الجمعة، 11 يونيو 2021

فولوسبا (نبوءة العرافة)

 إنَّ قصيدة فولوسبا (نبوءة العرافة) من القصائد التراثية الآيسلندية التي ضمَّها كتاب The Poetic Edda وفي نظر بعض الدارسين أنها أهمُ قصائد هذا الكتاب الذي تصدَّرته. دُونت أولى هذه القصائد القرن العاشر الميلادي ونُسبت إلى شعراء مجهولين لم يُعرفوا إلى يومنا هذا. احتوى كتاب إيدا الشعري إحدى وثلاثين قصيدة موزعة على قسمين، الأول قصائد عن آلهة الإسكندنافيين (الآيسر والفانير الذي يُشكل كلُّ فريق منها بانثيون آلهة خاص، ولم تكن على وئام في أوقات كثيرة) والآخر قصائد عن أبطال تلك المنطقة من شمال أوروبا، وهي قصائد تدور أحداثها في الحِقب السحيقة كما في قصائد الآلهة والأخرى في حقب متباينة سبقت الوصول المسيحيّ إلى الدول الإسكندنافية وإن ربط بعض الدارسون بتأويلاتهم لهذه القصائد بالمسيحية كما سنرى في قصيدة نبوءة العرافة.   

هذه القصائد من المصادر المهمة عن الميثولوجيا الإسكندنافية واعتمد على بعض قصائدها ستوري ستورلوسون في كتابه The Prose Edda، أول مصدّر مُدوَّن عن الميثولوجيا الإسكندنافية ألَّفه قرابة عام 1220، ومن بين القصائد التي اعتمد عليها قصيدة العرَّافة، ولها اهميّة خاصة بذكرها معركة راجناروك (تعني: معركة موت الآلهة)، معركة نهاية العالم. إنَّ معركة راجناروك التي شغل موضوعها الكثير من مقاطع قصيدة فولوسبا أبرزُ حدثٍ في الميثولوجيا الآيسلندية وأهم موضوع في هذه القصيدة لأنها تُشكِّل خاتمة أحداث كثيرة وموت عدد من الآلهة الرئيسة ونهاية الزمان والعالم ثم بداية الخلق من جديد، ولا بدَّ من الوقوف على هذه المعركة وأهم أحداثها قبل الشروع في قراءة القصيدة. يذكر سنوري ستورلوسون في القسم الأول من كتابه، الفقرة الحادية والخمسون، تفاصيل هذه الأحداث السابقة لمعركة راجناروك والتي أعقبت موت الإله بالدر بمكيدة من الإله الشرير، لوكي. تبدأ أحداث النهاية بقدوم فيمبولفيتر (الشتاء العظيم) وهو ثلاثة شتاءات متتالية قارصة البرودة، ترافقه ريح عاتية باردة وعواصف ثلجية تفقد الشمس بسببها حرارتها، وفي ظلِّ هذه الشتاءات ينتشر الفساد بين الناس فيقعون في سفاح المحارم ويتقاتل الإخوة فلا يبقى على البسيطة من أحدٍ في عصرين يُعرفان بعصر الفأس وعصر السيف اللذين يسبقان عصر الريح وعصر الذئب، ويُوصف هذا في القصيدة: 

سيتقاتل الإخوة مُسقطًا أحدهما الآخرَ

سيُدنسُّ النسبَ أبناءُ الأخوات

على الأرضِ هذا الفجورُ خَطْبٌ جلل

عصر الفأس، عصر السيف، تتحطَّم الدروع 

عصر الريح، عصر الذئب، سابقاتٌ انهيارَ العالم 

لن يُبقي البشرُ على أيّ منهم أبدًا 


يحلُّ بعدها عصر الذئب. تنص الميثولوجيا الإسكندنافية على أنَّ الشمسَ والقمرَ مطاردان من ذئبين هما، سكول وهاتي، عبر السماء ليلَ نهارَ محاولين الفتكَ بهما، وقُرب بداية الراجناروك يحققان ما سعيا إليه منذ بدء الخليقة، تهتزُّ الأرض وتتزلزل وينهار كل ما عليها من جبال وأشجار وجروف وأحجار وما على سطح الأرض جميعا، ليتحرر بسبب هذا لهذا الذئبُ الشرس، فينرير، من قيوده التي قيَّدته بها الآلهة يوما بسبب قوته التي خشيت عواقبها، ويقذف البحرُ الثعبانَ الكبير، ميثغارثسورم، الذي كان مُحوِّطًا ميثغارث (الدار الوسطى) حيث عاش البشر، وتتحرر سفينة ناغلفار، المصنوعة من أظافر الموتى، منطلقةَ حاملةً العمالقة نحو فيغرثور (ميدان المعركة). يهاجم الذئب فينرير أثناء هذا بفكيه الأرض والسماء فيدمِّر الأرض بفكٍ ويشقَّ السماء بفكٍ آخر وتتساقط النجوم، وينطلق إلى أرض المعركة سورت، حاكم عالم النار، مع أبنائه يرافقهم لوكي وأبطال هيل، أرض الموتى. يُشكِّل كل هؤلاء الفريق الأول الذي يحاول مهاجمة عالم الآلهة، آسغارد، بالصعود عبر الجسر، بيفورست، الذي يتحطَّم بسبب ثقلهم، وبوصول الأخبار إلى آسغارد ينفخُ هيمدال، خفير الآلهة، في بوقه منبِّهًا الآلهة للمعركة الكبرى؛ يُسرع أودين كبير الآلهة إلى رأس ميمير طالبًا المشورة والنصح  لم يُسرَّ بهما ويتهيّأ مع الأبطال الموتى في فالهالا وبقية الآلهة لقتال الخصم القادم. يجتمع الفريقان في ميدان المعركة، فيغرثور، ويتقاتلان قتالا شديدًا يشهد موت أودين وثور ولوكي والثعبان ميثغارثسورم والذئب فينرير، وينجو من المعركة الإله هيمدال وسورت الذي تُحرق نيرانه العالم وتصل إلى السموات ويعود الكون إلى ما كان عليه هوَّة فاغرة في حالة من الصمت والسكون والفراغ غير القابل للاختراق. لكن بعد ذلك ترتفع الأرض مجددًا من وسط البحر وتعود الآلهة التي نجت من المعركة وبشريان اثنان هما ليف (الحياة) وليفثرايسر (الذي يسعى وراء الحياة) لتبدأ الحياة من جديد. 

*

هذه هي معركة راجناروك باختصار كما يذكرها سنوري في كتابه، وتناولتها قصيدة فولوسبا، التي يرى دانييل مككوري في كتابه "The Viking Spirit" أنَّ مصدر أحداث هذه المعركة مشكوك فيه وغير موثوق وأن بعض تفاصيلها قد تنتمي إلى المسيحية، والرؤية القروسطية للميثولوجيا النورماندية، وأن الفكرة الداخلية والحبكة بلا شك قديمة جدًا وقبل مسيحية. لكنه يذهب فيؤكد أن ولادة العالم الجديد هو بوصول الديانة المسيحية إلى الأراضي الإسكندنافية التي حلَّت محلَّ ديانة الفايكنج. في حين تعارض إيليس دافيدسون في كتابها "Gods and Myths of Northern Euorpe" هذه الخلاصة من ولادة العالم مجددًا وربطها بالمؤثر الديني المسيحي بعد وصوله إلى الأراضي الإسكندنافية واصفةً إياها بالنظرة الضيقة التي تُضيع الكثير من أهمية القصيدة، وأنَّ هذه القصيدة لم تكن ارتجالية جمَّعت مفاهيم متباينة في نص واحد، مستندةً فيما ذهبت إليه في أنَّ بعض المفاهيم حول نهاية العالم كانت معروفة في الحقبة الوثنية. ففي الدراسة الشهيرة التي أجراها العلامة الدنماركي، أولريك، على هذه القصيدة بالعودة إلى الفولكلور الشعبي مسلطًا الضوء على نصِّها، وجد أن الكثير من المعتقدات الشعبية الشائعة في الدنمارك ومناطق أبعد تحتوي أخبارًا عن نهاية العالم، وابتلاع الشمس من عملاق، وأسطورة غرق الأرض في النهاية، والسفينة المصنوعة من أظافر الموتى. وأشارت إيليس أيضا إلى وجود أساطير موازية لما في قصيدة فولوسبا في ميثولوجيا أمم أخرى كما في المعتقد الإيراني الذي ينصُّ على تكريس الأظافر للطائر أسكوزوشتا Askozushta خشية أن تُستخدمَ من قوى الشر. وكذا الحال في التراث الأدبي السلتيّ وأسطورة عن المعركة بين الآلهة والعمالقة في سهل فسيح يموتُ فيها معظم الآلهة، وما من دليل عن المحاكاة أو الاستعارة ما بين الشعبين السلتيّ والنورمانديّ لكن المفاهيم التأسيسية في القصتين تبدو متشابهة. ومن المواضيع الأخرى التي لم تتفرد بها قصيدة فولوسبا حسب إيليس هو تحرر الوحوش، ففي القصيدة Eiriksmal، وهي من قصائد البلاط تعود إلى القرن العاشر الميلادي، المؤلفة في وفاة إيريك، ملك النرويج، يُسأل أودين لماذا تسبب في مقتله؛ يجيب بأن الذئب يراقب مساكن الآلهة، ويتضمن هذا الجواب أن إيريك كان مطلوبًا من أودين لكي ينضم إلى حشد المحاربين للتأهب من أجل المعركة العظيمة الأخيرة، وكذلك فإن أسلوب الشاعر وتضمينه يفرض أن الراجناروك موضوع مألوف لمتلقيّ قصيدة الشاعر. تُكمل إيليس قائلةً ما من شكِّ كبير في كون أفكار دمار العالم وتحرر الوحوش مألوفة في الفكر الوثني، ولمن الملاحظِ تماما وقتها أن تتجنَّبَ قصيدةٌ من القرن العاشر أو الحادي عشر -كما سيُبتُّ الحكم بهذا- التأثيرَ المسيحي. وعند ذكر التشابه وفقًا للدراسة المسيحية ما بين بوق هيمدال وبوق جبرائيل أو الإشارة إلى ذنوب البشرية أو عود بالدر، فإنه سيكون إما تأثيرات مُبهمة لهذا الإيمان الجديد وإما معرفة مُحكمة لأفكار موازية في ذهن الشاعر. لكن هذا أمر مختلف تماما من افتراض أنَّ كلَّ فكرة الراجناروك في القصيدة محاكاةٌ تامةٌ وإعادة صياغة للأفكار المسيحية حول يوم القيامة. ولا يمكن للمرء إلا أن يشعر بأنَّ هؤلاء الدارسين ينطلقون في مسعًى من التفاصيل المنعزلة والنظريات الشخصيّة، ورفضوا أن يقعدوا لقراءة القصيدة مجددًا بعقّلٍ مُتفتّح. 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق