دائما ما أقف حائرا في حسم رأيي أمام النصوص الروائية التجريبية التي يبدو فيها النص يخاتل القارئ والشخصيات، وربما كاتبه أيضا. فكلما حاولت الإمساك به تفلَّت من يديك. ليعاود الظهور مرة أخرى بحلة جديدة سرعان ما تتبدل وتحاول ملاحقته مجددا.
عجوز بحر همنغوي أو سنتياغو المطرفي، يعيش في عالم تمتزج فيها الواقعية بالخيال، والخيال يبدو غريبا كأنه حُلم كلب لكن كيف يبدو الحلم الكلب؟ هذا السؤال الذي يجعل النص يقترب من عالم خيال للخيال، أو سوريالية حُلميّة.
يتفكك النص بتعدد أصوات سارديه، ويتشظى بكثرة فصوله رغم صغر حجمه، يتجمع ثم يتناثر مجددا ولا تدري من أين تقرأه. يحضر الشيخ ومبدعه همنغوي ويحضر معهم الراوي، الراوي الذي يرى أن عالم همنغوي يجب أن يخترق لتحظى شخصياته بمصير آخر بعد انحباسها في أتون خيالات مبتورة أو موؤدة.
بعد أن يخمد سنتياغو في الشيخ والبحر ويقضي وقتا في انتظار اللا شيء يلفي نفسه مرة أخرى يلاحقه ماضيه لكنه ماضٍ لا يعرفه، يلاحق اللا شيء. لا يخرج سنتياغو من قيد همنغوي حتى يدخل في قيد المطرفي، وبدلا من تحريره -وربما غايته هذه- يعيش في قيد آخر ينتهي به في حضرة ماضيه ثم انعدامه.
يتسيد سانتياغو المشهد ثم يخطف الأنظار منه همنغوي، لكنه همنغوي الذات لا همنغوي الرجل المعروف، تلك الذات التي يُعلِّمها اضطراب وثوران وضمير متأزم ونادم يحاول إنقاذ نفسه بصنع بدائل عنه يتحملون أوزاره مدة من الزمن ليعجل بعد انقضائها التمترسَ خلف أخرى وهكذا دواليك حتى يقرر اللحاق بها.
سينجذب أو ينفّر أي متلقٍ لهذا النص من كثرة التشبيهات التي رأيت فيها خلل يضرب لغة النص، ثم تبيّن أن هذه التشبيهات خاصة بسنتياغو لا همنغوي حين يتحدث، أو ربما خاصة بالنص دون سواه وما هي إلا محاولة لكنها تجري ببطء مؤكدةً أن النص ظلٍ لآخر، تبعًا للمُشبّه به. فهذا الشبيه ليس ما نتوقعه.
فكل النص شبيه لنص آخر، فاللغة شبيهة للغة أخرى، والعوالم شبيهة لعوالم أخرى، سانتياغو وهمنغوي والراوي والكلب والشخصيات والأحلام هي شبيهة للأصل، يدور النص أثناء تشبّههِ في حلقاتٍ تجمِّعه وتصيره أصلًا.
لكنه أصل غريب فهو لا ينفي علاقته بالأصل الأول، وهكذا يخترق النص نفسه ويتبدّل ويتحوّر ويتنقل في أصواته وشخصياته وقوالبه ومغازيه ويبدأ حيث ينتهي، لا هو وحده بل حيث ينتهي الأصل الأول أيضا. وبدلا من إغلاقه الأبواب يشرعها مجددًا بجذب عوالم جديدة تُبدع ذاتها وتنتقل بلا تعب ولا توقف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق