الاثنين، 26 مارس 2018

قراءات في روايات عبد الرحمن منيف

لمحات من حياة عبد الرحمن منيف

ولد عبد الرحمن منيف في التاسع والعشرين من شهر مايو - آيار سنة ١٩٣٣م في عمّان، لأب قصيمي من نجد وأم عراقية. توفي والده بعد مرور ثلاث سنوات على ولادته، فتعهدت والدته بتربيته وكما يقول في إهداء رواية أرض السواد: "إلى نورة أمي التي أرضعتني مع الحليب حب العراق". 
أتم دراسته الثانوية في الأردن، وانتقل بعدها إلى العراق ليلتحق بكلية الحقوق في بغداد حتى عام ١٩٥٢م حيث قامت بإبعاده حكومة نوري السعيد إلى مصر مع عدد من الطلاب ليكمل دراسته هناك. فاز بعدها بمنحة حزب البعث للدراسة في يوغوسلافيا، وتخصص في دراسة اقتصاد النفط لينال الدكتوراه من جامعة بلغراد سنة ١٩٦١م.

مارس العمل السياسي من خلال انضمامه لحزب البعث العربي الاشتراكي، وأنهى علاقته السياسية بعد مؤتمر حمص عام ١٩٦٢م، وهو المؤتمر القومي الخامس للحزب ويعد من أهم المؤتمرات التي عقدها الحزب منذ تأسيسه. وظل عبد الرحمن منيف مناوئًا ومعارضا للحكومات العربية القمعية وخاصة بعد هزيمة ٦٧ أمام الكيان وهذا ما نراه واضحا في روايته حين تركنا الجسر، ووضعه المسؤولية كاملة على الحكومات التي تسبب بالهزيمة للأمة وما تبعت الهزيمة من انكسارات وخسائر

عمل صحفيا في مجلة البلاغ اللبنانية بعد مغادرته دمشق إلى بيروت سنة ١٩٧٣م، حيث أصدر أول أعمال الأشجار واغتيال مرزوق، ثم انتقل للعراق وتولى تحرير صحيفة (النفط والتنمية) الاقتصادية العراقية حتى عام ١٩٨١م

تزوج عبد الرحمن من امرأة سوريا وأنجب منها ثلاثة أبناء وبنت، وتنقل ما بين بغداد وباريس وبيروت ودمشق حتى استقر به المطاف سنة ١٩٨٦م في سوريا حتى وفاته سنة ٢٠٠٤م

عبد الرحمن منيف أحد أهم أستاذة الرواية العربية والسرد الروائي العربي في القرن العشرين إن لم يكن أهمهم، نظرا لتنوع المواضيع التي كتب عنها، والتي عكس تاريخ المنطقة وسياستها والواقع الثقافي والاجتماعي والنقلة النوعية التي حدثت لها بعد اكتشاف النفط، وكذلك لغزارة انتاجه، الذي تجاوز أكثر من خمسة وعشرين عملا ما بين كتب وروايات ومجموعات قصصية قصيرة. وكذلك كان لموقفه السياسي شوط كبير في أعماله والتي تجسدت في كتابته في أدب السجون فهو الذي أعاد تشكيل الرواية العربية في أدب السجون، خاصة مع تزامن صعود الحكومات العربية بسياستها القمعية والدكتاتورية، وممارساتها التي لم تترك لأي صوت معارض لها بأن يبرز، خاصة مع تردي الواقع السياسي ودخول الصراع العربي - الإسرائيلي نفقا مظلما، يوحي بأن هذه السياسات مصيرها أسود على مصير الأمة والمنطقة.




























حين تركنا الجسر

رواية بطعم الهزيمة والانكسار، بمرارة العربي المخذول في حرب الكبار التي لا يملك الرأي في تغيير مجرياتها؛ رغم إنه يرى أن الخيار الصحيح لم يُتخذ. وكما يُعرف عبدالرحمن منيف، بثوريته ضد الحكومات العربية، واعتزازه بعروبته، يُرجّح البعض أن هذه الرواية تصور مرحلة ما بعد الانهزام للعرب في حرب ٦٧ ضد الاحتلال الصهيوني.

البطل زكي نداوي، يمثل العربي المنسحق والمنكسر نفسيا، بعد أن كان جنديا، يعود خائبا بعد الهزيمة، ويصوّر منيف النقطة المحورية في الحرب هي "الجسر" وترك الجيش لهذا الجسر، الذي له أكثر من دلالة قومية ونفسية ووطنية، فالجسر هو الأمل الذي كان يتشبث به زكي وبرفقة الآخرين الذين معه، بنوه، وتعاملوا معه أنه سر النصر الآتي أو النصر يأتي منه، فتأتي الخيبة مصحوبة بمرارة الهزيمة والفرار، تاركين الجسر لمن؟  هذا السؤال الذي لم يُجب عليه لا منيف ولا زكي نداوي، يبقى الجواب مفتوح ويمكن للجميع أن يجيب عنه، وبذات الوقت يعطي منيف الصبغة التغيرية لهذا الجواب فمن يدري من سيعبر بعد أن ترك الجيش العربي هذا الجسر، بلا حماية، خطة بديلة للكل الحالات، من سيأتي فوق هذا الجسر، سيجعل الطرف الآخر الفار، معرضا لشتى أنواع الخُذلان الدائم والعيش بمرارة الماضي وصعوبة حاضر لا يُمكن أن يُغير بسهولة فقد تركنا الجسر الذي بنيناه بأيدينا

ويظل السؤال الذي يلاحق زكي نداوي لمَ لمْ ننسف الجسر، الجسر لم تركناه وحيدا، وبقينا ننتظر الأوامر وحين جاءت الأوامر كانت أمرا بالانسحاب وليُنقذ كُلًا نفسه، وهنا إشارة واضحة لرداءة التخطيط وقلة التدبير قبل خوض حرب مصيرية تهدد مصير أُمة وأجيال

زكي نداوي الذي يعود أو يمتهن مهنة الصيد -ليست هناك إشارة واضحة عن عمله السابق-، يبقى حبيسا للماضي، ويدور في متاهاته لا يحرى جوابا، وتبقى التساؤلات مضطربة في فكره، تقضُّ مضجعه، وتهدد راحة، وهنا يُبرز منيف أزمة الهوية المتصدعة التي يُعاني منها زكي، فهو أضحى بلا هوية، لا شيءَ يربطه بالواقع، بنفسه، غارق في بحار التردد الذي سيّطر عليه وجعله شاكًا بكل شيءٍ ولا ينفك يذكر الجسر

الشق الآخر من الرواية، هو طابعها في تصوير الصراع بين الإنسان والحيوان، زكي الذي يجوب الأراضي ليصيد ما تطوله يداه، هذا الصراع المستمر بينه وبين فرسيته التي ينتظرها كل يوم، ويسعى بكل جهده، حتى يُنهي عمله مكللا بالصيد، نحن هنا أمام أدب البراري. الطيور تلك العدو التي يحاول زكي نداوي أن يُنهي هيمنتها على عالم السماء، ويصبح هو السيد الذي يتحكم بهذه البقعة من الأرض أو هذه المنطقة من السماء، ببندقيته التي لا يريد أن تُخطئ، فخطأه هنا هو جسر آخر لا يُريد تركه، إصرار الإنسان في السعي خلف الطريدة، الشريدة، ما بين صبر وخبرة في الصيد والمهنة، وسعي دائم في معرفة أوقات نزول الطيور للأرض وأماكن تواجدها، كل شيء هنا يجري بدقة، كل شيء منتظم، إلا زكي الذي يجد نفسه في عالم غريب عنه، رغم كل محاولته أن يتناغم وينسجم مع الطبيعة ويتوحد معها، ليصل لطرائده بكل سهولة، لكن هنا ريح مستمرة تعصف بجسره، بجسره الذي لم يعد موجودًا

زكي نداوي هو الشخصية الرئيسية في الرواية رغم ظهور شخصية الشيخ في بعض الفصول، ألا إنها تبقى ثانوية التأثير، فهي رواية الإنسان الواحد، لكنها الإنسان الذي يمثل جيلا بكامله، جيل يكره الماضي الذي خسر بسببه هويته التي يتفاخر بها، وأصبح الشرخ كبيرًا، ولا يُرقع، فكان الملجأ الوحيد هو الوحدة، هو أن تكون منعزًلا عن الآخر، حتى وإن تواصلت معه، ألا إنك وهو في عالمين مختلفين، تجلسون تحت ظلال الجسر، الذي لا وجود له إلا في ذاكرة أصحابه

رغم مصائبه وتشتته النفسي وضياعه في ماضٍ ظلَّ حبيسا لجسره، ألا إنه زكي كان مليئًا بالحكمة، فكثير ما ينطق بكلامٍ قيّم، بلسان من عركته الحياة وسبر غورها

من بعض حكمه:

"الإنسان عندما يكون وحيدًا يتملكه برد أزلي، برد بدائي لا يُقاوم". 

"نحن نستحق الموت... الموت أكبر منا ولا يمكن أن نصله بسهولة". 

"فقد الناس القدرة على البكاء.. لا.. إنهم يبكون بدموعٍ تتساقط إلى الداخل.. إنهم يبكون كل وقت.. حتى أثناء النوم!" 



زكي لم يكن وحده في براريه، هناك آخر رغم صمته الدائم، ألا إن لدوره لا يقل عن دور زكي نداوي، هو الكلب وردان، يُعطي منيف للحيوان دورًا يقوم بمقام الخليل والرفيق، فكما كان الحمار هو ذلك الرفيق الذي يسمع كلام صاحبه بأذان صاغية، وردان الكلب الوفي، كذلك لم تقل أهميته عن أهمية أي صديق صدوق، يُشاركه زكي أفكاره وحياته وماضيه وقصصه وأخباره، وبالتأكيد يُشاركه الجسر الذي تركناه، يُقاسمه الألم ومرارة الهزيمة

علاقة زكي مع الكلب أو في حديثه لنفسه، تكشف صدعًا عقائديا، فزكي لا يؤمن بالرب، فهو ما بين ضفة الكفر وضفة الحيرة من يختار، يبقى يعوم، وهذا الخلل العقائدي والنفسي، هو واحد من أسباب ترك الجسر، فترك الجسر كما يُريد منيف ليس تأثيره نفسي وواقعي فقط، بل كذلك يجعله منيف عائق بين الإله والعبد، فهذا العبد بعد ترك الجسر لم يعد يؤمن بشيء ولا يريد شيئا من الإله



أم النذور

رواية الطفولة ولسانها الفصيح، يأخذنا منيف مع سامح إلى ظلال شجرة أم النذور والتكية والكتّاب والحاج زكي، إلى الحياة التي بدأت تشهد تغيّرًا ما بين الماضي والمستقبل القريب الذي بدأ يلتهم تركة الماضي ليصنع لنا حاضرًا جديدًا، فينظر له الكبار الذين انسحقوا مع الماضي الذي عاشوه وعركهم حتى أصبحوا جزءًا لا يتجزأ منه، مع الإنسان الجديد الصغير الذي يخطو أولى خطواته في هذه الحياة خارج حدود مملكة منزله، محتكًا مع العالم الجديد، ومتطلّعا إلى الأفضل ومتسائلا عن كل شيءٍ حتى يستطيع أن يخطو خطوته الأولى بكل ثبات وحزم بعيدًا عن تردد الأمس الذي يجب أن يولي لأبناء اليوم


سامح الطفل الذي بلغ السن التي يجب أن يلتحق بالكتّاب ليتعلم القراءة والكتابة، ولأنها قراءة ليست ككل قراءة طريقة بدائية فقد سُميت فك الحرف، وهي تسمية لها دلالتها التي تلامس قلب معنى القراءة، فك لرموز هي الحروف، فك يأخذ وقتًا طويلًا، وبذات الوقت تُعطي للقراءة مدلولا رمزيًا لدى الناس وقتئذ إن الكتابة لغزٌ يحتاج لحذق يعرف كيف يحل رموزه ويصل لحله، الصراع الذي دار بين طيّات الرواية صراع الكتّاب وتعليم الشيخ مع المدارس التي ما زال عمرها صغيرًا، وذاك الخوف من الأهل أن يبعثوا بأبنائهم إليها، وأن يلتزموا بما تعاهدوه من الآباء والأجداد في التعلم لدى الكتّاب


الرواية التي تدور على لسان سامح، وهو يقص حياته في سنيّ عمره الأولى، وكل ما يدور حوله، بفهم الصغير وحداثة فكره غير الناضج، فينتقل من السؤال إلى التفكير، إلى تقليد الكبار فيما يفعلون، ويقولون، منيف في روايته هذه، يذكر الكثير من الحوادث على لسان سامح وكيفية التعامل معها والإجابة عليها، فيما يخص الموت والعقيدة والحياة ما بعد الموت، علاقة الأبناء مع الأب والأم
تبرز صورة الأب الكبيرة، ومدى نفوذها وسلطتها على العائلة العربية، فهو الآمر الناهي، فصورة الأب العربي، لوحة فنية مميزة، ومحاولة بنائها وتجسيدها وسبر غورها، عمل مرهق، باختلاف التفاعلات النفسية من أب لآخر رغم تشاركهم في هيئة واحدة، وشكل عام، ألا أن لكل أب صورته ومزيّته الخاصة، إن التحكم بمصير ومستقبل الأبناء، صفة الأب العربي التي ما زالت حتى اليوم، فزمن الرواية في الربع الأول من القرن العشرين، وبمرور مئة عام تقريبا، بقيت صورة الأب العربي وواجباته وتصرفاته هي ذاتها دون أن تُمس تقريبا. وذاك الصراع الذي يدور في حنايا الابن الصغير تجاه أبيه ما بين الحب والكره، ما بين الاحترام والخوف، صراع مستمر، لكن تبقى مركزية الأب ومحوريته قائمة في الرواية، ومنيف  يصف تلك الصورة بأفضل ما يُمكن أن يصل له الطفل في سنِّه هذا


بينما علاقة الشيخ زكي وطلابه، وقساوته في التعامل معهم، هي كذلك علاقة نمطية، وصلت في زمان حدث الرواية، إلى مستوى سيئ أشبه بأن يكون سجنًا، مع سجّان سادي، وهذه الصورة هي الأخرى للأسف ما زالت موجودة في شخصية بعض المعلمين، السادية أو قيام ضغينة احتقار أو انتقاص من الطالب. وحشية وسادية الشيخ زكي ومعاناة سامح النفسية معه، تفتح الباب لكثير من التساؤلات عن ماهية وظيفة المعلم وطرق التعامل مع الناشئة، تساؤلات يطرحها سامح على نفسه، لكن لا إجابة تفشي غليله، فيبقى تمنى الأسوأ لشيخه هي الحل الوحيد

إن الوصف السيكولوجي لكل حادثة تقع لسامح، ووصفها بذاك الاتقان العذب، تبدو واضحة من خلاله رصانة منيف السردية، فالتفاعل النفسي الذي يحدث في فكر سامح، ينقله منيف بصورة واضحة ومقسمة حيث لا يسبق تفاعل نفسي تفاعلا آخر، فبنية سامح العقلية رغم حداثتها فهي صلبة، ورغم ترددها أحيانا تبقى قوية ومتزنة

الجانب الآخر من هذه الرواية والذي يمثّل محورًا رئيسيا لا يقل عن طفولة سامح، ألا وهو الجانب العقائدي المتمثل في شجرة أم النذور وتكية الشيخ مجيب، وتلك الممارسات الشركية التي يمارسها الناس بصورة يومية ومستمرة، من تعليق القماش على الأشجار وسؤال الموتى والذبح للأولياء، هذا الجو الإيماني المزيّف، يمثّل سفاهة بعض العقول وقتئذ، وبساطة فكرهم الذي يصل بهم لدرجة الحماقة، والوقع في فخاخ الشرك



























خماسية مدن الملح

مدن الملح: التيه 

الجزء الأول من رواية مدن الملح والذي يروي فيه بداية الاستثمارات في الجزيرة العربية للنفط والتحول الذي يطرأ لمجمتع البادية نحو الحضر والتغيير نحو بيوت الصفائح "البركسات" والإسمنت،  بعد أن كان وادي العيون يعتمد على القوافل في تجارته البسيطة للبيع والشراء ويستخرج الماء من الآبار تأتي الشركة المستثمرة للأرض وتبدأ بعدها الصراعات بين أهل البادية والشركة ومناصريها ويوضح منيف الخلاف بين الموافق لهذا التغيير والمعارض له. رواية مدن الملح وثيقة تأريخية لذلك العصر موضحًا وكاشفًا الخبايا والحقائق حول الحياة في البادية من الناحية الاقتصادية والاجتماعية وكيفية تعاملهم مع الاستثمار الأجنبي وما هي فكرتهم تجاهه، تتدخل أروقة الرواية أحيانًا الخيال والتنبؤات لبعض الأحداث. وينتقل محور الرواية إلى مدينة حران وكيفية تحول هذه المنطقة من مكان عادي أقرب أن يكون للمجهول إلى شعلة مُضيئة في هذا العالم الجديد المولود وما لهذا التغيير من عقبات ومشاكل ونتائج. للرواية أبعاد سياسية واضحة في صفحاتها كاشفةً كيفية تحول أصحاب الأرض وملاكها إلى مجرد عبيد على هيئة عُمال ودور السلطة في تيسير عمل الأجنبي في الأرض على حساب أصحابها. من أكثر المميزات لهذه الرواية التوضيح والعرض الشائق والمثير لكيفية تعامل البدو بادئ الأمر مع الاختراعات التي تصلهم كالمنظار والراديو والسيارة وتفاجئهم بهذه المخلوقات العجيبة التي تنزل في وسط خيمهم.

مدن الملح: الإخدود

الجزء الثاني من رواية مدن الملح وفيه يستكمل منيف تطور الحياة بعد اكتشاف النفط وقيام الدولة الجديدة المواكبة لتطور العالم، تدور أحداث الرواية في سلطنة موران وهي تورية لأنه يقصد بها "السعودية المعاصرة" ويتم معرفة هذا الشيء بصورة واضحة أثناء قراءة الرواية، ويستمر السرد التاريخي لسيرة المملكة من نواحي الاجتماعية، السياسية، الاقتصادية وكيف تكونت العديد من دوائر الدولة والحكومة بل هي أقرب لتكون المنهاج والطريق الذي تم سلكه لتأسيس المملكة، يغوص القارئ في أعماق تلك المدينة ليتعرف على مساوئ السلاطين وحاشيتهم وكيف تجري الأمور في ظل خيمتهم الكبيرة. الرواية متشعبة في كل الاتجاهات والزوايا فغطت كل ما أراد منيف إيصاله لنا، لا يغيب الجانب الروائي والخيالي في حياة بعض الشخصيات فيختلط الخيال بالواقع لكنهما يسيران بنسق متساو فلا يطغى أحدهما على الآخر، أكثر ما أراد منيف تبيينه أنك مهما ارتقيت في سلم الحكومة والسياسة لا بدَّ أن تبقى في حلقة سيزيفية دائمة، متعرضًا للخسارة في أي وقت ومهما كنت ذكيًا ومتنبهًا ستُضرب من حيثُ لا تحتسب.

مدن الملح: تقاسيم الليل و النهار

الجزء الثالث من رواية مدن الملح و فيه يعود منيف إلى فترة البدايات لقيام سلطنة موران ويبحث في كيفية نشأتها، وكيف جرت عملية سيطرة السلطان خريبط على المنطقة والمعارك التي دارت بينه وبين أعدائه من أجل إحكام السيطرة على موران وما جاورها من مناطق ورسم الحدود بالاتفاق مع بريطانيا، يظهر دور بريطانيا واضحا في إصدار الأوامر ودعم الأطراف المتنازعة ماديا ولوجستيا من خلال القناصل والمبعوثين والمستشارين ما بين الطرفين وهذا دأب الغرب وسياستهم في إخضاع الشرق لهم و لسيادتهم، دور بربطانيا بدا جليا من خلال موفدهم إلى موران "هاملتون" هذه الشخصية والتي لا يخفى على القارئ أن المقصود بها هو المستشار البريطاني الذي ينفذ أوامر بريطانيا  من خلال إبداء الآراء وعرض الأفكار والتقرب من أصحاب الشأن  في شبه الجزيرة العربية كصديق، في فترة بداية العقود الأولى من القرن العشرين وهو زمن أحداث الرواية كما ينوه منيف في أول كلمات هذا الجزء، ودور هاملتون في إعطاء الأوامر وكونه وسيط بين موران وبريطانيا وكذلك ما قام به من عملية تدريب كاملة من كافة النواحي للأمير الذي سيكون له شأن فيما بعد لحكومة موران . 

*يجب أن يكون ترتيب هذا الجزء هو الثاني من أجل فهم وقوع الأحداث وترتيب زمنيتها بصورة صحيحة هو أن يكون والإخدود هو الثالث، لكن يبدو من المحتمل أنَّ كتابة هذا الجزء لم يكن مُخططًا له قبل كتابة الإخدود أو هي  حركة أراد منيف من خلالها إضافة الإثارة لروايته. 


مدن الملح: المُنبت

يتناول الجزء الرابع من الرواية حياة السلطان ومعاونيه وأسرته في المنفى وكيف دارت الأحداث في ألمانيا بعد أن تم الانقلاب عليه بعد سفره إليها، ركّز فيها بصورة واضحة على الحكيم وحياته بعد أن أُجبر على السفر خارج موران وكيف تدهورت مكانته بعد أن كان مستشار السلطان وصاحب سره، الأحداث بصورة إجمالية كانت خفيفة بدون أي إثارة على عكس الأجزاء البقية، وبرأيي هذا الجزء هو الأقل أهمية في هذه السلسلة، بقاء الأمل لدى خزعل بعودته إلى موطنه وانتقامه ممن كان السبب في الانقلاب وعزلهُ من السلطة وتذكره كيف كانت تجري الأمور في ظل سلطته وحكمه كانا هما الروح التي ظلّت تدفعه إلى الصبر والانتظار وتداعب خيالاته.

مدن الملح: بادية الظُلمات 

خاتمة الملحمة الروائية العظيمة لتاريخ منطقة الجزيرة العربية وكيف تم قيام الدولة التي ما زالت إلى الآن تحكم الأرض القسم الأول من الجزء الأخير وفيه يتمُّ العودة إلى لاستكمال وتوضيح بداية قيام سلطنة موران في عهد خريبط مكملًا ما ترك لها من أحداث غير مُكتملة في الجزء الثاني "الإخدود" بذات الإسلوب المميز في لسرد لكل أجزاء الرواية، أما القسم الآخر فهو يمثل المرحلة الأخيرة من تاريخ السلطنة المسرود، ولم تختلف سياسة السلطان الأخير عن سابقيه وما رافقه من دكتاتورية الحكم وتعسف السلطة في حق أبناء موران. ولتنتهي حقبة في تاريخ موران سادلةً الستار على أسرار السلطة الحاكمة والتي لا يخفى على القارئ مدى حقيقة المعلومات المذكورة بالرغم من تداخل النَفَس الروائي كحال بقية الأجزاء.

الرواية بجميع أجزائها بعيدة عن التحليل النفسي والغوص بأعماق التصرفات البشرية كعادة بعض الروايات، خفيفة، سلسلة وتُعلّم القارئ ثقافة البادية وأهلها، الرواية غنية بالأمثال والأشعار، فثراءها لا يقتصر على قيمة ما سُرد فيها فهي ديوان للشعر وكتاب أمثال وحكايا وقصص.
كان لسان حال منيف هو لسان الجميع والمجتمع الذي عانى من ويلات السلطة، وهي وثيقة تُعرّي كل من صعد لسدة الحكم والملوكية، وهذا ما بدى واضحًا في حياة منيف وما تخللها من أحداث مُثيرة للجدل تبيّن أن ما ذكر وكتب لم يكن مُجرد رواية. 

هذه الرواية هي من أعظم الأعمال الأدبية العربية في القرن العشرين، ولربما هي نبوءة منيف؛ بأن مدنكم هي ملحية ومصيرها الذوبان والاندثار، وبقيت روايته هذه ممنوعة في السعودية حتى وقت قصير، والجدير بالذكر أن مواقفه المعارضة لأنظمة دول الخليج وسياستها دفعت السلطات السعودية بسحب الجنسية السعودية منه.



قراءة الجزء الثاني:

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق