تتربع قصيدة بيوولف على عرش أول عملٍ أدبي آيسلنديّ، ويرجَّح تاريخ تدوينها غير المحدد ما بين القرنين الثامن والحادي عشر الميلاديين ويرى بعض الباحثين أن زمن تدوينها هو سنة 725م في حين تاريخ نشأتها فهو كما مرجَّح قبل هذا التاريخ بقرن أو اثنين. يُفتتح بهذه القصيدة الملحمية قرطاسُ الأدب الآيسلندي رغم أنها مكتوبة باللغة الإنجليزية القديمة أو اللغة الأنغلوسكسونية وتُوجد نسخة واحدة من مخطوطتها، وهي مخطوطة Nowell Codex، التي تضمّ معها عدة مؤلفات أخرى، وهذه المخطوطة واحدة من أربعة مخطوطات أدبيّة رئيسة باللغة الأنغلوسكسونية. وقد نجت هذه النسخة الوحيدة من حريق في القرن الثامن عشر، ليبدأ بعدها تناقلها وترجمتها وتحريرها على نطاق واسع لتكون واحدة من أهم الأعمال المؤسسة للأدب الإنجليزي. ويتخاطر إلى الذهن الآن ما العلاقة بين الأدب الآيسلندي واللغة الأنغلوسكسونية والأدب الإنجليزي؟
تتحدث قصيدة بيوولف عن البطل الغيتيّ بيوولف وحياته وكيف قضى على ثلاثة وحوش في حياته هددت أرض الدنمارك وشعبها وأرض الغيتيين (منقطة في السويد حاليا)، ويُرجَّح أن هذه القصيدة انتقلت إلى إنجلتزا مع الأقوام النورماندية التي هاجرت من شمال أوروبا في الألفية الأولى. غزت هذه القبائل مناطق مختلفة سواء داخل إسكندنافية أو ما وراء البحر إلى إنجلترا وفرنسا وغرب أوروبا، الأندلس، وتذكرها وغزواتها المصادر الإسلامية عن تاريخ الأندلس. استقرَّت هذه القبائل لاحقا في إنجلترا، وفي منطقة النورماندي (التي حملت اسمهم) شمال غرب باريس في القرن التاسع والعاشر الميلادي لأنهم أقوام زراعيّة وجدوا في هذه الأراضي الجديدة مقامًا طيبًا لهم. يعني ذلك أنَّ هذه القبائل جلبت معها هذه القصيدة الشفاهية عندما غزت إنجلترا وعاشت فيها. إضافة إلى أن جغرافية القصيدة لا تخرج عن حدود الدول الإسكندنافية (السويد، الدنمارك، فنلندا)، وكذلك تقاليد تلك الأقوام الشمالية بما فيها حرق الموتى، وقاعة الاحتفال وشرب الميد الخاصة بالملوك، وأسماء الشخصيات، لكننا في المقابل نجد أن الديانة المسيحية التوحيديّة بعبادة رب الخلق والعالم هي المهيمنة على معتقد الشخصيات في غياب تامٍ للميثولوجيا الإسكندنافية وآلهتها مثل أودين وثور الذين انتشرت عباداتهم لدى هذه القبائل قديما ويُذكرون في المؤلفات الإسكندنافية القديمة مثل كتاب Prose Edda، وPoetic Edda، أو تظهر تأثيراتهم في كتب أخرى مثل القصيدة الجرمانية Nibelungenlied، مما يُنشئ مفارقة تاريخية وتلاعب ديني بجعل هذه القبائل الوثنية قبائل موحِّدة، ولعل أبرز تناقض في ذلك هو الاستمرار بطقس حرق الموتى الذي لا تقرُّه المسيحية التي تدفن الموتى كبقية الأديان الإبراهيمية كما حصل مع بيوولف وحرق جثمانه بعد موته. يشير هذا إلى عملية التنقيح والتحرير الديني الذي طال القصيدة الشفاهية عند تحولها إلى نص مكتوب باللغة الأنغلوسكسونية (أو الإنجليزية القديمة) التي انبثقت منها (الإنجليزية الوسطى) التي كُتبت بها الآداب الإنجليزية النثرية والشعرية في القرون الوسطى ابتداءً من الشاعر الإنجليزي جيفري تشوسر صاحب رائعة حكايات كاتنربيري، الذي عاش في القرن الرابع عشر ويُعدُّ الشاعر الإنجليزي الأعظم في القرون الوسطى، وبقيت اللغة الإنجليزية التي نشأت من الأنغلوسكسونية تتطور حتى أصبحت ما هي عليه اليوم. ونظرًا لذلك فلقصيدة بيوولف أهميتها بكونها من القصائد التأسيسية في الأدب الإنجليزي لغةً والقصائد الإسكندنافية موضوعًا.
موضوع القصيدة
تحكي القصيدة عن البطل الغيتيّ، بيوولف، الذي حملت اسمه رغم أنها غير معنوَّنة في الأصل، ومغامراته في أرض الدنماركيين ثم عودته إلى وطنه الذي تُوِّج عليه ملكًا لاحقًا مدة خمسينَ شتاءً حتى موته في معركته الأخيرة ضد التنين، حارس كنز الأرض.
تبدأ الحكاية بذكر الدنماركيين وأرضهم وملوكهم حتى الوصول إلى الملك هروثغار Hrothgar الذي يأمر ببناء قاعة عظيمة للاحتفال وشرب الميد Mead (أفضِّل ترجمته إلى شراب البِتْع وهو خمر العسل) هي قاعة هيوروت Heorot، إلا إنَّ هذه الاحتفالات لا تدوم طويلًا إذ يهجم على الرجالَ النائمين في القاعة بعد نهاية الاحتفال غريندل Grendel الوحشُ أو المخلوق الخارج من أصل الجحيم والملعون من الرب العلي، ويتفك بالرجال ويقضي عليهم ويبقى متربصًا لأي احتفال ليهجم بعدها على الرجال، أثار هذا الهجوم الحزن والأسى في نفس الملك هروثغار. تذيع هذه الأخبار وتنتشر في البلاد المحيطة بالدنمارك وتصل إلى أرض الغيتيين وبطلهم بيوولف الذي يستعد ويستنهض رجاله للارتحال معه عبر البحر إلى الدنمارك وتقديم المساعدة لملكها هروثغار. يصل بيوولف ويعرض المساعدة على هروثغار الذي عرفه صغيرًا وأباه من قبله واستبشر خيرًا بهذا البطل الذي قرر مواجهة الوحش غريندل بيدين عزلاوين حينما علم أن غريندل لا يستخدم السلاح وقائلًا: (عن ترجمة تولكين للقصيدة)
سأمسك بالعدو بقبضة يدي، وانخرط معه في قتالٍ حتى الموت، الكراهية تواجه الكراهية حتى يمضي قضاء الربِّ عليه الذي سيخطفه الموت.
ينتظره بيوولف في قاعة هيوروت إلى أن أتى في الليل وواجهه في قتال بالأيدي ينتهي بإلحاق ضرر كبير بغريندل الذي يخسر ذراعه كاملةً من كتفه ويهرب من القاعة عائدًا إلى مستقره أسفل الأرض. لكن لا تنتهي المواجهة هنا إذ تعود الهجمات هذه المرة من أم غريندل التي تجيء ساعية لتثأر لابنها فتقتلُ في قاعة هيوروت أفضلَ مستشاري هروثغار وصديقه آسخير فينوح عليه ويندب حظه لأنه لا يستمتع بهناء ولا راحة: (عن ترجمة شيموس هيني للقصيدة)
راحة؟ أيُّ راحة؟ فالأحزان قد عادتْ
وأسفاه على الدنمارك! فآسخير قد ماتَ
بيد أنَّ لبيوولف رأي آخر حين سمع نواح الملك ليجيبه: (عن ترجمة شيموس هيني للقصيدة)
من الأفضل دائما أن نثأر لأحبائنا على الانغماس في النواح.
يتعقب بيوولف ورجال آخرون أثر أم غريندل الذي يختفي في بحيرة فيغطس بيوولف ملاحقًا إياها ويبدأ في قتال آخر ينتهي بقضائه عليها، ويعود برأسها إلى الملك هروثغار الذي كُتب له السعادة والراحة ولأرضه وشعبه أخيرًا.
يعود بيوولف بعد ذلك إلى أرضه ووطنه محمَّلًا بهدايا الملك هروثغار لكنه لا يستأثر بها لنفسه بل يمنحها لملك الغيتين هيغيلاك Hygelak الذي يخلفه بعد موته ابنه هيردريد Heardread الذي تراه أمه هيغد Hygd عدم غير صالح للحكم ويخلفه في المُلك بيوولف، ابن أخت زوجها. يحكم بيوولف بعدها بلاد الغيتيين خمسين شتاءً متعاقبًا قبل أن يظهر الخطر المهدد لشعبه والذي سيودي بحياته، وهو التنين، الحارس لكنز تحت الأرض يعود إلى عِرق سحيق فانٍ لا يُعرف خزَّن أصحابه كنزهم في زمنهم، الذي يستيقظ بسبب سرقة لإحدى قطع هذا الكنز. يجد بيوولف نفسه أمام مهمة لا مناص عنها يستدعيه لأجلها الواجبُ والعُرف والشجاعة وتاريخه البطولي، يندبُ بيوولف معه أحد عشر رجلًا لقتال التنين ويذهب مع السارق الذي أصبح الرفيق الثالث عشر في هذه المجموعة. يطلب بيوولف من مرافقيه الانتظار ويذهب وحده لقتال التنين الذي كان أخطر وأقوى عدو يواجهه ولم يستطع القضاء عليه إلا بمساعدة رفيقه ويغلاف Wiglaf، في الوقت الذي جَبُن فيه البقية عن الاشتراك في هذه المواجهة بين الفريقين.
لم تنتهِ هذه المواجهة بموت التنين فحسب بل وموت بيوولف أيضًا إذ تمكَّن التنين من توجيه طعنة قوية بأنيابه لعنق بيوولف فيموت الخصمان معًا في ساحة القتال. تشكل نهايةُ بيوولف بدايةَ حقبةٍ ظلامية اقتربت من الغيتيين كان قد أجَّلها بيوولف الشجاع الذي لم يتجرأ أعداؤه على غزو مملكته في حياته. وعلى الرغم من أن القصيدة لا تروي تلك الأحداث المستقبلية لكنَّها تستشرفها وتتنبأ بها عبر شخصياتها.
البطل الحكَّاء
ينتمي بيوولف إلى جيل أبطال الملاحم الخالدين الذي ابتدأ بغلغامش وأنكيدو وكَبُر بمرور الزمن حتى ضمَّ المئات من مختلف الأماكن والأزمان منذ فجر التاريخ وحتى يومنا الحاضر. فإبداع البطل الخياليّ جزء من إبداع الكتابة واستمرار الإنسان بمزاولتها لذا فمن خطَّ شخصية غلغامش (في الأرجح أنه كان ملكا سومريا) قد فتح الباب على مصراعيه لكل الكتَّاب من خلفه أن يُبدعوا شخصياتٍ يكون لها الأثر البارز في خيال القارئ وواقعه وتأثيرٌ في الأدب والأسطورة. يقول ألكسندر دوماس عن فضل الأدباء على المؤرخين "أنهم يخلقون شخصيات تقتل شخصيات التاريخ. والسبب في ذلك أن المؤرخين يكتفون بالحديث عن أشباح، أما الروائيون فيخلقون أشخاصا من لحم وعظم". دائما ما امتاز أبطال الملاحم بدورة حياة متقاربة كما فصَّلها جوزيف كامبل في كتابه "البطل بألف وجه" وبسماتٍ مشابهة كالإقدام والشجاعة وعزة النفس والشرف الرفيع والنسب العظيم والمُلك والارتحال في مغامراتٍ عظيمة والقتال في حروبٍ حاميةٍ لكن ثمة صفة لا يمتاز بها إلا القلة من أبطال الملاحم وهي البطل حكَّاءً مثل أوديسيوس وآينياس وبيوولف. قد يُرجع بعض الباحثين السبب إلى الطبيعة الشفاهية للقصائد الملحمية التي تجعل من تكرار إخبار الحدث وقصة جزءًا من عملية تثبيت ما جرى أكثر مما هي سمة فنيّة تمتاز بها الملحمة وتخص البطل وحده، فمن الممكن أن نقبل قولًا مثل هذا فيما يخص الملاحم التي لم يثبت أن شاعرها قد نظمها كتابةً كما في حال أوديسيوس والأوديسة لهوميروس لكن ومع بداية تدوين الملاحم مع فرجيل والإنيادة فإن سمة القدرة والفصاحة على الحكي والإخبار بما مرَّ به البطل بنفسه أصبحت عنصرًا فنيًا في الملحمة المكتوبة وبما أنها لا تتكرر في كل ملحمة بل في نماذج محددة يكون التكرار فيها مُتعمَّدًا وفي أكثر من موضع فهو يشير إلى نوع من تأكيد هذه السمة للبطل. وأنا لا أنفي بحال من الأحوال انتقال الكثير من القصائد والملاحم من الطور الشفويّ إلى الطور الكتابيّ مما يُبقي احتمالية أن يكون التكرار يهدف إلى تثبيت الحدث وتسهيل حفظه للمتلقي فيكون التكرار مراجعة سريعة للحدث الذي سبق وأن سَمَعَه المتلقي أو يقدم موجزًا له. على أي حال، فلا بد من الوقوف عند سمة الحكي لدى البطل بيوولف في هذه القصيدة لأننا نسمعه يحكي في حضرة الملك هروثغار وشاعره أنفيرث عن سباق السباحة مع بريكا وكيف اضطر لمقاتلة وحوش الماء ثم بعد عودته إلى موطنه يقص على الملك هيغيلاك ما جرى له في ضيافة الملك هروثغار ثم مواجهته غريندل ثم أمه وكيف قضى عليهما.
إنَّ سمة الحكي والقدرة على قص ما جرى للبطل في مغامراته يُشير إلى طبيعة اجتماعية متآلفة مع الآخرين وصفة لازمة للبطل القائد الذي لا بد وأن يلجأ إلى لسانه في أحوالٍ كما يلجأ إلى سيف وذراعه في أخرى، وتؤكد ضمنًا أن البطل جزء من قومه لا منعزلٌ عنهم ولا متكبِّر لا يشترك معهم في حديث أو حوار، وغير انطوائي يفضِّل العزلة والابتعاد عن التجمُّعات والاحتفالات، فهو حتى إن لم يحبِّذ هذه التجمُّعات ويضطرَّه مقامه إلى الحضور فهو ليس مطالبًا بالحديث والإكثار منه لكننا نجد أنَّ البطل هنا يبادر بالقصِّ لتصحيح خبر أو حادثة تخصه أو يُطلب منه القصِّ لما مرَّ به، أيَّ أن القص ليس بسمة طارئة يفرضها الحدث وزمانه بل إنها متجذرة فيه قد لا تبدو هذه السمات واضحة كثيرا مع بيوولف لكنها ثابتة مع أوديسيوس والفارق هنا كثرة مغامراته وطول الأوديسة مقابلةً مع قصيدة بيوولف، ومع ذلك فإنَّ الحكي والبطل الحكَّاء صفة لا يمكن أن تُنزع عن بيوولف. كما أن القدرة على الحكي تلزم أسلوبًا يبتعد فيه عن الإسهاب الممل أو الإيجاز المُضر، ولا يكون الحكي لأجل الحكي بل لغاية أهم لأنه غالبًا ما يكون مستمعه ملكًا أو من عليّة القوم وهذا يفرض عليه الإتقان والإجادة والإمتاع والغاية المحددة من الحكي. ونجد سمة أخرى للبطل تتفرغ من الحكي وهي أنه خطيب مفوَّه وقائد يستحثُّ الهمم بالكلمات والخُطب الرنانة التي يدفع بها رفاقه للقتال بشجاعة وإقدام في أحلك الساعات وأشدها عند مواجهة الأعداء.
لا يمكن بحالٍ أن نتخيل بطلًا ملحميًا في العصور القديمة صامتًا أو منعزلًا عن قومه لأنه يستمد هذه البطولة والشجاعة بتقدِّمه قومه وتزعُّمه لهم فهو بحاجة إلى لسانه قدر حاجته إلى سيفه، فلا يقوم أحدهما إلا بوجود الآخر، وفقدان أحدهما سيفقده سمة البطولة فيتحول إما شاعرًا في بلاط الملك وإما رفيقَ قتال، أما إذا ما اجتمعت الفصاحة والخطابة مع السيف والقوة فهي لا تجتمع إلا لبطل همام مفوَّه وفارس مقدام خطيب، كما في بطل مثل بيوولف.
الترجمات
لم تترجم هذه القصيدة بعد إلى العربية رغم أهميتها وقصرها كذلك فهي مكونة من 3000 بيتٍ تقريبًا، وتُرجمت كثيرًا إلى الإنجليزية. قرأتها بترجمتين الأولى هي ترجمة نثرية للكاتب والأديب تولكين تمت في العقد الثالث من القرن العشرين مع شروح وتعليقات دوَّنها عن القصيدة، هي في الأصل مادة لمحاضراته عندما كان أستاذًا جامعيًا يدرِّس اللغة الإنجليزية والأدب الإنجليزي. تطغى على ترجمة تولكين الألفاظ المهجورة سواء في الكلمات أو الضمائر ووجدت فيها تحذلقًا في الأسلوب وتكلُّفًا في الصياغة. نُشرت هذه الترجمة عام 2016 بتحقيق ابنه كريستوفر مع مواد أخرى خاصة بالقصيدة كتبها تولكين. أما الترجمة الثانية فهي ترجمة شعرية للشاعر الأيرلندي شيموس هيني وهي ترجمة أقل ما توصف بأنها رائعة وجذَّابة ومنسَّقة داخليًا بما يساعد على فهم القصيدة وأحداثها بسهولة دون عراقيل كالتي في ترجمة تولكين. نشرت الترجمة في عام 1999 وفازت بجائزة Whitbread Book.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق