الثلاثاء، 28 يوليو 2020

العودة إلى إيثاكا - الجزء الثاني.

قراءة في أوديسة هوميروس.


أوديسيوس 

(كثير الحيل - الحكّاء - المقاتل) 


إنَّ شخصية أوديسيوس أهم شخصية هوميريّة على الإطلاق وهي تفوق شخصية آخيلوس التي نُظمتْ الإلياذة في مجده، فلأوديسيوس الكثير من السمات الشخصية التي تُميِّزه على غيره وتبزُّهم فهو ملك وبطل وقائد وخطيب وذكي كثير الحيل/ واسع الحيلة وحكَّاء ورجل مُحبٌّ لوطنه وأهله وتفوق رحلة عودته الأسطورية إلى إيثاكا كل المجد الذي حاول هوميروس أن يُسبغه على بطل طروادة آخيلوس. وتضع لوسي بولارد-غوت في كتابها "الشخصيات الخيالية المئة الأكثر تأثيرًا في الأدب والأسطورة" أوديسيوس في المرتبة الثانية بعد هاملت شيكسبير في تأثيرها وامتداداتها الأدبية والفكرية والثقافية في كل من لاحقي عصر هوميروس. ولا تنفصل قيمة أوديسيوس ولا مكانته عن رحلته التي استمرَّت عشر سنوات من شواطئ طروادة بعد نهاية حرب وحصار السنوات العشر إلى سواحل إيثاكا بعد أن أظناه التعب وأثقل كاهله التيهان في البحر الكبير (البحر الأبيض المتوسط) حتى عاد رجلًا مختلفًا عن ذاك الذي مخرت سفينته عباب البحر استجابة لنداء الملك أجاممنون. إنَّ البروز الأول لأوديسيوس عند هوميروس كان في الإلياذة، فهو ملك الإيثاكيين المشاركين في حصار طروادة، ويكاد يكون ثاني أهم شخصية آخية في الإلياذة بعد آخيلوس لكونه مقاتلًا شجاعًا وخطيبًا مفوَّها وقائدًا محنكًا ورسول الملك أجاممنون الفطِن وقبل/ بعد كل شيء فهو رجل حيلة ومكر، وهي صفة مدح لا ذم وإن أسيئ تأويلها. وأهم دور له في حرب طروادة أنه صاحب فكرة الحصان الخشبي الذي تمكن من خلاله الآخيين بعد مقتل آخيلوس من اقتحام المدينة الحصينة والعصية على الغزاة بالخداع والحيلة الأوديسيوسيّة، لذا فقد كسب مجدًا وشهرة كونه مفتاح النصر وصاحب الفضل في تدمير مدينة طروادة بين الآخيين وهو ما يزال فوق أراضي مدينة إلياس لذا فإن عودته ليست محض عودة ملك الإيثاكيين بل عودة ناهب/ مقتحم المدن كما يصف هوميروس ومفتاح النصر الآخي ومهندسه على أشهر حضارة ومدينة منافسة للآخيين بعد محاولات استمرَّت عشرة سنوات. تمخر سفن الإيثاكيين بأوديسيوس ورفاقه محمَّلين بالغنائم والسلائب التي نهبوها بعد تدمير طروادة. لكنها عودة مشؤومة فلا يرجع إلى إيثاكا إلا أوديسيوس وحيدًا وعلى سفينة قوم أجانب عنه هم الفياكيين، فيمرُّ أوديسيوس ورفاقه بمغامرات عدة زائرًا أناسًا مختلفين عنه يقطنون في أراضٍ يجهلها وواطئًا جزرًا ذات غرائب وعجائب من عمالقة وآلهة وساحرات وآكلي لحوم بشر يفاقهما أوديسيوس بخطأ يرتكبه للمرة الوحيدة في كل من الإلياذة والأوديسة إذ يخونه ذكاؤه وتنقلب عليه حيلته مع السيكلوب بعد أن يكشف له هُويته الحقيقية. وحتى عودته إلى إيثاكا بعد التي جاءت بعد طول انتظار ومشقة وعناء جاءت محفوفة بالمخاطر التي لا تقل عن مخاطر البحر وأصبحت كل خُطوة يخطوها أوديسيوس في إيثاكا بعد عودته محسوبة وله تبعات لأنها لم تعد تخصه وحده بل تخص زوجته بينيلوبي وابنه تيليماكوس.        

تبرز ثلاث سمات على أوديسيوس (معنى اسمه الرجل الذي يتحمل غضب الآلهة) في رحلة العودة طاغيةً على كل سماته الأخرى. أما الأولى وهي الأكثر شهرة والمرتبطة به فهي كثرة الحيل والمكر الذي غالبًا ما استخدمه لصالحه وصالح رفاقه من أجل إنقاذهم من خطر مُحدق بهم. وكان أول ظهور بارز للحيلة الأوديسيوسيّة في الأوديسة هو خداعه للسيكلوب ذي العين الواحدة، بولوفيموس، فبعد أن يحتجزهم العملاق في كهفه ويبدأ بأكل رفاقه تباعًا يُفكِّر أوديسيوس في حيلة للخروج فيسقيه الخمر ويُسكره وحينما أعجب بولوفيموس بالخمر سأله عن اسمه أجابه بأن اسمه (لا أحد) إذ كان أوديسيوس يُضمر الخديعة للعملاق الأحمق ليفقأ عينه بعدها ويهرب مع رفاقه من الكهف مستترين تحت الخراف، لكن الخطأ الذي وقع فيه أوديسيوس كان في إعلان هويته الحقيقية لبولوفيموس مما دفع الأخير للتضرع لأبيه بوسيدون الذي يستجيب دعاء ابنه وتطيل أمد رحلة العودة حتى يلاقي أوديسيوس الصعاب ويقاسي المتاعب في البحر وإيثاكا. أما الحيلتان الأخريان فتمَّتا بمساعدة الآلهة لكنهما عززتا سمعته بكثرة الحيل. كانت الأولى بمساعدة رسول الآلهة هيرمس الذي يمنحه العشبة التي تمنع تحويله من قبل الساحرة سيرسي إلى خنزير ثم يُرشده إلى كيفية التغلب عليها واستعادة أصدقائه الذين مسختهم، والثانية بمساعدة أثينا بعد أن يصل إلى إيثاكا إذ تحوِّله إلى عجوز مشرَّد ومتسول حتى يتمكن من الدخول إلى منزله والانتقام من الخطَّاب دون أن تُكشف هويته ويُقضى عليه. لكن الحيلة والمكر اللذين يتسم بها أوديسيوس لا ينفعانه دومًا فمثلًا لا نجد للحيلة دورًا مع الإلهة كاليبسو التي تحبسه عندها سبع سنوات كاملةً عارضة عليها الخلود والشباب الأبدي، ولولا قرار الآلهة بإنهاء حبسه ومعاناته ولا بد من عودته إلى إيثاكا في بداية السنة الثامنة. وعلى الرغم من طول المدة التي قضاها أوديسيوس عند كاليبسو فإن الأحداث المروية عن هذه المدة الطويلة قصيرة ولا ترسم الحال كاملًا أو حتى محاولات أوديسيوس في التحرر من قبضتها. وأبرز ما يمكن الوقوف عليه هو حزن أوديسيوس بسبب عدم قدرته على العودة إلى موطنه وبكائه من شوقه إلى إيثاكا الذي يمكن أن نستنتج منه أنَّ محاولاته باءت بالفشل في حالة وجودها؛ ونشوء علاقة غرامية وجسدية بين الاثنين رغم أن أوديسيوس لم يحبها ورفضها عرضها المغري.  


أما السمة الثانية وهي سمة تُقرأ أكثر مما يُصرَّح بها وهي أنَّ أوديسيوس حكَّاء ماهر سواء في قصِّ الأحداث التي وقعت له في طريق العودة أو في اختلاق قصص عن هُويته المزيَّفة. يصل أوديسيوس إلى جزيرة الفياكيين بعد أن يتحرر من قبضة كاليبسو ويلتقي بعد أن يصل بملك الفياكيين "ألكينوس" وزوجته "أريتي" بفضل ابنتهم"ناوسيكا". وبعد أن يطلب منهم العون والمساعدة وبُعيدَ أن يكشف لهم هُويته الحقيقية يبدأ يقص عليهم في الليل المصاعب التي مرَّ بها قبل أن يصل إليهم مبتدئًا بالحديث منذ مغادرة إليوس وحتى التحرر من كاليبسو، ومما يلاحظ في هذا القص بله كونه البروز الأول لأوديسيوس القاص هو أنَّ أوديسيوس مُدركٌ تمامًا بما يقوم به فعندما يذكر للملك ألكينوس ما جرى من حديث بين زيوس وهيلوس بعد أن غضبوا عليه ورفاقه إثر ذبح رفاقه من قطعيع الشمس المقدسة؛ يعلِّق أوديسيوس هنا لكي ينوِّه أنَّ ما يقوله ليس ادِّعاءً أو اختلاقًا إذ يدرك أنه -الإنسان العادي- لا يستطيع أن يعرف ما دار بين الآلهة وبذات الوقت حتى لا يُلقي الشك في نفوس مستمعيه وقبل حتى أن يبادروا بالسؤال- قائلًا: "سمعتُ هذا من كاليبسو ذات الشعور الفاتنة، إذ قالت إنها سمعته بنفسها من الرسول هرمس (ترجمة أمين سلامة)". كان أوديسيوس قد بدأ أول الأمر بقصِّ حبسه في جزيرة أوجوجيا عد كاليبسو ثم عاد ليقص ما حدث له منذ مغادرة سواحل إليوس فلما وصل بقصته إلى جزيرة كاليبسو مجددًا فيتوقف عند هذا الحد ويرفض أن يعيد قصَّ ما سبق له أن قصَّه فيقول: "ولكن لماذا أروي لك هذه القصة؟ لقد سردتها في ساحتك بالأمس فقط، لك أنت نفسك ولزوجتك النبيلة، وإنه لمتعب حقًا كما يبدو أن أعود فأقصَّ حكاية سبق لي أن رويتها (ترجمة أمين سلامة)". يستمر أوديسيوس في التماشي مع سمة الحكي والقص عنده لكنه يأخذها بعد الوصول إلى إيثاكا إلى مستوى آخر ولأسباب خاصة بخطة الانتقام من الخطَّاب والحذر منهم فإنَّه -وبعد أن تحول أثينا هيئته إلى متسول عجوز- يقص أول مرة على راعي الخنازير يومايوس مختلقًا هُوية وأحداثَ حياةٍ وهمية، ويتكرر الأمر لذات سبب الاحتراز والحماية مع زوجته بينيلوبي، لكنه يتماشى أكثر مع هذا الدور ويجعل من اختلاق الهُوية وقصتها وسيلة لاختبار والده لاتيريس بعد أن يلتقي ليعرف إن يستطيع الأخير معرفته أو لا. 

  

أما السمة الأخيرة فهي سمة القتال التي ما انفكَّت عنه كونه في الأساس مقاتل شجاع وملك بطل من الجيل الذي نظم هوميروس إلياذته في مديحهم والثناء عليهم وتلو أمجادهم على الأسماع، وغالبا ما تمازجت هذه السمة في الأوديسة رغم قلة المرات كالتي قاتل فيها أوديسيوس مع المكر والحيلة كما حدث مع السيكلوب بولوفيموس، لكن الظهور الأبرز لهذه الشخصية الأوديسيوسية القتالية فتمثلت في المذبحة التي ارتكبها بحقِّ الخطَّاب في ساحة منزله بمساعدة ابنه وخادميْه. إذ انتقم أوديسيوس بمعونة أثينا منهم شرَّ انتقام بعد أن يشترك في مسابقة شدِّ وتر قوسه ثم إطلاق سهم عابرًا اثني عشر فأسًا مثبَّتًا في الأرض ليكشف بعدها أوديسيوس المتخفي عن هُويته الحقيقة، ليعود الغائب الذي ظُنَّ أنه لن يعود لكنها عودة حملت الموت الزؤام والانتقام الدموي على كل من خانه وأساء لبيته وزوجته انتقامًا لم تسلم منه حتى الخادامات اللائي شُنقن. 

تُعطي هذه السمات الرئيسة الثلاثة لأوديسيوس في العمل وأُخرَ غيرها في العمل أقل بروزًا صورة كاملة ومثالية عن رجل أغضبَ الآلهة ثم نال رضاها، لكنه بذات الوقت بقي إنسانًا مختلفًا ومائزًا عن غيره، وما حققه من شهرة وصيت بين الآخيين والجزر التي مرَّ بها أبقت اسمه محفورًا. لقد جعل هوميروس من شخصية أوديسيوس واحدة من أهم الشخصيات الخيالية في المخيال الأدبي الإنساني رابطًا إياه بحوادث وقضايا أسطورية وإنسانية ذاتية أضحى معها اسم أوديسيوس عصيًّا على النسيان والاندثار.



العودة إلى إيثاكا 


تتجلّى الأوديسة كاملةً في العودة إلى إيثاكا، إنها رحلة العودة إلى الانتماء الذي سعى لأجله أوديسيوس خائضًا في مياه البحر المظلم وجزره ومخلوقاته مدةَ عشر سنوات كاملة ما بين سوء أقدار أو تدابير آلهة ومشيئتها التي تعارضت مع عودته. بقيت إيثاكا وجهته وحلمه الذي يزداد بُعدًا عن رؤيته واقعًا في كل مرة تُخطئ سفينته الوجهة وتطأ قداماه أرضًا غريبة غير تلك التي يقصدها. لماذا سعى أوديسيوس من أجل العودة رغم كل الصعاب التي قد تجعل أيَّ شخصٍ آخر يائسًا ويفضِّل المكوث حيث هو إذا توفرت له الظروف المناسبة للبقاء؟ أوديسيوس من أجل إيثاكا عادى العمالقة والآلهة، من أجل إيثاكا حارب آكلي لحم البشر، من أجل إيثاكا رفض خلودًا شبابيًا دائما، من أجل إيثاكا رفض العيش وسط الفياكيين سادة البحر وأصحاب مجتمع مثالي وعدم قبول الزواج من أميرة الفياكيين ناوسيكا؟ أوديسيوس الذي ترك إيثاكا وابنه لمّا يبلغ من العمر سنة بعد، كان يحرِّكه دافع مجهول للمتلقي في محاولاته الدؤوبة من أجل العودة إلى وطنه، فرغم سبع سنوات طويلة مع كاليبسو ما فتئ الحزن يملأ قلبه والدمع يُذرف من عينه. ثمة علاقة غريبة ما بين أوديسيوس وموطنه تتجسَّد فيها قيمة من قيم الأوديسة حيث الإشادة بالوطن والأهل، إذ أوديسيوس بدون وطنه بلا أي قيمة ولا أثر، فهو ما جلب المجد للآخيين إلا لكونه جزءًا من هذه الأمة الكبيرة التي حاربت الطرواديين واجتاحت مدينتهم، وأيُّ بُعدٍ عن هذه الأمة الكبيرة والوطن في نظر أوديسيوس هو موتٌ وجهالة ستلفه إلى الأبد، لقد أيقن أوديسيوس أن مجده الذي اكتسبه مهندسًا لهزيمة الطرواديين واقتحام مدينتهم لا يكتمل ولن يبلغ مبالغه الحقيقية إلا بالعودة إلى وطنه. إنَّ الوطن لدى أوديسيوس أكثر من مجرد أرض تربَّى فوقها وأكل من خيراتها، وأكثر من مجرد عائلة ترعرع فيها بين ذويه وأناس عاش وسطهم، وزوجته، وابنه الذي يكبر بعيدًا عنه يحركه شوق إليهما، إنَّ إيثاكا/ الوطن قد تأصلَّ أوديسيوس فيها وما رأى نفسه إلا فرعًا من هذا الأصل مادًا جذوره فيها فأصبحت هذه التربة هي البيئة الوحيدة التي تلائم أوديسيوس ولا يمكنه العيش من دونها. إنَّ محرِّك العودة إلى إيثاكا هو البحث عن الذات الإيثاكية ذات السمات العديدة التي لا يُعرف أوديسيوس كاملًا إلا بها فأوديسيوس المحارب والبطل الآخي ينتهي أثره بعد حرب طروادة لو لم يكن هناك أوديسة، لكن أوديسيوس الإنسان الخالد الصيت والمجد والأثر لا ينتهي أبدًا لأنه رحلة عودته هي تجسيد لعلاقة الحب والانتماء التي يكنُّها المرءُ إلى الأرض التي يحبها؛ الأرض التي نشأ فيها؛ الأرض التي يجد فيها سعادته وسط من يكترث بشأنهم؛ أوديسيوس يرغب بالعودة إلى إيثاكا من أجل لا شيء إلا لأجل أوديسيوس، لأجل الهوية التي لا يُعرف إلا بها. إنَّ إيثاكا هي وجه آخرُ لأوديسيوس، وهُوية له بدونها سيغدو مهما علا صيته "لا أحد"، فعندما غادر أوديسيوس سواحل إيثاكا إلى سنوات الضياع العشرين غادر هُويته وكيانه، غادرَ مجرَّدًا من كل ما يُشير إلى أوديسيوس؛ الوطن والأهل وحياة ملك. ما الذي دعا أوديسيوس أن يُجيب بولوفيموس حين سأله عن هويته بقوله "لا أحد"؟  لا أحد تعبير مرقق لنكرة، فهو مدرك تمام الإدراك أنه بدون إيثاكا وطنه- نكرةً سيُوطى ذكره عاجلًا أو آجلا وما سيبقى منه فهو مرتبط بمدينة طروادة الشهيرة لا بحصانه وحيلته لكن العودة إلى وطنه هي الضمان الوحيد لإبقاء اسمه متقدًا عبر الزمن لأنها ستؤكد قيمة أوديسيوس الإنسان المحب لوطنه فحسب. أن تحارب عابرًا البحر فوق أرض غريبة ثم تجتاحها وتنهبها لتعود إلى أرض لا تنتمي إليها سيجعل من ذكرك مجرَّد همجي ناهب لا يفرق عن مرتزق آخر يقاتل لأجل المقابل لكن إن كان ثمة قضية يُقاتل لأجلها وأرضًا يمثلها وأمة ينتمي إليها فستذوب أي مساوئ في بوتقة الصراع الحضاري بين القوى الكبرى وتضحى مسألة الإعلاء من شأن هذا أو ذاك مرتبطة بما يقدموه فهناك خلفية مبررة وأسس قوية تدعم هذه التصرفات -في الأقل في نظر المؤيدين-. كان أوديسيوس فاهمًا لقضايا الهُويات والتاريخ فأصرَّ على العودة لأن العودة وحدها هي ما تؤهله ليكون أوديسيوس الذي يريده. وتتحول العودة في مسارها المادي جزءًا من عملية إثبات الذات وتحديًا شخصيًا بعيدًا عن أي أهداف أخرى لا سيما حين تتدخل الآلهة في تأخير مساره وقد يكون أوديسيوس شعر بأنه لا يقل عن الآلهة دهاءً وقدرةً في صنع الأمجاد والانتصار لذا فعاقبته برحلة عودته وزاد المسألة تعقيدًا استجابة بوسيدون لدعاء بولوفيموس ثم نحر رفاقه لبقر من القطيع المقدس المحظور ذبحه للإله هيليوس لتتشكل مجموعة من الأسباب تعرقل رحلة العودة وتزيد من صراع إثبات الذات الذي يحاول أوديسيوس بعودته تحقيقه لتخضع الآلهة أخيرًا لمشيئة أوديسيوس المتجسدة في إصراره وشوقه الذي ما زايله رغم كل ما مرَّ به وعاناه. 

 



لا أحد 

(الهوية الضائعة) 


تتشكل لدى أوديسيوس وهو في المنفى بعيدًا عن وطنه يحاول العودة إلى إيثاكا هُويات مختلفة يعززها بحكاياته رغبةً منه أو نتيجة للظروف المُستلزمة لهذه الهُوية الثانوية التي يدَّعيها. لكن في ظل كل هذه الهُويات التي يُهطلها على سامعيه يبزغ سؤال من هو أوديسيوس الحقيقي، وما هُويته الفعلية؟ يبدأ الأمر في تسلسل سرد أحداث الأوديسة بلقائه مع ناوسيكا في جزيرة الفياكيين وإخفائه هُويته الحقيقية وطلبه منها المساعدة لرجل أتعبته الأقدار والتيهان في البحر اللجي، ثم يستمر بهذا الإخفاء لهُويته بعد أن يتلقي ألكينوس، ملك الفياكيين، إلا إن سرعان ما يفضحه حزنه عندما يسمع المنشد يغني أمجاد حرب طروادة وأديسيوس صاحب فكرة الحصان الخشبي؛ ينخرط في بكاء ويذرف الدمع مما يسترعي انتباه الملك وسؤاله عن هُويته واسمه الحقيقي ليجيبهم بأن اسمه أوديسيوس ملك إيثاكا وصاحب فكرة الحصان الخشبي. وعندما يبدأ أوديسيوس بحكي قصته وما واجهه من أخطار قبل الوصول إلى جزيرة الفياكيين فيمرُّ على ما حدث له في كهف بولوفيموس الذي سأله من أنت وبماذا ينادونك في موطنك وبماذا تعرف بين أهلك، فيجيبه بأن اسمه "لا أحد". وهنا أول إشعار بارز عن مجهولية أوديسيوس وضياع هُويته وإن كان الجواب لأغراض الأمن ومن حيل أوديسيوس في مواجهة هذا العدو الذي يفوقه ورفاقَه قوةً وحجمًا وهم محبوسون سلفًا في كهفه. هذه الهُوية الضائعة الناتجة عن التيهان في البحر في رحلة العودة وتأكيدًا على مجهولية أوديسيوس دون إيثاكا لكنه حتى بعد أن يصل إلى إيثاكا يتماشى معها وإن كان لأسباب الأمن من أجل مواجهة الخطَّاب فهو كما يبدو عليه ومن قصصه المختلفة بدايةً عما يحكيه ليومايوس بأنه من أرض تسمَّى كريت ثم إبحاره ونهب رفاقه لحقول المصريين وكيف أنقذه ملكهم بعد أن توسَّل أوديسيوس بركبتيه ثم وصل إلى إيثاكا. ثم ما يحكيه من أكاذيب -وهو ما يزال متخفِّيًا- على مسامع زوجته بأنه من كريت واسمه آيثون وأنه التقى بأوديسيوس قبل أن يصل إلى شواطئ طروادة حين توقَّف أوديسيوس عنده وأخيه. وأخيرًا ما يحكيه لوالده لايرتيس بأنه من جزيرة صقلية واسمه "رجل الكفاح" في محاكاة لقصة عودته وكنايةً عن حاله الحقيقية وما واجهه من مصاعب وأخطار. إذن فمن بين كل هذه الهُويات المتباينة والأسماء المختلفة من هو أوديسيوس؟ قد يكون الجواب السريع والبديهي هو أوديسيوس بن لايرتيس ملك إيثاكا الذي قضى عشرين سنة بعيدًا عن أهله ومملكته، عشرًا منها في حرب وحصار طروادة التي خرَّبها بفكرة الحصان الخشبي، وعشرًا منها قضاها في رحلة العودة إلى إيثاكا وحيدًا دون رفاقه على سفينة الفياكيين، ثم انتقم من الخطَّاب الذين كانوا يتستنزفون خيراته ويتآمرون على قتل ابنه ويطلبون يد زوجته. تعريف يذكرنا بما كتبه أرسطو عن الأوديسة: "رجلٌ كان بعيدا عن موطنه لسنوات عديدة، وحيدٌ ويبقى الإله بوسيدون معاديًا إياه. أما في موطنه فالوضع هو أنَّ الخطّاب يتقدمون لخطبة زوجته ويستنزفون خيراته ويتآمرون على قتل ابنه. وبعد عاصفة هوجاء وغرق سفينته يعود إلى منزله؛ يكشف عن هُويته ويهاجم الخطّاب لينجو ويهلكون". لكن بعيدًا عن الجواب البديهي في التعريف بأوديسيوس وعن التعريف الساخر لأرسطو من الأوديسة؛ إنَّ أوديسيوس يعاني من هُوية ضائعة أو حتى لا يعرف في الأساس من هو، وقد ساعدت سنوات التيهان والكفاح العشر في جعله يفقد هُويته الحقيقية طوعيًا ويتماشى مع الهُويات المتبدِّلة رغم سعيه الحثيث في العودة إلى هُويته الأصلية التي ينشدها في إيثاكا. هذا التنوِّع والتبدُّل الهُوياتي يجعل من الصعب التعريف بأوديسيوس فهو يتحول من الذات الفرد إلى مجموعة ذوات مختلفة لكل منها قصتها وأصلها ومعلوماتها التعريفية الشخصية تجمعها شخصية أوديسيوس الإنسان الحقيقي، ليبقى وإن كان يعرفُ هُويته الحقيقية مستمتعًا بحركة التبديل الهُوياتي عند الحاجة يعينه على ذلك قدرته العظيمة على القص كما يصفه هوميروس. إذن فأوديسيوس هو ذاك المرء الذي يمتلك عدة هُويات مختلفة وكل آخي غريب ومجهول قد يكون أوديسيوس، فتمزُّق الهُوية الأوديسيوسيّة التعريف الوحيد الموثوق منه عن أوديسيوس، فمن هو أوديسيوس؟ إنه لا أحد وكل أحد. 

يبقى أوديسيوس مع هذا التبديل الهوياتي المستمر حاملًا لسمة مادية مرئية أصيلة لا يُخطئها من كان يعرفه ألا وهي نَدْبة ركبته التي حصل عليها من ضربة ناب خنزير في شبابه. ولهذه النَدبة تاريخها القصصي الخاص وتأثيرها التعريفي والدال على شخصيته الحقيقية بما لا يُمكن لمن يعرفه أن يُخطئه كما حصل مع مرضعته ومربيته يوروكليا، وهو في ذات الوقت لا يمكنه أن يُخفيها أو ينكر تثبيتها لهُويته الحقيقية مهما اجتهد في ذلك، لذا فإنه أول ما فعله حين اكتشفته يوروكليا طالبا منها الصمت ومهددًا إياها بالقتل لو كشفت هويته لأنه لم ينفذ وعيده بالخطّاب والموت المحتوم لم يُنزله عليهم بعد. إنَّ نَدبة أوديسيوس جزء لا يتجزأ من هذا اللا أحد، سمة جلية ومائزة تجعل هذا اللا أحد أوديسيوس ولا يعني أنَّ النَدبة تُثبت فيه هُوية اللا أحد وتنقلها من عالم النكرة إلى عالم المعرفة لكنها إلى حد ما وما دامت في مدى العين الناظرة ستبقى دالة عليه لمن سبق أن عرفه وعرفها فيه، فهي تكشف عن هُوية اللا أحد الحقيقية تحت ظروف خاصة لا عامة وعند أناس محددين فقط؛ نقطة ضعف وخاصرة رخوة تُهدد الحكّاء العظيم والكثير الحيل في أي مرة يحاول فيها ممارسة التنقل بين الهويات والتماشي مع إضاعة الهوية التي اكتسبها في رحلة عودته إلى هويته الأصلية والانتماء مجددا إلى مهده الذي يُعرف به ولا يعرف بسواه.




دفاعًا عن أوديسيوس 

(المكر السيئ والخيانة الزوجية)


ثمة تُهمتان تُثاران أحيانا ضدَّ أوديسيوس مفاد الأولى هو خداعه ومكر السوء وحيلته التي يستخدمها في الشر، والثانية في كونه خائنًا لزوجته عكس بينيلوبي التي بقيت مخلصة له رغم سنوات بُعده عنها. 

أما التهمة الأولى فمصدرها الفهم الخطأ لعبارات الحيل التي يصف بها هوميروس بطله كـ الواسع الحيل  والكثير الحيل وما شابه من العبارات التي أراد بها هوميروس مدح بطله لا ذمه، وهذا ما يعضده عبارات وصفية أخرى مثل ناهب المدن والمحارب القديم فقد قيلت في مقام مدح لا ذم والسياق يؤكد هذا. وكثير من هذه العبارات كما أشار بحث باري اللغوي أنَّ أوديسيوس صاغها لكي تلائم الأوزان الشعرية وقوافي الأبيات بما يتوافق مع الوزن الشعري السداسي الذي استخدمه في نظم ملحمتيه. إذن فبعيدًا عن مدح هوميروس لأوديسيوس بوصفه كثير الحيل فإن كثيرًا من هذه الأوصاف هي مصاغة لإقامة الوزن الشعري أكثر مما هي في الأساس مدح أو ذم أوديسيوس. ونأتي الآن لأخذ أمثلة من هذه الحيل التي قد تُؤوَّل ذمًا بحق أوديسيوس ابتداءً بحيلة الحصان الخشبي الشهيرة. إنَّ حيلة الحصان الخشبي وإن كانت قد جلبت الهلاك والبلاء للطرواديين والدمار لمدينة طروادة الحصينة فإنَّها خَدعة حربية لا يمكن ذمَّها لأن في الحرب كل شيء متاح ما دامت الغاية هزيمة الطرف المقابل وهذا ما حدث في حرب طروادة وما جلبه حصان أوديسيوس من نصر للآخيين وإنهاء سنوات الحرب والحصار العشر. ويمكن أن يُحاكم أوديسيوس في اشتراكه بالحرب ضد الطرواديين لكنَّ الحرب في الأساس لم يشنها الآخيون -ظاهريا- على الطرواديين بدون سبب بل كانت بسبب اختطاف الأمير الطروادي، باريس ابن بريام، لهيلين زوجة ملك إسبارطة مينيلاوس. لذا فإنَّ الطرواديين هم من كانوا البادئين بالاعتداء وهم سبب الحرب التي نشبت بينهما. والأمر الآخر فإنَّ أوديسيوس ولكونه ملك إيثاكا فهو مرتبط بمواثيق وعهود تجبره على الالتزام بالإبحار مع الملك أجاممنون نحو طروادة. نتيجة لكل هذا فلا يمكن بحال من الأحوال أن نأخذ حيلة حصان طروادة من منظور المكر الذي يسيء لأوديسيوس. أما الحيلة الثانية المشهورة لأوديسيوس فهي التي كانت مع بولوفيموس في كهفه، وكيف خدعه أوديسيوس بشرب الخمر ثم فقأ عينه أثناء نومه. وهذه الحيلة لم يلجأ إليها أوديسيوس اعتداءً على السيكلوب بل هي وسيلة لإنقاذه نفسه ورفاقه من قبضة السيكلوب الآكل للحم البشر والذي كان قد بدأ سلفًا بأكل عددٍ من رفاقه وتوعَّد بأكل البقية وفي آخرهم أوديسيوس إكرامًا له على الخمر التي سقاها إياه. وهنا أيضًا لا يمكن أن تُؤوَّل الحيلة بالمكر السيئ ضد أوديسيوس فقد التجأ إليها دفاعًا عن النفس لا ظلمًا أو تجاوزًا على حقوق الآخر. أما الحيلة الثالثة الشهيرة فهو حيلة التحول إلى شيخ من أجل الانتقام من الخطَّاب التي تنتهي بالمذبحة في ساحة بيته. وهذه الحيلة لا تخص أوديسيوس وحده ولا يستطيع بمفرده أن يقوم بها لكنَّها أتت بفضل الإلهة أثينا وتدبيرها فهي حيلة مشتركة ابتدأتها أثينا ثم أتى الدور على بينيلوبي التي أعلنت مسابقة القوس والفؤوس الاثنتي عشرة وأكملها أوديسيوس بالانتقام. وكما هو واضح فإنَّ  الحيلة هي أكثر الحيل التي لا يمكن أن تُؤول بحال من الأحوال سوءًا بحق أوديسيوس فما فعله كان بدافع أخذ الثأر ممن أهان شرفه ودنَّس بيته واستنزف خيراته عدوانًا وضايق زوجته طالبًا منها الزواج وتآمر على قتل ابنه. 

إنَّ سمة الحيلة والمكر عند أوديسيوس هي ممزوجة في طباعه ولا يعني أنَّه لا يُخطئ أو كل ما يقوم به مستعينًا بدهائه ومكره هو صواب، فنرى توبيخ آخيلوس له حين أتاه أوديسيوس رسولا من أجاممنون يسترضيه من أجل العودة إلى الحرب لكن آخيلوس يأبى ويصف أوديسيوس بالرجل الذي يقول شيئًا ويخفي شيئًا آخر، وأنَّه -أي آخيلوس- يفضل الموت على هذا. تكشف هذه الكلمات والاتهام لأوديسيوس عن صيت شائع عن أوديسيوس بأنه رجل ليس بالسهل الواضح ولا الغرِّ اليسير خداعه لكنه داهية ومحنِّك وصاحب حيلة وخديعة يعرف كيف يُنجي نفسه من المخاطر بفضل ذكائه وليس هو الذي يقع في شر أعماله ومكر السوء. 


أما التهمة الأخرى التي توجَّه إلى أوديسيوس بأنه خائن لزوجته وبكونه شريك فراش لأخريات عكس بينيلوبي، الزوجة الوفيَّة، فهذا ما يمكن تفنيده من الأوديسة نفسها التي تذكره شريكًا لفراش سيرسي وكاليبسو. 

إنَّ أول ذكر لعلاقة أوديسيوس مع المرأة يبدأ في الحلقة الخامسة مع كاليبسو لكنَّ هذه العلاقة ومكثه معها كانت غصبًا ورغم إرادته وعكس رغبته، وحال أوديسيوس خلال هذه السنوات السبع سيئة ملئها الأسى والدموع على إيثاكا المُبعدَ عنها. فيذكر هوميروس (ترجمة أمين سلامة): 

  "… فانطلقت الحورية الجليلة إلى أوديسيوس العظيم القلب، بعد أن علمت برسالة زيوس فوجدت أوديسيوس جالسًا على الشاطئ، يذرف الدموع من عينيه بلا انقطاع، وقد أخذت حياته تذوي، إذ كان يتحرق شوقا الرجوع إلى وطنه، لأن الحورية، لم تكن بحال من الأحوال، موضع غبطة ناظريه. وكان عليه أن ينام الليل إلى جوارها في الكهوف الفسيحة رغمًا عنه، وضد إرادته، أما في النهار فكان يجلس فوق الصخور والرمال، معذبًا نفسه بالعبرات والأنين والهموم، وكان يتطلع إلى البحر الصاخب، ويتحسر ذارفًا الدموع". 

لا تحتاج أبيات هوميروس إلى شرحٍ وتعليق فهي دالة على ذاتها بذاتها بيانًا وإفصاحًا عن حقيقة العلاقة التي ربطت الاثنين. ويأتي الدليل الآخر عن حال أوديسيوس ورغبته بترك كاليبسو على لسان محتجزته إذ تقول (ترجمة أمين سلامة):

"… إلا إن رغبةً جامحة ملحة تتملكك، لرؤية زوجتك التي تتوق إليها يومًا بعد يوم. وإنني لأعلن عن نفسي، أنني لستُ بحال ما، دونها جمالا ولا قواما، إذ لا يليق قط أن تتحدى نساء البشر الخالدات في الهيئة والفتنة". 


توضِّح هذه الأبيات ضمنيًا عن تفضيل أوديسيوس لبينيلوبي الفانية على كاليبسو الإلهة، وهو ليس بتفضيل عادي إذا عرفنا أنَّها رغم جمالها وكونها من الخالدات فقد عرضت عليه الخلود والشباب الأبدي لتقوِّي من موقفها وتستميلها إليه لكنَّه يرفض هذا العرض المغري ويختار الفراق بعد أن أتاحت له الآلهة ترك كاليبسو. ويؤكد أوديسيوس هذا الأمر بعدما يعود إلى إيثاكا وينتقم من الخطَّاب ثم يلتقي بزوجته ويقص عليها ما حدث له خلال رحلة العودة فيقول بشأن كاليبسو (ترجمتي):

 

"… وعدته أن تجعله خالدًا، لا يشيخ طوال عمره، 

نعم، لكنَّها قط لم تربح قلبه الذي بين جوانحه، إطلاقا…" 23:380


قد لا يكون من السليم الأخذ بكلام أوديسيوس عن نفسه لكن ثمة ما يقوي هذه الاعتراف ويجعلنا نأخذ به، وهو أنَّ هوميروس لم يجعل الكلام على لسان أوديسيوس بصيغة الخطاب المباشر في زمن الحاضر بل جعله خطابًا بصيغة الضمير الثالث في الزمن الماضي وعلى لسان راوٍ عليم بأسلوب خطاب حر غير مباشر، ومن غير المستبعد أنَّها التفاتة ضمنية داعمة من هوميروس لموقف بطله في الإخلاص لزوجته. 


أما العلاقة الثانية التي كان فيها أوديسيوس شريك الفراش فكانت مع سيرسي، لكن هذا الرقاد لم يكن برغبة أوديسيوس بل أمرٌ من الآلهة ولأجل غاية محددة تذكرها أبيات هوميروس على لسان رسول الآلهة هيرمس (ترجمة أمين سلامة): 

"… وتأمرك بالرقاد معها بعد ذلك، إياك أن ترفض الرقاد في مخدع الربة، لكي تطلق سراح زملائك، وتقدم لك الضيافة". 


لذا فلا يمكن بحال من الأحوال مجددًا أن نأخذ هذا الرقاد مع سيرسي على أنَّه خيانة لبينيلوبي أكثر من كونه امتثالا لأمر الآلهة ولتخليص زملائه وإبطال مفعول السحر الذي حوَّلهم إلى خنازير في حظيرة سيرسي. 


أما الحالة الأخيرة التي تضع أوديسيوس في اختبار مع عالم المرأة وإتاحة إمكانية تفضيل إحداهن على بينيلوبي كانت مع الفياكيين حين يعرض عليه ملكهم ألكينوس أن يتزوج ابنته ناوسيكا المشرفة على الزواج فيقول (ترجمة أمين سلامة): 

"وبحق أبينا زيوس، وأثينا، وأبولو، إنني لأتمنى أنَّ مثلك أيها الرجل العظيم، الذي يعدلني عقلا، يتخذ ابنتي زوجةً، وتُسمى ابني، وتبقى هنا ولو طاب لك البقاء هنا لأعطيتك بيتًا وممتلكات؛ ولكن لن يحتفظ بك أحد من الفياكيين ضد رغبتك…


فهل ثمة عرض مغرٍ لأوديسيوس أكثر إغراءً من أن يتزوج ابنة الملك ويحظى بكل هذا الفضل والتكريم لكنه المحب لزوجته والتائق إلى إيثاكا يرفض هذا العرض وإن لم يرفضه صريحًا لكنه شكر عرض الملك بدعاءٍ إلى زيوس بأن يصل إلى وطنه إيثاكا.       

بعد كل هذه الأمثلة من متن الأوديسة فما من حجة بعد على اتهام أوديسيوس سواء بتأويل كونه الكثير حيل بالسوء أو اتهامه بخيانة زوجته على النقيض من وفائها له، وأبيات هوميروس هي الحكم والقول الفصل. 


الجزء الأول

الجزء الثالث

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق