الاثنين، 10 ديسمبر 2018

دراسات التابع Subaltern Studies



وهي الدراسات التي تُعنى بإعادة قراءة المدونات التي خلفتها المرحلة الاستعمارية ومرحلة ما بعد الاستعمار Postcolonialism، وإعادة قراءة ما كتب ووضعه تحت عدسة التحقيق والتدقيق وإعادة الصوت المسلوب للتابع الذي اُستعمر وسلب صوته وكمم، بكتابات عبرت عنه وهو مغيب قسرا، سواء من قبل المستعمرين أو من تأثر بهم وخطا في منهاجهم التغيبي لكل ما يخالفهم.
يفرد الدكتور عبد الله إبراهيم في موسوعة السرد العربي* مساحة لتناول هذه الدراسات ابتداءً من تاريخها إلى أهم ما قامت به وأعلامها فيكتب: في مطلع ثمانينيات القرن العشرين ظهرت إلى الوجود جماعة "دراسات التابع Subaltern Studies" ومثلتها نخبة من طرف المؤرخين الهنود الذي قلّبوا مدونة تاريخ الهند الرسمي المكتوب من طرف المؤرخين المتأثرين بالسياسات الاستعمارية البريطانية، واقترحوا إعادة كتابته في ضوء مفاهيم مغايرة متصلة بالتاريخ الشفوي المنسي الذي استبعدته النخب البريطانية،…
وزحزح هذا المنظور الجديد لتاريخ الهند النظرة التقليدية الساكنة لمفهوم التاريخ القومي الذي كتبه المستعمرون، وبه استبدل تاريخا مرنا قدم تفسيرات متعددة للظواهر التاريخية، ولم يلتزم المسار الوصفي الذي يقوم على التعليل المباشر، إنما يحوم حول الظاهرة، ويتوغل فيها، ويكشف أبعادها المنسية غير المرئية، ويعوّم الأحداث التي استبعدها المستعمرون، بل إنه يتوغل في صلب الخصوصيات الطبقية والفئوية، فيكشف الإقصاءات التي تعرضت لها الجماعات العرقية والدينية خلال الحقبة الاستعمارية.
وقد أثمرت الجهود عن عدد كبير من البحوث التي طرحت نفسها بديلا للدراسات القديمة، وسرعان ما عرفت ب"دراسات التابع" في سائر أرجاء العالم، وهي تهدف إلى نقد الخطاب الاستعماري وفرضياته، واقتراح المناهج البديلة لدراسة التاريخ الاجتماعي والسياسي والثقافي، ومعالجة شؤون الطبقات، والمرأة، والأقليات، وأساليب المقاومة والنزاعات المحلية، والولاءات، وتفكيك المقولات الغربية في الآداب، والثقافات، والمناهج، وسحب الثقة العلمية والثقافية منها، عبر اقتراحات أخرى مغايرة أكثر كفاءة، تعالج بها شؤون المجتمعات خارج المركز الغربي.

ومن أعلام هذه الدراسات يذكر منهم: غاياتاري سبيفاك، ورناجيت جوها، وهومي بابا، وطارق علي، وإقبال أحمد، وروميلا ثابا، وماساو يوشي،...، وما لبث أن تبلور المصطلح المعرف بهم Subaltern Studies Group والذي عرف اختصارا SSG، وتبع ذلك أن تأسست في عام 1993 "جماعة دراسات التابع في أمريكا الجنوبية، استجابة لما حققته دراسات التابع في الهند وسواها من بلاد الشرق،…
أصبحت دراسات التابع عابرة للقارات، وهي تتقاسم رؤى ووجهات نظر كثير من النقاد والمفكرين في أرجاء العالم تقريبا كافة، وتقترح رؤية التاريخ الاجتماعي والثقافي والسياسي للعالم الذي خضع للتجربة الاستعمارية من الأسفل وليس من عل، وتطمح إلى كشف الحراك الاجتماعي من أسسه الأصلية، وليس من نظرة استعمارية متعالية تتجاهل أعماقه السحيقة، وانتهت إلى نتائج مهمة في مجالات دراسات المرأة والجنوسة، والأقليات، والأديان، والأعراق، والطبقات، ثم سعت إلى تصحيح السرد المسطح الذي دونه المستعمرون لتاريخ مجتمعات شديدة التعقيد في مكوناتها الاجتماعية وتركيبها الدينية وتاريخها العريق…
نهلت دراسات التابع من مرجعيات مختلفة، فقد استفادت من تراث "غرامشي" المعروف بخلفياته الماركسية، واستثمرت التحليلات النقدية التي قدمها "فرانز فانون" للاستعمار وخطابه، لكن محرض جماعات التابع على قلب المفاهيم الاستعمارية، وربما ملهمهم، هو "إدوارد سعيد" الذي خرّب المسلمات الاستشراقية، حينما توصل إلى أن الغرب اصطنع شرقا متخيلا يوافق رغباته، فالشرق لم يُكتشف على حقيقته، وإنما رسمت له صورة متخيلة يوافق رغبة الغربيين، فأنتجوه طبقا لمعاييرهم التخيليّة، لذلك فالشرق الاستشراقي زائف وليس حقيقيا...
واستفادت دراسات التابع من الكشوفات المنهجية الحفرية لـ"فوكو" الذي يعتبر إلى جانب "دريدا" و"هابرماز" من أبرز نقاد الثقافة الغربية في القرن العشرين...، ومن أفكار التي استفادت منها أيضا، أفكار "هيدغر" الذي نقد الثنائية الديكارتية التي أسست الحداثة الغربية،…
ولعل إحدى أهم الإفادات مشروعية وعمقا التي توفرت عليها دراسات التابع، هي توظيفها لمفهوم التمثيل (Representation) الذي اقترحه فوكو، وطوره سعيد في نظريته النقدية القائمة على هذا المفهوم، أي الكيفية التي تتجلى فيها الأحداث ضمن الخطابات بكل أشكالها، فلا توجد أحداث مجردة، إنما الأحداث الواقعية "التاريخية" منها أو المتخيلة "الأدبية" تظهر في سياق الخطاب، تعمل استراتيجياته على التحكم في نوع الحدث، وتظهره طبقا لسلسلة متكاملة من التحيزات الثقافية الخاضعة لذلك السياق.


*موسوعة السرد العربي. ص. ٣٠٠-٣٠٥

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق