ساعة بغداد - شهد الراوي.
(رواية العودة إلى الماضي ومحاولة الحفاظ عليه)
ساعة بغداد الرواية التي دار حولها الكثير من الجدل، ربما الرواية المفاجئة التي لم يتوقع أحد لها أن تكون ضمن الروايات المرشحة ضمن لقائمة البوكر الطويلة، تضرب جميع التوقعات وتترشح لقائمة البوكر العربية القصيرة للرواية سنة ٢٠١٨م. ولا أُخفي القارئ أني حاولت قراءتها مرتين من قبل فلم أستطع أن أكلمها فالرواية في فصولها الأولى كانت منفرة لي، وفي المرة الثالثة حزمت أمري وقررت أن أُكملها مهما كلفني الأمر.
تدور الرواية على لسان بطلة نتعرف عليها صغيرة لتبكر بعدها وتكبر معها الرواية وأحداثها، التي تدور بادئ الأمر في فترة حرب الخليج الثانية ثم الفترة التي تليها حين يُفرض الحصار على العراق حتى وقت الغزو الأمريكي للعراق سنة ٢٠٠٣م، والمدة الزمنية ما بين ١٩٩١م و٢٠٠٣م هي الزمان الذي تدور في أحداث الرواية.
تبدأ الرواية على لسان البطلة وهي طفلة لتسرد لنا فهمها للوضع وتعرفنا على الشخصيات، وقدرتها على الدخول لحلم صديقتها نادية كونها لا تحلم، هكذا اختارت الكاتبة لبطلتها أن تكون بلا حلم، ولكن بخيالٍ واسع، سيجعل شهد في ما بعد تدخل في مطبّات في روايتها.
الطفلة التي تسرد الأحداث في فصول الرواية الأولى تسردها بلغة طفلة، وهذا أمر لا أدري كيف استطاعت أن تُوظفه الكاتبة في عملها هذا، فأن تنقل الأحداث والوقائع من ذاكرة وفكر ومنظور طفلة لا يعني أن تسرد سرد أطفال، وبلغة ضعيفة وركيكة، وهذا هو السبب الذي جعلني وجعل غيري ينفر من الرواية، كل شيء في الفصول الأولى يُوحي بأن العمل مكتوب والكاتبة تتقمص دور طفلة في كل شيء حتى في الكتابة، فلم يكن يتوجب عليها أن تكتب بهذه الصورة الركيكة، حتى تجاري سِنَّ بطلتها، لأننا نرى أن السرد يتطور ويصبح أكثر انتظاما تزامنا مع تقدم البطلة في السِن وهي تسرد حياتها وحياة من حولها.
ولا يقتصر الأمر هنا فقط، بل عرض الأحداث في أول فصول الرواية والبطلة ما زالت طفلة، عشوائي جدا، وليس هناك حلقة وصل داخل الفصل الواحد تتنقل من حدث إلى آخر ومن شخصية إلى أخرى، ومن قصة إلى قصة، حتى تبدو كأنها لعبة puzzle، غير مرتبة بالصورة الصحيحة.
المغالطة التي سقطت فيها شهد وهي تسرد بلسان بطلتها حياتها وهي طفلة، أنها تُعطي للطفلة القدرة على حفظ تورايخ بالشهر واليوم كأن تقول كما في الصفحة ال١٩:
"في يومٍ من الأيام، كان ذلك على الأغلب في يوم الجمعة من شهر نيسان..." وليس في هذا الموضع فقط بل تكرر في عديد المواضع، والسؤال الذي يطرح نفسه كيف يُمكن لطفلة في الابتدائية لم يتجاوز عمرها الثانية عشرة أن تحفظ تواريخ! وهي التي تصف نفسها في موضع لاحق بأنها "لم أكن أعرف من الوقت سوى الساعة السابعة والنصف حين يدق جرس المدرسة في بداية الدوام...". فهناك لبس واضح وعدم بناء سليم لذاكرة الطفلة والتركيبة الذهنية لها.
وكما ذكرت فإن السرد مع تقدم الأحداث يأخذ طابعا أكثر انتظاما وانسجاما من البداية وهذا ما يُحسب للكاتبة، فهي استطاعت أن تُسيطر على سردها، لكن السرد فجأة يعود إلى تذبذب في مستواه، وتدخلات الكاتبة، جعلت من بعض التفسيرات والإضافات، انهيارا لمنظومة السرد وتفكك عقده، لتعود مجددا لتنتظم.
وتخاطب الكاتبة على لسان بطلتها القارئ، مستخدمة أسلوب معلمة وهي تخاطب تلاميذ في الابتدائية في كثير من المرات، فهي لا تصعد إلى مستوٍ عالٍ من الفكر بل تنزل في شروحاتها وطرح أفكارها، التي كانت في كثير من الأحيان مكررة ومملة وإطالة وإسهاب والدوران حول فكرة واحدة ومحاولة عرضها بأكثر من صورة، وكأنها تُخاطب أطفالًا.
لغة الرواية هي الأخرى تبدو كأنها دالية موجية في حالة صعود وهبوط مستمر، فتارة لغة ضعيفة وتارة قوية، وأسوأ ما وقعت به الكاتبة هو محاولة كتابة اللهجة العراقية بطريقة فصحى كأن تقول: "وراح المطر ينزل بقوة" وصياغة لكثير من الجمل تبدو وأنها محاولة التعبير عن موضوع إنشائي. مع استخدام مفردات لا تتناسق دلالتها ومعانيها مع الجملة المكتوب عنها مثل "وماذا لو أن الحصار لم ينفذ؟" وهي تقصد ينفد وما بين النفاد والنفوذ فرق، وما ذكرته على سبيل المثال وليس تتبع عثرات الكاتبة، فالرواية مليئة بأخطاء لغوية.
تتعدد أصوات المؤلف في الرواية الرواية، فتبدأ وكل ما يخص البطلة من فصول بلسان الراوي المتماهي في روايته وتسرد سردًا متجانسا، أما ما يخص حياة بقية الشخصيات، تسرد سردًا غير متجانس بلسان راوٍ عرف أحداث القصة ويرويها بلسانه، لكن ما بين هذين النوعين لا تعطينا الكاتبة أي إشارة من الذي يروي الروي غير المتجانس، فتختلط الأصوات لدى القارئ ويقرأ بلسان البطلة أحداثا لم تكن في نطاق علمها، وهذا التنوع في
السرد دون ضبطه وتركه عشوائيا يجعل الرواية فاقدة لانضباط هوية الصوت السردي.
تندمج الفانتازيا في بعض الأحداث، لكن يبدو الأمر وأن الكاتبة تكتب وهي تتخيل
نفسها في عالم الرسوم المتحركة فلا تعطي للواقع ضوابطه، وإن كان الحدث يجري في وعي البطلة، فترابطه مع شخصيات واقعية وأرض الواقع يجعل العوالم متداخلة كما في حادثة لقاء البطلة مع جدها بعد أن ذهبت مع نادية إلى ساعة بغداد والتقت المشعوذ.
أحداث الرواية كانت محاولة شهد العودة إلى الماضي وتدوين أحوال الناس أثناء الحرب سنة ١٩٩١م وما بعد الحرب وفترة الحصار والهجرة التي بدأ الناس بها، هربا من واقع مُر، حتى بداية الغزو سنة ٢٠٠٣م وما تلاه من مصاعب جعلت بقية سُكان محلة بطلتنا يُهاجرون، تاركين خلفهم ماضيهم وذاكرتهم وأرضهم وجيرانهم، ليتشتتوا في بقاع الأرض كل منهم في بلد، ومن حالفه الحظ كانت وسائل التواصل الاجتماعي هي السبيل الذي يُمكن من خلال أن يعرف أخبار جيران الماضي وروفقائه.
إن محاولة جمع قصص محلة بتعدد الناس وتنوع شخصياتهم واختلاف حياتهم تركنا مع أحداث بصورة غير واضحة أو تنتهي نهاية خيالية، وكثيرٌ من شخصيات سطحية، بينما يغيب عنها والدي البطلة، وهذا التغييب الذي لم تتضح أسبابه، وحين يُذكرون يبدون كأنهم أطياف تظهر لتأدية دور معين وتختفي مرة أخرى.
تكبر البطلة وتدخل مرحلة المراهقة وتقع في الحب، وتبدأ تتفهم الحياة التي تدور حولها، وتدخل الجامعة بعدها ثم تُعاصر الحرب الأمريكية فالهجرة، تبدو هذه الفكرة مع فكرة تدوين الأحداث الصعبة التي مرَّ بها العراق في التسعينيات فكرة جيدة، لكن تطبيقها والكتابة عنها كان أقل بكثير من مستوى الفكرة، فالفكرة تُحسب للكاتبة لكن الكتابة عنها تُحسب عليها، نظرًا لعدم نجاحها في جعل الفكرة وهي المادة الدسمة، رواية رصينة. لكن ما يشفع للكاتبة أنها روايتها الأولى، وإن الكاتبة لو كتبت مستقبلا عن نفس الموضوع والأحداث كانت ستُجيد وتتلافى الأخطاء في رواية ساعة بغداد.
تسلسل فصول الرواية بصورة عامة تحتاج إلى تنضيد وتنسيق، لا كأن دور كل حدث وشخصية يأتي بالصدفة.
في ختام قراءتي للرواية لا أرى أن الرواية تستحق أن تُرشح في قائمة البوكر القصيرة، وستبقى علامة استفهام كبيرة.
رواية حرب الكلب الثانية - إبراهيم نصر الله.
(حين تتشابه وجوهنا؛ تبدأ نهايتنا بالاقتراب)
رواية في أدب الديستوبيا، مدن الفوضى والدمار والخراب، حين يبدو العالم بعيدا كل البعد عن قوانينه التي نعرفها، على الأقل حتى هذه اللحظة الراهنة التي نحن أسرى لقواعدها الصارمة تارة وشهودا لمسرحِ تخبطها وعشوائية تطبيقها تارة أخرى. تأخذنا هذه الرواية لبعدٍ آخر في دنيا الجنون والتطور إن جاز لنا القول، التطور المنفلت والذي لا تحده آمال أو أهداف، وأسوأ ما فيه أن يكون الإنسان هو المختبَر والمختبِر، أن يكون الضحية والجلاد، حين يتيه عليه اكتشاف موقعه من هذا التسارع الذي يقذف به إلى وجودٍ مليء بمخاوفه التي تركها تهرب وتسيطر على كل الواقع الذي يعيشه.
يفتقر أدبنا العربي إلى روايات الديستوبيا بشكل واضح، ويكاد المؤثر فيها والمشهور لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة أذكر منهن روايتيّ الراحل أحمد خالد توفيق (في ممر الفئران ويوتوبيا) وروايتيّ عبد العزيز شكري (باب الخروج: رسالة علي المفعمة ببهجة غير متوقعة وأسفار الفراعين).
تأتي هذه الرواية لتكون إضافة لا بدَّ منها، تُثري المكتبة العربية، ولمَ لا المكتبة العالمية، فهذا العالم في شبق دائم لعمل أدبي جديد يحمل بين صفحاته كل الجدة والإثارة والتميّز.
في زمان ومكان غير محددين، تدور أحداث رواية حرب الكلب الثانية، مع راشد الذي ربما في كثير من الأحيان يمثل شخصا منا ولو في أمر دون آخر وإن كان لفترة من الزمن أو خلال حدث دون غيره، يُقرر أن يُغيير اتجاه دفة سفينته وأن يكون شخصا منهم وجزءا من نظامهم، من هم؟ الآخر الذي يُدير شؤون حياة الآخرين. إن الانقلاب على الذات والمبادئ، هي الخطوة الأكثر جرأة التي بعد أن يخطوها الإنسان يعلم أن لا مجال بعد للعودة إلى الخلف، ولا فرصة لإعادة الاختيار.
ما الذي يدفع راشد أن يبدل كل مواقفه، وأن يُصبح منهم وجزءا من منظومتهم؟ يُجيب عليه راشد أو هكذا يوهم الكاتب قرّاءه، فهذه المعادلة تبقى صعبة الشرح والإيضاح. والجواب يبقى مهما تعددت الشروح حبيسا لراشد والكاتب، ولكل منا إجابته الخاصة، وفهمه للأمر وإدارته بالصورة التي يراها تُلائم هذه المرحلة دون سواها، خاصة في عالم الديستوبيا حيث اللا أخلاقي هو الذي يُدير كل شيء.
يبدأ الأمر مع راشد المغرم بجمال زوجته، ويبحث عن امرأة أو نسخة أخرى تحمل جمالها، ليجد الحل في الـ هناك حيث يُطور العلم آلة تعمل على نسخ وجوه من نحب في أجساد أخرى ترضى أن تلعب دور المسخ، أو الشبيه.
وفي غمرة نجاحه، يبدأ راشد في لقاء شبيه له، ليتحول الأمر بعد ذلك إلى صداع يؤرقه، ويبحث عن طريقة للخلاص من هذا الشبيه. لا يتوقف الأمر عند هذا الحد فظاهرة الشبيه له ولآخرين غيره تطفح إلى السطح وتكبر المشكلة، لتكون أزمة لافتعال وبداية حرب جديدة.
الحرب التي تبدو كأنها حدث عابر تعود الناس عليه، ولا يلقون له أي تحفظ أو ردة فعل خاصة، وهنا تعريض واضح عن من يقصد الكاتب، هؤلاء الذين تعودوا على الحرب والموت والفوضى، وربما هي سمة الإنسان الجديد، الإنسان الذي اختلط أو نسى معنى العيش بسلام واستقرار. في المستقبل القادم الذي إن حالفنا الحظ ولم نعش في ظلاله فمن المستبعد أن ينجو اللاحقون منه.
يستخدم نصر الله ألقاب رمزية كـ الضابط أو هناك أو حضرته، ليعطي دلالة على أهمية لهؤلاء ومناصبهم في هذا العالم المختلف. وهذا الفعل الذي يستخدمه الكثيرون ليعطوا صبغة من السرية والمكانة لمن يخشون منهم، الرواية هي عالمنا العربي في كثير من أحداثها ورمزياتها وشخوصها، عالمنا المليء بالفوضى والدمار والتخريب والموت والحرب، وأنظمة الموت العبثي.
تأخذ الرواية نمطا تصاعديا وإن بدت بعض أحداثها مطولة أو فاقدة للروح أكثر من كونها ضرورة تواجدها لملء الصفحات، أحداث ثانوية وحوارات مملة متكلفة تدور بين الشخصيات، كأنها صراع لتحديد من الفائز في هذا النقاش ومن تكون له الجولة في الأخير.
ومن صفات الإنسان الذي الجديد هو الشهوانية والجنسانية التي أدت في آخر المطاف براشد إلى أن ينال جزاء شهوته المفرطة والمتحكمة في كثير من أفعاله، ولا تقتصر هذه الصفة على راشد دون الآخرين، فهم كذلك مصابون بهذا الداء الذي لم يبرز في الرواية بشكل واضح أكثر من كونه حالة عامة مرتبطة بانبهار الناس بجمال السكرتيرة، والذي اتضح فيما بعد أسباب هذا الانجذاب المفرط فيه.
فكرة الرواية ليست جديدة أو إبداعية من قبل الكاتب، فهناك فكرة مشابهة لها في فلم The Isalnd، الصادر سنة 2005، والذي كانت فكرته وجود مصنع لصنع بشر لهم نفس شكل ووجه نسخهم الأصلية من أجل الاستفادة من أعضائهم في معالجة وإطالة أعمار النسخ الأصلية، لكن ما يحسب للكاتب هو إعادة تشكيل الفكرة وتجديدها في رواية، وإدراجها في أدب الديستوبيا، وبناء قصة جديدة لها أرتباط بواقع الحياة التي نعيشها، كما كان الأمر مع رواية فرانكشتاين في بغداد، والتي لم تكن فكرة إبداعية، لكن قدرة الكاتب على إعادة تشكيلها وربطها بالواقع العراقي، وتطوير شخصية فرانكشتاين السبب في نيلها جائزة البوكر العربية. تبقى الرواية بفكرتها ومضمونها الأدبي والإنساني عملا مميزا ومبتكرا يُضاف إلى المكتبة العربية. والسؤال الذي أفكر فيه هل تستحق الرواية هذه نيل البوكر لهذه السنة؟ أرى أن رغم كل جماليتها والإبداع الأدبي في صيافة الرواية أنها لا تستحق؛ والسبب أن الفكرة ليست إبداعية خالصة للكاتب فما دام أن هذه الفكرة تم التفكير بها مسبقا وإنتاج فلم سينمائي عنها، فإنها فقدت عنصرا مهما يجعلها الأفضل دون منازع. والأمر الآخر هو أن لا يفتح الباب أمام تجميد الإبداع الفكري، وأن لا يستغل أحد في حالة فوز هذه الرواية أيضا؛ العمل على تجديد أفكار الآخرين، بالتالي يتركز الإبداع على التجديد لا الابتكار.
الحالة الحرجة للمدعو ك – عزيز محمد.
(إن الحياة كلها ليست سوى مبالغة. ص69)
أن هذه الرواية بموضوعها الإنساني والعلاقة التي تنشأ ما بين العليل وعلّته، وبين كل من حوله من أُناس وآخرين يُشاركونه نفس المرض والحياة ومشاكلها وطبيعتها وكل شيء فيها من أحزان ومسرات، وعن الصحة والمرض، ومعنى هذا الكائن الحي في ظل قدر لم يكن ينتظره، يدفعنا للسؤال ما الذي يمنعنا أن نكون بدلا من المدعو ك؟ هذا السؤال لا يقتصر على هذه الرواية دون غيرها، فكثير من الروايات أثارت في نفوس القُرّاء أسئلة مشابهة عن قيمة حياتنا التي نعيشها، متغافلين أو جاهلين عن حياة آخرين يُشاركونا نفس المكان والزمان، وربما نمر بهم ونراهم كل يوم لكننا لا نُلقي بالا لهم. لا يثيرون فينا التساؤل، بالرغم من إنهم مثالٌ حيّ أمامنا عن ماهية الحياة وكيف تضحى عبئا ثقيلا على أكتاف أصحابها، إلا أننا غافلون وساهون نبحث عن إكمال يومنا دون تبّصر، فتأتي هذه الرواية لتُسلط الضوء على بقعة مظلمة في دواخلنا وتُحفزّنا من جديد أن ننظر تحت أقدامنا، أن نبحث عن النعمة التي نحن فيها، والخير الذي نتقلب به. أن ينقلك الكاتب بعمله إلى عالم جديد تعيشه بتفاصيله اليومية الدقيقة، ويتركك في حضرة من يُعانون، أولئك المغيبون عن الأضواء والذين يموتون بصمت، دون أي همسة، الراحلون باستمرار يأخذهم قطار الموت إلى محطة لا شك أننا سنصلها جميعا في آخر المطاف؛ لهو كاتب يستحق كل الثناء والتقدير. هذه الرواية الأولى لكاتبها عزيز محمد لكنها تشي بالكثير عن كاتب لامع، سيتمنى أي محب للأدب أن يقرأ له مجددا على أمل أن يبهره.
القسم الأول من الرواية حتى اكتشافه ك لمرضه، يُسلط الضوء على بصورة واضحة على مشكلة ربما نستطيع أن نصفها بالعالمية، الروتين اليومي في العمل، والملل الذي يدفع الكثيرين أن يصلوا إلى الهاوية بما يسببه العمل من ضغوط نفسية وجسدية وسرقة للوقت، حتى يبدو الموظف أنه يعيش في فضاء واسع ألا أنه محبوس في مكان وواجب معين لا يستطيع أن يغيره، ولا يقدر أن يفعل شيئا تجاهه، يستمر ك بالعمل في الشركة لكنها يصنع عالمه الخاص في وعيه ويرسم صورا عن الموظفين زملاء العمل، فهو في عالم خاص، لا ينتمي إلى الواقع المحيط به. كل هذا يؤدي إلى رسم خط فاصل بين عالمين، عالم الحقيقة وعالم ك. هذا السخط إزاء هذه الطبيعة المحيطة به والتي لا يجد من فكيّ كماشتيّها مهربا، هي الفخ التي وقع به وسيقع به الكثيرين من الموظفين، في دورة سيزيفية لا تنتهي، تكرر بواقعية وحشية، تُطاردك بقسوة في عالم لا يقل عن غابة لا نجاة فيها إلا للأقوى. هذه هي الصورة التي يرى بها ك حياته في عمله.
يستمر بطل الرواية في معاناته اليومية في العمل، وصناعة أبعاد لا يراها سواه تجذبه إليها حتى تأتي تلك اللحظة المفصلية والمنعطف في حياته ومسار الرواية بشكل كلي، ليكتشف إصابته بالمرض، وتبدأ مرحلة مختلفة عن سابقاتها، وهي التي تأخذ الحيز الأكبر من الرواية بجانبها الإنساني أو على مستوى الحدث، الذي يأخذ مسارا تصاعديا مع تفاقم المرض وجلسات العلاج الكيمياوي، وذاك التغير الذي يطرأ على مستوى العلاقة بين البطل ومحيطه، وهو ليس تغييرا بمعنى تغيير الطباع أكثر من كونه أصبح أكثر وضوحا في الكشف عن طبيعته الفضّة والسمجة بعض الشيء وعدم الاختباء أو مراعاة أي شيء، وهي حالة طبيعية يصل لها المريض الذي يعاني عادة. بينما علاقته مع العمل فهي تبقى بطبيعتها الاستغلالية والبيروقراطية الصارمة، لكنه يقلب الدور ويمارس دور الجلاد بعد أن كان الضحية، فرغم التعاطف والتسهيلات التي تقدمها لها الشركة لكن موقفه تجاهها يبقى نفسه.
الجانب التعاطفي للقارئ مع البطل هو الآخر يأخذ منحى متناميا، حين ينقله الكاتب إلى بدايات المرض ثم دورات العلاج وتأثيراتها، وكيف تظلم الحياة في عيني البطل الذي يعمل دائما على تدوين يومياته متى سنحت له الفرصة، حتى نصل إلى نهاية المطاف مع الرواية.
أسلوب سرد الرواية المتجانس كان منضبطا ومنسابا دون تعقيدات بلغة متماسكة رصينة، يعتمد الكاتب على تقنية الحدث الاسترجاعي من حياة البطل، فيتنقل بين زمانين في مكان واحد، ومحاولة ربط الحدث الجاري مع حدث ماضٍ من خلال سرد قصة ماضية، وكذلك رسم صورة الشخصيات ما بين صفات حالية وصفات سابقة في الماضي الذي عاشه البطل وتعايش مع من حوله.
يحاول الكاتب في الرواية من خلال شخصياته أن يُدرج مواضيع ينقد من خلالها رواياتٍ وروائيين على غرار ما فعله سربانتيس في رواية دون كيخوته، لكن لا يفيض في النقد أو عرض وجهات النظر لكنه يعطي حكما نهائيا كما في رأيه عن موراكامي ورواية كافكا على الشاطئ. ولا يتردد في مدح رواية الشيخ والبحر والإشادة بها، ويرافقه توماس مان ورواية الجبل السحري طوال فترة مرضه، ولا يخفي البطل حبه لقصائد الهايكو وطبيعتها القصيرة والجذابة للقراءة.
تبقى نقطة النقاش الوحيدة والتي يمكن أن أصنفها نقطة ضعف في هذه الرواية هو تأثر الكاتب بصورة واضحة بكافكا ورواياته وجوّه وكآبة، لكن من منا لم يتأثر بكافكا وما خلّفه للآداب من أعمال خالدة، وتلك السوداوية التي يبعثها بنظرته للحياة، لكن الكاتب بدا منساقا خلف كافكا بصورة يكاد يفقد فيها جوهره ويحاول أن يقلد كافكا بأي صورة ممكنة مما يدفع القارئ أينك أنت؟ ولمَ تحاول أن تُذيب نفسك وقصتك في قالب تم استخدامه من قبل وأي محاولة تكرار ستكون مهما عظمت دون النسخة الأصلية ابتداء من عنوان الرواية (الحالة الحرجة للمدعو ك) وهو اقتباس واضح من شخصية جوزيف ك بطل رواية القضية لكافكا، وعلى الرغم من إن البطل يبقى مجهول الاسم لكن الكاتب يسرد على لسانه قصة ثانوية قصيرة لشخص يدعوه بـ ك، يجد نفسه وسط اجتماع ممل، والبطل حين يحاول سرد هذه القصة في خياله وتركيبها، تبدو مشابهة له، فالكاتب هنا يعني إشارة أن من الممكن أن نطلق على بطلنا المريض ك، وما يؤكد هذه الإشارة هو العنوان.
بينما يلتقي في القسم الأول مع كافكا في نقد النظام البيروقراطي وحياة العمل الوظيفي الممل والمكرر، وإذا كان أبطال كافكا يعيشون في عالم التدوين الورقي والالتزام بالأوامر فإن حياة ك كانت في عالم التدوين الإلكتروني ومحاولة المديرين الصعود على أكتاف الموظفين في السلم الوظيفي، أو محاولة تحفيزهم ليكونوا أفضل ويرتقوا في الخدمة، وإن دل التشابه على شيء فهو يدل على استمرار المعاناة نفسها، وأن نظام الشركات ذاته.
هو نظام بيروقاطي صارم يجد البطل نفسه أسيرا له.
"البيروقراطية في مفهوم روبرت ميشيلز "عالم اجتماع ألماني كتب في السلوك السياسي للنخبوية الفكرية وأسهم في نظرية النخبة. وأكثر ما اشتهر به كان كتابه الأحزاب، المنشور في 1911، الذي احتوى وصفاً "للقانون الحديدي للأوليغاركية" لا تعدو أن تكون مجموعة من الموظفين والعمال، الذين يتقاضون أجراً لقاء عملهم، ويخضعون لسيطرة رؤسائهم وقادتهم، وأن الأوليغاركية (حكم القلة) هي المصير المحتوم الذي ستنتهي إليه البيروقراطية". البيروقراطية ونسيجها الرمادي - حيدر الجرّاح.
الأمر الآخر الذي يحاول فيه مشابهة كافكا وجوّه، هو السوداوية والانطواء والانعزال عن العالم الخارجي والنظرة السلبية للحياة التي كانت حتى قبل إصابته بالمرض فهو يبدو غريبا عن هذا العالم، وكل شيء حوله غارق في الفردانية وحب الذات والاهتمام بالنفس دون مراعاة الآخر، هذا الأمر الذي تفاقم وطغى مع حياة العمل ومن ثم الإصابة بالمرض.
في الأخير هذه الرواية في موضوعها وأسلوبها وقصتها والحالات الاجتماعية التي عرضتها سواء على مستوى العمل، أو الحياة الأسرية وحياة المرضى والمرض، في المجمل كانت عملا أدبيا جيدا، ولربما لو حاول الكاتب أن يخرج بأسلوب خاص به دون محاولة إعادة ما استهلك سابقا لكان العمل أقوى لكن التأثير أحيانا حتمي يأتي دون إرادة مسبقة، ويجد الكاتب نفسه دون وعي أو إدراك أو تماشيا مع حالة مغيبّة في ذهنه أثناء الكتابة؛ يضع شخصياته في عالم مهما بدا له جديدا ويتلائم مع الحالة التي تتناسب مع ظرفهم لكنه يبقى في دائرة ولجها دون القدرة على التراجع إلى الخلف، فقد يهدم كل ما أتى به.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق