يعمل هاروكي موراكامي في كثير من رواياته تقريبًا على خلق عالم قريب من السوريالية والغرائبيات، وجعل المعتاد غير معتاد، وتصويره بشكل مختلف، دافعًا القارئ إلى إعادة النظر في المسلَّمات التي حوله وتحيط به، لكنه في هذه الرواية ينحى منحًى آخر رغم محاولته المحافظة على الجو الذي كثيرًا ما يثيره في أعماله الروائية والقصصية.
يجد تسوكورو تازاكي ذو العشرين عاما نفسه خارج مجموعة الأصدقاء الخمس (ثلاثة ذكور وأنثيان) -التي عاش فيها طويلًا وقضى مدة من حياته في رحابها- دون أن يفصحوا له عن السبب في طرده ولا الدوافع خلف مقاطعة تامة لم يردوا بعدها حتى على اتصالاته أو يمنحوه تبريرات فعلتهم، ليدخل بعدها في أزمة نفسية كان الموت جل ما يفكر به ويرغب به. وبعد مروو ست عشرة سنة، لم يلتئم الجرح وبقيَ ينزف إلى الداخل، يلتقي بسارة -تكبره بسنتين- التي تشير عليه بالعودة إلى الماضي بدل الهرب منه وتجنبه فلا فكاك مما حصل إلا بمعرفة الحقيقة التي بقيت كل هذه السنوات مجهولة وغائبة عنه، ليبدأ تسوكورو رحلة لقاء الأصدقاء واكتشاف الحقيقة.
يخوض تسوكورو (يعني اسمه باليابانية الذي يصنع أو يبني) تجربة قاسية بعد طرده وما يزيد قسوتها شعوره الذي رافقه عندما كان في المجموعة أنه "عديم اللون" إذ أسماء كل أصدقائه الأربعة تعني لونًا ما (الأبيض والأسود والأحمر والأزرق)، أما هو فبلا لون في الاسم ولا الحياة. بدت هذه أكثر من مجرد مصادفة، بل مزية له جعلت منه هدفًا للإقصاء وتحمل الخسارة بسبب جريرة لم يقترفها، لكن انعكست الحياة معه مزيحةً إياه عن مساره الذي كان يرغب بسلوكه رفقة هذه المجموعة، ولتصبح مهمة العودة والنجاة من هذا المخاض العسير مرتبط بإيجاد لونه الذي فقده، لكن أي لون، وكيف سيجده، وما شكل العالم بعدها؟ تبقى أسئلة تدور في عقله، ورافقته حتى بعد أن أصبح مهندسًا (يبني "يصنع" المحطات) إلا أنها محطات بلا لون، فهو لم يجد لونه بعد، اللون الذي تنبّه لقيمته بعد الطرد من مجموعة الأصدقاء منذ سنوات الدراسة الأولى في الكلية.
هذه السنوات الستَّ عشرة، سنوات التطهير والتكوين أبرزت له المناطق المظلمة في ذاته، المناطق التي لم يكن ليصلها لولا الصدفة التي جمعته بهايدا الذي أدخله إلى عالم معزوفة ليست (سنوات حج)، المعزوفة التي حوت من بين مقاطعها الموسيقية العديدة قطعةَ (Le mal du pays) الموسيقية التي أعادته بالذاكرة إلى مجموعة الأصدقاء، وإلى الماضي الذي لم يعد يعرف ما يربطه به سوى الألم.
يعمل هاروكي على خلق توازن ما بين معزوفة ليست (سنوات حج) وسنوات تسوكورو، ليعيد تكوين تسوكورو ذاتيًا، ومتعرفًا على العالم الذي شقَّ دربه رغم الألم ومدى ما يمكن أن تكون الحياة قاسية، وليجعل تسوكورو يبني نفسه بنفسه عبر ممر الحياة الذي سلكه، وفي السعي إلى محاولة اكتشاف ما حدث منذ ستِّ عشرة سنة.
**
تعد معزوفة ليست (سنوات حج) أفضل أعمال الموسيقار الألماني، وتتكون من ثلاث متتاليات موسيقية (السنة الأولى: سويسرا، السنة الثانية: إيطاليا، السنة الثالثة) وأُلِّفت أجزاء هذه المعزوفة في مراحل زمنية متفرقة. تضم كل متتالية مقطوعات متعددة، اختار هاروكي قطعةَ (Le mal du pays) لتكون حاضرة ومحورًا في عمله.
ولا تخرج هذه المعزوفة من كونها نتاجًا لحياة ليست وجزءًا متأثرًا بالحركة الأدبية الرومانسية في أوائل القرن التاسع عشر، فالعنوان يشير إلى رواية غوته "سنوات تعلم فلهلم مايستر" (وهي الرواية التي رسَّخ فيها غوته الأسس لرواية التكوين وأنشأ قالبًا لها، وتتعامل روايته مع تطور أخلاقيات الشاب الصغير، حيث تقود المعاناة والخسارة الفتى فلهلم في سبيلٍ إلى استيفاء الذات والحكمة -لا يختلف الأمر كثيرا مع تسوكورو-). ويقول ليست الذي يقدّم لكثير من مقطوعاته الموسيقية بقطع أدبية من أدباء لعصره أو سابقيه فيقول:
"لقد سافرت مؤخرًا إلى العديد من البلدان، مارًا بمواقع وأماكن مختلفة جللها التاريخ والشعر، وشعرتُ بظاهرة الطبيعة ورؤاهم حاضرة والتي لم تمر في ناظري كصور بلا معنى بل أثارت مشاعر عميقة في حنايا روحي، وعلى الرغم من كونها غامضة فقد كوّنت بنفسها علاقة فورية فيما بيننا، علاقة غير محددة لكنها حقيقة، وغير قابلة للتفسير لكنها ذات تواصل لا يمكن إنكاره. لقد حاولت أن أصوّر بالموسيقى القليل من أقوى الأحاسيس وأكثر الانطباعات حيّوية".
**
يمضي تسوكورو سنوات حجه التكوينية والتطهيرية في دربه إلى ذاته- حج إلى الداخل، وبمعونة الموسيقى وقطعة (Le mal du pays) -بعزف الروسي لازار بيرمان- قطع طريقا طويلا من إعادة صياغة رؤيته للعالم، وإنهاء سنوات حجه، واكتشاف لونه الذي بقي طويلًا يجهله- لون التعايش مع الحياة بعد النجاة وفن البقاء حيًا. على الرغم من كل هذا فإنه لم يخض هذه الرحلة وحيدًا بل بمساعدة آخرين، ولربما أفضل ما يصف هذا الأمر تسوكورو نفسه حين يقر "أن القلب الجليدي في داخله لن تكفيه حرارته لوحده لتذيبه بل بحاجة إلى إلى حرارة شخص آخر" هذه الحرارة التي وجدها في الحب، لكن الحب هو الآخر كشف ضعف تسوكورو وأن مرور كل هذه السنوات وسلوك هذا الدرب الطويل من الحج لم يكونا كافيين لجعل تسوكورو واثقًا من نفسه بل بقي جزء منه شائبًا وبحاجة إلى آخر يعينه ويرشده كما تبيّن بعد رحلته إلى فنلندا لرؤية صديقته القديمة إري، فقد سافر إليها استجابة لنصيحة وعاد منها يحمل نصيحة.
إن أبرز ما يميز هذا العمل لهاروكي، هو التعامل مع الزمن الروائي. إذ تنقسم الكثير من فصول الرواية على زمنين: الزمن الماضي المتصاعد الذي أعقب الطرد من المجموعة قبل ستَّ عشرة سنة، والزمن الحاضر بعد ست عشرة سنة الذي يلتقي به تسوكورو مع سارة التي تعينه على العودة إلى الماضي وتساعده وتحثّه عليه. وفي ظل هذا الانقسام ما بين الزمنين فإن التداخل يحصل تارة من قبل الراوي العليم، الذي يسرد الرواية بضمير الشخص الثالث، مستخدما الاسترجاعية أو الاستباقية في سرد بعض الأحداث ويضمِّنها مع الحدث الرئيس مما كوّن نسيجًا بنيويًا ماتعًا في سرد أحداث الرواية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق