تعد مسرحية "ذو العقل يشقى" واحدة من الكلاسيكيات الأدبية المهمة في الأدب الروسي، وأفضل أعمال ألكسندر غريبايدوف، وتأثر بها أدباء مثل دوستويفسكي وأنطون تشيخوف. لم تُنشر المسرحية الشعرية الكوميدية والهجائية للمجتمع الروسي لمرحلة ما بعد حملة نابليون إلا في عام 1833 بعد موت الكاتب بأربع سنوات، إذ منعت الرقابة نشرها لما وجدته فيها من سخرية وتهكم من المجتمع الموسكوفي وطبقة عليّة القوم والانتقاد لسلوكياتها الزائفة والعلاقات القائمة على المصلحة والنفعية.
ولد الشاعر والمسرحي والدبلوماسي الروسي غريبايدوف في موسكو ما بين (1790-1795)، درس في جامعة موسكو ونال درجة الماجستير في الفيلولوجي، وانخرط بعدها في برنامج الدكتوراة إلا أنه تركه ولم يكمله.
كانت حياة غريبايدوف، التي جمعته بصداقة مع شاعر روسيا الأكبر ألكسندر بوشكين، حافلة بالأحداث رغم قصرها فقد انضمَّ إلى الجندية المقاومة لحملة نابليون على روسيا في عام 1812، وخدم في روسيا البيضاء قبل استقالته عام 1816، ليشترك بعدها في ثورة ديسمبر عام 1825 ضد القيصر نيكولاس الأول، واعتقل في سنة اللاحقة لكن أطلق سراحه بعدها بمدة.
عُيّن غريبايدوف سفير روسيا في طهران عام 1828 إثر زواجه بستة أشهر من نينا ذات الستة عشر ربيعا، وبعد الحرب الروسية - الإيرانية ومعاهدة تركمانجي المهينة والتي تخلت فيها إيران عن عدة مناطق في جنوب القوقاز ومناطق أخرى لصالح الإمبراطورية الروسية.
كانت تلك المدة مليئة بشعور العداء تجاه الروس في إيران، ولم تكن بالأجواء الطيبة بتاتا وزاد من حدتها هرب أرمينيتين من جواري حريم الشاه وسبقهما هرب مخصي أرميني وطلبوا اللجوء في السفارة الروسية، وعلى الرغم من طلب الشاه إعادتهم فقد رفض السفير هذا، وكانت المعاهدة تجيز للجورجيين والأرمينيين العودة إلى جورجيا وأراضي أرمينيا الشرقية، لتزداد حدة غضب الدهماء ويطوقوا السفارة الروسية في طهران ويتحول الأمر إلى غوغائية، الأمر الذي اضطر غريبايدوف على الموافقة بإعادة الهاربات لكن بعد فوات الأوان، إذ اقتحمت الدهماء السفارة وقتلت موظفي السفارة وألكسندر الذي قطع رأسه، ورميت جثته من النافذة وسُحلت في الشوارع، وعرض رأسه في كشك كباب في الحادي عشر من شهر شباط/ فبراير 1829.
بعد أربعة أشهر في حزيران/ يونيو سافر بوشكين إلى جنوب القوقاز والتقى بعدد من الرجال الإيرانيين الذي ساعدوه للحصول على بقايا جثة غريبايدوف، ودفنها في تيلفس - جورجيا.
تدور أحداث المسرحية في روسيا داخل منزل بافيل أفاناسيفتش فاموسوف، رئيس مكتب حكومي، الذي يُحبُّ ابنته صوفيا بافلوفنا الشابُ الألمعي الذكي ألكسندر تشاتسكي، وكان قد ترعرع معها في منزل فاموسوف بعد موت والده، إلا أنه يتركها ويسافر ليعود بعد ثلاث سنوات ويجد أن الوضع لم يكن كما كان، وأن رغبته بالزواج منها تواجهها عقبات كثيرة أبرزها مولتشاين مساعد فاموسوف، والذي كان يسكن معهم في المنزل أيضا.
تقع صوفيا في غرام مولتشالن بعد سفر تشاتسكي، لكن طبيعة مولتشالن الوغدة والنفعية التي تجعله يخادع ويفعل كل شيء ليحافظ على عمله والسكن في منزل فاموسوف تخلق الحدث في المسرحية، وفي ظل هذه الأحداث الدرامية ذات الطابع الهزلي والساخر والتهكمي الناقد للمجتمع الروسي تتداخل الأحداث وتظهر شخصية الكولونيل سكالوزب سيرجي سيرجفيتش، الذي كان فاموسوف يرغب بتزويجهِ ابنته، وسكالوزب هذا، رجل لا يهمه شيء سوى المناصب والترفيعات والمكانة الاجتماعية العالية التي يسعى ليترقيها (كانت فئات المجتمع الروسي مقسمة إلى طبقات ورتب اجتماعية) ثم تظهر الشخصيات الأخرى فوق خشبة المسرح تباعًا صانعة الحدث في المسرحية.
تدفع طبيعة تشاتسكي المرحة والذكية والتهكمية إلى رفض العادات الكثيرة للمجتمع الروسي وكيفية تعاملهم المزيف والمجوف اعتمادا على المظاهر، وينفر من الولع الروسي بكل ما له علاقة بفرنسا والفرنسيين واللغة الفرنسية، وتبرز قيمة المسرحية في هذه النقطة ذات النقد الذاتي اللاذع للمجتمع الروسي وقتئذ. ويبقى تشاتسكي رغم كل ألمعيته يلاحق صوفيا لمعرفة مشاعرها التي تنفر منه بشدة، ليقع تشاتسكي ضحية ذكائه ورفضه للمظاهر الاجتماعية المنافقة والتقليد الخاوي لكل ما هو آتٍ من خارج البلاد.
تتوزع المسرحية في أربعة فصول، انكشفت في نهايتها الحقائق في مأساة هزلية (تراجيكوميديا)، التي تعد من أبرز سمات العمل التي خصص لها جاستين وليام بحثًا بعنوان "توقُّعُ تشيخوف: العناصر التراجيكوميديّة في مسرحية غريبايدوف (ذو العقل يشقى)" لجامعة أوهايو، ويذكر في مقدمة بحثه:
"غلبت القراءة الأيديولوجية على دراسات مسرحية غريبايدوف "ذو العقل يشقى" في القرنين الماضيين. ففي السنوات الأولى بعد نشرها، أطلقت المسرحية شرارة الجدل ما بين النقّاد المحافظين والكتّاب الرومانسيين-الديسمبريين بشأن وصف المجتمع الموسكوفي. أما النقّاد المتقدمون في أواخر منتصف القرن التاسع عشر، أمثال فيسارين بيلنسكي ونيكولاي دوبروليوبوف، فقد أشادوا بالعمل على أنه أول الأوصاف الحكيمة للواقعية الروسية، العُرف الذي استمرَّ، حسبما رأيا، مع بوشكين وغوغول. وسيمجِّد النقّاد السوفييت قراءة "ذو العقل يشقى" في القرن العشرين.
كانت القراءة السياسية للعمل مُسيطرة، فاستعرض العديد من النقّاد العمل على أنه بيان الحركة الديسمبريّة، وأن تشاتسكي هو بطلها وخطيب الحركة المفوّه. حتى الشكلانيون لم يكونوا في منأى عن هذا، فقد ركّز يوري تينيانوف على النماذج التاريخية لشخصيات المسرحية أكثر من جوانب الإبداعية الشكلانية. أما الدراسات الغربية للمسرحية فهي محدودة نسبيًا، وتضمَّنت إعادة تقييم لبعض شخصيات المسرحية وتحليلات لوزنها الشعري ولغتها".
لهذه المسرحية أثر واضح في الأدب الروسي فقد ذكرها دوستويفسكي في رواية المراهق وكذلك في رسائله، وذكرها أنطون تشيخوف في قصة العازف الأجير ورواية حكاية مملة حين يقول:
إن مسرحية ذو العقل يشقى ليست مسرحية مملة فإنها تهب عليَّ من خشبة المسرح ذات رائحة الروتين التي كانت تثير فيَّ الملل منذ أربعين عاما مضت، عندما كانوا يضيفونني عواءً كلاسيكيا ودقا على الصدر، وبعد كل زيارة للمسرح أخرج أكثر محافظة عما كنت عليه عند دخولي.
ويقول في موضع آخر من ذات العمل:
لماذا يجب على الممثلين أن يحاولوا إقناعي بكل الوسائل بأن تشاتسكي، الذي قضى وقتا طويلا يحدث الحمقى والمُحب لفتاة حمقاء، كان رجلًا ألمعيًا...
ويقول عنها الممثل المسرحي كونستاتين ستانسلافسكي (الذي أحدث ثورة في عالم التمثيل المسرحي الروسي وأدّى وشارك في أداء مسرحيات لتشيخوف من أبرزها مسرحية "النورس" الشهيرة): تُعد مسرحية "ذو العقل يشقى" من النوع الهزلي. وتبرر مشاهد كثيرة بأكلمها هذا الأسلوب المسرحي، لكن ثمة كثير من أسى الكاتب المر بحق وطنه وشعبه في هذه المسرحية العظيمة... لقد أظهر المسرحيون الكلاسيكون حبًا عميقًا لشعبهم ووطنهم عبر إنزال دموع الجمهور المخفية وسط ضحكهم- وهي سمة معبّرة في العديد من الأعمال الفنية الروسية.
وذكرها أيضا بولغاكوف في مسرحية الجزيرة القرمزية.
وعلى الرغم من كل هذه الشهرة فإن المسرحية لم تترجم إلى العربية إلا مؤخرًا بترجمتي عن الإنجليزية، وأما العنوان "ذو العقل يشقى" المقتبس من شعر المتنبي:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
فلا أعرف من صاحبه على الرغم من وجوده بهذه الصياغة في أعمال دوستويفسكي وتشيخوف وبولغاكوف.
لقراءة وتحميل المسرحية:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق