يُشرع هذا النصّ الأدبي لأبي المطهر الأزدي، والمنسوب خطأً إلى أبي حيان التوحيدي، الباب أمام نقلة مهمة ومؤثرة في تطور النثر العربي لما له من دور في أخذ النثر العربي التخيِّلي إلى مرحلة جديدة مختلفة عما سبقها. يقول د. عبد الله إبراهيم في كتابه النثر العربي القديم عنه: "إنَّ نظرة شاملة إلى البنية السردية، لرسالتي ابن شُهيد وأبي العلاء، تكشف في أنَّ الرسالتين كانتا قد حذتا حذو حكاية أبي القاسم البغدادي لا في الغرض إنما في استلهام الرحلة واستثمار الإمكانات التي توفرها سواء أكانت رحلة في مدينة ما أو وادٍ للجن أو الآخرة، ذلك إنَّ تلك الآثار الأدبية الثلاثة اعتمدت على رواية جوَّال، يختلق حكاية لأهداف متباينة يتخلى فيها عن الإسناد لأنه يروي مشاهداته العيانية. ويرتب مشاهد السرد على التعاقب دون أن يعنى بضروريات الحكاية من صراع وذروة واختلاف في مواقف الشخصيات الأمر الذي جعلها تتسم بضعف بيّن في بنيتها السردية لكنها من ناحية أخرى -وهو ما يتهم هذا البحث بكشفه- نهضت، إلى جوار الأعمال الأخرى التي وقفنا عليها لأحمد بن يوسف الكاتب والتنوخي، بوصفها أمثلة ليس إلا على الصورة الخصبة والفنيّة للجهود السردية التي تزامنت وعصر ظهور المقامة، بمهمة غاية في الخطورة فقد خففت إلى درجة ما من هيمنة الإسناد المركَّب -وإن لم تفلح في تقويضه- وبه استبدلت إسنادًا بسيطًا لا يهدف إلا إلى تأطير حكاية لأغراض فنية واعتبارية".
فهكذا نجد أن لحكاية أبي القاسم البغدادي تأثير في رسالة ابن شُهَيد ورسالة الغفران وما لهاتين الرسالتين من قيمة أدبية وفنية وجمالية وسردية، ولا يتوقف تأثير حكاية أبي القاسم البغدادية هنا فيضيف د. عبد الله إبراهيم متممًا كلامه "في مثل هذا المناخ السردي بزغت المقامة نوعا جديدا ذوِّبت فيها كثيرا من كشوفات العصر في مجال السرد، وفي مقدمة ذلك، اعتمادها على رواية الجوّال الذي يلازم بطلًا رحّالة، وبوساطة المناقلة الشفاهية بينهما، للوقائع التي عاشاها، يتكوّن متن المقامة الذي من ميزاته الأساسية أنَّه يتضمَّن حكاية، محبوكة حبكًا فنيا متماسكا".
يقدِّم للحكاية مؤلفها، الشيخ الأديب أبو المطهّر محمد بن أحمد الأزدي، رحمة الله عليه، وهو السارد العليم لهذا النص وفي جملة ما يذكره في تقديمه موجزًا الحكاية وغايتها ووقت قراءتها فيقول: "هذه حكاية رجل بغدادي كنت أعاشره برهةً من الدهر فتتفق منه ألفاظ مستحسنة ومستخشنة، وعباراتٍ لأهل بلده، مستفصحة ومستفضحة، فأثبتها في خاطري لتكون تذكرة في معرفة أخلاق البغداديين على تبيان طبقاتهم، كالأنموذج المأخوذ من عاداتهم…".
ويقدّر زمن قراءتها فيقول: "وإذ قدمت هذه الجملة فأقول: هذه حكاية مقدَّرة على أحوال يوم واحد، من أوله إلى آخره، وليلة كذلك، وإنما يمكن استيفاؤها واستغراقها في مثل هذه المدة، فمن نشط لسماعها، ولم يعد فصولها تطويلا وفضولها كلفة على قلبه، ولا لحنا يرد فيها من عباراتهم، قصور معرفة يعيّرني بها، لا سيما مع انتهائه منها إلى الحكاية البدوية الأدبية (هذه الحكاية مفقودة ولا توجد ضمن مخطوطة حكاية أبي القاسم) التي أردفتها بها…".
ومع أن النص ليس حكاية بالمعنى الفعلي فلبنيتها الداخلية جو عام متناسق فتتقدم في نَفَس سردي ثابت يخترقه الشعر ليدعمه لا ليشتته، ولا نشعر بوجود حكاية أكثر حديث أبي القاسم في مجلس في أصفهان يذكر فيه بغداد ومحاسنها وأهلها وخيراتها ويذم أصفهان وأهلها وكل ما فيها بسخطٍ وقسوة ويروي أخبارًا وحكاياتٍ قد تناهت إليه أو عرفها وعاصرها فهي حديث سمر لا حكاية لها غاية القصة المعروفة اليوم ولا بنيتها ولا حبكتها.
يبدأ أبو المطهَّر في ذكر صفة أبي القاسم فيجمع فيه ما بين الحسن والقبيح والخير والشر والأخلاق والمفاسد فهو جمع نقيضين والتقاء متضاديين ولعله خلاصة صفته ما يُذكر في نهاية الحكاية: "هذه حكاية أبي القاسم البغدادي التميميّ، وأحواله التي توضح لك أنه كان عرَّة الزمان، وعديل الشيطان، ومجمع المحاسن والمقابح متجاوزًا للغاية والحد، متكاملًا في الهزل والجد، موفورًا من الأخلاص والنفاق، متخلِّقًا منها بأخلاق أهل العراق…"
تبرز المقابلة ما بين بغداد وأصفهان مادةً رئيسة لحديث أبي القاسم البغدادي فيمدح كل ما في بغداد من جو وطبيعة وطعام وشراب ونبات وثياب ومجالس الهوى والسمر وجوارٍ وكل ما يخطر في باله ويذم أصفهان وكل ما فيها ذمًا قبيحًا ويشنِّع على أهلها تشنيعًا فظيعًا، فيملأ حكاية بالسباب والشتائم متخيِّرًا أقبحها وأشنعها، لذا فنراه يتقلب من أقصى اليمين في المدح والثناء إلى أقصى الشمال في الذم والانتقاص، وما بين هذين النقيضان يدور حديثه وينتقل من موضوع إلى موضوعٍ يحدِّث به حضوره الذين غُيِّبوا وأشيرَ إليهم بالمبني للمجهول في جلِّ المرات، فيتسيّد صوت أبي القاسم على الحكاية ولا نكاد نسمع صوتَ آخر مباشرٍ إلا ما يشير إليه الراوي لكنها إشارة لا نشعر معها بوجودٍ ماديّ لمن يُجالسه إلا بما يقدح شرارة شتائمه من جديد أو يُسفِّه بهم ويذم بذكر بغداد ومحاسنها.
كما أن لغة أبي القاسم البغدادي ليست بالفصيحة العالية دائمًا فكثيرًا ما يستخدم الألفاظ الدارجة من اللغة المحكيّة البغداديّة وبهذا يبتعد عن لغة الأدب الرفيعة المتعاهد عليها في زمانه، وهو هنا كذلك يُشرع في اختيار لغة حكاية تختلف عن لغة الأدب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق