رواية القدر أو القضاء للفيلسوف الفرنسي فولتير، كان بطلها الحكيم والعاشق الشجاع زديج. زديج البابلي الذكي الذي كثيرًا ما نقمت عليه حكمته وكان عاقبة ذكائه ودقة ملاحظته المصائب. فكانت حياته مغامرة تتبعها مغامرة وكان بفضل عقله الراجح وسعة معرفته يجد المخرج دائما. وأراد فولتير أن يوضح رسالة من حياة زديج أن الذكاء والحكمة ليستا دائما نعمة على صاحبهما فقد يُوديان به إلى الهلاك، ولطالما كان القدر المكتوب يسبق الحدث فيغير مجراه متى آن آوان التغيير.الرواية بإيجاز أحداثها كانت مفعمة بالدقة والخيال الخصب الأخّاذ والمُثير للاهتمام.
زديج صنيعُ فولتير يكشف عن حب فولتير للشرق وتأثره به وبحضارات الشرق بلدانه وصحرائه وحتى قصص وقصص أنبيائه وهنا موضوعنا فولتير نحلَ بعضًا من الأحداث التي حدثت مع نبي الله يوسف وموسى مع تغيير بسيط، ظلت روح قصة النبيين تدور في أحداث الرواية، رُبما قد تنطلي وتمر مرور الكرام على القارئ الفرنسي الذي لا يعرف قصة موسى كاملة أو ما جرى مع يوسف وكيف راودته امرأة العزيز عن نفسه، لكن إذا كانت حاضرة ببال القارئ العربي المسلم خاصة الذي يعرف قصة موسى ويوسف وخاصة موسى التي تكررت في كثير من آيات القرآن الكريم سيبدو جليًا له أن فولتير لم يُبدع في قصة زديج بصورة كاملة بل آخذ من قصة النبيَّيْن ونرى هذا في:
أولًا: عندما أصبح زديج أثيرًا لدى الملك وزوجته أستارتيه بعد أن كان على وشك الموت إعدامًا بسبب وشاية لقصيدة كسّر لوحها زديج ورماها فأخذها الحسّود الذي كان يبغض زديج ويُضمر له الشر فجمع الأبيات التي كانت ولسوء حظ زديج عند قراءتها هجاءً للملك، فوصلت للملك وقرر إعدامه ولحسن حظ زديج إن ببغاء الملك حصل على الجزء الآخر من اللوح بعد أن التصق بثمرة الخوخ التي تناولها الببغاء وطار بها إلى شرفة الملك ليقرأها الملك وتبيّن له أن زديج بريء فأصبح بعدها صديقًا للملك نظرًا لرجاحة عقله وحكمته، فعيّنه وزيرًا له بعد موت الوزير، هامت أستارتيه بحب زديج وهام زديج بها حُبًا وعن طريق الوشاية أيضـًا عرف الملك ذلك وأمر بقتلهما لكنهما استطاعا الهرب، هذه القصة باختصار كما رواها فولتير ولو قارنّا ما بينها وبين قصة يوسف مع بعض الاختلافات البسيطة.
حُكم على يوسف بالسجن بسبب زوجة العزيز بينما حكم على زديج بالموت بسبب زوجة الملك.
هامت امرأة العزيز بحب يوسف، هامت امرأة الملك بحب زديج لكن الفرق أن زديج هام حبًا بها كذلك.
بعد أن كان يُساق إلى الموت يُصبح وزيرًا للملك، بعد أن قضى بضع سنين ظُلمًا في السجن يُصبح أمينًا على خزائن مصر.
ومن خلال هذه النقاط الثلاث نرى بوضوح أن فولتير أخذ من قصة يوسف أهم أحداثها لينحلها بقصته لزديج.
ثانيًا:
حين هرب زديج بعد أن علم أن الملك مؤبدار بحبه لزوجته، توجه نحو مصر وحين وصل إلى مصر وجد رجلًا وزوجته يتشاجران وكان الزوج في فورة غضبه فرآهما زديج فطلبت الزوجة من زديج أن ينقذها فسارع إلى إنقاذها، فذكّر الرجل بجمال زوجته ودعاه إلى ضبط نفسه لكنَّ الرجل لم يستمع فهمَّ بقتال زديج فقاتله فقتله زديج، فصرخت الزوج بوجه زديج وأنه قتل زوجها وأنها كانت تود لو يضربها ويقتلها على أن يقتله زديج، ناكرة بذلك فضل زديج بإنقاذها لها.
بهذه القصة نرى على وجه الدقة ما حدث مع موسى حين رآى رجلين يتقاتلان أحدهما من قوم موسى "بني إسرائيل" والآخر من قوم فرعون، فطلب ابن جلدته مساعدته فنصره وقتل عدوهما.
ومع ملاحظة أحداث القصتين يبدو التشابه بين القصيتن من حيث الاستصراخ وكذلك الوضع النفسي الذي كان فيه زديج هاربًا من الموت وما لحق بموسى من هرب خشية الموت بعد قتله القبطي من قوم فرعون.
ثالثًا: قصة زديج مع الناسك، التقى زديج مع ناسك فطلب الناسك منه مرافقته حتى يبلغ بابل فوافق زديج على ذلك، والشبه هنا في قصة موسى مع الخضر.
كان في سفر الناسك مع زديج ثلاثة قصص وكان في سفر موسى مع الحضر ثلاثة قصص، وسأسرد القصتين المتشابهتين فقط.
١-القصة الأولى:وصلا إلى دارٍ وكان صاحبها فيلسوفًا فأكرمهم وقبل الفجر همّا بالمغادرة فأراد التاجر أن يترك لصاحب البيت آية فقام بإحراق المنزل فأعترض زديج وهمَّ بتركه لكنه آثر البقاء معه، فأخبره الناسك أن تحت المنزل كنز عظيم وسيكتشفه بعد أن تخمد النار، وهذه القصة واضحة لقصة موسى والخضر مع جدار اليتيمين الذي قوّماه وأخبر الخضر موسى أن تحته كنزٌ لهذين اليتيمين.
٢-القصة الثانية: بلغ الناسك وزديج في نهاية رحلتهما إلى بيت أرملة مُحسنة فبات عندها وكان يعيش معها فتى قريب لها يبلغ من العمر أربع عشرة سنة، فأمرت أن يصحبهما حتى يصل إلى جسرٍ قد قُطع مؤخرًا حتى أصبح العبور عليه خطرًا، فلما وصلا إلى الجسر وبعد أن عبراه قام الناسك برمي الفتى في النهر ومات غريقًا، فأعترض زديج فأخبره الناسك أنه لو بقي حيًا سيقتل في العام القادم عمته وبعد عامين سيقتل زديج، ثمَّ تبيَّن بعد ذلك أن الناسك هو ملاك من السماء. وهذه القصة مشابهة لقصة موسى مع الخضر حين قتل الغلام والذي علّل سبب القتل أنه عاق لوالديه على أمل أن يُرزقهما الله بآخر بارًا قريبًا منهما عطوفها عليهما.
غاية سفر الناسك مع زديج كما كان واضحًا هو الصبر والحكمة وعدم الاستعجال في الحكم على الأمور كما الحال مع موسى والخضر.
ومما هو واضح فيما مضى التشابه بين قصتي يوسف وموسى مع قصة زديج. فهل تعمّد فولتير الأخذ بقصتي يوسف وموسى وهذا ما أرجحه فالشبه كبير جدًا أم كان الأمر ضربًا من الصدفة وأشك بهذا الأمر كون هناك تشابهات أُخر في قصة زديج مع التاجر المصري الذي اشتراه بعد أن حُكم عليه بالرق بعد قتله الرجل الذي كان يتشاجر مع زوجته حين دخل مصر مع قصة موسى ورعيه لغنم الرجل بعد أن زوجّه ابنته. على القارئ أن يعود لرواية القدر ويقرأها بانتباه شديد ويغرف من حكمة زديج ويكشف نحل فولتير لأحداث الرواية من قصتي موسى ويوسف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق