الاثنين، 26 مارس 2018

قراءات في روايات عبد الرحمن منيف


شرق المتوسط 


هذه الرواية التي تعتبر إعادة تأسيس لروايات أدب السجون العربي، وصرخة تجاه الظلم الذي يتعرض له المعارضون السياسيون في سجون الحكومات العربية، وهي تُخلّد مرحلة خطرة في تاريخ الوطن العربي والأنظمة القمعية الدكتاتورية التي أخضعت الشعوب العربية لها بالنار والحديد، وتفتح الباب للروائين القادمين في الكتابة عن هذه القضية، وكسر تابوهات السلطة وجرائمها ضد كل من يعارض سياساتها

الرواية الصادرة سنة ١٩٧٥، في الفترة التي لحقت إنهزام العرب أمام الكيان الصهيوني سنة ٦٧، لحظة الشك القومي لدى العرب وما جرته تلك الهزيمة من ويلات، وكذلك عناد السلطات العربية وتشبثها بالحكم، وقمع وإبادة كل من يقف بوجه سياساتها التي أخضعت الأمة لأعدائها كسرت الشعوب، ومزّقتهم، فكانت هي المعول الذي يُحطمون فيه البيت العربي.

ويمثل رجب، أحد ضحايا الأنظمة العربية القمعية، التي تقوم بملاحقته لتعتقله بعدها، ويتعرض داخل السجن لشتى أنواع العذاب ويُقاسي مرارته، ويُعامل بمعاملة تُنافي حقوق الإنسان، وأي حقوق سيحصل عليه العربي إذا دخل للسجون هذه،  ولا يقتصر الأمر على السجين السياسي أو المتهم فقط، فعائلته ومن يعرف يكونون كذلك في خطر الملاحقة والاعتقال، وقد يستخدمون كذلك كنوع من الضغط عليه، ولا يهم إن كان بريئًا أو متهما المهم أن يعترف بما يُطلب الاعتراف منه

إن الشرق المتوسط لا يُسلط منيف الضوء فيها على التعذيب الجسدي الذي يتعرض له المعتقلون له، وسوء المعاملة داخل السجون، لكن كذلك تصف عملية قتل الإنسان من الداخل وتدميره النفسي، وخلق مسخ مشوّه، وتحطيمه وجعله رثًا كثوب قديم، في السجن إن لم تمت تحت التعذيب فإنك ستموت كمدًا، مما أصابك ومما تجره عليك تبعات الاعتقال، وما قد يُصاب به من تحبهم جرّاء فقدانك، إن الموت النفسي لهو أخطر ما يواجه هؤلاء المعتقلون بعد خروجهم من السجن، وصراعهم مع الماضي الذي سحقهم بين رحاه، وبعثهم أمواتًا غير أحياء

الشرق المتوسط ليست تخص بلدًا دون آخر، فهذا الكاتب المناضل الثوري، عركته الحياة، وفهم هذه الأنظمة وعرف كيف يُديرها القادة ومن دونهم وجلاوزة النظام وزبانية السلطة، بل بل هي للوطن العربي بدول شرق المتوسط وجنوبه، فالنظام القمعي واحد، ودكتاتورية السلظة ذاتها، والمعارض والذي يقف بوجه هذه الحكومة يناله المصير ذاته، والعجيب في الأمر رغم مرور أربعة عقود على صدور الرواية، ما زالت الأمة العربية تُقاسي الأمرين تحت نفس الأنظمة الدكتاتورية، وإن ذهب نظام جاء من هو أعتى وأسوأ منه، وما زال المعارضون ومن يفكر بقلب نظام الحكم والخروج عليه تناله نفس العواقب، حيث لا صوت للشعبولا مستقبل واضح الملامح له في ظلال هذه الأنظمة
















الآن... هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى:

يعود عبدالرحمن منيف بعد خمسة عشر عاما برواية جديدة، لينشر رواية أخرى عن معاناة السُجناء السياسين، وخاطًا بقلمة رواية أخرى في أدب السجون، لكنها هذه المرة أكثر تفصيلا وأكثر عمقًا وسردًا وأحداثًا، فبعد رجب يظهر لنا طالع العريفي وعادل الخالدي وغيرهم الكثير

فكرة الرواية ربما لا تختلف كثيرا عن رواية شرق المتوسط، لكنه يكتبها لأنه يُريد أن يوصل للقراء وللعالم العربي أن رواية واحدة لا تكتفي، وإن كنتم نسيتم رجب، سأعود بشخصيتين لن تنسوهما وسأحفر بكل ما أوتيت من قوة قصتهما في أذهانكم يا أصحاب الذاكرة السمكية، وكذلك يوجهها للحكومات القمعية التي كانت وما زالت تقمع كل من يُعارضها، مستندين على جلاوزة وجلاديين مُسخوا وحوشًا، لا يرتون إلا على الدماء ونهش لحم المساجين، وينقل منيف بشاعة السجون وقذارة الواقع والمصير الذي كان يُحيط ويتربص بكل السجناء السياسيين، وعملية مسخ الإنسان ونزع روحه بكل بطءٍ وذلٍ خلف القضبان، كيف يكون للصمت قوة تقهر ملايين الكلمات، وتُزلزل الأرض تحت أقدام الجلّاد، حين يفقد التعذيب سطوته أمام التحمل، ويفقد الكرباج قوته أمام الصمت، وتضيع قسوة الضربات في أرض الصبر، حين تفقد الحياة قيمتها في لحظة وحين تبلغ قمة مبتغاها في أجزاء من الثانية، في لحظة تأمل، يصل المرؤ بحرية روحه وفكره إلى هدفه بسرعة، فيغنيه شعوره ذاك عن كل عمره الذي يُقضى في سجن منزوٍ في أرض فلاة
هذه الرواية تُقسم على أربع مراحل

المرحلة الأولىوهي وصول عادل الخالدي إلى براغ لتلقي العلاج، فبعد سنين من السجن والتعذيب والقهر، يتم إرساله إلى براغ، لكي يتعالج، ببساطة هم لا يريدونه أن يموت عندهم، كما يُبرر خالد إرساله للعلاج، يدخل بنا منيف مباشرة إلى صلب قصته، وعلى لسان خالد، كانت معرفة طالع العريفي هي التي غيّرت حياته، فطالع هو الماضي هو القضية هو الوطن، هو الشريك الذي قاسمه نصيبه من الموت والحياة المليئة بشتى أنواع المأساة
ويُسلط الضوء منيف وهو الذي قضى من حياته فترة في براغ، على التعامل الذي يلاقيه الهاربون مو فخ الموت إلى أوروبا في فترة علاجهم، كيف يُعامل الإنسان إنسانا لا يعرفه ويهتم به، بينما يُذيقه ابن بلده سوء العذابوهذه المرحلة التي يتواجه فيها خالد وطالع ويعيشان معًا، يتقاسمان حاضرهم وماضيهم، وكما كان سلاح رجب هو التدوين، حتى يسمع العالم عذاباته، يُقنع خالد طالعًا على كتابة قصته في السجون التي قضى فيه سنينًا عديدة

المرحلة الثانية: (حرائق الحضور والغياب

العهد القديم لطالع، وهنا يبدأ منيف بالعودة إلى الماضي حيث البدايات، حين تم إلقاء القبض على طالع، بتهمة المعارضة والوقوف ضد الحكم، وتبدأ رحلة التعذيب لأجل الاعتراف، وبعيدًا عن كل أنواع التعذيب النفسي والجسدي، وعملية مسخ الإنسان عن كيانه، يُركّز منيف على إبراز قضية مهمة في مواجهة كل أنواع العذاب، ألا وهو اللجوء إلى الصمت، وكيف يكسر الصمت طغيان الجلاد، ويجعله يخسر معركته رغم كل أسلحته التي يحملها، الصمت القلعة التي يلجأ لها طالع، حصينة ومنيعة، فرغم قذاعة الشتيمة وأثر القسوة في التعذيب، يقف الصمت أمام صاحبه جبلا منيعا، يُنسيه لحظات الموت ساعة حضورها، وينقله من عالم الواقع إلى عالم اللا واقع، إلى البعيد حيث لا ينتمي إليه لجسد، كائن أثيري قوامه الصمت

لا يُريد منيف من هذه المرحلة أو التي تلحقها، إلا أن يكون صوتا لمن لا صوت له، أن يُبّلغ الذين يسكنون خارج السجن بمعاناة أهل داخله، فقيمة ما يكتب بعيدًا عن جانبها الأدبي، وهدف الأدب وإنسانية غاياته، فهو يتكلم نيابة عن الجميع، في عصرٍ القمع والموت، فشجاعته بالكتابة، وتضحيته بكل شيءٍ حتى يُوصل أصوات المنسيين في سراديب التغييب القسري، هي وقفة شُجاع أمام طواغيت السلطة وزبانية السعير الدنيوي

ولا يخفى على القارئ إن طالع من أهل موران، وهي السلطنة والبلاد التي كتب عنها منيف خماسيته "مدن الملح"، فهنا يُحدد المكان، لكن بالتأكيد لا يقتصر الأمر على  ما يحدث في سجون موران، بل موران كغيرها من بلاد شرق وجنوب المتوسط

المرحلة الثالثة: (هوامش أيامنا الحزينة)

رحلة الخالدي في سجون البلاد، يُعتقل خالدٌ، وتبدأ رحلته الملحمية الموزعة على أكثر السجون قسوة وسوءًا في عمورية، لا تقل مأساة خالد عن مأساة طالع، فما دام السجّان واحد فالعقاب الذي يُصبُّ فوق أجسادهم واحد أيضا وإن تغيّرت أساليبه واختلف منفذوه
كان تركيز منيف في المرحلة الثانية من الرواية على الأثر النفسي والجسدي للتعذيب في السجون الحكومية ضد المعتقلين السياسيين، تحول الأمر في المرحلة الثالثة إلى سجل تدويني للسجون، وما يحدث في كل منها، ومن ينفذ، وكيف تُدار الأمور فيها، ففي كل مرحلة ينتقل خالد إلى سجن مختلف ما بين السجن المركزي والعفير والقليعة، وهذه المرحلة مختصة أيضا بحياة السجون، وتصويرها على حقيقتها، وواقعها الأليم، والعلاقة بين السجناء، فبغض النظر عن اختلاف قضاياهم إن كانت جنائية أو سياسية، إلا أن هناك نوع من الترابط ينشأ ما بين الفرقتين، يدفعهم إلى الوقوف بصف واحد أمام الجلاد

الرواية تفتقد لعنصر الإثارة والحبكة، فهي في كثير من فصولها وصفية لما يحدث داخل السجون ويتعرض له السجناء، وتقريرية في تبيان وذكر التفاصيل، فهي كبحث كبير، تبرز قيمته على أهمية ما يُذكر فيه، وتبرز قيمة منيف السردية، وباعه الطويل في الكتابة، ورصانته وقوته في جعل الرواية ذات مستوى واحد، يبقى في رونق واحد من البداية حتى النهاية

المرحلة الأخيرةهذه المرحلة مترابطة مع المرحلة الأولى التي في ختامها يُسافر عادل إلى باريس، والمرحلة الثالثة، التي يلتقي فيها عادل ببعض الرفاق القدامى، ليشقَّ طريقًا جديدًا في حياته، ويُدوّن ماضيه المظلم في عمورية، وليكون صوتًا يصرخ وينادي من بعيد، ويُعرّف العالم في خارج بلاده ما يحدث في داخل بلادهختام الرواية يبقى مفتوحا لكل النتائج والتبعات، وحضور الماضي، والعيش في عذاباته، والعمل على تغيير حاضرٍ حتى يتنسى لمن يأتي من الجيل القادم، أن يكون واعيا وعارفًا كيف يجب أن يعيش ويتصرف ويقرر وينفذ قرارته، وليعرف من يواجه
إن هذه الرواية وسابقتها شرق المتوسط، تُثبت إن الكلمة في كثير من الأحيان لا يقل وقعها وأثرها من ضرب السيف، فهي تكشف المستور، وتُبرز المخفي وتُظهره للعلن، بمثل هكذا أعمال يُمكن أن تُزعزع أنظمة وحكومات، حين تكون عملا صادقا مؤثرًا، فهي ترس للدفاع عن المظلومين وسلاحا بيد من يريد أن يغير الواقع، هنا في دول شرق وجنوب المتوسط


















أرض السواد

رواية أرض السواد هي آخر ما كتب عبد الرحمن منيف من الروايات، وهي تتناول تاريخ العراق الحديث، وتبدأ الرواية فيه من وفاة سليمان باشا الكبير الوالي المملوكي للعراق، لتلحق وفاته فترة مضطربة في الحكم، تنتهي بتولي داود باشا ولاية بغداد سنة ١٨١٦ وهو آخر المماليك، الذين حكموا العراق لثمانية عقود ابتداءً من سليمان باشا أبو ليلى سنة ١٧٤٩
ولد داود باشا بمدينة تبليسي في جورجيا والذي بيع كعبد في بغداد وبعد مرات من البيع انتهى به المطاف عند سليمان الكبير وتعهد بتربيته وزوجّه ابنته فيما بعد، امتدت ولاية داود باشا لقرابة خمس عشرة سنة، شهدت إصلاحات كثيرة عسكرية وسياسية واقتصادية وتعليمية وعمرانية، ويعتبره الكثيرون أنه قائد حملة الإصلاح والنهضة في العراق الحديث والتي نُسبت أغلبها لمدحت باشا، كان داود باشا يطمع بأن يستقل بالسلطة عن الحكم المركزي للدولة العثمانية في الإستانة متأسيا بمحمد علي في مصر، إلا إن خطته فشلت بعد أن حرّك الخليفة العثماني محمود الثاني جيشًا، اضطر داود باشا لتسليم بغداد سنة ١٨٣٠ والذهاب إلى الإستانة، ثم أُرسلَ بعد ذلك شيخا للحرم النبوي، وبقي هناك يُدرس ويتعبد حتى وفاته سنة ١٨٤٤ ودُفن في البقيع
إن ما كُتب عن سيرة هذا الوالي يُمكن أن يُقال عنه قليل جدا والأخبار الموثوقة عن تلك الفترة قليلة هي الأخرى، ومن أهمها (مطالع السعود بطيب أخبار الوالي داودلعثمان بن سند المصريونظرًا لبعد الفترة الزمنية ما بين منيف وفترة حكم المماليك، فهذا العمل ستشوبه كثير من التساؤلات، والمعلومات التي قد تكون غير دقيقة كثيرا، سيضطر الراوي أن يستعين بمخيلته لإكمال صورتها وملء الفراغ الذي يولده نقص المعلومات، خاصة وأن للرواية عدة بيئات متنوعة تدور فيها الأحداث إحداها يخص السُكّان والشارع، والأخرى تخص الطبقة  الحاكمة المتمثلة بداود باشا ومعاونيه وقادته والعلاقات السياسية مع الجهات المؤثرة كالقنصليات الفرنسية والبريطانية التي عمل داود في فترة حكمه على تحجيم دورها وخاصة القنصلية البريطانية التي اُفتتحت في بغداد سنة ١٨٠٢م وكان لها تدخلات كثيرة في عهد سعيد باشا الوالي المملوكي الذي سبق دواد باشا

إن الحديث عن المنابع التي استقى منها عبد الرحمن منيف مادة روايته لا يقل أهمية عن الرواية، فالعمل الروائي التاريخي، من أكثر المجالات الروائية الأدبية التي تحتاج التحري والدقة، فهي تستمد من الواقع أرضية صلبة تغرس فيها الخيالات الممزوجة بالتاريخ، ووظيفة الروائي هنا ليس كراوٍ فقط بل كقارئ للتاريخ وعارض له بإسلوب يُحببه للآخر ويسهله له، بالتالي أي تهاون أو تلاعب بالمعلومات أو الحوادث يجعل القارئ، في محل شكٍ من غايات الكاتب وسلامة نيته أو حتى جديته فيما يكتبولا يُمكن الحكم على رواية أرض السواد على أنها رواية فقط، بل إعادة تدوين لتاريخ مرحلة معينة، فالتاريخ هو مادتها الأساسية، والقصص الأخرى التي تدور في فلك التاريخ يجب أن لا تخرج من هذا المسار، فالكاتب يستند إلى هذه القصص  في دعم المحور الرئيسي الذي أراده من هذه الرواية ألا هو تاريخ العراق في عهد داود باشاومن المصادر التي اعتمدها منيف ويُشير لها في رواية مذكرات القنصل البريطاني ريتش في بغداد وقتئذ.

تدور أحداث الرواية بعد افتتاحية وفاة سليمان الكبير، بمحاصرة داود باشا بغداد بعد حصوله على أمر تعيينه من السلطان العثماني في الإستانة لتولي منصب والي بغداد بعد سعيد ابن سليمان الكبير، لتبدأ بعدها مرحلة جديدة على العراق في ظل والٍ جديد، الذي أراد أن يبسط قوته وسلطته وتطهير كل شيء له علاقة بالوالي القديم وأعوانه ومن كانوا يساندونه

 مسارات الرواية متعددة، أما المساران الرئيسان فيخص الأول  داود وسياساته والسراي، والآخر فيخص الشارع البغدادي وحياة المجتمع فيه، ومسار أقل أهمية من سابقيه ومرتبط بالمسار الأول ويتفرع عنه متمثل بالباليوز وهو مكان تواجد القنصل البريطاني ريتش والذي كان له تدخلات عديدة في سياسات الوالي السابق لداود ويعمل على أخذ زمام المبادرة وأن يحافظ على هذا المنصب خاص وهو في تنافس أول الأمر مع القنصل الفرنسي الذي سريعا ما يخسر المعركة ضد ريتش

يُدخلنا منيف إلى أروقة السراي والباليوز والشارع البغدادي، ويبدأ بسرد شخوصه الذين كانوا من الكثرة بمكان، حتى يصعب على القارئ أن يتابع كل شخص ومصيره وقصته بوضوح وأريحية، وأحيانا كثيرة يبدو أن منيف نفسه قد أضاعهم، من خلال وضع نهاية سريعة لهم، أو تخبط واضح في سير عجلة قصتهم وتطورها، فهي تظهر فجأة ويأفل نجمها دون معرفة الغاية من هذه الشخصية أو الدور الفعلي الذي أُريد منها، فكثير من المرات يبدو أن هذه الشخصية يُبعثها ثم لا يعرف كيف يُنهي وجودها وهذا ما نلاحظه في قصة هوبي

بعض الشخصيات ضبابية فهي تبدو للقارئ سطحية وبعيدة جدا عنه، لا يُدرك كنه هذه الشخصية ولا يعرف عنها إلا القليل الذي لا يُسمن ولا يغني من جوع كما في شخصية نجمة، وأخرى تظهر فقط لأجل أن تكمل صورة عرض الحدث.

وكذلك ظهور شخصيات تؤدي مهمة معينة وتختفي،  كشخصية قادر الذي تعرف على ناهي زبانة في قهوة الشطفقادر الذي يعيش في كركوك لا نعرف لمَ جاء إلى بغداد، وكأنّ مجيئه لبغداد هو فقط لمهمة أدّاها فتبدو الحبكة في دوره بدائية وغير مضبوطة وركيكة، وتختفي الشخصية كأنها لم تكن موجودة أصلا، فمَ الذي يفعله قادر في بغداد؟ أين بقي؟  متى رحل؟ كيف عاش؟  كلها أسئلة لن نجد إجابة لها


بينما شخصيات أخرى فهي تبدو جامدة غير متطورة، وتعيش كل أيامها بنفس الوتيرة، وذات الروتين اليومي، وخاصة رواد قهوة الشط، على الرغم من إنهم يمثلون بيئة رئيسية في الرواية يحتضنهم الشارع البغدادي والذي من خلالهم حاول منيف أن ينقل لنا التركيبة النفسية للشخصية البغدادية وكيف تسير حياتهم وأعمالهم وأخلاقهم وآراؤهم في الأحداث، لكنهم لابثون في مكان واحد ليس هناك تجديد في الأحداث فكلها بذات النغم، وكانت تحتاج الأحداث لبعض الإثارة والتغيير حتى تشد القارئ معها أكثر، فلا يُصاب بالمملل ولا يُضيع خيوط الحوادث أو تبدو الأحداث منسوخة عن بعضها البعض ومكررة مع بعض التغييرات الطفيفة
الحديث عن كثرة الشخصيات، أو عدم وضوح صورة بعضها أو جدوى حضورها، لا يلغي العمل العظيم لبقية الشخصيات التي تجاوز عددها العشرات، والتي دلت على جهد كبير لعبد الرحمن في بناء هذه الشخصيات حتى تؤدي الدور الذي فرضها عليه، سواء كانت شخصية مدنيّة أو عسركية أو سياسية أو اقتصادية، فرسم صور شخصيات متعددة بمختلف الوظائف والصفات والطبائع، فيسرد شخصيات مدينة كاملة، والعمل في اتساع مستمر كلما تقدمت الأحداث ظهرت شخصيات جديدة إضافة إلى القديمة، هذا التمدد المستمر يجعل الرواية في كثير من الفصول أنها غير قابلة للنهاية، دون أن يؤثر على رصانة السرد أو حبكة الأحداث



الجسد الروائي لأرض السواد في كل مسارات أحداث الرواية، مدعمةٌ  بقصص ثانوية كثيرة بعضها له هدف وفكرة والأُخر بلا أي فائدة أكثر من حشو زائد لأحداث ثانوية كحادثة رسالة حسّون وقصتها المطولة التي انتهت إلى لا شيء فهو يأخذ القارئ معه إلى تتبع القصة والانتظار بتلهف إلى نتيجة لا يحصد منها إلا ضياع الوقتوكان من الأفضل أن كثير من الأحداث والقصص الثانوية أن تُحذف خاصة وأنها ليست جزءًا داعما للمسار الأساسي للرواية وثانيا ليس لها أي ارتباط بما يجري في الرواية

رواية أرض السواد هي ملحمة روائية لا تقل عن خماسية مدن الملح، لتنوع أحداثها وشخوصها وقصصها، فهي تعطينا صورة متكاملة نوعا ما عن كل ما يهمنا أن نعرفه عن تلك المرحلة، في حالات السلام أو في حالات المعارك التي كان داود وحكومته يخوضها، ويمكنني القول أنها كرواية الحرب والسلم لتولستوي لكن بنسختها المشرقية، على الرغم أن الحرب فيها هو سياسي أكثر من ضرب البنادق وقصف المدافع، بينما الحياة المدنية والسلم، فهي متنوعة كثيرا جدًا، وتكاد تشبه شخصية بدري فيها شخصية أندريه في رواية الحرب والسلم، والحياة التراجيدية لأندريه هي ذاتها لبدري مع الاختلاف الذي يخص كل شخصية نظرًا لاختلاف البيئة والمجتمع والحياة المحيطة بكلا الشخصيتين.

الحياة الاجتماعية لأهل بغداد والتركيبة النفسية لهم، وأحوال التجارة والحالة الدينية، وثقافة المجتمع البغدادي وفلكلوره وعاداته وطبائع الناس، يرسهما ويوضحها منيف من خلال الرواية وتنوع أحداثها وقصصها بأفضل صورة ممكن أن يصل لها، حتى يجعل القارئ والعراقي منه خاصة، يعود إلى الوراء ليتعرف على الحياة القديمة لأسلافه في القرن التاسع عشر، ولا ينسى عبد الرحمن أن يشير إلى طبيعة المكون الاجتماعي العراقي وقتئذ بمختلف قومياته العربية والكردية واليهودية والأرمينية، وكذلك دور اليهود الاقتصادي المتمثل بشخصيتي عزرا وساسون، ولا يغيب أيضا ذكر دُور الهوى التي يلجأ لها الرجال، ومن شخصيات الرواية الرئيسية التي لعبت دورا مهما ألا وهي روجينا التي كانت قوادة عملت بصورة مباشرة مع الآغا عليوي ذو الأصول الإنكشارية.


يُنتقد عبد الرحمن من قبل البعض ويتهمونه بأنه خلط الصور ما بين بدايات القرن العشرين والقرن التاسع عشر في محاولته لاستعادة طفولته وحنينه إلى الماضي خاصة أنها آخر ما كتب منيف، تبقى هذه الانتقادات محلا للجدال والنقاش ودافع أكبر لدراسة الحالة الاجتماعية للشارع البغدادي التي تُذكر في الرواية بصورة دقيقة، ورغم كل هذا فمنيف يُعطي للرواية بعدا عراقيا خاصا، فهي بطعم العراق وتاريخه ومجتمعه ومقاهي بغداد وروادها بلغته وقوة لهجته، بحرِ تموز ونسائم دجلة، بعبق رائحة ورد البساتين، وصياح الديكة في فجره الدجي، هذه الرواية التي سيقرأها الكثير من مختلف الأماكن واللغات والثقافات، لكن لن يعيش معها ويتذوق طعم حروفها، ويشعر بذاك السحر الخفي الذي يلف أحداثها وأحاديثها، ضحكها وسخريتها، بكاءها وحزنها، غرابتها وطرافتها، جمالها وفتنتها، ويصل لروح هذه الرواية ويلمسها بأنامله إلا العراقي الذي تربى ونشأ فوق أرض العراق أو من كان له الخليفة الواسعة عن تاريخ العراق وثقافة وطبيعة مجتمعه واللهجة العراقية.



لا يذكر منيف في روايته الكثير عن إنجازات داود العمرانية والثقافية وهو الذي يُعتبر صاحب نهضة في تاريخ العراق الحديث والذي امتد حكمه لخمس عشرة سنة، إلا إنه يذكر الحملات العسكرية ضد عشائر الفرات الأوسط وحملته في جنوب العراق، وسياسته الفذة في إدارة شؤون الدولة، ورجاحة فكره وبعد نظره، في القضاء على من يحاول أن يغدر به، راسما صورة عامة عن الوالي غير مدقق كثيرا بشخصه أو أن يغوص كثيرا في عمق فكره، لكنه يعطيه تلك الهيبة والرزانة والخبرة السياسية، وهو الذي عركته الحياة ففهم دروبها واجتاز عقباتها، الطامع والطامح بإنشاء دولة قوية يكون هو فيها الآمر الناهي بعيدا عن أي تدخل خارجي، فيواجه النفوذ البريطاني المتمثل بالباليوز والقنصل ريتش وتمرد العشائر في الفرات الأوسط والقبائل في الجنوب والأكراد في الشمال، وأطماع كرمنشاه في فارس، فيبدو كأنه يواجه كل هؤلاء لوحده مع آغاواته الذين يتكشف أنهم هم أيضا محل خطر وعدم ثقة، ليسارع بكل قوة وحزم أن يطهّر خندقه من كل الشوائب التي قد تعيقه وتعرقله من الوصول لغاياته






إن الصراع بين داود باشا وريتش يمثل محورا مهما في الرواية، بل هو الأهم بما فيه من دلالات كثيرة، منها صعود والٍ جديد هو داود باشا يفرق عن الذين سبقوه والذين اتسموا بالضعف، وكذلك الوقوف بوجه النفوذ البريطاني ومحاولته لفرض سيطرته على سياسة الولاة، وجعلها سلطة تابعة لهم، والأهم من كل هذا هو الصراع بين أطماع بريطانيا الاستعمارية وقتئذ وذكاء داود الذي تفطّن لهم ووضع حد وتصدي له، دون الاعتبار لأي تبعات قد تحصل فيما بعد، وكذلك يوضح هذا الصراع، عن أهداف القنصلية في بغداد، فهي كما يظهر من تصرفات ريتش ليست لأغراض سليمة تتعلق برعاية مصالح بريطانيا في العراق، بل هي بؤرة انطلاق وعين لنقل الأخبار والأحداث التي تجري في العراق واستكشاف لهذه الأرض لأغراض استعمارية ظهرت على حقيقتها بعد قرن من الزمن تقريبا، ونباهة داود هذه وقدرته على كشف بل والوقوف أمام هذا الخطر بكل قوة وردعه بكل حزم، نظرة مستقبلية،  يجب العودة إليها خاصة بعد تقدم عجلة الحياة لكن مطامع المستعمرين ذاتها، وإن كان في الأمس القنصل فهو اليوم السفيرالصراع مع ريتش أتى أُكله في آخر الأمر حيث اضطر لمغادرة بغداد سنة ١٨٢١م، وليموت في ذات السنة بمرض الكوليرا في مدينة شيراز  ويدفن في الكنيسة الكاثوليكية في أصفهان بعمر الرابعة والثلاثين.

على الرغم من إن منيف لا يعطي ترتيبا زمنيا محددا في الرواية فالزمن فيها ينطلق دون عدّاد يُنبّه القارئ في أي سنة بالتحديد يقع الحدث، لكن ما يُعطيه منيف لنا هو بداية الرواية وسيطرة داود على بغداد وتنصيبه واليا سنة ١٨١٦م وآخر الرواية بمغادرة ريتش بغداد سنة ١٨٢١م، بالتالي فإن زمن الرواية هو خمس سنوات تقريبا، يعني هذا أن هناك ما يقارب عقدا من الزمن لم من عمر ولاية داود على بغداد ينقص القارئ من أجل أن يتعرف على قصة الوالي داود كاملة.



ريتش لم يكن فقط قنصلا لبريطانيا فهو إضافة لمهمته السياسية، باحث عن الآثار وهذا ما نجده من خلال سيرته، وموضوع التنقيب عن الآثار وبداياته من الأحداث المهمة التي تُذكر في الرواية، وأراد منيف من خلال سرد هذا الحدث التعريج إلى بداية عمليات التنقيب التي قامت بها فرنسا وبريطانيا في شمال العراق في الربع الأول من القرن التاسع عشر



لغة الرواية 

يشير عبد الرحمن في افتتاح الرواية إلى اللهجة العراقية التي استخدمها في حواراته قائًلا: "لهجة بغداد مليئة بالكثافة والظلال، وقد استعملتها في الحوار للضرورة، دون محاولة لإظهار براعة لغوية، أتمنى على القارئ أن يبذل جهدا من أجل التمتع بجمال هذه اللهجة". 

إن اللهجة البغدادية المستخدمة في حوارات أهل بغداد أو سراي الوالي، قد أعطت للرواية مزيّة عراقيتها، فأضفت الصبغة العراقية وجعلت القارئ غير العراقي أمام مهمة صعبة لفك طلاسم الكثير من الحوارات التي لن يفهمها بسهولة غير العراقي أو ربما لن يفهمها إطلاقًافأصبح العبءُ الذي فرضته الرواية نفسها على الكاتب والقارئ أمرا واضحا لا يقبل الجدال ولا يقبل التبديل، فلغة الرواية الفصحى فيما يخص بقية الحوارات والسرد أتت رصينة وقوية ومتداخلة ومتناغمة مع اللهجة وهذا الخلط بين اللغة واللهجة أعطى للرواية بعدا لغويا رصينا وذا دلالات كثيرة منها قدرة الكاتب في رصف اللغة بجانب اللهجة والتنقل بين الاثنين دون صعوبة أو عدم تجانس بل هما قطعة لغوية واحدة تأتي ضمن السياق لا تُفرض على السياق فرضا


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مذكرات عوليس

مذكرات عوليس   ١ أكتوبر . عوليس الرواية التي فصلت تاريخ الرواية إلى جزئين ما قبل عوليس وما بعد عوليس كما يصفها م...