(دولة الجريمة في مواجهة فوضى الجريمة)
يُحكى أن فلاحا خرج إلى حقله يوما، وبعد عودته إلى داره وجد أهله قد قُتلوا، فحزن، ثم عاد وتزوج وأنجب. وخرج إلى حقله يوما، وبعد عودته إلى داره وجد أهله قد قُتلوا، فحزن، ثم عاد وتزوج وأنجب. وخرج إلى حقله يوما، وبعد عودته إلى داره وجد أهله قد قلتوا، لم يتمالك نفسه هذه المرة وذهب إلى جاره، فطرق الباب فلما خرج الجار هوى على رأسه بالمعول وقتله.
هذا بالضبط ما حدث مع شخصية آرثر فليك "جوكر"، الفيلم الذي حاز من الدعاية والإعلان ما لا يُضاهيه في السنوات الأخيرة إلا تلك الموجة الترويجية التي رافقت فيلم "The Revenant" بطولة ليوناردو دي كابريو، والحملة الإعلامية الجماهيرية التي ساندته لينال الأوسكار، في حادثة لم تشهد هوليوود مثيلتها، إذ كان للجمهور دوره في ترشيح ليو لهذه الجائزة وينالها بعد أن حُرم منها في سنوات عديدة، والأمر مشابه مع فيلم Joker، لكن هذه المرة يبدو الوضع مخيفا ولا تُؤمن غوائله.
آرثر فليك، شخص لطيف، ووديع، وودود، يعمل في وظيفة مهرج بسيطة ليكسب قوته ويعين "أمه" بيني فليك، ويعاني من مرض يسبب له بنوبات ضحك لا إرادية، إضافة إلى مشاكل نفسية تعود أسبابها إلى طفولته العصيبة من زوج "أمه" والاعتداء عليه جسديا بالضرب والتجويع -يعرف هذه الأمور لاحقا بعد أن تُكسر قيود الوحش بداخله-، هذا على المستوى الشخصي، أما المستوى الخارجي فكان عبر معاناته داخل مجتمع تنخره الطبقية والعنصرية بنظرته إلى الآخر المُعدم والفقير والضعيف، ومن هم ذوي مكانة وضيعة ودونية. كان آرثر فليك أحد ضحايا هذا المجتمع، وما يُعرَّض له من تنمر، يهوي به إلى حالة من الانكسار والهوان، ولا يجد له نصيرا ولا معينا، ليستمر في هويه حتى يصل القاع الذي تتفجر فيه كوامن النفس البشرية الشريرة، التي لا تميّز بين الصحيح والخطأ، بين البريء والمذنب، بين الجاني والمجني عليه، بل من لم يكُ معي فهو ضدي، قد لا تُظهر أحداث الفلم هذه الأعراض بشكل جلي لكنها نتيجة مستشفَّة من ردة فعله الإجرامية تجاه أي من يُسيء إليه وإن كانت تلك الإساءة لا تستوجب القتل، ولمَ القتل؟ وهنا تواجهنا عقبتان الأولى: عدم التمييز بين الجُناة، ودرجاتهم، وهل هم فعلا جُناة يستحقون القتل جميعا أو أنهم ضحايا في منظومة أكبر نشأوا فيها، منظومة المجتمع فالدولة، وهذا يأخذنا إلى العقبة الثانية: نُجيب بها السؤال لمَ القتل، تبرز بوضوح هنا جملة (دولة الجريمة في مواجهة فوضى الجريمة). كل شيء في هذا الفيلم يُوحي أن النظام الحاكم في الدولة هو الراعي الأول والمسبب الرئيس في نشأة الطبقية العنصرية، والتنمر، وإيذاء الآخر، وقتله نفسيا قبل قتله جسديا، هذه الدولة القائمة على المادية البحتة، حيث لا قيم أخلاقية ولا شرعة إنسانية، ولا تكاتف اجتماعي، وبث روح الإخاء والتعاون بين أبناء المجتمع الواحد، ولا أتحدث هنا عن مدينة فاضلة بل عن مفاهيم وقيم الإنسانية، من حُسن معاملة، ونبذ الطبقية، ومساعدة الآخر، ومنع الإيذاء، إلى كل شميلة من الشمائل التي تُراعي بناء مجتمع سليم وقويم. والأمر الآخر الذي يوحي به الفيلم، وهي وجهة سوداوية قاتمة السواد متشائمة لا يُرجى منها خيرا، تتمثل بالفوضوية واللا دولة واللا نظام وشريعة الغاب، وفوضى الجريمة في بيئة حل المشاكل فيها هو سفك الدماء والقتل حتى لأناس لا يستحقون القتل كما حدث مع زوجة بريت كولين في نهاية الفيلم فما السبب لقتل هذه المرأة هل لأنها زوجها رمز من رموز خراب وتدهور وانحدار العدالة في مدينة غوثام بالتأكيد ليست التهمة كافية لسلب روح إنسان، ليضعوا قُبالتنا بعدها خيارين لا ثالث لهما:
- دولة الجريمة، حيث القتل فيها يأخذ أنماطا كثيرة لم تغب من الفيلم، بل وسلطت الضوء على الأساليب المختلفة والمتعددة التي تُمارس من قبل رأس الهرم والطبقات العُليا على من يُسحقون في قاعدته.
- فوضى الجريمة، حيث المجتمع يكون الصوت الأعلى والمسموع فيه هو القتل والفوضى والسرقة واللا نظام والشغب وقتل كل من يخالف أو يُظن أنه يُخالف، ومع المؤثرات السينمائية ومشهد الناس بأقنعتهم حول الجوكر، الذي يقوم من موتته الصغرى، ليرتفع كأنه المسيح ينهض من صليبه، لكنه مسيح الجريمة لا مسيح الحق، مسيح الغوغاء والأوباش لا مسيح المؤمنين.
ارتكب آرثر فليك "جوكر" ستَّ جرائم قتل، ثلاث منها يمكن تبريرها تحت سقف الدفاع عن النفس، ولا أراه مذنبا فيها، بل ردة فعلة طبيعية قد يقوم بها أي إنسان عندما يُهاجم من قبل أكثر من شخص، وهو في حالة انهيار نفسي وتعب وشدة، لكن الجرائم الثلاث الأخرى هي المشكلة والتي لا يمكن تبريرها تحت أي عذر، ابتدأها بخنق المرأة التي ادَّعت أنها أمه وتبين لاحقا أنها تبنته، هذه المرأة لم يراعِ فيها كبر سنها ومرضها النفسي كما أشارت الأوراق التي حصل عليها بل ونومها على سرير العناية في المستشفى، فجاء قتلها ردة فعل لماضيها معه، ولكذبها عليه، ولكونها سببا غير مباشر بعلله النفسية. والجريمة الثانية قتله رادنال، وهي كذلك ردة فعل تجاه زميل عمل كان يتنمر عليه ويسخر منه ويستهزئ به، وهنا القتل له دلالتين الأولى ملموسة بقتله شخص كان في يوم من الأيام يؤذيه والثانية رمزية بقتله آلة التنمر المجتمعي الضخمة، لكنه قتل عبثي، فهذا الفيلم مُثِّل وصوِّر وأُنتجَ وروِّج له وعُرِضَ داخل هذا المجتمع المادي المعدوم للقيم الأخلاقية فكل شيء فيه ماديته الصارخة والفجة، المادية التي تضع الإنسانوية والروابط القيمية في أدنى هرم الأواصر بين أفراده، فتبدو عملية القتل كمن يُلقي النكتة ويضحك، لن يوجد لها أثر ملموس سوى أنها رجع صرخة أول سأبينها في الختام. والجريمة الثالثة فهي في قتله موري فرانكلين، وهذا القتل بدلالتيه الملموسة والرمزية هو قتل للآلة الإعلامية التي تعد الذراع الطولى، لتزييف الحقائق، ومحاباة الظالمين، ووسيلة لشيوع الطبقية العنصرية، وقتل الآخر نفسيا ومعنويا، ولا سيما في بلد كأمريكا، حيث المؤسسات الإعلامية بأصنافها المختلفة والمتعددة ما بين المرئية والمسموعة والمقروءة، مُسيطر عليها من قبل الدولة المادية، دولة الجريمة المنظمة.
إن هذا الفيلم هو صرخة برجْعين، الأول إلى داخل المجتمع وأفراده، عن مدى فداحة التهميش، والإقصاء للضعيف، والإيذاء النفسي، والتنمر، والطبقية، والعنصرية، التي يجب التخلص منها قبل أن ندخل في نتائج الرجع الثاني لهذه الصرخة المتمثلة في عالم فوضى الجريمة والثورة اللا منضبطة، بل ثورة التطهير والقتل، وكانت النهاية تصوير للثورة داخل المجتمع الرأسمالي التي تكلم عن هربرت ماركوز في كتابه "الإنسان ذو البعد الواحد"، حين لم يعول على طبقة العمال (البروليتاريا) لأنها أضحت -كما يشير ويحلل- جزءا من هذا النظام الرأسمالي الذي أذابها في منظومته الكبيرة، لكنه أبقى أمل الثورة قائما على أولئك المهمشين الذين لم يندمجوا مع المجتمع، وبقوا على الهامش منتظرين الفرصة المناسبة للثورة، هذه الثورة التي عرض أحد أشكالها فيلم "Joker".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق