الخميس، 26 أكتوبر 2017

القارئ فريسة أم صياد؟

ماذا يتوجب على القارئ أن يفعله لكي يتجنب أن يكون فريسةً للكاتب؟ فريسة يسهل اصطيادها وتحشيتها بما يشاء من أفكار وعبارات ومقاصد، وهل من الأفضل أن يكون صيادًا؟ يعرف كيف يراوغ الراوي الذي ينصب له فخًا، ويجعل كل محاولات السقوط في شِراك الروائي أمرًا صعبا جدا مهما كان مبدعا، فأنت كونك قارئًا ليست وظيفتك أن تُصبح سمكة تتبع أي طعم تراه، بل قرشا يلتهم الراوي. 
فكلّما زادت المنافسة بين الصياد وطريدته -مع تبادل الأدوار- زاد اهتمام الكاتب بعمله الأدبي، فحين يستخف الكاتب بعقول قرّائه، لن يُتعب نفسه كثيرًا، وهذا للأسف ما نراه حين امتلأت المكتبة العربية بكثير من الأدب الرديء والسيئ والساذج والسوقي، بل دفعت الكثير الذين لم يمارسوا الكتابة في حياتهم أن ينشروا كتبًا، ويبدو أن هذا الداء لا يتوقف علينا فقط، فحين فاز بوب ديلان بجائزة النوبل، ألم يكن هذا استخفاف بالأدب عامةً والذائقة الأدبية للقراء والأدباء حول جميع أنحاء العالم خاصة، ودعوتهم ليكونوا فرائس لجائزة النوبل؟ 


الفخ الأول، الذي يقع به القارئ هو السقوط في فخ اسم الروائي.


الكثير من الروائيين حتى ومن حاز على النوبل، تجد في بعض أعماله، أعمالٌ لا ترتقي أن تُحفّ بكل الهالة التي وُلدّت بسبب تهافت الكثير إليها، فلا يعني أن الكاتب الجيد معصوم من كتابة عمل  لا يرقى أن يكون عملًا إبداعيًا مميزًا، وبذات الوقت لا يعني أن الكاتب الذي يكتب أدبا متوسط المستوى أن يخرج لنا بعمل أدبي قد ينافس به أعظم الأعمال الأدبية في التاريخ. 
ويخطئ الآخر في تناول أدب كاتب مبدع لشهرة اسمه فقط، ليتنقصَ منه مدعيا عدم الانجرار خلف الموجة، فيرفض مهمة الصيد ويرفض تموضع الفريسة، ويتشدق بأن الاثنين ليسا بالمستوى الذي يُمكن أن ينمي من خلاله ذائقته أو أن يكونَ مرشدًا له. فهذا يسير عكس الطريق لكن للأسف الطريق الخاطئ. 

إما الفخ الآخر، فهو فخ الذائقة الأدبية الرديئة.


حين ينتشر الأدب السوقي، ويتعاجز الكثير عن البحث عن عناوين مميزة ليقرأها، يجد أفضل فرصة أمامه هو الاستماع لرأي الآخرين فقط، فقبل أن يسقط في فخ الكاتب، يسقط في فخ القُرّاء، فيمدحون رواية ما، أو كاتب ما، فيأتي وقد لبس ثوب غزال وديع ويدخل إلى عرين الأسد ليكون فريسة سهلة له.
وهذا سيقوم بتحضير فريسة أخرى للكاتب، ومن فريسة إلى أخرى تجد الأدب الرديء قد ملأ المكتبات، وتتفاجئ أن ترى بعض الروايات -بغض النظر عن عدد نسخ الطبعة الواحدة- يصل للطبعة العشرين أو أكثر، وحين تبدأ بقراءة وتصفح ما كُتب، سيراودك شعور برغبة القيء، وتسأل نفسك كيف يقرأون هذا الهراء؟ ومن شجّع هذا الأحمق على النشر؟  


لا تقف تأثيرات الأعمال الأدبية الرديئة على تسفيه ذائقة لم ترقَ أن تُسمى ذائقة، حتى تبدأ بالتطاول وانتقاص قيمة أعمال أدبية خلدها التاريخ الأدبي، لروعة وجمال وقوة وتأثير بعضها على مسار وصيرورة وكينونة أدب وأدباء لعقود من الزمن.


الراوي ليس بالضرورة أن يكون الكاتب نفسه. 


إن الخطوة الأولى في القراءة وتجنب أن تكون فريسة هو الفصل ما بين الكاتب والراوي، فالراوي ليس بالضرورة أن يكون الكاتب نفسه، أو لسانًا له، أو قناعًا يختفي خلفه. تبقى احتمالات كونهما الشخص نفسه قائمة، لكنها لا تأتي في المقام الأول، وهنا تبرز قيمة الكاتب المميز الحاذق الذي يخلق رواةً/ ساردين بكياناتٍ خاصة قائمة بمفردها، وقادرين على إتمام وظيفتهم بالتميّز والإتقان المطلوب منهم. إذن فإن الرواية الناجحة للكاتب تبدأ من خلق الراوي الذي تتعدد وظائفه وإمكانياته وقدراته، ويبقى سؤال صدق سرده أو كذبه قائما في العمل، لا بد للقارئ أن يتابعه في كل خطواته ويتربص لأجل الفرصة السانحة لمعرفة هُوية الراوي، ومدى صدقه من كذبه، وهل يحاول أن يتلاعب بالقارئ بمد حبل له جارًا إياه إلى فردوسه المزيّف. 

كيف تتجنب فِخاخ الراوي؟ 


لا تُصدق كل ما تقرأ، ولا كل ما يقوله فتفقد مكانتك قارئًا مُبدِعا، فأن تكون مبدعا في فهمك لما يُكتب، لا يعني أن تُفسر كلامه على هواك، وتتبع إرهاصات فكرك حين يغرك بأنك أصبحت أذكى من الراوي، فالكثير من الرواة يوحون إلى القارئ أنه قد كشف له أوراقه وأصبح الطرف الأضعف من المعادلة، وسيصبح لسان حال القارئ: أنه كشف خيوط اللعبة وأدرك مغازي العمل (قد يحدث هذا). 
هذا ما يريده الراوي بالضبط أحيانا أن يجعلك تشعر بالانتصار ثم يفاجئك بالضربة القاضية أو بالتلاعب بك دون إدراك منك. ويستغل نتائج هذا التلاعب في المرحلة التالية من تقدم عمله. فحين تقع في غرام بطل ما، أو تجمح عواطف الكره ضد شخصية ما، سيصبح القارئ عرضة لتخدير وهم الحب مع الشخصية، فتبدو حتى تفاهات هذه الشخصية هم الحكمة التي جرت على لسان أثينا.


ثمة من تعاطف مع راسكولينكوف (روديون) حين قرأ رواية الجريمة والعقاب لدوستويفسكي، حتى أن دوستويفسكي جعلنا ندور في حلقة تأنيب ضمير وعذابات روديون ونتغافل عن حقيقة -وإن لبعض الوقت- أن راسكولينكوف هو مجرم قتل ضحيتين فقط لمجرد سقوطه في فكرة آمن بها لإنقاذ الآخرين من جشع المرابية اليهودية وأن يكون عظيما. وإن الجزاء العادل لروديون هو أن يُقتل مرتين وبضربة فأس على رأسه، قد نتفقد التصوير المثالي للجريمة بعقولنا فالكلمات الإجرامية أقل حدة من الفعل الإجرامي، وهنا أدعو القارئ أن يشاهد فلم الجريمة والعقاب متوفر على اليوتيوب، ويُسرّع الفلم إلى مقطع جريمة القتل، ليشاهد فضاعة جريمة راسكولينكوف.


وأنا من مقامي هذا لا أحكم على العمل الروائي العظيم، لكن دعوة تحذير إياك أن تغلب عواطفك قدرتك التحليلية والإبداعية في القراءة. 


يذكر أمبرتو إيكو في كتاب -غابات السرد الروائي- حادثة وقعت معه، يكتب إيكو في إحدى رواياته أن إحدى شخصيات الرواية كان يسير في إحدى الطرقات القريبة من كنيسة معروفة وحقيقية، وبعد أن تتعب هذه الشخصية تدخل إلى حانة قريبة من الكنيسة. 
يقول إيكو وصلتني رسالة على البريد من أحد القُرّاء، إنه سار في الطريق المذكور في روايته ولم يجد الحانة المذكورة وأنه في تلك المنطقة لا توجد حانة من الأصل! 

فولتير في رواية القضاء أو القدر، الرواية التي بطلها البابلي زديج الذكي والشجاع، ثُقل الأحداث المحورية هذه الرواية ما بين النحل والتناص مع قصتي نبيي الله موسى ويوسف (عليهما السلام)، ولا أعلم بالضبط لمَ قام بهذا الفعل؟، فخرج عمله من الإبداعية، ولا يستطيع أن يُوهم قارئًا يعرف قصة النبيين بما خطّه في روايته أنها من بنان أفكاره خالصة.


ما بين السقوط في وهم سبر غور الراوي، وتصديق أعمالٍ أخرى لم يكن لكاتبها الفضل كله في إبداعها تضيع الكثير من الأعمال في طي النسيان، وتُصَفُ الأخرى في مقام بليغ البيان. 

هناك تعليق واحد:

  1. المقال كلمة راااااائع لا تكفيه ... أبدعت قولاً ووصفاً وايصالاً للفكرة

    ردحذف