الدليل الآخر عن حال أوديسيوس ورغبته بترك كاليبسو على لسان محتجزته إذ تقول (ترجمة أمين سلامة):

"… إلا إن رغبةً جامحة ملحة تتملكك، لرؤية زوجتك التي تتوق إليها يومًا بعد يوم. وإنني لأعلن عن نفسي، أنني لستُ بحال ما، دونها جمالا ولا قواما، إذ لا يليق قط أن تتحدى نساء البشر الخالدات في الهيئة والفتنة". 


توضِّح هذه الأبيات ضمنيًا عن تفضيل أوديسيوس لبينيلوبي الفانية على كاليبسو الإلهة، وهو ليس بتفضيل عادي إذا عرفنا أنَّها رغم جمالها وكونها من الخالدات فقد عرضت عليه الخلود والشباب الأبدي لتقوِّي من موقفها وتستميلها إليه لكنَّه يرفض هذا العرض المغري ويختار الفراق بعد أن أتاحت له الآلهة ترك كاليبسو. ويؤكد أوديسيوس هذا الأمر بعدما يعود إلى إيثاكا وينتقم من الخطَّاب ثم يلتقي بزوجته ويقص عليها ما حدث له خلال رحلة العودة فيقول بشأن كاليبسو (ترجمتي):

 

"… وعدته أن تجعله خالدًا، لا يشيخ طوال عمره، 

نعم، لكنَّها قط لم تربح قلبه الذي بين جوانحه، إطلاقا…" 23:380


قد لا يكون من السليم الأخذ بكلام أوديسيوس عن نفسه لكن ثمة ما يقوي هذه الاعتراف ويجعلنا نأخذ به، وهو أنَّ هوميروس لم يجعل الكلام على لسان أوديسيوس بصيغة الخطاب المباشر في زمن الحاضر بل جعله خطابًا بصيغة الضمير الثالث في الزمن الماضي وعلى لسان راوٍ عليم بأسلوب خطاب حر غير مباشر، ومن غير المستبعد أنَّها التفاتة ضمنية داعمة من هوميروس لموقف بطله في الإخلاص لزوجته. 


أما العلاقة الثانية التي كان فيها أوديسيوس شريك الفراش فكانت مع سيرسي، لكن هذا الرقاد لم يكن برغبة أوديسيوس بل أمرٌ من الآلهة ولأجل غاية محددة تذكرها أبيات هوميروس على لسان رسول الآلهة هيرمس (ترجمة أمين سلامة): 

"… وتأمرك بالرقاد معها بعد ذلك، إياك أن ترفض الرقاد في مخدع الربة، لكي تطلق سراح زملائك، وتقدم لك الضيافة". 


لذا فلا يمكن بحال من الأحوال مجددًا أن نأخذ هذا الرقاد مع سيرسي على أنَّه خيانة لبينيلوبي أكثر من كونه امتثالا لأمر الآلهة ولتخليص زملائه وإبطال مفعول السحر الذي حوَّلهم إلى خنازير في حظيرة سيرسي. 


أما الحالة الأخيرة التي تضع أوديسيوس في اختبار مع عالم المرأة وإتاحة إمكانية تفضيل إحداهن على بينيلوبي كانت مع الفياكيين حين يعرض عليه ملكهم ألكينوس أن يتزوج ابنته ناوسيكا المشرفة على الزواج فيقول (ترجمة أمين سلامة): 

"وبحق أبينا زيوس، وأثينا، وأبولو، إنني لأتمنى أنَّ مثلك أيها الرجل العظيم، الذي يعدلني عقلا، يتخذ ابنتي زوجةً، وتُسمى ابني، وتبقى هنا ولو طاب لك البقاء هنا لأعطيتك بيتًا وممتلكات؛ ولكن لن يحتفظ بك أحد من الفياكيين ضد رغبتك…


فهل ثمة عرض مغرٍ لأوديسيوس أكثر إغراءً من أن يتزوج ابنة الملك ويحظى بكل هذا الفضل والتكريم لكنه المحب لزوجته والتائق إلى إيثاكا يرفض هذا العرض وإن لم يرفضه صريحًا لكنه شكر عرض الملك بدعاءٍ إلى زيوس بأن يصل إلى وطنه إيثاكا.       

بعد كل هذه الأمثلة من متن الأوديسة فما من حجة بعد على اتهام أوديسيوس سواء بتأويل كونه الكثير حيل بالسوء أو اتهامه بخيانة زوجته على النقيض من وفائها له، وأبيات هوميروس هي الحكم والقول الفصل. 

ما بين آخيلوس وهيكتور في الإلياذة

 آخيلوس الصنديد الباكي 


إنْ قلنا إنَّ ملحمة الإلياذة كتبت في مجد آخيلوس لما جانبنا الصواب، فهو أعظم مقاتلي زمانه، وأشهر محاربي حرب طروادة، حبيب الآلهة وابن حورية البحر ثيتيس، مفرِّق الجماعات والموت الزؤام ومُجندل الأبطال في سوح الوغى، سريع القدمين الذي بانسحابه رجحت كفّة الطرواديين وبعودته رجحت كفّة مقاتلي الآخيين مجددًا. مجَّده هوميروس وأطراه ومدحه وجعل زيوس، كبير الآلهة، يقف في صفه وعلى يديه عرف الطرواديون الهزيمة النكراء والميتة المذلة لأميرهم وأقوى رجالهم وأشهر أبطالهم هيكتور مروض الخيول، وعند أقدامه ركع ملك طروادة عندما قدّم فدية جثمان ابنه الذي أخذه آخيلوس متوعدًا إياه بأن تنهش جثته الكلاب ولن يحظى بتكريم مشرِّف بعد موته. يتجاوز حضور ملك الميرميدونيين الجميعَ حتى الملك أجاممنون الذي يبدو قُبالته صغيرًا. 

تبتدئ الملحمة في كتابها بالحديث عن غضبة آخيلوس، التي لعنت الآخيين وسببت لهم الخسائر وجعلت مروضي الخيول يثخنون فيهم قتلًا وتدميرًا حتى حاصروهم في معسكراتهم وأماكن تجمعهم القريبة من سفنهم المجوفة والبحر. وبغضبة آخيلوس ينسحب عن الحرب، شاعرًا بالحزن والأسى على شرفه المهان، وحتى عندما أقرَّ أجاممنون بخطأه وطلب رضاه وأرسل له الرُسل يسترضيه ويلتمس عنده المعذرة ويعوضه عما أخذ منه فإنه  يأبى ويرفض، وما كان له أن يعود للحرب إلا بسبب موت صديقه باتروكلوس الذي سمح له آخيلوس بعد أن منحه عدته الخاصة بالقتال، ليغضب آخيلوس غضبة الانتقام التي ثأر فيها من قاتل صديقه العزيز وسالب أسلحته، هيكتور، في واحد من أجلى المشاهد التي صورها هوميروس وأروعها في الملحمة، وهي تسرد قصة القتال بين أشهر مقاتليْـن في الحرب، إنها الذروة التي حُبستْ فيها أنفاس الطرواديين لوحدهم لأن آخيلوس كان لا يُقهر ولا ترهبه مجاميع الرجال ولا أسلحتهم وطارد الطرواديين كالأسد الذي يلاحق قطيع غزلان مُشرِّدًا إياهم إلى ما وراء أسوار مدينتهم الحصينة والشاهقة.  

لكن هذه الصورة البطولية الخارقة لنظير الآلهة في الشجاعة لم تكتمل إذ "يُخرِّبها" هوميروس بما لا يتوافق مع سمات الشخصية المقدامة التي تقود الأبطال ولا تتوانى عن جعل أبطال الأعداء يجثون على ركبهم قُبالته طالبين الرحمة. فبعد أن يسلب أجاممنون آخيلوسَ محظيته فإن الأخير بعد أن يغضب منه وينوي قتله ثم يتراجع بمشورة الإلهة أثينا وينسحب إلى خيمته فإنه يبكي على شرفه المهان، ويظهر في حال ضعيفة وهيئة تتنافى كل النفي مع مكانته قائدًا وملكا للميرميدونيين وأفضل وأشهر مقاتلي عصره حتى تخرج أمه ثيتيس من أعماق لتواسيه! لكن هوميروس لا يُبقي آخيلوس في حالة ثابتة تتلائم ما فيه من سمات البطولة رغم أنه محور الإلياذة وغضبته هي التي تؤرجح كفتي الحرب ما بين الآخيين والطرواديين. ويبدو أن هوميروس يركز على بكاء آخيلوس فيتكرر بكاؤه في ثلاثة مواضع: الأول ما ذُكر آنفا، والثاني وهو الأطول والأكثر مرارة وحرقة يسكب الدمع فيه مدرارًا على موت صديقه باتروكلوس الذي يُقتل في المعركة، والأخير عندما أتى بريام ليفدي جثة ابنه هيكتور فيبكي آخيلوس على والده -إذ يذكره بريام به ليستشفعه- وباتروكلوس. إن للبكاء لدى آخيلوس بدافعين الأول وهو الذي تعلوه سمة الضعف وعدم القدرة على الرد كما يريد، والآخر هو بدافع الحزن والأسى على فقدان من يحب، وهو بكاء على أعين الملأ فآخيلوس لا يبكي في الخفاء بل ويبكي معه الآخرون، إنه نوع من البكاء البطولي الذي يفخر به، وعلامة من علامات الحب التي يكنها لصديقه الذي مات. علاوة على ذلك فإن البكاء المقرون بالحزن العظيم لا يقلل منه على العكس تمامًا فهو يعزز من قدره مقاتلًا شجاعًا وصديقًا مخلصًا، وقبل كل شي إنسانًا بطباعٍ بشرية متعددة ومتباينة لا تنتفي مع شجاعته ولا تختفي خلف قناع زائف ولا تختبئ خلف ستار من ادعاءات كاذبة. إنها الصراحة والتوافق ما بين العالمين الداخلي والخارجي التي يجعل كل ما يقوم به مدعاة للإفصاح والإعلان دون تردد أو خوف أو التحفِّظ لأي اعتبارات. 













هيكتور أمير طروادة


من بين جميع أبطال حرب طروادة التي مالت فيها كفَّة أبطال الآخيين كثيرًا، يبرزُ في الجهة المقابلة هيكتور أمير مدينة طروادة ذات الأسوار الحصينة والبوابات العملاقة، مروّض الخيول الذي أثخن في الغزاة قتلًا وتدميرًا، وهو أشجع الرجال المؤيَّد بالآلهة والحكيم الرأي وسليل زيوس، ولولا آخيلوس وشجاعته المنقطعة النظير لكان لهيكتور رأي آخر في الحرب الطويلة الأمد إلا إن مشيئة الآلهة كانت لها فصل الخطاب في الأخير وتحديد هُوية المنتصر ثم تدمير المدينة التي استعصت على الغزاة عقودًا طويلة، مدينة الملك بريام. 

تبرز دوافع قتال الأمير هيكتور في الحرب لتكون الأكثر شرفًا من بين الجميع، وهو الوحيد الذي يبدو أنه يُقاتل لأهداف مشروعه وتحركه نوازع حكيمة لا يُمكن أن يُخالفه عليها إنسان. يُقاتل هيكتور دفاعًا عن مدينته طروادة، فهو إذن في مقام الدفاع عن الوطن والذود عن الحمى، ليس بغازٍ مغتصب ولا طامع سفَّاك للدماء يبحث عن السيطرة وتوسيع ممتلكاته وثرواته. وهو كذلك يقاتل دفاعًا عن عِرضه وأهله خاصة وشعبه عامة فقد اجتمعت له خاصيتين سيقاتل كل امرئ لأجلهما أحرَّ القتال وأشدَّه- الوطن والأهل. لنقف عند هيكتور البطل الشجاع والقائد المحنَّك والرجل الهمام الذي قضيته أعدل من قضايا الجميع وهو رغم يقينه بضعفه إذا ما قابل آخيلوس وهزيمته الموقَنة أمامه فهو حين آن أوان المواجهة الحقيقية مع آخيلوس، الذي كان يتميَّز من الغيظ وتتأجج في صدره نار الثأر والانتقام لباتروكلوس، فقد واجهه بشجاعة طلب منه أن يُكرم القاتلُ القتيلَ بتسليم جثمانه إلى جيشه وشعبه ليؤدوا مراسيم جنائزية تليق به لكن آخيلوس يرفض طلبه فلا اتفاق ولا عهود ولا مواثيق بينهما ويجيب آخيلوس: 


"أي هيكتور، أيها البائس الملعون، إياك أن تحدثني عن العهود

فكما لا يُوجد صدق في الوعود بين البشر والأسود 

وكما لا تكون للخراف والذئاب ذات الميول

فدائما ما يضمر كل منهم للآخر الشرور 

فهكذا نحن أنا وأنت، فلن يستطيع أحدنا أن يحب الآخر، 

ولن تكون بيننا عهود قبل أن يرتوي الإله آريس، 

ذلك المحارب العتيد بدم من يسقط أولا، فلتستجمع كل قواك القتالية، 

فهذا ما تحتاج الآن، تصرف بوصفك حامل رمح ماهر، 

ومحاربًا جريئًا، حقًا ليس لك مفر بعد الآن، 

فسوف تقضي عليك الإلهة باللاس أثينا 

في التو برمحي هذا، كما أنك ستدفع أيضا جزاء 

أحزاني على رفاقي الذي أرديتهم قتلى بحربتك العاصفة". 


كان هذا ردُّ آخيلوس على طلب هيكتور، والنهاية المعروفة المتمثلة بقتل هيكتور على يد آخيلوس سريع القدمين، والتمثيل بجثته قُبالة ناظر الطرواديين وملكهم بريام حيث دار بجثته التي ربطها بعربته حول أسوار طروادة ثم أخذها إلى معسكر الآخيين ليشبعَ نفسه بالانتقام العظيم ويبر بوعده بأن تنهش الكلاب جسد هيكتور إلا إن تدخل الإلهة يحول دون ذلك بقدوم بريام ليفدي جثمان ابنه هيكتور.      

إن كان آخيلوس قد بزَّ الجميع طرواديين وإغريق بالشجاعة وحسن التصرف في القتال ونيل مجد الآلهة وكبيرها زيوس في الحرب والقتل وجندلة الرجال أفرادًا وزرافات إلا أننا نقف بعد رفض آخيلوس العهد بينه وبين هيكتور قُبالة رجلين أحدهما همجي قتّال والآخر متحضِّر شجاع، لذا فقد بزَّ هيكتور الطروادي مروضُ الخيل آخيلوسَ الغازي ملك الميرميدونيين في أخلاق الحرب وسلوكيات المقاتليين الأكفَّاء، فقد عامله هيكتور وطلب منه تكريم القاتل لقتيله بعد الموت بدافعٍ من تحضُّر طروادي وتمدُّن لم يعرفه آخيلوس الذي أعمى الانتقام بصيرته وأغلقت شهوة الدم كل أبواب الإنسانية التي لا بد أن تكون قرينة الشجاعة والإقدام والرجولة التي يتمتع بها لكنه يأبى إلا أن يكون متوحشًا بربريًا تحت تأثير الرغبة بالثأر الذي ناله برمحه الدرداري المثقل بالبرونز، فيقول بعد أن طعن هيكتور بحَنجرته وطلب منه الأخير تسليم جثمانه مجددًا إلى أهله ويمنحه شرف حرق جثمانه يجيبه آخيلوس: 


"لا تستحلفني أيها الكلب بركبتيَّ أو بوالديَّ فليت غضبي 

وجنوني يأمراني بتمزيق جسدك، والتهام لحمك نيئًا، 

بسبب كل ما ارتكبتَ ضدي فليس هناك ما يدفع الكلاب عن رأسك، 

حتى لو أحضروا لي فدية لا تعدُّ ولا تحصى، عشرة أضعاف

أو عشرين ضعفًا ولو تعهدوا لي بأكثر من ذلك…"   


هكذا يستمر آخيلوس بتعنته ويصرَّ على عجرفته البربرية في حرب طروادة، تاركًا الأفضلية كاملة لهيكتور خلا تلك الخاصة بفنون الصِدام بين المقاتليْن وهمجية الانتقام. 


مذكرات عوليس

مذكرات عوليس   ١ أكتوبر . عوليس الرواية التي فصلت تاريخ الرواية إلى جزئين ما قبل عوليس وما بعد عوليس كما يصفها م...