هذه الرواية من الأعمال الأدبية الروائية التي تسلب الروح بين صفحاتها، للكاتب النمساوي أرنو جايجر، والتي تدور أحداثها حول رجل يبلغ سن الهرم ويصاب بالزهايمر، ويقوم ابنه برواية قصته، ومعاناة الأسرة في التعامل مع الأب وأهم ما في هذه الرواية سأحاول تلخيصه في عدة نقاط:
أولا: مرض الزهايمر: تناقش هذه الرواية مرض الزهايمر وما يفعله بالإنسان حين يسلب منه ذكرياته وعقله، ويجعله يعيش في عالم جديد، بينما جسده في هذا العالم، ومدى تأثير هذا المرض على الإنسان وعلاقته بأسرته، ونتائج هذا المرض وسببه في تقوية العلاقة وفتح أُفق جديدة بين المريض وذويه أو إبعاده عنهم وقتل صلة الرحم بينهم.
ثانيا: كبار السن: بطل الرواية والتي تدور الأحداث حوله أوجست، المقاتل القديم والمشارك في الحرب العالمية الثانية، والذي يصل لمحطة ختامية فط حياته، منتظرًا فيها مرض الزهايمر، لتبدأ مرحلة جديدة وأخيرة من حياته، يرسم فيها ما يشاء من كلمات تفيض رقةً وهذيانًا وحكمة، والرواية تسلط الضوء على أهمية وكيفية التعامل الصحيح مع هذه المرحلة التي يصلها الإنسان والمشاكل التي تعانيها أسرة المريض، وأقرباؤه، الملك الكبير الذي يحتاح معاملة خاصة، لا تشبهها أي معاملة ولا يمكن تشبيهها ووصفها بأي مرحلة أخرى يمر بها الإنسان.
ثالثا: جيل الآباء وجيل الأبناء: من المواضيع التي تطرح بين طيات الصفحات، هي العلاقة بين جيل الآباء والأبناء، وكيفية التواصل ما بين هذين الجيلين، والتصارع الفكري والاجتماعي، ما بين التراث والحداثة، وكيفية تغيير الحياة، ما بين حياة أطفال نشأوا على الجهد والعمل والالتزامات الأخلاقية وعلى النقيض الذين نشأوا في حياة وديعة وناعمة، بعيدة كل البعد عن مصاعب ومشاق اضطر الجيل السابق أن يعاني منها، ومدى تأثير هذه الفروق في النشأة والتربية على حياتهم فيما بعد عند التصادم.
رابعا: دور رعاية المسنين: تقرر العائلة أن تضع أوجست في سكن خاص بالمسنين، حيث يلقى العناية التي يحتاجها بصورة أفضل لوجود الممرضين المختصين لهذه المهمة، وهذه النقطة والتي أعتبرها من النواقض التي تهدد استقرار الكيان الأسري داخل المجتمع الأوربي، حيث تتخلى أسرة كبار السن عنهم، هذا إن استمروا بالتواصل معهم وهم في هذا السن، ووضعهم في دور رعايا خاصة، حيث يظهر جليًا أن الأسرة مفككة ويصل المسن رجلا أو امرأة إلى فترة الشيخوخة، ولا يجد حوله فردًا من أفراد أسرته، ويتبنى قطًا أو كلبًا يواسي وحشته ويؤنس وحدته، كأن الإنسان لا قيمة له في هذا العمر، وهذه من النقاط السلبية التي تقوم ببناء حاجز ما بين مرحلتين من عمر الإنسان، مرحلة الشيخوخة، ومرحلة ما قبل الشيخوخة.
على الرغم من محاولة إظهار جايجر هذا القرار لظروف فوق قدرتهم على السيطرة عليها وبقاء الأسرة والابن الذي يروي الرواية على تواصل وعناية بأبيهم المريض تبقى هذه النقطة مثارًا للجدل بالنسبة لي.
خامسًا: الذكريات: استعادة الذكريات (بأسلوب الفلاش باك) وقصها في هذه الرواية، أعطى للرواية بعدا آخر في مزج الماضي بالحاضر، فماضي أوجست مليء بالذكريات، والأحداث التي يرويها الابن عن عائلته وجدّيه وأعمامه، كلها تضفي رونقا خاصًا للأحداث، ليكون الماضي هي محرك رئيسي للحاضر، وتكون الذكريات محكمة أخلاقية تجبر أصحابها على تنفيذ الحكم المقرر ضدهم، في معاملة من أساؤا لهم بسوء أو بحسن نية، بجهلٍ أو بإدراك، الذكريات والنظرة القاصرة للكثير من الأحداث الماضية هي المعيار الجديد التي على وفقها تكون المعاملة الجديدة، مرض الزهايمر يفتح الباب أمام الأبناء في تصحيح مسار علاقاتهم مع ذويهم. والسؤال الذي يطرح نفسه، إذا لم يصب ذويهم بمرض عضال كالزهايمر ما هو الشيء الذي يجعلهم يراجعون حسابتهم؟
الرواية ذات أسلوب مميز وبديع جدًا، لدرجة تجعلك تعيش تفاصيلها بكل دقة وكأنك جزء منها فالتصوير للأحداث والأحاديث، وُصفت بطريقة واقعية جدًا، حتى تنسى أنك تقرأ رواية، بل تعيش واقعا وترويه بنفسك.
وتتنوع ما بين السيرة الذاتية والعلاقات الاجتماعية وذكر الحرب، والمرض والشيخوخة، والتطور الاقتصادي والتنوع في الحياة الجديدة، حتى يضيع القارئ في كل ما يُذكر دون أن يفقد شيئًا أو يفوته حدث أو موضوع يُذكر، لتبقى الرواية محفورة في قلبه قبل عقله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق