الجمعة، 11 ديسمبر 2020

ألف ليلة وليلة - الجزء الثاني

 قصص شهرزاد 


يضم كتاب ألف ليلة وليلة بطبعة دار صادر (نسخة معتمدة على طبعة بولاق الثانية كما يذكر د. عدي الحربش) ثمانيَ وثمانين قصة متنوعة المواضيع والشخصيات والأماكن والأحداث والأساليب والحجم والحبكات مما يجعل أصولها محل شك ونزاع وتجاذب وجدال. ولا يخفى على القارئ هذا التباين في القصص بُنية وأسلوبًا وعناصر داخلية، وقد ذكرت فيما سبق أنواع القصص الخمسة الواردة في الكتاب وسأذكر بعض النقاط التي تُبيِّن عربية هذه القصص، ولا أقصد بالعربية هنا أنها من إبداع عربي خالص لكنها قصص إن لم تكن أصولها جميعًا عربية -وهذا الصواب كما أراه- فهي قصص كُتبت من قبل عربي وعُرِّبت لتكون موجَّهة إلى المتلقي العربية محاولًا مؤلفها أو معرِّبها أو حتى مترجمها جهد الإمكان أن يُبعد عنها أيَّ سمات تشير إلى أصولها أو أعجميتها. 


التأثر/ الأصول


لا يمكن للقارئ أن يغفل تأثر بعض القصص أو حتى أن يعيد أصولها إلى منابع غير عربية أو منابع شعبية مضافة إلى متن الكتاب كما في قصة عمر النعمان الشعبية وعجيب وغريب ودليلة المحتالة. أو كما في قصص الحيوان التي عرفها الأدب العربي مع ترجمة ابن المقفع في كتاب كليلة ودمنة عن الفهلوية ذات الأصل الهندي (تُرجم في القرن الثاني الهجري أي قبل أول إشارة عن ألف ليلة وليلة بقرنين)، وترد قصص الحيوان في ألف ليلة وليلة في قصة الطيور والحيوان (وهي حكايات متعددة بمواضيع مختلفة) وفي قصتين جنسيتين بموضوع نكاح الحيوانات هما وردان والمرأة والدب، وبنت السلطان والقرد. وثمة حكايات أخرى من أخبار العرب وهي كثيرة جدا قرابة أربعين قصة من قصص ألف ليلة وليلة. وثمة قصص تحمل شخصياتها أسماءَ غير عربية كاسم أردشير الفارسي كما في قصة أردشير وحياة النفوس، وبما أن الغالب على أسماء شخصيات ألف ليلة وليلة الأسماء العربية فهذا يعني أنَّ وضع اسم أردشير ليس اختيارًا وإنما نقلًا عن أصل مقروء أو شفاهي. كما يبرز التأثر بالملاحم الهندية كالمهابهاراتا والرامايانا من: الأعداد الضخمة التي لا يستوعبها مكان سواء في الجنود أو العبيد والجواري أو العطايا أو سرعة بناء القصور من قبل البشر. والشجاعة الخيالية التي تجعل من الرجل الواحد يواجه جيشا ويهزمه. والحبكة غير المنطقية جدًا أحيانا بخياليتها التي لا يمكن أن تحدث بأي شكل من الأشكال، وتكشف عن نوع من الخيال البدائي والطفولي. هذه السمات تكشف عن الطابع الهندي في بعض القصص في أصل القصص أو تأثرها بسمات القصص الهندية كما في قصة علي نور الدين ومريم الزنارية وتظهر بوضوح هذه السمات الهندية في قصتي عمر النعمان، وعجيب وغريب.  

وكذلك التأثر بأوديسة هوميروس في قصتي حاسب كريم الدين والسندباد البحري، وسأناقش هذه التأثر مفصلًا في موضع آخر من هذه المراجعة. أما أغلب القصص المتبقية وهي تزيد عن عشرين قصة رئيسة فهي تمتاز بطابع عربي من نواحٍ كثيرة أناقشها في النقاط التالية. 


المكان والزمان 


المكان في ألف ليلة وليلة يشمل ثلاث مناطق رئيسة هي بغداد العباسيين والشام ومصر ومنطقة فارس وما خلفها بدرجة أقل، أما الزمن في الكتاب فهي يشمل طيفًا زمنيًا مختلفًا من خلافة الأمويين كما في قصة مدينة النحاس وذكر عبد الملك بن مروان وموسى بن نصير في القرن الهجري الأول، ومرورًا بعصر العباسيين لا سيما خلافة هارون الرشيد في القرن الثاني الهجري إلى زمن حروب الفرنجة في السادس الهجري كما في قصة الأمير شجاع الدين والمرأة الإفرنجية وقصة الملك الناصر ووزيره، أو كما يرد في القصص نفسها في الليلة الثامنة والعشرين: وقال لي: اعلم أنه مضى من يومنا هذا وهو يوم الجمعة وهو عاشر صفر سنة ثلاث وستين وسبعمئة من الهجرة النبوية (763هـ). كما يرد ذكر القهوة التي دخلت العالم الإسلامي العربي في القرن التاسع الهجري، وترد الإشارة إلى القهوة في الليلة 971 في قصة قمر الزمان وزوجة الجوهري: "ثم أنهما أفطرا وشربا القهوة وخرجا إلى أشغالهما". ومن المستبعد تماما أن القهوة المقصودة هنا هي الخمر بل القهوة المعروفة اليوم. وتُذكر في القصص فاكهة "السفرجل العثماني" يعود إلى القرن السابع أو الثامن الهجري. ويرد تشبيه بشخصية بأبي محمد البطال وهو شخصية إسلامية شاركت في حروب الأمويين ضد البيزنطيين، وكان قائدا شجاعا نسجت عنه الحكايات الشعبية ما بين القرنين الرابع والسادس الهجريين. يرد كذلك ذكر البندقية والرصاص في الليلة 664، ويعود تاريخ اختراع البندقية إلى القرن الثامن الهجري في الأندلس.

ثمة قصص أخرى لا تنتمي إلى زمن معين أو مكان محدد مما  يجعلها عائمة في الزمان والمكان ويكون الغرض الرئيس من القصة هو موضوعها وأحداثها فحسب.

هذا الطيف الزمني المتنوع والاختلاف المكاني يشير إلى أن القصص تنتمي إلى أزمان متعددة لا زمن واحد وأماكن مختلفة إلى مكان واحد، وقد شارك في تأليفها مِخيال جمعي متعدد المشارب والثقافات ولا يمكن بحال من الأحوال أن تُنسب جميعها إلى أصل واحد أو منبع واحد فهي وإن كانت قد نشأت في حاضنة عربية وثقافة إسلامية فقد ساهمت أجيال متعددة ومتتابعة في تأليفها وقصها وتداولها وجمعها وإلا أيُّ شيء يُمكن أن يجعل هذه القصص بهذا التنوع والتباين الزماني والمكاني والموضوعي إن لم تكن تنتمي لعصور وأزمان مختلفة. يتبقَّى لنا أن نحصر القصص التي تمتاز بسمات مشتركة مكانًا وزمانًا في حقل واحد أو ننسبها إلى عصر معيَّن بذاته، وهذا ما أقول به فيما يخص القصص التي تحدث في عصر الخليفة هارون الرشيد أو القصص التي حضر فيها هارون الرشيد بنفسه في أحداثها وكان له دوره في حبكتها منها قصص "الصبية والتفاح وريحان العبد، نور الدين وأخاه شمس الدين، علاء الدين أبو شامات، الخليفة المزوَّر، علي العجمي، هارون الرشيد وأبو يوسف، أبو محمد الكسلان، يحيى بن خالد، جبير بن عمير والست بدور، أبو نواس والغلمان الحسان، هارون الرشيد والبنت البدوية، خليفة الصياد، علي نور الدين ومريم، هارون الرشيد وأبو الحسن العاني، عبد الله بن فاضل وأخواه".


الشخصيات وأسماؤها 


تمتاز شخصيات (ذكورًا وإناثًا) ألف ليلة وليلة الرئيسة بأنها:

- في الغالب ملوك أو أمراء أو من علية القوم ومن لا يكون من هؤلاء ينتهي حال معظهم وهو إما مملوك وأمراء وسادة وإما ذوي حظ عظيم من المال.  

- الجمال البارع وسمات جسدية فائقة لا تقاوم.

- إما يكونوا مسلمين وإما يتحولون إلى الإسلام.

- دائما ما يكون هناك من يساعدهم (عجوز قهرمانة في الغالب وكثيرًا ما تكون قوَّادة). 

- لا يموتون مهما اشتدَّ الحال فالمنقذ يأتي دائما.

- يمتاز أغلبهم بالشجاعة والإقدام.

- كثيرٌ منهم عشَّاق مدنفون لا يستطيعون تحمل الفراق فيسيحون في الأرض بحثا عن أحبابهم.

- أن يكونوا أحرارا دائما، وإن كان عبدا أو جارية فإنهم إما يحررون وإما أن تبقى الجارية محظية الخليفة أو الملك. 


أما أسماؤهم فهي في أغلبها أسماءُ عربية وتعيش في مدن عربية وذات فضائل وأخلاق إسلامية باستثناء شرب الخمر الذي كان يحتسيه الجميع تقريبًا. تُضفي الأسماء والطبائع العربية الجو العربي للقصة وتعمل البيئة الاجتماعية العربية أحيانا دورها في تثبيت هذا الفضاء العربي للقصة مما يجعلها قصص عربية أو مُعرَّبة أو مأخوذة من بيئة أعجمية ومغروسة بإتقان في البيئة العربية. النتيجة من كل هذا أن الشخصيات تُعرَّب بأي أسلوب كان حتى تصبح مناسبة للعالم الجديد الذي تُولد فيه مجددًا أو تنتمي إليه أصلا. لكن رغم هذا فقد تظهر في بعض الأسطر من العادات الاجتماعية التي لا تنتمي إلى عادات العرب تكشف أن المؤلف/ المعرِّب قد تغافل وسهى عند تأليفه هذه القصة فيذكر ما لا ينتمي إلى الثقافة العربية والإسلامية منها السجود للملوك وتقبيل الأقدام أو كما تكرر كثيرًا عبارة قبَّل الأرض بين قدميه وهذه العادات في التعامل مع الملوك وعليّة القوم لا تنتمي للعرب أكثر من انتمائها للفرس والهنود، كما يَشْكُلُ أحيانا على المؤلف الموازنة ما بين معتقده الديني ومعتقد الشخصيات فتغلب عقيدته على عقيدة الشخصيات فيبدو الخطأ واضحًا في استخدام هذا التعبير الإيماني الموحِّد أو ذاك من الشخصية الكافرة أو المشركة مثل أن يقول مجوسي "ويفعل الله ما يشاء!" وهو يعبد النار ويستعين بها في مواضع أخرى كما في قصة "قمر الزمان والملكة بدور" ليلة 234. لتبدو لنا أن القصة معرَّبة وقد حاول المعرِّب أن ينقلها ويغير أحداثها فوقع في هذه الأخطاء التي خلطت بين عادات المسلمين والمجوس وسبق لسانه قلمه. وتكررت مثل هذه الأخطاء الفاضحة لمصادر بعض القصص التي يعتمد عليها المؤلف في مواضع أخرى من الكتاب  لكنها رغم ذلك تبقى محافظة على طابعها العربي قدر الإمكان.


الشِّعر 


من العناصر الفنية المتَّبعة في تثبيت البيئة العربية والأجواء الإسلامية في القصص هو الاستعانة بالشعر فلا تكاد تخلو قصة من الشعر وذكر أبيات تُلائم الحدث أو مشاعر الشخصيات. ويدخل الشعر في بُنية بعض القصص كثيرًا فتصبح الأشعار جزءًا من القصة وعاملًا رئيسًا فيها كما في قصتي "اليمني والست جوارٍ، ومسرور وزين المواصف". يُضفي الشعر العربي على القصص والشخصيات السمة العربية وبهذا فهي تبقى دور في فلك البيئة الجديدة التي نشأت فيها ولا يمكن بحال من الأحوال أن تخرج عنها. وتدلُّ هذه الأشعار التي تُدعَّم بها الأحداث -سواء ما يضيفها المؤلف أو ترد على لسان الشخصيات- أنَّ مؤلف/ مؤلفي كتاب ألف ليلة وليلة سعوا على إكساء أو تأكيد عربية هذه القصص، والوقوف بوجه أي تهمة مشككة بعربية هذه القصص. 


التكرار (الحبكة، الشخصيات، اللغة)


لا أجانب الصواب كثيرًا لو قلت إنَّ التكرار هو السمة الطاغية والمشتركة في كل قصص ألف ليلة وليلة والتكرار هنا بشتى أنواعه من التطابق التام بين القصص كما في قصة أردشير وحياة النفوس وتكرارها لقصة تاج الملوك والأميرة ديانا، إلى التكرار الجزئي في قصة لقصة سابقة كما في حكاية العبد بخيت التي وردت أولًا في قصة التاجر أيوب ثم عادت لتشكل جزءا من حبكة خليفة الصياد، أو قصة علي نور الدين وقصة علاء الدين أبو شامات وحادثة الأسر في كنيسة النصارى، أو التكرار المُزَّيد والموسَّع كما قصة حسن الصايغ وتكرار لقصة جانشاه وشمسة (وهي قصة داخلية في قصة حاسب كريم الدين)، والأمثلة في هذا تكثر على اختلاف مدى هذا التكرار الوارد في القصص الأخرى السابقة. يشمل التكرار لأحداث ثانوية مثل تكرار حبكة السحر والمسخ ومعرفة المسحور من قبل بنت أو امرأة تعلمت لدى أخرى أو وصيفة لها السحر، وكذلك تتشابه طريقة فك السحر وعودة المسحور إلى صورته القديمة عن طريق رش الماء عليه وترديد كلام خاص كأن تطلب منه الساحرة أن يعود إلى صورته القديمة أو أن يخرج من هذه الهيئة إلى هيئته السابقة. وكذلك التكرار في تشابه سير الكثير من القصص وكيف تصل إلى العقدة والذروة ثم تنحل وتشابه النهايات التي يؤول إليها مصير الكثير من الشخصيات. ويشمل التكرار ظهور الشخصيات الرئيسة والثانوية مثل هارون الرشيد ووزيره جعفر البرمكي وسيافه مسرور أبو نواس الذين ظهروا في العديد من القصص لا سيما هارون الرشيد ووزيره البرمكي اللذين كانا موجودين معًا في معظم قصص هارون الرشيد، أو شخصية الأمير محمد بن سالم الزيني الذي ظهر في قصتي أنيس الجليس وعلي نور، والتاجر أيوب وابنه غانم وابنته فتنة. وقد يتكرر دور الشخصية لا الشخصية نفسها كما أخذت العجوز أو القهرمانة وفي مرات أقل الجارية أو الرجل دائما دور المِرسال بين العاشقيْن أو القوَّادة في الأصح. وثمة تكرار أشرت إليه فيما سبق يخص تكرار موضوع القصص كأن تكون عن قصِّ القصص لأجل النجاة أو موضوع الحب بتدريجاته التي تبدأ من التعرف ثم اللقاء ثم الفراق ثم لم الشمل. ومن التكرار في اللغة، استخدام العبارات ذاتها في مواقف معيّنة كمواقف النزال والقتال أو استخدام الأبيات الشعرية نفسها أو ذات المعاني المتشابهة والدلالات الواحدة أو استخدام الأمثال في مواقف متقاربة أو مصائر واحدة. يثير هذا التكرار تساؤلات حول هُوية المؤلف أو المؤلفين وعن عددهم وكم كتبَ كلٌّ منهم وما مدى نقل أحدهم عن الآخر أو تأثر أحدهم بأسلوب الآخر أو التقليد والمحاكاة واقتفاء الأثر. تبدو بعض القصص أنها كُتبت أو جمعت من قلم واحدٍ وبعضها الآخر مميزًا بجودة القص وإتقان السارد لفصول قصته وآلية سرده، في حين آخر تبدو عليه ضياع هذه الخيوط من ضعف الحبكة أو التنقل ما بين السارد العليم والسارد بضمير الشخص الأول بعشوائية كما في قصة علي بكار وشمس النهار. تدل هذه الاختلافات الأسلوبية واللغوية والفنيّة إلى وجود أكثر من مؤلف وتشير التشابهات إلى رجوع عدة قصص إلى مؤلف واحد.

لا تهمني الإجابة عن هذه الأسئلة أكثر من أهميتها الموضِّحة إلى وجود أكثر من قلم تناول هذا الكتاب بالتأليف والجمع والضبط والدراسة والتقليد ومحاكاة بعضه ببعض، فهذه العملية التأليفية المستمرة باختلاف العصور التي مرَّ بها كتاب ألف ليلة وليلة يجعله يحمل من كل عصر سماته وحكاياته وهو يكشف عن مدى القيمة المنوطة به فهو كمثل عربة قطار انطلقت عبر الزمن منذ أول محطة غادرتها شهرزاد وشهريار وفي كل محطة زمنية يصلها ثمة راكب/ مؤلف يصعد فيها ويضع لمسته ويستقر في مكانه دون أن يعرفه أحد عابرًا إلى محطة زمنية لاحقة وهكذا تباعا؛ إنه سجل أمة وأمم وخزانة أدبية لشعوب وعصور وبلدان وأشخاص وحقائق وخيالات وأحلام ورؤى ومؤلفين وجدوا حقل إثبات الذات ربما لم يجدوا وسيلة ليخلدهم الزمن إلا عبر منح صوتهم إلى صوت شهرزاد، أن يسلفوها قصتهم إلى الأبد، أن يجعلوها تطيل لياليها مع شهريار، وبمنحها صوتهم يمنحوها ليلةً إضافية وحياة. إنَّ كتاب ألف ليلة وليلة هو عربة قطار تسافر إلى المستقبل وتعود إلى الماضي في الآن نفسه، ففي الوقت الذي يُخلِّد أحدهم قصته في ليلة من ليالي شهرزاد فهو يعود إلى الماضي لينقذها، كل يد تُمد إلى هذا السِّفر ترسم ليلة وتغير مُجريات الماضي وتُنقذ شهرزاد التي تُنقذ شهريار على أمل الخلود، فهل خلد هؤلاء وما أهمية الخلود في ظل شهرزاد والانحباس في صوتها إلى الأبد فيتلاشون في صداه ولا يبقى صوت إلا صوت الشهرزاد.  

ختاما

يتبيَّن لي مما سبق أن كتاب ألف ليلة وليلة بنسخته المعروفة لدينا هو عربي شكلًا ومضمونًا بغض النظر عن أصول هذه القصص فهي وإن نبعت من أصول غير عربية لكنها خرجت ووصلت إلى المتلقي عبر نظام تأليف عربي كامل يعرف ماذا يفعل وكيف يؤلف وليس الكتاب نتيجة ترجمة أو تعريب في مجموعه بل السمة العربية ولمسة التأليف العربية واضحة وبارزة لا يطغى عليها شيء ابتداءً بالشخصيات وأسمائها والسمات الاجتماعية والعادات والمكان والزمان انتهاءً بالغايات الأخلاقية والوعظية والإسلامية. 


الأسلوب السردي 


تُقصُّ القصص جميعًا في البداية عبر شهرزاد التي بلغها من الأنباء العجيبة والأخبار الغريبة على الملك شهريار، ثم غالبًا ما يتولى ساردٌ داخلي آخر (قاص) البدء بالقصة المركزية أو شخصية من الشخصيات. وتُستخدم في هذه القصص أساليب سرد مختلفة ابتداءً من التنويع ما بين السارد العليم أو السارد المتكلم أو التنقل فيما بين الاثنين أحيانًا بانضباط وفي أُخرَ بعشوائية. وينضبط الصوت السردي أحيانا في القصص وهو الأكثر ويضطرب لا سيما حين التنقل بين سارد عليم وسارد متكلم كما في قصة علي بكار وشمس النهار إذ أثَّر التنقل بين الساردين إضعافًا للصوت السردي واضطرابًا، أو قد يعلو صوت المؤلف في نهاية بعض الليالي القصص، واختفاء صوت شهرزاد كما في نهاية ليلة 878: "وقد كان لخروج تلك الجارية من مدينة أبيها حدث غريب وأمر عجيب نسوقه على الترتيب حتى يطرب السامع ويطيب". واضح أنَّ المتحدث هنا ليس شهرزاد والمستمع ليس شهريار لأنها كانت تقول له دائما وبلغني أيها الملك السعيد أو أي عبارات يعرف القارئ أنها لشهرزاد والمخاطب شهريار. ولم يقتصر السارد العليم على الإحاطة الخارجية بأحداث قصته وأحوال شخصياته بل كان عالمًا بخلجات أنفسهم وداريًا بما يعتلج في صدورهم من مشاعر أو أحقاد، إضافة إلى معرفته بتاريخ شخصياته ومآلاتها مما يجعل السرد متنقلًا بإشاراته أو إحالاته إلى الماضي بالاسترجاعية وإلى الأمام بالاستباقية أو حتى تعليقاته الشخصية على أحداث القصة والشخصيات. ويفصل في قصص أخرى ما بين معرفته الكلية ومعرفة شخصياته المحدودة في داخل أحداث العمل نفسه كما في قصة عمر النعمان حين يستخدم السارد العليم ضمائر التأنيث مع العجوز المتنكرة بزي رجل رغم ظن الشخصيات أنها رجل ومعاملتهم إياها كرجل في الخطاب مما يحدث فرقًا ممزوجًا في السطر نفسه ما بين خطاب الشخصيات الذكوري لها وخطابه الأنثوي عنها. ويتوزع السرد أحيانا على أكثر من شخصية كما في قصة الصياد والعفريت، والأحدب والنصراني والمباشر واليهودي والخياط، فيمنح لشخصياته أصواتهم السردية المنعزلة والمنفصلة عن صوته أو صوت شهرزاد. كما تُسرد أحداث بعض قصص مثل أنيس الجليس وعلي نور بالتناوب ما بين حدثين يقعان في مكانين مختلفين في زمنين مختلفين أو زمن واحد، فينتقل السارد العليم ببؤرة السرد وكاميرا التصوير من حدث إلى الآخر بالتتابع والتبادل مما يخلق صورة كاملة لأحداث القصة الواحدة حتى يلتقي الخطان السرديان في نقطة ما، أو يحدث العكس حين يبدأ السرد في خط واحد ثم يتفرع إلى خطين سرديين أو أكثر. كما تنوع شهرزاد أو من ينوب بالقص/ السرد عنها في أساليبه ما بين التشويق والاختصار الإطناب والإحالة والإضمار دون إعادة قص ما حدث إذا كان سبق للسارد قصَّه والقارئ/ السامع معرفته. ويهتم السارد  أحيانا بالتفاصيل كتفاصيل جسد الشخصية أو تفاصيل المكان وجلسات السمر الأُنس وما يُحضَّر فيها من فُرُش وطنافس ونمارق ومُدام وطعام وأطباق وأنواع اللحوم والحلى والمشارب وأكواب وقوارير وصحون إلخ، ويبلغ الاهتمام بالتفاصيل مبلغًا يطغى فيه على القصة حتى تبدو أحداثها هامشية إذا ما قُوبلت مع التفاصيل كما في قصة مدينة النحاس التي امتازت بدقة الأوصاف والتوصيف واللوائح. ويمتد السرد ليشمل حكاية قائمة على أسلوب اللوائح/ القوائم كما في قصة علي العجمي. هذا الغنى في السرد والذي سأتناوله في التالي، يوضح لنا قيمة العمل الفنية كذلك وما فيه من إبداع بنيوي وأسلوبي في قصص شهرزاد، التي كانت هي الساردة الأم والأصل التي خرجت من صوتها كل الأصوات، وتفرعت من قصتها كل القصص.




الحكاية الإطارية في ألف ليلة وليلة


الحكاية الإطارية هي حكاية واحدة تضم مجموعة من القصص الداخلية، ليس بينهما أي رابط، فهذه القصص قائمة بذاتها ببنيتها وحبكتها وموضوعها وشخصياتها. 

إنَّ أول ظهور للحكاية الإطارية كان في كليلة ودمنة وهي من إبداع ابن المقفع، الذي يجعل من ديبيا الفيلسوف الهندي وحواره مع الملك دبشليم حكاية تضم القصص الأربعة عشر الداخلية يرويها ديبيا على الملك. ويعد العرب أول من وضع هذا الأسلوب الأدبي في تجميع القصص عبر ابن المقفع، وهو أول من استخدم الإطار الحكاياتي بهذا الشكل وإن ظهر سابقا في أعمال مثل المهابهاراتا والأوديسة والرامايانا والحمار الذهبي، إذ تقص الشخصيات قصصها أو بعض ما وقع لها على شخصيات أخرى. لكن يمكننا تمييز الحكاية الإطارية وقصصها التي ظهرت مع ابن المقفع بسمات منها ظهرت لاحقًا في ألف ليلة وليلة والديكاميرون وقصص كانتربيري:

١- الحكاية الإطارية مجرد حكاية ليس لها غاية في الغالب سوى الغاية الفنية التجميعية الإطارية. فهي تجري في نسق ثابت وليس فيها أي صنعة أو فنية خاصة  أو سمات سردية فارقة أو فكرة أدبية أو غاية موضوعية، بحيث يظهر دورها في التجميع لا أكثر. 

٢- الراوي ليس جزءا من قصصه. إن من يقص هذه القصص مفارق لقصصه، فهو لا ينتمي إليها زمنًا ولا مكانًا وليس جزءًا من الحدث حتى. ووظيفته القص فقط.  

٣- القصص الداخلية هي الأساس. إن المقصد في كليلة ودمنة هي قصص الحيوان لا قصة الملك وديبيا، لذا فإن مادة العمل الرئيسة تتمثل وتتركز في القصص المروية. والمقصد من قصة شهرزاد وشهريار هو خلاص الأخير من نزعة الموت على يد قصص شهرزاد. 


يمكن أن نعدَّ هذه السمات هي التي تجعل من الحكاية الإطارية إبداعًا خاصًا بابن المقفع. فمثلا تظهر الحكاية الإطارية في رواية الحمار الذهبي في القرن الأول للميلاد، لكنها ليست إطارًا جامعًا عابرًا بل تتركز في رحلة الحمار ومغامراته وما يشهد ويُقصُ عليه أو يقصه، وكذلك فإن القصص الداخلية ليست الأساس بل رحلة الحمار هي الأساس. وكذلك تظهر في المهابهارتا حين ينشد فياسا على الإله غانيشا ملحمة المهابهارتا، وهنا نجد أن الحكاية الإطارية قد استوفت السمة الأولى والثانية لكنها لم تضم بداخلها قصص متعددة بل قصة واحدة متطورة ومتشعبة تخص الملك شانتو وذريته. وتظهر كذلك في الأوديسة، حيث يأخذ أوديسيوس دور القاص لا سيما ما قصه على ملك الفياكيين بعد أن وصل جزيرتهم في محطته الأخيرة قبل الوصول إلى إيثاكا، وهنا كذلك الحكاية الإطارية ليست إطارًا بل قصة رئيسة متمثلة برحلة العودة، وأوديسيوس هو جزء من قصته وليس مفارقًا لها، وتظهر السمة الثالثة لكن القصص هنا ليست متفرقة ولا يربطها رابط فالرابط موجود وهو أوديسيوس ورحلة العودة المحفوفة بالمخاطر. 

لكننا نرى في ألف ليلة وليلة، أن الحكاية الإطارية في حكاية الملك شهريار وشهرزاد التي تقص عليه قصصًا مختلفة لا يربطها رابط، ولا تجمعها شخصية واحدة، والقاصة مفارقة لقصتها.

ما تتميز به الحكاية الإطارية لألف ليلة وليلة أنها تضم بداخلها قصصًا بعضها هي قصة إطارية داخلية تضم قصصًا أخرى، هكذا تصبح القصة الفرعية قصة رئيسة تضم قصصًا متفرعة منها. وهنا ننتقل إلى: 


قصة داخل قصة 


إنَّ أغلب قصص ألف ليلة وليلة تحوي بداخلها قصة أو قصصا أخرى، ويتحول الأمر بارتباطه بقصة شهريار وشهرزاد إلى متوالية قصصية متشعبة تتداخل وتنفصل ترتبط وتتقاطع، فقد تكون ثمة أكثر من قصة داخلية رئيسة وأُخر ثانوية تشكل جميعها جسد القصة الرئيسة الجامعة والرابطة أو قد تكون القصة الرئيسة هي طاولة تتجمع حول القصص الأخرى وتصبح الطاولة القصصية كما في قصة الحمَّال والبنات التي نرى فيها أن جميع الشخصيات تقص قصصهم في اجتماعهم لتشكل لنا قصة الحمال والبنات. وقد يزداد تفرع القصة الأولى إلى فروع عديدة لتصبح القصص نوع من الشبكة العنكبوتية القصصية، أو تكون القصة الرئيسة هي مجرد حكاية إطارية للقصص الداخلية الرئيسة كما في قصة السندباد البحري التي ضمت سبع سفرات/ قصص في البحر وجزره. أو قد تكون القصص ضمن قالب من القصة والرد بقصة على القصة في نوع من القصص الجدالية كما في قصة الملك وولده والجارية والوزراء السبعة، إذ يتحدث التنازع ما بين الحكم بالموت والارتداد عن الحكم بأسلوب دفاع عن طريق الحكايات ما بين الجارية والوزراء السبعة، لتتشكل القصة الرئيسة من أربع عشرة حكاية داخلية سبع منها تدعم قول الجارية وسبع تدعم رأي الوزراء، وفي المحصلة فإننا نحظى بقصة وأربع عشرة حكاية. وقد تدعم القصة الرئيسة حكايات ثانوية في داخلها تشكل بنية العمل كما في قصة الملك جلعاد وشماس. وأحيانا قد تكون القصة المقصودة مغلفة بأكثر من سارد في نوع من القص البصليّ (نسبة إلى ثمرة البصل) أو قص العنعنة، تقص شهرزاد على شهريار قصة ملك يسأل وزيره الذي يقص عليه قصة ملك آخر ووزيره الذي يقص على ملكه قصة هي القصة المركزية. 

قد يحدث أحيانا تداخل زمني ما بين القصص وتداخل في مستويات السرد وأحيانا قد تتحول الشخصية في القصة إلى سارد يقص قصته ويتحول السارد إلى مستمع يتلقى قصة شخص آخر، وتستمر ثنائية القاص والمقصوص عليه أو الراوي والمروي له التي ابتدأت بثنائية شهرزاد وشهريار إلى داخل قصص شهرزاد. وهكذا يجد القارئ نفسه في عالم قائم كله على القصص التي مهما بدت عشوائية فهي منضبطة ومهما بدت فوضوية فهي تجري في نظام قص دقيق ليس بعبثي. يدعم كل هذا نظام الحكاية أو القصة الإطارية التي قد تضم قصصا داخلية رئيسة أو ثانوية أو قصصا إطارية ثانوية، لتكتمل لوحة فسيفسائية تضم مواضيع متعددة تشمل: الموت والنجاة من الموت، العشق وأخبار العاشقين، والحب، والحب من طرف واحد، والفراق واللقاء، والحب العذري، والحب الفاحش، وتدابير القدر خيره وشره، والنكاح وفنه، والخيانة الزوجية، والطلاق، وكيد النساء، والخيانة بين العشَّاق، وسفاح المحارم (نكاح أخ لأخته) أو اشتهاء زوجة الأب لابن زوجها)، والسادية، واللواط، والسحاق، ونكاح الحيوانات، والصدق والكذب، والأخلاق الحسنة والسيئة، وأخبار البحار، والتيهان البحر، والضياع بين جزر البحر والعيش فيها، وأخبار كائنات البحر، والعلاقة ما بين أهل البحر وأهل البر والزواج فيما بينهم، والانحباس في جزيرة والعيش فيها وحيدا، والحروب، والجريمة، والذكورية، وازدراء النساء، والعلاقة بين الجن والإنس، وفي أخبار الجواري، وأخبار إبليس، وأخبار الزنا والزناة، وأخبار اللصوص وحيلهم، والضحك والطرف، والعزف والمعازف والغناء، والترحال والرحلات، والسفر، والفانتازيا، والرعب، والإباحية والدعارة والمواخير، وأخبار الملوك، وفن الحكم والسياسة، والمناظرة والمحاورة. وغير ذلك مما لم أحُصه.


سمات مائزة


من بين زخم القصص وأساليبها وتداخلها ومغازيها والإضافات والتضخم فإنَّ لقصص ألف ليلة وليلة سمات مائزة لها لمساتها في الأدب الأجنبي -سأتحدث عن إفرازاتها التأثيرية في آخر القراءة- بعضها سبق له الظهور في آداب الأمم الأخرى وبعضها ظهر مع ألف ليلة وليلة كشفت عن نزعة الإنسان لتحقيق الربح السريع والنصر بأقل الخسائر والجهود وتحقيق الأحلام بلمح البصر وترفع الحجاب عن النفس البشرية وكل ما يعتلج فيها من أحلام يقظة ونوم عن حياة مليئة بالرفاهية والدعة والغنى والمكانة والسيادة. تشمل هذه السمات المائزة موادًا خيالية ومخلوقات متوزعة في متن القصص سواء شاركت في الأحداث على نحو مهم ومباشر أو ثانوي وغير مباشر لكن هذا لا يمنع من كشف مدى الخيال والإبداع الأدبي فيها وكيف ساهمت في مساعدة شخصيات القصص في الوصول إلى أهدافهم وتحقيق ما سعوا خلفه أو وقفت عائقًا في وجههم لذا فقد علَّمت هذه المواد والمخلوقات القصص. فمن المواد الخيالية التي وردت في القصص:    


- خاتم مرصود بالمردة والعفاريت.

لعب الخاتم مع مارده الذي يتبع أوامر لابس الخاتم دورًا في تحقيق ما يطلبه سيده. 


- خاتم سحري يقتل من يشير إليه لابسه. 

لعلِّي شُدهت بمدى الجموح بالخيال في هذه الفكرة حول الخاتم فمن يلبسه يستطيع أن يقتل أيَّ من يشاء بتحريك اليد فحسب وعن بُعد.


- صولجان يحكم على الجن والمردة.

للصولجان قوته المسيطرة والمتسيِّدة على الجن لتكون طوع أوامر حامل الصولجان. 


- الفانوس السحري والمارد الخادم له. 

لعل الفانوس السحري أشهر مواد ألف ليلة وليلة الخيالية شهرة ملأت آفاق الأدب والفن العالمي بمارده الذي يخرج ضبابًا من الفانوس ويتحول إلى عملاق ينفِّذ أوامر سيده دائما ومهما كانت. 


- الدِّهنُ المُخفي.

دهن إذا دُهِن به الإنسان لا يضره شيء تحت الماء ويستطيع الحياة داخل الماء كأنه من مخلوقات البحر. 

- الطاقية المُخفية.

طاقية من يلبسها لا يراه أحد ويختفي عن أعين الناس لكنه يبقى محتفظًا بقوامه المادي ويستطيع التحرك والحمل وفعل كل شيء لكن لا يراه أحد ما دامه يلبس الطاقية. 


- الحصان الأبنوسي الطائر. 

إنَّ قصة الحصان الأبنوسي الخشبي الذي يستطيع الطيران بعد تحريك مقبض وعتلات (الفرس الطائرة) واحدة من أكثر قصص ألف ليلة وليلة -إن لم تكن الأكثر- إبداعًا وابتكارًا وجموحًا. 


- الخُرْجُ المرصود (وعاء). 

كلُّ ما على صاحب الخُرج أن يفعله هو أن يمدَّ ويتمنى أيَّ لون من الطعام يريد ليحصل عليه مباشرة. 


ومن مخلوقات ألف ليلة وليلة الخيالية:


- حيوان الكزكزان.

 دابة مثل البقر والجاموس أكبر من الجمل تأكل العلق، يشاهدها السندباد البحري في إحدى الجزر.


- نمل بحجم الكلب. 

يخوض هذا النمل معاركَ مع القرود، في إحدى الجزر المجهولة في البحر.  


- طائر الرخ العملاق. 

للرخ حضوره المميز في رحلات السندباد وقد يكون أشهر مخلوقات ألف ليلة وليلة، رغم أنه طائر خيالي معروف وليس محصورًا على ألف ليلة وليلة. 


- عقاب ضخم.

واحد من المخلوقات التي استفاد منها السندباد وهو عالق في جزر رحلاته.

- ثعبان عظيم.

الثعبان العظيم واحد من المخلوقات التي واجهها السندباد ورفاقه في رحلاتهم.


- بنات ورجال البحر. 

ظهرت هذه المخلوقات أكثر من مرة، وهي مثل البشر قلبا وقالبًا سوى أنها تعيش في البحر.


- ناس تظهر لهم أجنحة يطيرون بها.

ومن المخلوقات الغريبة رجال في قرية تظهر لهم في الليل دون النساء والأطفال أجنحة يطيرون بها.


- مخلوق أسود عملاق شبيه بالبشر.

مخلوق عملاق أسود اللون آكل للبشر يسكن في إحدى الجزر التي وصل إليها السندباد البحري. 








ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق