الثلاثاء، 17 أبريل 2018

قراءات في روايات البوكر القائمة القصيرة 2018 - الجزء الأول.


قبل أيام من إعلان الفائز بجائزة البوكر للرواية العربية لعام 2018، تتنافس عدة روايات فيما بينهن لجائزة الأفضل، حرصت على قراءة كل الروايات بما يكفيني لأعطي حكمي على الأفضل، بدت الروايات -خمس منهن- متشابهات في أسلوب السرد المتجانس (سرد الشخص الأول) ما عدا رواية حرب الكلب الثانية، بينما تباينت قوة السرد ما بين الجيد كحرب الكلب الثانية والحالة الحرجة للمدعو ك والممتاز كما في رواية الخائفون وزهور تأكلها النار ووارث الشواهد ودون المتوسط كما في رواية ساعة بغداد. تقنيات السرد المستخدمة هي الأخرى متشابهة كثيرا من حيث الاعتماد على سرد الحدث الماضي (الاسترجاعية) واستخدام ذاكرة الطفل الخاص بكل شخصية، كما في روايات ساعة وارث الشواهد والحالة الحرجة للمدعو ك والخائفون. مواضيع الروايات مختلفة ما بين التاريخية والاجتماعية والسياسية والديستوبيا. 
النقطة التي ممكن أن نقف عندها ونضع علامة استفهام فهو غياب الإبداع في الأفكار لربما كانت فكرة رواية ساعة بغداد هي الأفضل من خلال محاولة مزج الواقعية مع الفانتازيا في بعض أحداثها لكن السرد واللغة ونسق الأحداث أطاح بالرواية من سلم المنافسة، وعلى الجانب الآخر نجد رواية الحرب الكلب الثانية رغم قصتها ونوعها الأدبي في عالم الفوضى ومدن الدمار إلا أن الفكرة ليست إبداعية بالمرّة رغم محاولة الكاتب العمل على تطوير فكرة وإعادة تشكيلها لكنها تبقى منسوخة من فكرة تم طرحها في فلم The Island، رواية الحالة الحرجة للمدعو ك كان تأثر الكاتب بكافكا ومحاولة تقمص شخصيته يكاد يضيع هوية الكاتب ويمسخها في بعض الأحداث والمواضيع. تبقى روايتا وارث الشواهد والخائفون الواقعيتان بموضوعيهما السياسيين، فالأولى عن الحرب السورية والثانية عن القضية الفلسطينية.  والسؤال المطروح عن مدى عدم تدخل السياسة في اختيار الفائز خاصة في ظل الظروف الحالية وفوز أي رواية ذات موضوع سياسي قد يدخل الرواية واللجنة في متاهات قد يجدون أنفسهم غير مستعدين لها، سواء على مستوى القضية السورية أو القضية الفلسطينية، في وقت تكشف الأخبار عن محاولة التطبيع مع الكيان وإن كانت غير معلنة بصورة رسمية، والذي تنسفه رواية وارث الشواهد. 
وقضية مهمة أخرى هي المعايير المعتمدة لاختيار الرواية الفائزة، وكذلك ما الذي ستضيفه الرواية الفائزة أو أضافته؟ من خلال قراءتي أرى أن رواية وارث الشواهد هي التي تستحق الفوز نظرا لفكرتها وأهمية موضوعها، بينما لا ينقصها شيءٌ أو يعاب عليها فهي متكاملة بنسبة كبيرة سواء على مستوى الأسلوب السردي وتقنياته ولغتها. وكذلك رواية الحالة الحرجة للمدعو ك، والتي يعاب عليها هو الجو الكافكاوي سواء في البيروقراطية التي ينقدها الكاتب أو الصفات العامة للشخصية ونظرتها للحياة، لكن موضوعها يبقى جديرا بالفوز، لأهميته خاصة في عصر كثر المصابون بمرض السرطان وقوافل الصمتى الراحلين في تزايد يكاد الناس ينسونهم. 

لو أتيح لي الخيار سأفضل رواية وارث الشواهد للفوز بالمرتبة الأولى، وتتشارك رواية الحالة الحرجة للمدعو ك مع حرب الكلب الثانية بالمركز الثاني، والمركز الثالث من نصيب رواية الخائفون، والرابع من نصيب زهور تأكلها النار. 
وسأوجه هذا السؤال للجنة وفق أي معايير اخترتم رواية ساعة بغداد؟، فقد تم ظلم الكاتبة والقراء بوضعها في وجه العاصفة والنصح والتوجيه للكاتب خير من ترشيحها.


وارث الشواهد - وليد الشرفا.

(إرث الأرض والذاكرة)

بينما أقرأ هذه الرواية، أرى الروائي الراحل غسان كنفاني، يُبعث من الكلمات، وأشعر لوهلة أني أقرأ له، أقرأ حيفا التي بكاها، والموتى الذين قتلتهم الشمس، وأم سعد ووشائج حبها للوطن، والأدب الذي يكسب معناه من القضية التي كُتب لأجلها، بهذه الرواية تسمو غاية الكتابة وهدفها حفظ التاريخ والدفاع عن الحقوق، والمقاومة، والحب، وأرض فلسطين. هنا فوضى الدين والتاريخ والحاضر والقتل واليهود والعرب، هنا الشهيد المذبوح فوق الرصيف، هنا الشتات والإقصاء والتهجير، لم يرث بطل هذه الرواية الشاهد- شاهد منزل جده- وحده؛ بل جميع من يقرأ وارثٌ وله دوره في أحداثها. هذه الرواية من الروايات التي تزداد ألقا وسطوعا إذا قُرأت، هي شهادة لا تُسمع إلا في حضرة قاضي القراءة، أما أن  تبقى حبيسة في الأوراق، هي خيانة أخرى لفلسطين أرضا وتاريخا وقضيةً.

إن الأدب الذي يستفز مشاعرك ويُلهبها بعد إيقاظها، الأدب الذي يحمل بين حروفه عبءَ الدفاع عنك، ويحتضن قضيتك، يرافع عنها، ويصفع بيد قوية من يحاول أن يشكك بها، حين يُقاوم العدو الذي يحاول قتلك أو قتل أرض أو تشويه جسد تاريخك، أو يعبث بمقدرات مستقبلك، هو الأدب الذي يستحق أن ينال الجوائز، وأن يقف في المقدمة، وارث الشواهد، لوليد الشرفا، هي من أجمل ما قرأت في الأدب الفلسطيني، أدب الصمود والمقاومة.

ما بين الماضي والحاضر، ما بين هجرة قسرية، وأمل بالعودة إلى الأرض، يُبعثر القدر بطل الرواية، تبدأ من مقتل والده على يد الصهاينة، ليُحبس بعدها خلف قضبان هذه الأرض أو الفكرة التي تبلورت عنها، فهي المركبة التي تستمد منه وقودها، وتتركه بعدها في صراع مع الواقع، مع الإرث الذي كتب باسم جده.

تتنوع المواضيع التي تطرحها الرواية والقضايا التي تمر عليها، وبصياغة دينية لكثير من المواضيع، فيها التهكم على إقحام الدين في شرعنة القتل والاغتصاب لشعب وأرض، تلف محاور الرواية، ما بين ذكر التهجير من حيفا، وقيمة الدم الفلسطيني، وصراع الهوية العربية - الإسرائيلية، والعودة إلى الأرض، وقضية دعم أوروبا لليهود في استحلال أرض فلسطين بعد أن كانوا يُذبّحونهم، فيها لقاء الشرق والغرب فوق سرير اللذة، الغوص في تاريخٍ يبدو غير واضح الملامح، وعن قيمة النص وأدلجته لخدمة الغايات وجعله غطاءً لتمرير ثم لتبرير أحكام تُصدرها محكمة الشيطان.
إن جمع كل هذه المواضيع وإدراجها في العمل الروائي، يُعطي للرواية مقومات القوة والرصانة حين تكون هي مادتها بلا إفراط أو تفريط، أو أن تأخذ مسارًا أُحاديا يتم تغييب الآخر من دائرة الأخذ والرد، والمكانة المطلوبة من جعل الرواية وسيلة لطرح القضايا التي تهم الأمة، وتُنعشها في حالة احتضارها وتبعث فيها الحياة من الجديد.

شخصيات الرواية المتعددة، تمثل كل شخصية جانبًا معينا، فبينما البطل "الوحيد" يمثل الجيل الذي امتزجت طفولته مع التهجير القسري من حيفا، وعلاقته أمه وجده الذي ضخوا فيه تاريخ الأرض بأسمائها العربية والوطن والعائلة، ويسافر بعدها ليدرس ويبتعد عن الوطن حتى لا يتكرر فيه مصير والده. ويمثل الجد الذاكرة الحيّة للفلسطيني الخالد، بينما ريبيكا هي الأنثى الغربية التي اختلط بدمائها الجمال وتقبل الآخر والقدرة على التشكّل لتقبل حالات الحبيب والإيمان بقضيته، وبشارة العربي الإسرائيلي المسيحي، هذا المركب الثلاثي ما بين القومية والهوية والدين، ومحاولة العيش فوق أرض مع التغريب، ليجد نفسه في آخر المطاف في خضم المواجهة المباشرة مع عدوه الذي نساه، وأيقظه من سباته في دنيا النسيان صديقه الوحيد.

تتطور الشخصيات كلما تقدمت عجلة أحداث الرواية، تطورًا متزامنا مع الحدث، فهم ليسوا متشبثين برأي أو فكر أو توجه دون آخر أو ثابتين في أماكنهم لا يتحركون قيد أنملة، خاصة وهم يتعاملون مع قضايا سياسية وتاريخية وعقائدية ووطنية، بل هم في تفاعل مستمر مع الحدث والبقية من الأصدقاء أو الأقرباء، مما يعطي للرواية هيئة التطور والاستمرارية في خلق فكر مستمر في التفكير والبحث عن الحقيقة والهدف، والصراع النفسي مع الذاكرة والماضي والحاضر، إن التركيبة النفسية للإنسان الفلسطيني، وماضيه المرير، يُعطي للروائي مساحة أكبر في التعامل مع شخصياته، والسيطرة عليهم، حيث يلقى أدوات كثيرة تساعده على التحكم وخلق أجواء نفسية وتفاعلات تصل به إلى أهدافه وغاياته من الكتابة، ريبيكا وبشارة ليسوا مجرد أصدقاء لبطل الرواية، بل هم أيضا يُمثلون جانبا نفسيا وحياتيا مهما للبطل، أسواء كانت الزوجة ريبيكا التي احتضنت وآمنت به، أو صديقه الذي شاركه حمله الثقيل وتركة جده وأبيه وذاكرة الأرض العالقة في نفس البطل.

تميزت هذه الرواية بتعدد المؤلفين، فهي مجزأة إلى أربعة أقسام رئيسية بأربع مؤلفين، يشغل البطل الوحيد المساحة الأكبر بسرده لحياته الماضية مسترجعًا إيها من خلال الذاكرة، إضافة إلى سرد واقعه في سجن الاحتلال بعد حادثة القتل في القسم الأول. بينما القسم الثاني الذي يسرده بشارة بعد طلب صديقه تدوين القصة علاقته بالوحيد وما جرى بعد اعتقاله وهو يروي الأحداث التي شهدها، وحالته النفسية بعد اعتقال صديقه والتغيّر الذي شهدته، والتأقلم وصراع الأصل العربي وأحقية أصحاب الأرض في ظل الظروف الجديدة. القسم الثالث الذي تسرده ريبيكا زوجة الوحيد، والذي تُرسله لصديقه بشارة ليقوم بترجمته، وهي تطرح فيه كثير من أفكار وحياة زوجها، وتأثير غيابه عليها وعلى حياة ابنتهم ليلى. القسم الرابع الختامي وهو الذي تسرده ابنة بشارة جولينا، وهو ختام الرواية الذي نشهد فيه المحاكمة لبشارة والوحيد.











زهور تأكلها النار - أمين تاج السر.

(الوجه الآخر للموت)

هذه الرواية التي تُعتبر الواجهة الأخرى لرواية توترات القبطي، التي تدور قصتها في نفس زمان ومكان رواية زهور تأكلها النار، حول شخصية ميخائيل رجائي أو ميخائيل بك، والذي تجعله ثورة المتقي عبدًا بعد أن كان جامعا للثروات.

خميلة الشابة التي درست علم الجمال في مصر، وعادت إلى مدينة السور، محملةً بجمال ما درست، ورقة الأنوثة وعبق الحياة، سرعان ما وقت بحب ميخائيل بك الذي يخطبها، ولتبدأ بعدها حياة مأساوية وانعطاف كبير في مسار كل مدينتها وسُكانها.

الرواية التاريخية والتي تُدون حياة خميلة القبطية الممثلة لحياة الأقباط قبل ثورة المتقي وبعدها، السور المدينة السودانية التي تخضع لسيطرة المصريين والأتراك، يثور بوجهها المتقي وأتباعه، وهي التي على ما يبدو المقصود بها ثورة المهدية في السودان التي وقعت في الربع الأخير من القرن التاسع عشر بوجه الخديوية المصرية والإمبراطورية البريطانية.

مدينة السور وهي مركز الأحداث وبيئتها، ذات التنوع الطبقي والمهني والديني، حيث يعيش الجميع يمارسون حياتهم ومعتقداتهم بكل حرية، وأكثر ما يركز عليه أمين تاج السر وهو يسرد عن التركيبة السكانية لمدينة السر هو الإلحاح والإعادة في الذكر على التعايش بين معتنقي الأديان النصرانية واليهودية والإسلام والهندوسية، وما حدث بعد ثورة المتقي وما جلبته من ويلات واضطهادات وعذابات وحياة تعيسة للجميع.

تروي خميلة حياتها في مدينة السور، مع والدها التاجر وأمها الإيطالية، تسير الرواية بنمط هادئ ورتيب مع جمال في السرد ولغة خفيفة وسهلة، بعد أن يقتحم المتقي وأتباعه مدينة السور، تنقلب حياة خميلة من العز إلى الذل ومن السيادة إلى العبودية، وبعد أن درست علم الجمال أصبحت راغبةً بدراسة علم القبح، قبح هذا العالم الذي أحاط بها، والذي لم يكتفي بتغيير حياتها ودينها ومصادرة حريتها، بل غيّر اسمها، فأصبح القبح ودراسة علمه وفنونه ضرورة واجبة، وحق لا بد من الأخذ به.

نهاية خميلة وهي تبحث عن الخلاص من هذا العبث والفوضى التي وجدت نفسها في داخله، مغتربة في مدينة كانت تعرفها في الأمس، وترتدي معاناة الإنسان في ظل العبودية، والامتلاك لدى الآخر، نهاية قديمة جديدة، ومتجددة، كثير ما يجد الناس أنفسهم يعيشون في أتونها الحارقة والمميتة.

تتنوع هذه الرواية فهي ما بين رواية تاريخية وسيرة مدينة،  وتراجيديا حياة الإنسان وتوثيقية لحال مجتمع مدينة السور، تجمع عدة مواضيع وغايات في جسد روائي واحد.

الرواية في مجموعها سردًا ولغةً وأحداثًا وقصةً متوسطة المستوى، وليس فيها الشيء الكثير الذي من الممكن أن يُلهم القارئ أو يثيريه عدا قصائد الشاعر الإسباني ريماس، التي امتازت بجمال التشبيهات والعبارات والأوصاف، بينما ما يخص الرواية فلا أرى فيها ما تستحق عليه أن تحوز البوكر لهذه السنة.












رواية الخائفون - ديمة ونّوس.

(الخوف من الخوف سمة سوريي اليوم)

حين تكون مخاوفنا من الأمراض أو الموت أو فقدان من نحب مُصاحب لنا، حين نخاف حتى الخوف، وأن نبقى بأمان بعيدين عن وحش الخوف المتربص بنا، وأن لا تطأ بأقدامنا تلك المنطقة التي تنتظر كل شخص منا وتجعله في مواجهة مخاوفه، ذلك الظلام القاسي الممتد على مساحة كبيرة من حياتنا وأعمارنا، في مساكننا والشوارع ومحلات عملنا، أن يكون الخوف هو الوجه الآخر لحياتك، فتعتاد عليه، وتصبح حياتك بلا معنًى من دونه، أو هكذا أصبحنا نتخيل، ما يحمله الخوف من مشاعر غريبة ومجهولة تجعل كل الأشياء حوله خاضعة ومسيطرة له، هكذا أرادت أن توصل لنا ديمة ونّوس في روايتها عن حياة أبطالها سواء على المستوى الشخصي أو علاقتهم مع الآخر، هذا الآخر الكبير الذي اسمه
الوطن- سوريا-.

سليمى تلك البطلة التي تعاني من خوف مزمن وتراجع طبيبها، يصطدمها قدرها مع خائف آخر نسيم، الكاتب الذي يكتب باسم مستعار، نسيم تلك الشخصية، الرجل الشرقي، والذي لا أدري لماذا تُصرُّ الكثير من الروائيات العربيات أن تبقى صورتهن عن الرجل الشرقي في كتاباتهن واحدة ونمطية، لا يهتم للأنثى، ذو علاقات كثيرة، يخون أو لا يخون، لا داعي أن تصفه بهذه الصفة فرغم كل نسائه، تبقى عاشقة له، ليستمر مسلسل طويل من الأدب العربي الذي تكتبه المرأة، يحوي صورة شرقي وصفة زير النساء وتبعاتها ملتصقة به، والسؤال متى ستتحدث هذه الصورة. نسيم الذي يُسلّم أوراقه لسليمى لتقرأ أو ربما لتكمل مسيرة الخوف التي ابتدأها الاثنان، لكنه يُفضل الانسحاب أو حتى الهرب من مواجهة الواقع.

سلمى وسليمى.

شخصيتان إحداهما حقيقية والأخرى خيالية، تمثل حياتهما محوري الرواية، لديهما الكثير من التشابه من حياتهما، حتى لتبدو في كثير من الأحيان أن كلتا الشخصيتين واحدة، وأن ما يخافان منه هو واحد، ما دام المسرح هو سوريا، فكل سُكّان هذه البقعة من الأرض يعيشون حياة واحدة ومخاوفهم ذاتها. ما بين طفولة تائهة بفقدان الأب، وشباب ضائع في عصر الموت والطغيان، حين تُجرر الثورة ضد الشيطان معها الجميع وتضعهم في حلبة النزال مع الموت وجلاوزته، تضحى الحياة بلا قيمة وعدمية، ويُطرح السؤال في نفوس أبطال هذه الرواية، كيف تستمر الحياة مع هذا الخوف، والخوف ممَ ونحن من كبرنا والخوف مخلوط في دمائنا وفي كل شيء منا، ولربما أكثر صورة تهكمية ساخرة تراجيدية وصفت بها ديمة المخاوف هي الخوف من الخوف.
فأي بؤس يعيش به هؤلاء السوريون، وأي ظلامية أوصلتهم إليها الأقدار، أن تعيش حياتك تنتظر نهاية مخاوفٍ وبداية أخرى، لتبقى عالقا وغارقا، في سواد عظيم وحياة لا تعرف منها شيئًا يعني الفرح أو الطمأنينة.
حياة تراجيدية لكل هؤلاء، سلمى وسليمى ونسيم وليلى، هل هذا ما أرادت أن توصله ديمة أن تقول "إن حياة الإنسان السوري حياة تراجيدية" ومن لا يوافقها على هذا، إنها القيامة التي قامت فوق رؤوسهم لعشرات المرات على مدار أقل من عقد، لكن قبل كل قيامة هناك قيامتهم الخاص، الخوف القابع في دواخلهم .  

إن التشابه الكبير في حياة سلمى وسليمى، يبدو في كثير الأحداث مكرر، وهنا يُطرح السؤال عن جدوى هذا التشابه شبه المنسوخ، الذي كان كأن الاثنين يدوران في حلقة واحدة مما جعل نقرأ أحداثًا ونشعر كأننا قرأناها، على الرغم أن هذا التشابه، كان مقصودا وبُنيت عليه مخاوف وأفكار واعترافات أردات سليمى قولها لنسيم، التي تشك أنه يكتب حياتها وحياة أهلها، لكن أن نعيش الحياتين بطفولة وشباب ومخاوف مرتين، أرى أنها نقطة ضعف الرواية الوحيد، مع صورة نسيم ذات الطابع الشرقي النمطي.

تتناول الرواية مواضيع شتّى وكثيرة، تخص الثورة السورية والنظام وشبيّحته، والنقد الاجتماعي للمدراس في سورية الأسد ومستشفياتها، وتنقد الإنسان السوري المرمي في سجون خوفه والذي يسنى الحياة لانه يخاف حتى أن يحيا. وكذلك تُسلط الرواية الضوء على الطائفة العلوية حياتها ولهجتها، وذاك التغيّر التوحشي الذي أضحاه البعض بعد الثورة.

ذاكرة الأطفال الحيّة.

ذاكرة أبطالها وهم صغار، كانت مادة لكثير من أحداث رواياتها، بسرد رصين تطرح رؤى الطفل وماضيه، وفتح بوابة إلى الخلف، لتحاكي الطفل الذي عاش منذ سنين خلت، لتبدو هذه الذاكرة كاميرا بشاشة عرض، تسجله أعين الصغار وتدونه يد الكبار، إن هذا المزيج بين فكر الطفل وحكي وسرد البالغ، هي الوصفة التي يعتمدها الرواة، فيُصيب أحدهم ويفشل الآخر، فأن تُنطق الطفل الذي يسكن في كهوف شخصيتك، يعني لا أن تغوص في تركيبة شخصيتك النفسية والعقلية فقط، بل أن تجتاح ذاكرته، أن تخلقه في عالم الورق والخيال بطلا بالغا، ثم تبدأ بإعادته للخلف في محاكاة لتسجيلات الذاكرة، يجعلك تقف على حافة وادٍ سحيق، أيُّ زلة، تُطيح بمنظومتك السردية والمنطقية، وتجعل من ذاكرة الأطفال رغم كل جمالها المطلق بتشتيتها وتجميعها للأحداث، ذاكرة إنسان مصاب بالزهايمر، لا يدري كيف عاش وكيف يصف حاله، ذاكرة الأطفال منبع يجتاحه الراوي، لكن يجب عليه أن يملك أدوات وإمكانيات تجعله قادرًا في السيطرة عليها.
سرد الرواية المتجانس بمساريه الواقعي المتمثل بسليمى والتخيلي الذي كتبه نسيم والمتمثل بسلمى، محكوم بانضباط ورصانة، فهو يبدو كقطعة واحدة، ومكتوب بنَفَسٍ واحد، واستطاعت الكاتبة أن تُنهيه كما بدأته، بجمل قصيرة تارة ومتوسطة تارة أخرى، دون أن تُسهب في سرد طويل دون نقطة نهاية أو فاصلة تُقطِّع بها الأحداث، تسرد الأحداث وتبنيها بقوالب متناسقة القياس، جدار سردي طويل، صفحة تلو أخرى وحدث يتبع آخر، لتُبرز قدراتها السردية وسيطرتها على السرد بشكل جليّ وبيّن.



الجزء الثاني: http://mudawnatmumin.blogspot.be/2018/04/blog-post_17.html

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق