الأربعاء، 26 مايو 2021

بساتين البصرة - منصورة عز الدين

(رحلة الأرواح في عالم الأحلام)


انطلاقا من مبدئه في أنَّ الفن لا بد أن تكون غايته في ذاته، فقد رفض أوسكار وايلد أن يحكم على العمل الفني في حمله أو أدائه لرسالة أخلاقية وقال في كتاب الناقد فنان إنه لا يوجد كتاب أخلاقي أو غير أخلاقي فإما أن يكون مكتوبًا جيدًا وإما سيئًا. يستحضرني هذا كثيرًا حينما أقرأ أي رواية فلا أبحث فيها عن أي رسائل أو غايات أخلاقية أو حتى توثيقية، أو لأقل إن ما يشدني إليه هو هل كُتب النصُّ الأدبي جيدًا؟ وكيف كُتبَ؟ وأين تكمن أصالته وكيف تلتقي بُنياته الداخلية مع بعضها، شخصياته ولغته وسرده؟ فإذا أجادَ الكاتب في لملمة وبناء عمله من الداخل تتجلى أهدافه الأخرى في متن عمله دون حاجته إلى الإشارة إليها بوضوح. فالوضوح الذي شدَّد عليه بعض الكتَّاب ليس في سرعة فهمه بل في الأصالة غير المعقَّدة ولا المتحذلقة التي يتفتَّح بها العمل بسلاسة ويعود في دورته لينغلقَ على نفسه، وما بين انفتاح وانغلاق تتبدل العوالم وتتغير الأماكن وتحضر شخصيات وتغيب إلى أن يصل العمل إلى خط النهاية. في بساتين البصرة لمنصورة نتلَّمس هذا لكن تفتُّح العمل وانغلاقه في دوراته المتعاقبة والمتغيّرة تتقارب إلى درجة التداخل وسرعان ما تبتعد إلى درجة التنافر لتعود فتجمعها الأحلام أو أرواح الأحلام العابرة لحدود الزمان والمكان والحقيقة والخيال والواقع والمحال. ما بين سرد قصصي تتناوب الشخصيات على أخذ زمام السرد الأجزاء التي تخصها، في طاولة سردية، كتلك التي كانت تجمع عليها شهرزاد أبطالها، ليقصوا نيابة عنها قصصهم وأخبارهم والأحداث التي عركتهم الحياةُ في أتونها في مدينة البصرة في القرن الأول الهجري إلى سرد بأسلوب ما بعد حداثي حيث سفر روحانيّ يبقى محط شكٍّ هل هو تناسخ هندوسي أو هلوسات مرضى نفسيين وحديث أمواتٍ، إلى سرد منظوري يتعدد الساردون في تناول القصة الواحدة من عدة زوايا لينوب هؤلاء الساردون عن السارد العليم، وإلى السرد المتموضع بؤريًا حيث السرد محدود بقدرة كل سارد بما يملكه من معرفة ويتمكن من رؤيته فهم يبقون محبوسون ضمن مدياتهم المراقبة والمتأملة والساردة لا يتجاوزونها. لكن هؤلاء الساردون لا يؤدون وظائفهم السردية في معزل عن طبيعة النص وبنيته وتوزعه إلى أجزاء متعددة قائمة بنفسها، لها مكانها وزمانها وشخصياتها وكل جزء من أجزاء النص مقسَّم إلى نصوص أخرى قائمة بذاتها هي الأخرى. ولا شك أن الكاتبة وخبرتها وممارستها لفن القصة القصيرة مكَّنها من بُنية هذه النصوص نصًا نصًا فتجمعه مثل حبَّات في سلك، ثم تجمع حبَّات السلك مع حبَّات أُخَر مختلفة الأحجام والألوان، ليكتمل في النهاية عِقد القصة لكن السلك هنا ليس ماديًا بل أثيرًا متخيلًا من عالم الأحلام. 

إنَّ الأحلام في النص تلعب دور الممر بين العوالم والشخصيات، ويقتحم الحلمُ الواقعَ، لنجدَ في الختام أنَّ النص بأكلمه قد يكون حِلمًا، فثمة تشابه خفي بين الشخصيات رغم اختلاف زمانها ومكانها، فنحن لا نتعرف على هشام خطَّاب تماما حتى يصبحَ يزيد بن أبيه، ولا نقف عند واصل بن عطاء حتى يتراءى لنا الزنديق، ولا تحكي لنا مجيبة قصتها حتى تحضر بيلا أو ميرفت أو أيًا ما يكون اسمها، يتعدى هذا التجاوز والتداخل ليصل إلى النبات فهل هو ياسمين أو بومباكس، وهل ما كتبه يزيد بن أبيه ومالك بن عدي وواصل بن عطاء ومجيبة مكتوب أصلًا أو أنه من تهيُّؤات هشام وولعه المشبوب بالكتب التراثية وبحثه الدائم عنها وعلاقته السيئة مع أمه وهجران أبيه لهما وعلاقته الغريبة مع أستاذه الزنديق الذي آثر عيشًا غامضًا؟ فنحن نعلم بإقرار هشام أن نصوص يزيد ومالك وواصل ومجيبة قد كتبها هو مستعينًا بما نسخه من فقرات من الأصل الذي امتلكه أستاذه وحفظه في ذهنه، وفي خضمِّ كل هذا التداخل والتلاعب يبزغ سؤال من كتب نصَّ ليلى؛ النص الوحيد الذي كتب بضمير الشخص الثالث، السارد العليم، فبدلًا من سماع صوتها سمعنا صوت ساردها، فهل ليلى حقًا أمٌّ لهشام أو أنها نسخة مستقبلية من مجيبة الأمر الذي يثيره قتل هشام لها، أفيكون قد انتقم من مجيبة بقتله ليلى ثم ابتعاده عن بيلا التي ربما يرى فيها ظلًا لمجيبة، كل هذا يقودنا إلى أنَّ يزيد ثم خَلَفَه أو يزيد نفسه في عالم جديد يمثلان الذَّكَر الكاره للمرأة والمنتقم من نوعهن بسبب خطأ امرأة ارتكتبه بحقه، وهنا لا بد من استحضار شهريار الموتور وانتقامه المَرَضَيّ من النساء. 

لا يجب أن نتعامل مع كل هذا التعقيد دون أن نضع احتمال تعاملنا مع النصِّ الحُلْميّ، وأن ما نقرأه ليس بالضرورة يُقصدُ به شيئًا أو يهدف للوصول إلى نقطة معينة أكثر من عبثية الحلم الذي يفقد الزمان سماته بالطول والقصر والسرعة والبطء ويفقد المكان حدوده وأبعاده، فالاقتراب والابتعاد والتغيّر والثبات والكبر والصغر والإدراك والالتباس والوضوح والغموض كلها تتمزج في بوتقة واحدة، لتصبح أي محاولة لفهم كنه هذا المزيج أو محاولة فصله ضربًا من الجنون فهو بمثابة أن تلبس الخيال ثياب الواقع وتتعامل مع غير الموجود كأنه موجود، وما هذه بطبيعة النص ولا بالطريقة المثالية للتعامل معه. 

لا يتحدث النص عن شخصيات بل عن أفكار تحضر في دنيا الأحلام، أفكار لأشخاص غير موجودين في عوالمهم التي يعيشون فيها، وربما تكون نسخهم الأصلية هي الموجودة فعلا لكن كيف السبيل إلى التيقن من هذا ونحن نعلم أن النص جزء من هشام أو يزيد الميْت، يزيد الذي هو ظلٌّ أو شخصٌ خلقه وَهْمُ فكرة ظنَّت من زياد بن أبيه، القائد الأموي ووالي البصرة، أنه يزيد بن أبيه. إنَّ الخيالية والحُلْمية مادة هذا النص وشخصياته وأفكاره، فليس ثمة مركزية في النص ولا حقيقة واحدة ولا عالم واحد ولا ذات واحدة، فالتعددية أو التشتتية هي التي تجعل النص يبقى دائرا في دوامات تتغيَّر بعد كل دورة فالنص يبدأ في نقطة واحد وينتهي في نقطة اثنان يبدأ منها وينتهي في نقطة واحد أو تبدو أنها النقطة واحد نفسها لكنها نقطة جديدة لها سياقاتها وعالمها، فيتركب النص عالمًا إثر عالم لكننا لسنا متأكدين من أن هذه العالم المُركَّب في النهاية لا يوجد إلا في حِلْم هشام.       


النص المتحرك


تطغى الحركية على النص، فلا يثبت في مكان أو زمان محددين أو يدور حول شخصية دون أخرى، فهو دائم التنقل حتى فيما يخص النص نفسه فهو يتوزع على نصوص متعددة وهذه النصوص هي الأخرى تتوزع على نصوص أخرى، وتستمر الحركية مما يجعل إمكانية تعقب النص ومآلاته ليس بالمهمة اليسيرة، ويأخذ من عالم الأحلام سمة اللا تموضع فهو يبدأ من نقطة مجهولة ولا ينتهي في نقطة معلومة بل ينطلق دون أن يعي القارئ أين وقف أو سيقف. فينسحب مصيرُ النص المجهول المتحرك على مصير الشخصيات جميعًا باستثناء ليلى ويزيد بن أبيه اللذين نعلم بموتهما لكن وكما كان موت يزيد بن أبيه ليس النهاية فلا شيء يُمكن أن يؤكد أن موت ليلى هو نهاية شخصها وتوقف حياتها عن الحركة. تشمل الحركية بُنية النص المتركِّبة من عوالم مكانية مختلفة التي تبدو وكأنها تجري في عوالم متوازية رغم الفارق الزمني الذي هو الآخر متغيّر من نص إلى آخر حتى ذلك الذي النص المتكون من نصوص داخلية فإن الزمن فيها متغير وليس واحدًا، فمثة حركية ما بين الزمن الحاضر إلى الماضي البعيد والقريب ومن الماضي إلى المستقبل ومن المستقبل إلى الماضي، حتى داخل الزمن الواحد فثمة تفاوت وليست جميعها في آن واحد أو متتابعة مباشرةً دون وجود فارق كبير، فتتداخل هذه العوالم الزمنية والمكانية فتضيع الشخصيات بين هذه العوالم وتفقد إحساسها بالذات والزمان والمكان هذا الفقدان الذي يمنعها من التيقُّن من كل شيء فتصبح مُركَّبة من عدة شخصيات في شخصية واحدة، فتنتقل من شخصية إلى أخرى، حتى تلك التي لا تعاني من انخراط في عالم الأحلام ولا الابتعاد عن الذات هي ذات شخصية متحركة لا تثبت على واحدة كما هو الحال مع ميرفت التي تحاول التشبًّه ببيلا تشبُّهًا يُقصيها عن ذاتها ويُقصي الآخر عنها. لم تتوقف الحركة حتى في التنقل المكاني لكل شخصية فهشام ينتقل من المنيا إلى القاهرة ثم يعود إلى المنيا، ومجيبة ترحل من البصرة إلى بادية السماوة حيث عاشت ردحًا من الزمن قبل أن ترحل إلى بغداد، الكل يتحرك ولا يستقر في الأحلام والروح والجسد على حدٍ سواء.    

تخرج هذه الحركية النصَّ بأكلمه من العاديّة والكلاسيكية إلى النص التجريبي الإبداعي بتقنياته السردية الحداثية وما بعد الحداثية والحفاظ على صلته مع أسلوب الرواية العربية الذي يعتمد على تعددية الرواة والأسانيد في السرد، فليس ثمة مركزية ولا منظور واحد بل ثمة صوت وحضور لكل الشخصيات الرئيسة (باستثناء ليلى التي حضرت لكن بضمير الشخص الثالث) وبجمع كل النصوص تشكَّل لدينا النص الروائي. يبقى السؤال عن اعتماد لغة ذات مستوى واحد تقريبًا رغم الاختلاف الزمني الكبير بين القرن الهجري الأول وزماننا الحاضر في الألفية الثالثة الميلادية التي يبدو التسويغ الوحيد المقبول لهذا التماثل اللغوي هو في كون نصوص البصرة لم تُنقل كما كُتبت في الأصل الذي احترقَ وانتهى إلى الأبد بل إنَّ من دوَّنها هو هشَّام سواء بما نسخه من فقرات أو تذكره، فهي نصوص ذات لغة تعود إلى لغة هشام لا الشخصيات في زمنها رغم محاولته الإبقاء على النَفَس والأسلوب اللغوي لذلك العصر لكنه لم ينجح إلا في الحفاظ على طبيعة النص الاعترافية والتقريرية لا أصالته اللغوية، وبهذا تُثار الشكوك حول السارد العليم الوحيد في الرواية في الجزء الخاص بليلى، الذي يبدو أنه هشام مما يدفع إلى الظن بأن هذا النص بأكمله مكتوب من هشام وكل شخصياته ليست إلا توهمات وخيالات في ذهن هشام الذي كتبهم وكتب نفسه.   



الأربعاء، 5 مايو 2021

الفرق بين القصة والحكاية


أثناء قراءتي لهذه القصص، خطرَ في ذهني سؤال عن الفرق ما بين القصة والحكاية، وهل هما واحد وأنا أقرأ في كتب عديدة وشروح فقد التمست نوعا من التداخل وعدم التفريق بينهما وكأنهما شيء واحد، كلمتان مترادفتان تشيران إلى جنس أدبي واحد تكون فيه واقعة واحدة رئيسة وشخصياتها هي الأساس الذي يُروى. 

تفرق معاجم اللغة العربية كلسان العرب لابن منظور وأساس البلاغة للزمخشري ومعجم العين للفراهيدي بينهما فتشير إلى الفعل حكي وحكي الحديث وحكاية من المحاكاة، ولا تسمى حكاية إلا بمحاكاة شيء آخر كما يذكر الشيخ محمد الحسن ولد الددو. أما قصَّ وقصة وقِصص فهي القصة المعروفة سواء في وقتهم أو وقتنا. ولم أجد فروقا أخرى مثرية في كتبهم تزيل هذا اللبس (ولعل هناك فروق ذكرت قد أعرفها مستقبلا). 

وأما مرحلة البحث الثانية فكانت في تقصي الآراء الحديثة والمعاصرة عن الفرق بين الحكاية والقصة وفرق دلالتهما وفنيّتهما وهل يصح أن نقول حكاية إطارية أم قصة إطارية أم الاثنين؟ سأورد أدناه آراءً مفرّقة قد بدت لي واضحة ويمكن الاعتماد عليها في تمييز الحكاية عن القصة.


- القصة جنس أدبي، خاضع للنقد.. الحكاية تكاد تكون موروثا شعبيا، تولع به القصاصون الشعبيون (القصخون)، ولا يندرج ضمن الأجناس الأدبية كونه لا يخضع لمعايير النقد.


- الحكاية هي الاحداث والوقائع مجردة من أي اشتغال فني، فإذا صغتها في تقنية سردية، وأسلوب أدبي صارت قصة. وهذا تفريق أكاديمي. 


- إن الفرق بينهما هو أن الحكاية ليست نتاج خيال فردي، بل هي ظاهرة اجتماعية على الرغم من أن الحكاية تحكمها شأنها شأن القصة مبادئ السرد، لهذا ميز النقاد على مر التاريخ بين الحكاية والقصة. بالإضافة، إلى أن النص الحكواتي يحافظ على ثباته عبر الزمن من خلال تناقله عبر الأجيال، لهذا نجد أن الحكايات ليس لها مؤلف معين. وهناك أيضا موضوعات الحكاية التي تدور حول مفاهيم أساسية مثل الوجود والإيمان والموت، وزمن الحكاية مختلف، وأخيرًا، يكون مضمون الحكاية اكثر صدقًا من القصة.


- إنَّ غرض الحكاية عرض مشكلة ومحاولة حلها التي قد تنجح أو تفشل.  أما القصة فهي تسعى إلى إقامة حجة إلى أن جميع مسارات حل المشكلة قد جُرِّبت، وأن مسار البطل قد يؤدي إلى النجاح أو الفشل. وفي السيناريو الناجح، فإن رسالة أحداث  القصة تدعم مسارا معينًا على وجه الخصوص، وفي السيناريو الفاشل فإن رسالة أحداث القصة تحمل رسالة مناقضة لذاك المسار المحدد على نحو مقصود. 

يمكن استخدام الحكاية في عرض فشل أو نجاح هذا المسار أو ذاك، أما استخدام القصة فهو في إثبات أن ذاك المسار هو الوحيد الفاشل أو الناجح. 

وخلاصة الفروق أن الحكايات لا تكون في الغالب قصصا معقدة وتنزع إلى أن تكون مباشرة وغير معقدة وذات توسع موضوعاتي محدود. وكلا القصة والحكاية صالحان وذوا بنيّة نافعة اعتمادًا على غرض المؤلف وتوضحيه في آلية حل المشكلة في حكاية أو إلى مناقشة حل مشكلة محددة في قصة. 


مما يمكن استنتاجه من كل هذه الفروق، أن الحكاية ذات هيكيلة واضحة ولا تحمل أي سمة من سمات التعقيد الفنية أو المرضوعية وهي بهذا أقرب ما تكون إلى الحكايات الشعبية التي تتسم بقصرها وغرضها المباشر، في حين أن القصة هي جنس أدبي أكثر تعقيدا له سماته الأسلوبية والموضوعية والفنية واللغوية لذلك فهو أقرب إلى الصنعة والبُنية المحددة سلفا موضوعا وفكرة وأسلوبًا، والتي تطورت عبر قرون حتى أصبحت اليوم جنسًا أدبيا قائما بنفسه وله أنواعه وفروعه. ومن هذه التفرعات التي تكاد تكون أصلا قائما بذاته: القصة القصيرة جدا، والتي هي نسخة مصغّرة من القصة ولا يمكن بحال من الأحوال أن نسميها حكاية قصيرة جدا التي تنطبق على الأمثال الشعبية التي غالبا ما تكون ذات حكاية أساس شكَّلته.

في الختام فإن التسمية "الحكاية الإطارية" كما أراها هي الأصح لأنها وكما ورد من الفروق أعلاه وفي أمثلة حوار  ديبيا والملك  وشهريار وشهرزاد، فكلاهما حادثة مباشرة غرضها هو تجميع القصص التي يرويها ديبيا أو شهرزاد لا أكثر، فتبدو ثانوية إذا ما قُوبلت بموضوع القصص التي تضمها.



الحكاية الإطارية في كليلة ودمنة


هي حكاية واحدة تضم مجموعة من القصص الداخلية، ليس بينهما أي رابط، فهذه القصص قائمة بذاتها ببنيتها وحبكتها وموضوعها وشخصياتها. 

إنَّ الحكاية الإطارية في كليلة ودمنة هي من إبداع ابن المقفع، الذي يجعل من ديبيا الفيلسوف الهندي وحواره مع الملك دبشليم حكاية تضم القصص الأربعة عشر الداخلية يرويها ديبيا على الملك. ويعد العرب أول من وضع هذا الأسلوب الأدبي في تجميع القصص عبر ابن المقفع، وهو أول من استخدم الإطار الحكاياتي بهذا الشكل وإن ظهر سابقا في أعمال مثل المهابهاراتا والأوديسة والرامايانا والحمار الذهبي، إذ تقص الشخصيات قصصها أو بعض ما وقع لها على شخصيات أخرى. لكن يمكننا تميز الحكاية الإطارية وقصصها التي ظهرت مع ابن المقفع بسمات منها ظهرت لاحقًا في ألف ليلة وليلة وقصص كانتربيري والديكاميرون:

١- الحكاية الإطارية مجرد حكاية ليس لها غاية سوى الغاية الفنية التجميعية الإطارية. فهي تجري في نسق ثابت وليس فيها أي صنعة أو فنية خاصة  أو سمات سردية فارقة أو فكرة أدبية أو غاية موضوعية، بحيث يظهر دورها في التجميع لا أكثر. 

٢- الراوي ليس جزءا من قصصه. إن من يقص هذه القصص مفارق لقصصه، فهو لا ينتمي إليها زمنًا ولا مكانًا وليس جزءًا من الحدث حتى. ووظيفته القص فقط.  

٣- القصص الداخلية هي الأساس. إن المقصد في كليلة ودمنة هي قصص الحيوان لا قصة الملك وديبيا، لذا فإن مادة العمل الرئيسة تتمثل وتتركز في القصص المروية. 


يمكن أن نعدَّ هذه السمات هي التي تجعل من الحكاية الإطارية إبداعًا خاصًا بابن المقفع. فمثلا تظهر الحكاية الإطارية في رواية الحمار الذهبي، لكنها ليست إطارًا جامعًا عابرًا بل تتركز في رحلة الحمار ومغامراته وما يشهد ويُقصُ عليه أو يقصه، وكذلك فإن القصص الداخلية ليست الأساس بل رحلة الحمار هي الأساس. وكذلك تظهر في المهابهارتا حين ينشد فياسا على الإله غانيشا ملحمة المهابهارتا، وهنا نجد أن الحكاية الإطارية قد استوفت السمة الأولى والثانية لكنها لم تضم بداخلها قصص متعددة بل قصة واحدة متطورة ومتشعبة تخص الملك شانتو وذريته. وتظهر كذلك في الأوديسة، حيث يأخذ أوديسيوس دور القاص لا سيما ما قصه على ملك الفياكيين بعد أن وصل جزيرتهم في محطته الأخيرة قبل الوصول إلى إيثاكا، وهنا كذلك الحكاية الإطارية ليست إطارًا بل قصة رئيسة متمثلة برحلة العودة، وأوديسيوس هو جزء من قصته وليس مفارقًا لها، وتظهر السمة الثالثة لكن القصص هنا ليست متفرقة ولا يربطها رابط فالرابط موجود وهو أوديسيوس ورحلة العودة المحفوفة بالمخاطر. 

لكننا نرى في أعمال لاحقة مثل ألف ليلة وليلة، أن الحكاية الإطارية في حكاية الملك شهريار وشهرزاد التي تقص عليه قصصًا مختلفة لا يربطها رابط، ولا تجمعها شخصية، والقاصة مفارقة لقصتها.

وانتقل هذه التأثير الإطاري إلى آداب الأمم الأخرى. تقول كاثرين سلاتير جيتيز في كتاب "قصص كانتربيري والإطار التقليدي العربي" بأن الحكاية الإطارية في كتاب "كليلة ودمنة" عن الأصل الهندي المعروف بـ"بانجاتنترا" هو إطار عربي أضافه ابن المقفع أثناء تعربيه للكتاب. (١)

وتعد نسخة ابن المقفع النسخة الأصل الوحيدة التي بقيت من كتاب بانجاتنترا، بعد أن فُقدت النسخة الفهلوية والسنسكريتية، وكل النسخ السنسكريتية الموجودة هي مترجمة عن النسخة العربية لابن المقفع. وتضيف العرب لا الهنود هم أول من وضع هذه القصص داخل إطار. 

ونجد أن تجميع عدة مواضيع في إطار واحد موجود في القصائد العربية، التي تتنوع مواضيع أبياتها ما بين الوقوف على الأطلال وذكر الحبيبة والمفاخرة وذكر أيام قبيلة الشاعر، إلخ.  واطّرد هذا الأسلوب "الحكاية الإطارية" فظهر في قصص ألف ليلة وليلة ثم انتقل إلى الآداب الغربية. مع الجدير بالذكر أن الآداب اليونانية كانت تعنى بالوحدة الموضوعية وأن يكون العمل (ملهاة أو مأساة) ذا وحدة موضوع. وكان أول من نقل الحكاية الإطارية إلى الآداب الأوروبية هو الإسباني بتروس ألفونسي في القرن الثاني عشر ميلادي، حيث جعل كتاب كليلة ودمنة نموذجا لبناء كتابه "التربية الكهنوتية". وبعد رحيله إلى إنجلترا أصبح الرابط بين ثقافتين إسلامية ومسيحية، وتأثر به بوكاشيو في كتابه "الديكامرون" وهو عبارة عن مجموعة قصص يرويها شبّان وبنات. وكذلك الإنجليزي تشوسر، وكما تذكر جيتز، "قد أشار تشوسر إلى بتروس ألفونسي وروايته خمس مرات في حكايات كانتربيري". (٢)

وبهذا يعدُّ العرب أول كتب الحكاية الإطارية في الآداب العالمية وأول من استخدم أسلوب التجميع عبر كتاب كليلة ودمنة الذي نقله إلى العربية ابنُ المقفع.


_____

(١) (٢) موسوعة السرد العربي (ج٢) - د. عبد الله إبراهيم.

الفرق بين القصة القصيرة والرواية

 

الفرق

القصة 

الرواية

الحجم والطول

تمتاز القصة بطول وحجم ضئيلين من صفحة واحدة إلى بضع صفحات. وقد تصل إلى عشرات احيانا.

تمتاز أنها أطول في عرض الحدث، وأكبر حجمًا بعدد الصفحات ولا يمكن أن نسميها رواية حتى تمتاز بسمات روائية (أدناه).

الحبكة والأحداث 

تمتاز بحدث رئيس واحد يشكل حبكتها بوضوح.

لا حصر لعدد الأحداث التي تحتويها لكنها تمتاز بأن الحدث الرئيس قد يتعدد إلى أكثر من واحد وتكون حبكتها متنوعة وفقًا لما يراه الكاتب مناسبًا لموضوعه.

الموضوع 

تعالج القصة موضوعا واحدا، يُمكن أن يطرح في قصة.

ليس ثمة عددا معينا من المواضيع التي تعالجها الرواية الواحدة رغم غلبة موضوع واحد ظاهريا على كثير من الأعمال؛ يُشكل الموضوع الرئيس الذي يضم بداخله مواضيع أخرى.

الشخصيات 

عدد محدود جدا من الشخصيات الرئيسة قد لا يتجاوز خمس شخصيات، فكلما كان الموضوع مباشرا؛ قلَّت الحاجة إلى الشخصيات.

ليس ثمة عدد محدد للشخصيات فرواية يوليسيس ضمت ثلاث شخصيات رئيسة وبضع الشخصيات الثانوية، في حين رواية الحرب والسلم لتولستوي ضمَّت قرابة 850 شخصية رئيسة وثانوية.

الشكل والبنية والسرد

يغلب على شكل القصة التحديد المقترن بالموضوع ووضوح البنية والمباشرة  بسارد العليم أو المتكلم فحسب دون تعدد عمومًا.

الشكل والبنية والسرد في الرواية مفتوح الاختيارات والأنواع، بل إن التحكم بشكل وبنية وسرد الرواية ما يميز الكاتب البارع من الهاوي الذي سرعان ما يفقد السيطرة على عمله، لذلك يلجأ الكثيرون إلى القصة لأنه خوض ببحيرة الشكل والبنية والسرد إذا ما قُوبلت بالرواية.

الأنواع 

أنواعها رغم تعددها تبقى في إطار معالجة قضايا معاصرة ولا تتوسع كثيرا إلى مواضيع غير معاصرة.

الأنواع الروائية أكثر من أن تحصى ابتداءً من رواية التكوين وليس انتهاءً بروايات ما بعد الكارثة الأرضية المستقبلية.

التطور

صغر حجم القصة يجعلها ميدانا غير خصب للتجريب فلذلك نرى أن تطور القصة بطيء جدا.

تطورت الرواية على نحوٍ مهول عبر قرون تطورًا جعل من الصعب الوقوف على بداية متفق عليها فمن الحمار الذهبي لـلوكيوس أبوليوس إلى كيخوته سرفانتس إلى أورونوكو أفرا بن إلى باميلا ريتشاردسون إلى غلفر سويفت إلى كروزو ديفو. مرورا بالكلاسيكية الإنجليزية والروسية والفرنسية ثم حداثة هنري جيمس وبروست وجويس ثم ما بعد حداثة فليب روث ورشدي إلى الرواية المعاصرة ورواية النص التشعبي.


الخلاصة الرواية إذن شكل مكتوب من أشكال الحياة البشرية، في حين القصة صورة من صور هذه الحياة.


ملاحظة: قد تتفق أو تختلف مع ما ورد أدناه، وما هو إلا اجتهاد شخصي قابل للتعديل في التمييز ما بين القصة القصيرة والرواية.

موسوعة السرد العربي

 

(سيرة كتاب)

آخر مؤلفات الدكتور عبد الله إبراهيم. 


لا يخفى على أي دارس وباحث في مجال النقد الأدبي والسرديات العربية ما قدّمه المؤلف الباحث عبد الله في العقود الماضية، وكانت موسوعته في السرد العربي إحدى أهم الإنجازات النقدية العربية في العصر الحديث.

تتبع الدكتور في موسوعته المكونة من ٩ أجزاء، نشوء السرد النثر العربي وتشكل أنواعه الرئيسة الأولى ثم تفككها لتنبثق منها الرواية العربية التي شغلت أصولها وتفرعاتها مادة عدة كتب من الموسوعة، منها الروايات الأولى، إشكالية النموذج الروائي العربي الحديث الأول، رواية التخيل التاريخي، الرواية النسوية، رواية الهُوية والترحال، إلخ من الأنواع الروائية الرئيسة التي شغلت واستحوذت على الواجهة الروائية محليا وعالميا. ولا منأى لأي مهتم بالرواية والأدب أن يقرأ هذا السِّفر أو بعض ما جاء به الدكتور  في موسوعته التي تشكلت خلال سنوات عديدة ونشر منها أجزاء متفرقة أثناء  ذلك.

كانت هذه الموسوعة واحدة من المؤلفات المعدودة التي تمنيت لو أنا من كنت صاحبها، ولا أتردد من الإفصاح عن قيمة مؤلفات الدكتور وتأثيرها الشخصي فيّ وما قدمته لي من رؤية نقدية ثاقبة وسابرة للنصوص القديمة والمعاصرة. لذا فإن موضوع تشكّل الموسوعة وتطورها ومراحلها موضوع شائق وجاذب لكل باحث.

في كتابه سيرة الموسوعة يقدّم الدكتور نشوء وتطور موسوعته واكتمالها في فصول ثلاثة رئيسة: بزوغ الفكرة ونموها منذ أواخر الثمانينات، الإعداد المنهجي الذي بدأ قبل انطلاقه بمشروع نيل شهادة الدكتوراة، أخيرا؛ المتن النقدي. وهو بمثابة تقديم مفصل للأفكار الرئيسة في الموسوعة وتناول سريع لها.

يختم المؤلف سيرة كتابه بفصلين الأول هو بعض من يومياته المتعلقة بالموسوعة خلال أكثر من عقدين، محلق وثائق جامعية ومؤسساتية وهو فصل مثير قرأته بنهم والتهمته التهاما لا سيما وأنا أقرأ ردود الأساتذة على ما ورد في بحث الدكتوراة الخاص بالمؤلف.

كثيرا ما كنت مهتما وذاكرا لأهمية أن يدون الروائيون والنقّاد كتبًا تخص آليات البناء وتطوّر فكرهم الروائي أو النقدي، مما يسمح للقارئ العادي والباحث أن يقتبس من نور تجاربهم ويكون مُدركًا لأهمية البناء المنهجي في الإبداع الكتابي لا سيما النقدي منه.

لذا فإن سيرة الموسوعة هي جزء متمم وخاص بالموسوعة، إضافة إلى كونها وثيقة مهمة لدراسة فكر وحياة عبد الله إبراهيم، وقد ضمّت في ثناياها نقدًا أدبيا واجتماعيا وسياسيا وكشفت مستورا قد لا يمتلك الكثير شجاعة الإفصاح عنها، وهي بهذا، جزء متمم لسيرة الكاتب الحياتية "أمواج".

كلب أزرق ينبح بجوار السرير لـمحمد المطرفي

 


دائما ما أقف حائرا في حسم رأيي أمام النصوص الروائية التجريبية التي يبدو فيها النص يخاتل القارئ والشخصيات، وربما كاتبه أيضا. فكلما حاولت الإمساك به تفلَّت من يديك. ليعاود الظهور مرة أخرى بحلة جديدة سرعان ما تتبدل وتحاول ملاحقته مجددا.

 

 عجوز بحر همنغوي أو سنتياغو المطرفي، يعيش في عالم تمتزج فيها الواقعية بالخيال، والخيال يبدو غريبا كأنه حُلم كلب لكن كيف يبدو الحلم الكلب؟ هذا السؤال الذي يجعل النص يقترب من عالم خيال للخيال، أو سوريالية حُلميّة.

يتفكك النص بتعدد أصوات سارديه، ويتشظى بكثرة فصوله رغم صغر حجمه، يتجمع ثم يتناثر مجددا ولا تدري من أين تقرأه. يحضر الشيخ ومبدعه همنغوي ويحضر معهم الراوي، الراوي الذي يرى أن عالم همنغوي يجب أن يخترق لتحظى شخصياته بمصير آخر بعد انحباسها في أتون خيالات مبتورة أو موؤدة.

بعد أن يخمد سنتياغو في الشيخ والبحر ويقضي وقتا في انتظار اللا شيء يلفي نفسه مرة أخرى يلاحقه ماضيه لكنه ماضٍ لا يعرفه، يلاحق اللا شيء.  لا يخرج سنتياغو من قيد همنغوي حتى يدخل في قيد المطرفي، وبدلا من تحريره -وربما غايته هذه- يعيش في قيد آخر ينتهي به في حضرة ماضيه ثم انعدامه.

يتسيد سانتياغو المشهد ثم يخطف الأنظار منه همنغوي، لكنه همنغوي الذات لا همنغوي الرجل المعروف، تلك الذات التي يُعلِّمها اضطراب وثوران وضمير متأزم ونادم يحاول إنقاذ نفسه بصنع بدائل عنه يتحملون أوزاره مدة من الزمن ليعجل بعد انقضائها التمترسَ خلف أخرى وهكذا دواليك حتى يقرر اللحاق بها.

سينجذب أو ينفّر أي متلقٍ لهذا النص من كثرة التشبيهات التي رأيت فيها خلل يضرب لغة النص، ثم تبيّن أن هذه التشبيهات خاصة بسنتياغو لا همنغوي حين يتحدث، أو ربما خاصة بالنص دون سواه وما هي إلا محاولة لكنها تجري ببطء مؤكدةً أن النص ظلٍ لآخر، تبعًا للمُشبّه به. فهذا الشبيه ليس ما نتوقعه.

فكل النص شبيه لنص آخر، فاللغة شبيهة للغة أخرى، والعوالم شبيهة لعوالم أخرى، سانتياغو وهمنغوي والراوي والكلب والشخصيات والأحلام هي شبيهة للأصل، يدور النص أثناء تشبّههِ في حلقاتٍ تجمِّعه وتصيره أصلًا.

لكنه أصل غريب فهو لا ينفي علاقته بالأصل الأول، وهكذا يخترق النص نفسه ويتبدّل ويتحوّر ويتنقل في أصواته وشخصياته وقوالبه ومغازيه ويبدأ حيث ينتهي، لا هو وحده بل حيث ينتهي الأصل الأول أيضا. وبدلا من إغلاقه الأبواب يشرعها مجددًا بجذب عوالم جديدة تُبدع ذاتها وتنتقل بلا تعب ولا توقف.