السبت، 12 أغسطس 2017

لمحات عن أخر أيام الخلافة العثمانية وأسباب إلغاءها الخفية

عرفنا مصطفى أتاتورك لكن غُيّب عنا مصطفى صبري
الشيخ مصطفى أحمد صبري صاحب أخر أعلى مركز ديني في الخلافة العثمانية، شهد في حياته التآمر الذي تم من قبل أتاتورك وحزبه ضد الخلافة العثمانية وما جرّت من ويلات على الأمة الإسلامية جمعاء بإلغاء الخلافة العثمانية، كان الشيخ مصطفى الصوت الهادر والمناقش والمُفند لكل الإدّعاءات الباطلة، كاشفًا زيف وبطلان الاتحاديين "حزب الاتحاد والترقي" والكماليين "أتباع أتاتورك" في كتاب النكير على منكري النعمة من الخلافة والأمة والدين. إن ما تعرّضت له الأمة بعد زوال الخلافة العثمانية كانت الضربة التي قصمت ظهرها فتشتت الأمة وتمزّقت إلى دول ودويلات يقودها ملوك ورؤوساء باعوا دينهم للمستعمر الأجنبي
أول ما قام به أتاتورك هو عزل الخلافة عن السلطة حتى بدت كواجهة لا أكثر ليس لها من الأمر من شيء وهذا ما حذّر منه الشيخ مصطفى صبري وكان له موقف واضح وصريح إن إلغاء الخلافة هو مشروع لتهديم الأمة وهذا ما حصل، وأنهم ما ألغوها إلا تنفيذًا لغاية الإنجليز وهذا ما كشفه اختلاف البرلمان البريطاني عندما قرروا ترك دعم اليونانيين في حربهم ضد العثمانيين وانسحابهم معللين هذه الحركة بأن دولة تركيا الجديدة ليست كسابقتها وفي هذا دلالة واضحة على أن تركيا الحديثة هي المسخ الجديد، إن زوال الخليفة هو زوال القائد الموحد لهذه الأمة ومنصب الخلافة مهما كان صاحبه ضعيفًا لكن المستعمر لا يُمكن أن يحتل جزءًا من أرض خلافته لأن الأمة ستسمع كلمته فلو أمرها بجهاد المستعمر لهبّت للدفاع عن أرضه وهذا ما كان يحسب له الإنجليز حسابه، صحيح بأن هناك الكثير من الأراضي من كانت خارج سيطرة الخلافة العثمانية لكن كانت بوادر الاتفاق والصلح قائمة، فلما زالت الخلافة شرّقت الأمة وغرّبت فضاعت بين أيدي المستعمرين وأضحت لقمة سائغة في أفواههم
الخلافة العثمانية في أواخر عهدها أصابها الضعف حتى بدت عليها علامات الاحتضار فالمغرب العربي سياسة من حكمه ضعيفة وتتدخل فرنسا في شؤون الحكم واحتلت في نهاية القرن التاسع عشر الجزائر وتونس وكانت الجزيرة العربية تشهد معارك بين القبائل  وقيام الدولة السعودية الأولى والثانية وحتى جاء عبدالعزيز بدولة السعودية الحديثة "حتى اليوم" وسيطرته على نجد حتى أصبح سلطانها وصراعه مع أمير مكة الشريف حسين، وكان الاثنان في تواصل مستمر مع الإنجليز ويدعمون كليهما وهذه سياسة الإنجليز التي جعلت القبائل تتناحر فيما بينها، حتى رجحت كفة عبدالعزيز فنال رضاهم التام، لكن هذا لم يكن كافيا فقد تعاون معهم الشريف حسين وأفضل أن أسميه اللاشريف حسين وكما يصف الشيخ مصطفى صبري ما حدث من خيانة العرب ضد الخلافة العثمانية "الطعن من الداخل" فكانت بحق طعنة من الداخل لجسد الأمة التي مزقتها شر ممزق، وليت الإنجليز وفوا بعدهم ووعدوهم، لا، فقد قُسم العراق والشام بين فرنسا والإنجليز وبيعت فلسطين لليهود وبقي الشريف حسين بسواد فعلته شاهدًا التاريخ بسوئها ما حيينا في أرض العرب الجديدة.
وكان منصب الخليفة هو الرادع لكل محاولة احتلال لأرض العرب أو قطع فلسطين وبيعها لليهود، عمل كلبهم الدونمي "نسبة ليهود الدونمة" مصطفى أتاتورك على عزل الخليفة وإلغاء الخلافة، وهذا ما كشفه الشيخ مصطفى فإلغاء الخلافة ونقل الحكم لمجلس الأمة هو الضوء الأخضر لدمار المسلمين وأن المسلمين بعد هذه الفعلة لن تقوم لهم قائمة، فقام أتاتورك بإلغاء المحاكم الدينية وأبعد الشرع عن القانون وبدّله بقوانين مدنية سويسرية، متحججين أن الشرع لا يتماشى مع التطور والحضارة، وما هذه الحركة إلا لإبعاد الإسلام وإقصاءه من تركيا تدريجيا وفتحًا لطرُق أخرى من إلغاء المدارس الدينية ومنع الحجاب ومنع لبس الطربوش حتى وصلت لإعدام من لبس الطربوش ونشر الرذيلة وأُسس التحلل داخل المجتمع التركي المسلم، ومنع استخدام الحروف العربية في الكتابة، وبهذا جعل من سكان الأناضول شعبًا أُميا بالكامل، ولم تعرف أمة في التاريخ مثل هذا الفعل. كان الشيخ مصطفى صبري درعًا للإسلام والمسلمين لكن أنّى لرجل واحد أن يُوقف هذا الطوفان.
وكان مما بدى يتفشى في هذه الأمة هو القومية فعزّز الإنجليز من خلال من خدعهم من المسلمين القوميات كحال دعمه لصراع القبائل في الجزيرة العربية ليشغلوهم بأنفسهم، فنادى حزب الاتحاد والترقي بالقومية التركية والمصريين بالمصرية، فبعد أن كانت الأمة يجمعها الدين وتوحدها العقيدة أضحت القومية نداءها.
وقد خُدع العرب بأتاتورك ونضموا فيه الشعر بل عدّوه من سيعود بالأمة إلى أمجادها التليدة لكن كيف يحدث هذا، وبعد أن أُجبر مصطفى صبري على مغادرة تركيا وتوجه إلى الإسكندرية ولاقى من سوء الاستقبال ومهاجمة الصحف له وقد عانى مصطفى صبري وهذا ما يوضحه في كتابه النكير، بأن ما حصل زاد من بؤسه وأن انخداع المصريين بأتاتورك لا مبرر له ولا عذر وكان لا بد لهم من أن يسمعوا من كان في ظل سلطته، وتعود أسباب هذا التوافق والانخداع مع أتاتورك، هو ما قام به حزب أتاتورك من بث الأخبار الكاذب والمزعومة عن الحكومة الجديدة والتطور الذي ستشهده تركيا حين تواكب عجلة التقدم والتطور الذي تشهده أوربا، ومن الأسباب الأخرى هي الطفرة التي شهدتها مصر بعد استلام محمد علي وأولاده الحكم في مصر لمدة قرن من الزمن وما شهدته مصر من تطور وانفتاح على العالم والبعثات التي أرسلت إلى فرنسا، وتطور الحركة العلمية والأدبية وصدور الجرائد وانتشار الترجمة والتعريب والطباعة كلها كان لها دور بتأثر الطبقة المثقفة التي احتكت مع العالم الغربي، وابتعد الناس عن الدين وانتشر الإلحاد واللادينية عند البعض كلها مقومات جعلت التأثر سريع بأتاتورك وخاصة بعد استرداد أزمير التي احتلها اليونانيون على يد أتاتورك، وهنا يحلل الشيخ مصطفى صبري كيف للدولة البريطانية العظمى التي خرجت من منتصرة من الحرب  العالمية الأولى أن تنسحب وتُمنى بالهزيمة أمام أتاتورك وتترك حليفتها اليونان؛ لكنه لا تغيب عنه أن تركيا أتاتورك ليست تركيا العثمانية وهذه الهزيمة المفتعلة لها من النتائج أهم وأفضل من أزمير وهذا ما أثبته التاريخ بعدها احتلال للعراق والشام بموجب الاتفاقية مع الفرنسيين (سايكس - بيكو).


إن سقوط الخلافة العثمانية ليست مجرد انتهاء فترة حكم لا بل هو سقوط للأمة في منحدر فبعد مئة عام ما زلنا نُعاني من ضياعنا في هذا العالم مُتخلفين عن الركب، مُحتلين ومُقسمين وفلسطين مُحتلة ومغتصبة، والصهاينة منذ أكثر من نصف قرن وهم كالسرطان ينتشر في أرض فلسطين، إن سياسة المستعمر من تفريق للجمع وتمزيق للأرض، مستغلًا الخونة ومن باعوا دينهم بدنياهم ومن باعوا آخرتهم بدنيا غيرهم كما يصف الشيخ مصطفى صبري موقف المصريين مع أتاتورك، ووقوفهم معه وموقفهم السلبي من إلغاء الخلافة، ويضيف وهو في هذا منهجه واضحٌ وبيّن وكم نفتقد أمثاله في يومنا هذا، فيقول مهما بلغت قوة حكومة أتاتورك فهذا لن يُفرحني لأنهم في مقام أعدائي
تفرقت الأمة وعانت ما عانت على مدار قرن من الزمن منذ نهاية القرن التاسع عشر إلى سبعينات القرن العشرين من حروب وثورات وصراعات، ليخرج اليوم من يقول أين نحن وأين الغرب غافلا وجاهلا أن اليوم هو ابن الغد وأن المستقبل هو وليد اليوم فكيف تنهض أمة وقد ضاع من يوحد أمرها "الخليفة" فقوة المسلمين في خليفة يجمعهم ويستنهض بهم لأجل أن يكون لهم موقع في عالم اليوم في أرض واحدة "أرض خلافة" وهذا ما يخشاه أعداء الأمة وعملوا على تمزيق الأمة، فهل كان الوضع أفضل قبل زوال الخلافة العثمانية أم بعدها؟ هل ضاعت فلسطين حين كان عبد الحميد سلطانًا أم بعد أن جاء الدونمي أتاتورك؟  فعملوا وسعوا على هزيمتها ودفعوها لدخول الحرب العالمية الأولى بجانب دول المركز في مواجهة الحلفاء ليُمنوا بالهزيمة ولتكون الدولة العثمانية من منتصرة لها الأرضي الشاسعة منهزمة تُقتطع منها الأرضي شمالًا وجنوبًا شرقًا وغربًا.
إن دور اليهود كان واضحًا وجليًا في إنهاء الحكم العثماني فبعد محاولاتهم لشراء فلسطين بدفع ديون الدولة العثمانية لكن رفض عبدالحميد الثاني لعرضهم أغاض اليهود وهرتزل الذي كان يتحين الفرص لقاء عبدالحميد وتقديم العرض إليه لكن خابت مساعيه برفض عبدالحميد فعملوا على تشويه سمعته ونشر الأكاذيب عنه واستخدام الشارع في الترويج لكل الأكاذيب ليحطوا من صورة الخليفة في نظر الأمة، متبعين نفس السياسة التي استخدموها في فرنسا وبريطانيا وضد أي شخصية ذات سلطة تقف ضد رغباتهم، وقد ظلم التاريخ شخص عبدالحميد وبالعودة لمذكراته تُبان الكثير من الحقائق المخفية لكن يأبى الحق مهما اشتد ظلام الكذب والباطل إلا أن يخرج منتصرًا، وما يكفي عبدالحميد أنه حين استلم الخلافة كانت الدولة مدينة ب٣٠٠ مليون ليرة فخفض الديون إلى ٣٠ مليون فقط، وفي الجهة المقابلة ترك أتاتورك الدولة وعليها ديون تقدّر ب٤٠٠ مليون ليرة بعد أن استلم خلافة تمتد شرقًا وغربًا، وهنا يُعلق الشيخ مصطفى صبري أنه لم يكن ليمانع لو كان أتاتورك خليفة شرط لكنه كان ملحدًا كافرًا بالأديان، ومن شدة سوئه إنه قبل أن يموت عرض رئاسة تركيا للسفير البريطاني في تركيا في حادثة لم يشهد التاريخ مثلها، وكان يدور في خلده في حربه ضد الإسلام أن يحول ديانة تركيا الرسمية كما تكشف بعض الاعترافات من مقربيه لكنّهم رفضوا هذه الفكرة بما قد تجلبه من عواقب وخيمة تُدّمر كل شيء، ومن مساوئ أتاتورك وحزبه الحاكم، يقول شكيب أرسلان "ولقد كانت في السلطة العثمانية الملايين من المسيحيين يعيشون وافرين مترفين كاسبين متمتعين بامتيازات كثيرة مدة عمل الأتراك بالشرع الإسلامي، فلما جاءت دولة تركيا الحاضرة وبطل العمل بالشرع وأخذ الترك بأوضاع الإفرنج وقلدوهم في كل شيء وتحولوا إلى سياسة التمغرب لم يبق في جميع الأناضول إلا فئة قليلة جدًا من المسيحيين". كل هذا يُثبت أن أتاتورك ما جاء إلا ليخرب وما دعمه الإنجليز إلا لإنهاء الخلافة العثمانية والنتيجة ما نعيشه اليوم وعاشه من كان في الأمس القريب في تاريخنا الحديث، فقبل أن تقول ماذا قدمنا وماذا ننتج وماذا نحن ولماذا نحن متخلفون عن الركب اقرأ تاريخك وتمعن به وقتها ستصل لمنبع الأسباب أما أن تكون كالدابة يسوقك الراعي للمذبح دون أن تدري فهذا ما تتحمل عاقبته وحدك، رحم الله الشيخ مصطفى صبري ورحم من سار على منهجه ضد الظلم والظالمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق