الأربعاء، 2 يناير 2019

النبي والشعر.

لم يكن النبي (صلى الله عليه وسلم) ينظم الشعر ولا يعرف نظمه ويقول تعالى: "وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ"، وإنما كان يستمع إلى الشعر ويميز ما بين جيده ورديئه. وحصل في بعض المرات أن استمع إلى الشعر فأراد أن يغير ما فيه إلى ما هو أحسن، فمنها حين قام كعب بن مالك يجيب هبيرة بن أبي وهب بقصيدة بعد معركة أحد قال في بيت منها:
مَجالدنا عن جِذمنا كل فخمة *** مُدربةٍ فيها القوانس تلمعُ
الجذم: الأصل.
القوانس: رؤوس بيض السلاح


فقال (صلى الله عليه وسلم): "أيصلح أن تقول مجالدنا عن ديننا"؟ فقال كعب: نعم، فقال النبي: "فهو أحسن"؛ فقال كعب: مجالدنا عن ديننا، وأصبح البيت:


مَجالدنا عن ديننا كل فخمة *** مُدربةٍ فيها القوانس تلمعُ


والمعنى من البيت: أنهم يقاتلون المشركين لأجل الدين وكلمة التوحيد لا الأصل والعشيرة.
**
وفي حادثة أخرى قال فيها عباس بن مرداس من غنائم هوازن، فسخطها وقال أبيات شعر منها:
فأصبح نهبي ونهب العبيــ *** ـد بين عُيينة والأقرع


وقال ابن هشام في سيرته: وحدثني أهل العلم: أن عباس بن مرداس أتى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "أنت القائل":
فأصبح نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة؟ فقال أبو بكر الصدّيق: بين عُيينة والأقرع؛ فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): هما واحد؛ فقال أبو بكر: أشهد أنك كما قال الله: "وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ". والشاهد أن النبي قرأ البيت بصورة غير موزونة.
**
والنبي (صلى الله عليه وسلم) يعلم ما للشعر من قيمة وأثر في نفوس العرب سواء في المدح والمفاخرة أو الهجاء والانتقاص في الحرب والسلم.
وكان حسان بن ثابت (رضي الله عنه) شاعر الرسول، مدح النبي وآل بيته، وهجا المشركين والكفار، ورثى بعضا من شهداء الصحابة، وكتب في معارك النبي ضد المشركين. وبعد عام الفتح وفدت الأقوام تعلن إسلامها، وكان بعضهم يفاخر بقومهم من بينهم شاعر اسمه الزبرقان، وكان حسان بن ثابت غائب فبعث إليه النبي، وقال ابن إسحاق‏:‏ وكان حسان غائباً فبعث إليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، قال حسان:‏ جاءني رسوله، فأخبرني أنه إنما دعاني لأجيب شاعر بني تميم، فخرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أقول‏:‏
منعنا رسول الله إذ حل وسطنا * على أنف راض من معد وراغم
منعناه لما حل بين بيوتنا * بأسيافنا من كل باغ وظالم
ببيت حريد عزه وثراؤه * بجابية الجولان وسط الأعاجم
هل المجد إلا السودد العود والندى * وجاه الملوك واحتمال العظائم

قال فلما انتهيت إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وقام شاعر القوم، فقال ما قال‏:‏ عرضت في قوله، وقلت على نحو ما قال:‏ قال‏:‏ فلما فرغ الزبرقان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت:‏ قم يا حسان، فأجب الرجل فيما قال‏.‏ فقام حسان، فقال‏:‏
إن الذوائب من فهر وأخوتهم * قد بينوا سنة للناس تتبع
يرضى بهم كل من كانت سريرته * تقوى الإله وكل الخير يصطنع
قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم * أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا
سجية تلك منهم غير محدثة * إن الخلائق فاعلم شرها البدع


إلى آخر القصيدة.


**
وفي حادثة أخرى تُبين قيمة الشعر وأثره في النفوس، وما حدث لبعض الشعراء الذي كانوا يهجون النبي ما حدث، وكان كعب بن زهير من هؤلاء الشعراء، فقدم بعدها كعب إلى النبي تائبا يطلب العفو والصفح، وقال قصيدة يلتمس فيها عفو النبي. وهي قصيدة مشهورة يفتتحها بقوله:


بانت سعاد فقلبي اليوم متبول *** متيّم إثرها لم يفدْ مكبول.


ويقول فيها:


كل ابن أنثى وإن طالت سلامته *** يوما على آلة حدباء محمول
نُبئت أن رسول الله أوعدني *** والعفو عند رسول الله مأمول
مهلا هداك الذي أعطاك نفالة الـ*** قرآن فيها مواعيظ وتفصيل
لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم *** أُذنب ولو كثرت فيَّ الأقاويل


ويقول أيضا:


إن الرسول لنورٌ يُستضاء به *** مهند من سيوف الله مسلول
في عُصبة قريش قال قائلهم *** ببطن مكة لما أسلموا زولوا


فصلى الله عليك وسلم يا رسول الله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق