هاروكي موراكامي.
الأديب الياباني الذي يعد من أفضل الكُتّاب مبيعا للروايات والقصص في اليابان والعالم، وقد تُرجمت أعماله لأكثر من خمسين لغة،
وتم بيع ملايين النسخ من كتبه حول العالم، يمتاز أدبه بالسوريالية واللا واقعية والفانتازيا، حصل على عديد الجوائز من بينها جائزة خيال العالمي،
وجائزة فرانك أوكونور الدولية للقصة القصيرة.
بدايتي مع أعماله كانت من خلال رواية كافكا على الشاطئ، الرواية الذائعة الصيت،
والتي أعجبني بها: الأسلوب الشائق والغموض وأسلوب طرح الأفكار ومزج الخيال بالواقع، والسوريالية الجاذبة والمثيرة للفضول والأسئلة،
وأكثر ما سحرني بها هو الانطلاقة نحو العقدة، التي يتحمس لها القارئ ويقرأ بشغف ليصل بعدها لنهاية التي لا يعرف كيف ستكون لكنه يضع عدة احتمالات،
ظانا منه أنه قد يصطدم بنهاية مثيرة جدا، تحبس الأنفاس، لكن النهاية لا تقع ضمن توقعاتك.
البساطة، والواقعية التي قد تبدو غربية إذا ما قيست على السمة العامة للرواية التي امتازت ومُلئت بالغرائبيات واللا معقول،
معطيا لنا عنوانا عريضا تفصح عنه الأحداث الختامية، أن الخيال واللا واقعية وكل غريبة تقرأها، ستبقى في حدود المعقول،
مهما بدت لك طلائع النهاية توحي بخاتمة لا تقل غرابة عن البداية وسائر الأحداث، لكنها لن تخرج من واقعية هذا العالم وقوانينه،
فصدمة القارئ التي يعمل على إبرازها هاروكي كانت في اطلاق عَنان خيال القارئ ليعيده تدريجيا إلى حقل الطبيعية وقوانين العالم المتعارفة.
مزيج فني وأدبي، يصهر في إطار روائي واحد، لا يغلب أحدهما الآخر، ففي النهاية الخيال جزء من منظومتنا الفكرية والإبداعية، والتي عرف كيف يوظفها في رواياته.
قد تكون أعماله غير جاذبة لبعض القرّاء، لكن لا بأس أحيانا بدفقة من الجنون تزيح بها أبعاد المنطقية أو في الأقل جعلها أكثر مرونة في تقبل أعمال أدبية كهذه،
وأن تحلق في فضاء ميتافيزيقي مليء بالفانتازيا، والغرابة، والجنون، والعبثية، والفوضى، والغموض، والألغاز.
يأخذنا في روايته القصيرة نعاس، إلى حقل آخر من حقل الإنسان الذي يجب أن يبحث في أموره المعتادة ليجد الجديد واللا معتاد،
بعد أن ترى بطلة الرواية حالمة أو متخلية، جسدا بشريا بهيئته يقف عند سريرها ويصب الماء على قدميها، في مشهد يشبه حالة جاثوم النوم،
تفقد فيها القدرة على إبداء أي ردة فعل، ينتهي هذا الموقف المخيف لبطلة الرواية بسلام، لتصاب بعدها بانعدام النعاس والنوم، فهي تبقى مستيقظة دون أن يهاجمها النعاس،
أو ترغب بالنوم، التعامل مع هذه الحالة في بادئ الأمر كان يعتريه الشك وعدم الوثوق مما حدث، والتردد في اتخاذ الخطوة المناسبة،
لكنها تقرر التعامل مع هذه الحالة بصورة أكثر إيجابية مستغلة الوقت الطويل الذي كانت تستغرقه في النوم، في أشياء تحبها وكانت تفعلها قد أنستها إياها الحياة والزاوج والعائلة،
وتعود لممارسة عادات تحبها، لتحول هذه الحالة غير الطبيعية إلى حَسنة ودافع لتغيير واقع قد تلبسها وأنساها نفسها، العودة لاحتساء الخمر والمطالعة، واكتشاف زوجها، وكيف انجذبت لشخص مثله.
الحادثة التي كانت نقطة مفصلية في حياتها على المستوى الشخصي، في الوقت الذي أبقت الأمر مقتصرا عليها، لم تترك للآخرين فرصة اكتشاف ما حدث، ولتتحول الحالة إلى أكثر تأثيرا فيها،
بعد أن قرأت عن النوم وأنه آلية تجديد طاقة الجسد ليقوم بأعماله اليومية، وهنا تطرح السؤال هل أنام لأعيد لذاتي الطاقة من أجل الاستمرار في العمل اليومي الذي استمررت عليه لسنوات!
لتبدأ برحلة جديدة في عالمها ينتهي نهاية لا تقل غرابة عن حالتها.
ادراج حالة خيالية أو غير قابلة للتصديق، في متن العمل الأدبي، وتوظيفها في توفير الأرض المناسبة لزرع بذور ثمار قديمة من أجل ثمار بنكهة وطعم مختلف، عملية إعادة قراءة للحياة ولدواخل النفس بذات الأدوات، هو إحدى السمات الفنية لهاروكي موراكامي،
بأسلوب سلس يتدفق بصورة تصاعدية أحيانا، وقد تكسوه الرتابة، لكنها رتابة في اللا معقول، حيث التفاعل الذي تقوم به خيالاته المطروحة باستمرار تدفق السرد دون ملل أو مطبات يضيع معها القارئ،
أو تضيع الفكرة التي يرمي إليها. ونقرأ عملا مشابها في المضمون لدى كويلو في روايته: فيرونيكا تقرر أن تموت، حين تكون محاولة الانتحار والعيش في مستشفى المجانين،
هي النافذة التي نرى العالم فيها نظرة مختلفة، كيف تتحول حالة مرضية كالأعراضِ الجانبية النفسية لمحاولة انتحار فاشلة أو كانعدام النعاس واختفاء أي رغبة في النوم،
إلى محفّز للانقلاب والثورة على كل شيء والعيش بطريقة نصنعها لا أن نعتاد عليها دون سابق اختيار.
الحال لا يتغير كثيرا في قصصه التي توحي بعضها بالغرائبية كما في قصة المكتبة الغربية، حين يدخل الفتى باحثا عن كتاب، ليُحبس بعدها في المكتبة بسبب العجوز الشرير، ويحاول بعدها إيجاد سبيل للهرب من مأزقه، وهي قصة التي فيها شيء من طفولة أي منا،
الجموح في الخيال، السفر إلى عالم تحفه المخاطر، يمزج هذا الخيال في حياة طفل طبيعية يحب القراءة والاطلاع، لنجد خاتمة مفتوحة مليئة بالتساؤلات وأمَا حدث كان فعلا أم أنه مخاوف تشكلت وسيطرت على ذهن الفتى،
جرته لينسى واقعا ألمَّ به وهربا من مصير محتوم، حين تغيب خيوط القضية في حدث القصة، يبقى لكل قارئ نافذته الخاصة يقرأ فيها العمل وفقا لما تنستجه أفكاره ومخيلته التي تفاعلت مع القصة أثناء القراءة.
وفي قصة ليدرهوزن، يعطي القصة وعناصرها طابع الفكاهة والغرابة والواقعية، والنظر للزوج من خلال شبهائه، كيف يمكن أن نكتشف عيوب من نحب أو من ارتبطنا بهم من خلال آخر لا يمت لهم بصلة.
وكيف يكون خيار عدم الاستمرار سهلا وأن تكون أسبابه مهما بدت في أعيينا صغيرة وتافهة ألا أنَّ لها في وقعها في بحيرات دواخلنا الأثر الكبير، الذي لا مناص من اتخاذ قرار لا رجعة منه.
أما في قصة حرق الحظيرة، التي يلتقي بها البطل برفيق صديقته الذي يهوى حرق الحظائر خاصة تلك التي لا القديمة والتي لن يكترث لها أحدٌ كثيرا كما يقول، وبعد أن يُطلع بطل الرواية على هدفه الآخر يبقى شغله وجل اهتمامه أن يعرف أي حظيرة ستكون التالية،
التأثير النفسي التي يُفرض على البطل من جراء اهتمامه بهذا الموضوع، يجعله يفكر بإحراق حظيرة وترك الانتظار، القصة برمزية تقف على إسقاط كل منا على فكرة تخطر بباله،
فما أراه أن ما قصده من الحظائر وحرقها، هم البشر الذي نتعرف عليهم خلال حياتنا، والحرق لا يعني بالضرورة الإيذاء أكثر من كونه الاستحواذ على الآخر وجعله خاضعا لما نفرضه،
سواء أكان قائما على العاطفة أو المال أو الصداقة أو أي رابطة نحكم وثاق الآخر من خلالها، وتأثيرات غياب أي ما يجمع الآخر معنا أو يربطه بنا، قد يحمل التأثير جوانب سلبية أو إيجابية فما يحددها هو نمط العلاقة ونوعها، الحظيرة التي كان بطل القصة يفعلها لم تكن في مكان ما في منطقة سكنه، كانت رفيقته، ففي ختام القصة حين يبحث بطل القصة عن صديقته،
وحين يسأل رفيقها عنه، يجيب بالنفي وأنه لا يعرف مكانها، وأصدقاؤها التي تدون أسماءهم في دفترها والتي قد يساعدون بطل القصة في معرفة مكانها هم مجرد أسماء أكثر من كونهم أصدقاء فعليين، لكن بطل القصة،
يبقى في بحث وتساؤل مستمر عن حظيرة احترقت أو حظيرة يُحرقها، ولم يطلق لخياله العَنان، ولم يدرك أن الحظيرة قد احترقت واختفت نهائيا، وهذا الرفيق يبحث عن حظيرة أخرى يحرقها، بنار لا دخان لها.