يمكنكم متابعة آخر مقالاتي في مدونتي الجديدة: مدونة مؤمن الوزان
لِكُلِّ شَيْءٍ إِذَا مَا تَمَّ نُقْصَانُ *** فَلَا يُغَرَّ بِطِيبِ العَيْشِ إنْسَانُ
مُلهمة السماء وعبقرية بلا حدود
إيميلي، أكثر الأخوات برونتي غموضًا، عُرفتْ بانزوائها عن الفضاء الاجتماعي وابتعادها عن الضوء العام وتملُّصها من أقلام كُتَّاب السيرة. قيل عنها انعزالية، انطوائية، غريبة الأطوار، طاغية، ذكر في جسد أنثى، عنيدة، متصلبة الرأي، لا تُنازع في أمر، وكما وصفتها شارلوت إذا أردتها تفعل شيئًا فلا تبيِّن لها هذا لأنها ستفعل العكس دائمًا.
أبقتْ هُويتها مجهولة في كتاباتها الشعرية والروائية حتى وفاتها، ولم ترضَ قطْ أن تكشف عن هويتها الحقيقية. ظلَّ اسم إيليس بيل اسما مستعارًا بل وهُوية تشي بكاتب عميق الفكر مرهف الحس مفرط العنفوان غارق في فلسفته الذاتية المتمحورة حول وجوده بأنه أصل الكون وأن قواه وإلهه يقبع في داخله. حلَّقتْ بشعرها إلى أبعاد سماوية ومجازات عليّة وحفرت بروايتها الوحيدة الأرض حتى الأعماق فمزجت بين الطبيعة والاتحاد معها وبين التحرر من سجن الجسد والامتزاج في أفكار متدفِّقة من نبعٍ داخليّ وآخر مجهول المصدر ظلَّ يرفِدها بمياه الإلهام ويُغذِّيها بأمبروزيا العبقرية الخالدة.
لم تختلف حياة إيميلي عن تلك التي عاشتها عائلتها وقاستها. وُلِدت إيميلي جين برونتي -سميَّة خالتها- في ثورنتون في الثلاثين من تموز/ آب 1818، الأخت الرابعة والخامسة في تسلسلها. انتقلت مع عائلتها بعد ولادة آن بسنة إلى هاورث في عام 1820 حيث المنزل (بارسونج) الشهير الذي ستقطنه عائلة الخوري باتريك. تُوفيت والدتها إثر هذا الانتقال بشهور معدودة لتعيش في يتمٍ قاهرٍ منذ الثالثة من عمرها، فلم تعرف للأمومة شعورًا ولا ذكرى، فترعرعتْ يتيمةً لكنَّها أمٌّ لنفسها. فرضتْ عليها طبيعةُ حياة بلا أمٍ، وسلوكُ والدها الخوري الصارم رغم رقَّته، وانعزالُها عن العالم الخارجي في هاورث، وحبُّها للطبيعة، ونشأةٌ في عائلة عزَّزت حبَّ التعلم، وإخوَّةٌ بزغت منها نبتة الإبداع الأدبي، سماتٍ متعددةً تميَّزت بها عن أختيها وأخيها أبرزها حبُّها للسريّة الحالكة في الكتابة، وتعلُّقها بالبيت فلا تكاد تخرج منه في سفرٍ طويل أو مكوث بعيد حتى تُصاب بحنين مَرَضيّ إليه، وعلاقة خاصة مع الطبيعة والبريّة بأشجارها وأزهارها وحشائشها وجداولها فرأت نفسها في الطبيعة الممتدة الحرَّة القويّة التي لا تعرف الرحمة فتجسَّدت الطبيعة فيها، فكأنها الطبيعة لو كانت بشرًا، رقيقة المظهر مع قسوّة الباطن، وضعف الهيئة مع قوَّة الداخل، وحبسٌ في التجسُّد مع تحرريّة مطلقة من كل قالبٍ سابق الصنع. وكما تصفها شارلوت فالحرية النَّفَسُ الخارج من منخريْ إيميلي، وتفنى من دونها.
كثيرًا ما شدَّت إيميلي أنظار من التقاها ومن درس حياتها وما كتبته بعد وفاتها. يصفها قسطنطين هيغر عندما درَّسها في بروكسل عام 1842 واختلفتْ معه حول منهجية تدريسه طلبته الأدب: ’كان يجب أن تكون رجلًا. تملك عقلا منطقيًا ومقدرة على الجدال، من غير المعتاد أن تجدها في رجل، ومن النادر حقًا أن تملكهما امرأة‘. وتقول شارلوت ’لم أرَ شيئًا مثيلًا لذلك، لكن في الحقيقة لم أرَ قطَ ما يوازيها في أي شيء. أقوى من رجل، أبرأ من طفل، متفرِّدة في ذاتها‘ وحين اتُّهمتْ ممن لم يصدِّقوا أنها كتبت رواية "مرتفعات وذرينغ" وعَزوا ملكية التأليف إلى أخيها كانت من بين حُججهم "أنَّى لامرأة أن تكتب رواية كهذه، ولا يستطيعها إلا رجل". وراح آخرون كما في كتاب إيميلي برونتي: المهرطقة لستيفي ديفيس، إلى تسليط الضوء على السمات الرجوليّة لدى إيميلي.
رُبط جزءٌ من صورة إيميلي في ذهن متلقِّيها بالرجل، سواء كانت رجلًا بالكامل أو لها صفات رجوليّة أو حتى نصف رجلٍ، عزَّز هذا خيوط أدلِّة من هنا وهناك كتعليم والدها إياها دون أخواتها الرماية بالمسدس في صباها، أو بوصفها بأنها كانت طاغية على سلوك شارلوت في بروكسل حانية بقامتها على أختها الأقصر منها، أو حتى طبيعة كتابتها القوَّية والصارخة والمليئة بالعنف والشدَّة والساديّة. حتى إنَّ بعضهم شطح في قراءتها واستنبط من علاقة هيثكليف وكاثرن في روايتها أنها تكشف عن ميلٍ سحاقي في إيميلي، وقراءة النص الحرَّة تُفسح المجال أمام هكذا تأويلات، لا أستبعدها بنفسي، لكن هذا الميل نحو المثيل ليس أكثر من قوَّة ذكوريّة تُنازع ضديدتها الأنثوية داخل إيميلي. إذًا، فنحن أمام طبيعة غامضة لا يمكن تحديد ملامحها في ذاتِ إيميلي لكن ما نستطيع التأكد منه أن هذا التنازع الداخلي والغليان التنافسي بين قوَّتين ظهرتها بوضوح في كتابتها صابغةً إياها بصبغات الأصالة والإبداع، وكما ذكرتُ آنفًا لو كانت الطبيعة بشرًا ستكون إيميلي لكن السؤال هنا أهي إيميلي المرأة أم إيميلي الرجل؟ قد تتجاذب الأجوبة إيميلي وتأخذها إلى حقول استقرائية متحيِّزة جندريا أو مبالغة في الاحتضان لكن ما أراه إنَّ إيميلي هي الكائن الخنثى بذكوريتها وإنثويتها، هي لا تنتمي لا نوعٍ محددٍ دون سواه، كانت مرأة ورجلًا في آن واحدٍ ولعل ما تذكره شارلوت عن آخر حياة إيميلي يعطينا صورة واضحة عن هذا المخلوق ومدى تجبُّره وكبريائه ورقَّته كذلك ’وأبشع ما في الأمر أنها في الوقت الذي فاضتْ فيه رحمة على الآخرين لم تُظهر على نفسها أيَّ شفقة، كانت روحها متصلبة حتى جرثومتها، من يديها الراعشتين، وقدميها المتوتّرين، وعينيها الغائرتين، وكل شيء في صحتها يُنتزع وأن تقف وتشاهد ذلك ولا تتجرأ أن تعترض لهو أمر مُوجع لا تُعبِّر عنه الكلمات‘.
تبيِّن الكلمات طباعَ أمِّ رؤوم وأبّ متزمِّت، وتذكر غاسكل في سيرة شارلوت برونتي كيف أن شارلوت وآن كانتا توقفان ما يشغلهما وينصتان إلى سعالها أو لهاثها أو خطواتها المتعثرة دون التجرُّؤ على تقديم يد المعونة. صورة تأخذنا إلى هيثكليف بقسوته وفظاظته وتوحُّشه، فلماذا كان بطل روايتها رجلًا هو هيثكليف، ولماذا كان الطرف المقابل له هو كاثرن إرنشو المرأة، وإلى أين يأخذنا سؤال الهُوية، وقد استقرأتْه ستيفي ديفس مليًا، حين تقول كاثرن ’أنا هيثكليف‘. فمن هم إيميلي وهيثكليف وكاثرن؟ سؤال قد يكون باختصار هم مخلوق واحد متداخل ومتوازٍ في آن واحد ومتجسُّدٌ في شَخْص إيميلي.
غادرت إيميلي رفقة أخواتها إليزابيث وماريا وشارلوت في عام 1824 إلى المدرسة الداخلية، كاون بريدج، لكنها مغادرة سرعان ما انتهت مأساويًا بسبب سوء المدرسة غذائيًا وصحيًا فماتت الأختان الكبريان إليزابيث وماريا في عام 1825. كانت هذه الحادثة ثاني المصائب التي نزلتْ على آل برونتي، فانقطعتِ الأخوات عن الالتحاق بالمدرسة واستمَّرَ تعلمهن المنزليّ والذاتيّ. يرى الكاتب نيك هولاند أنَّ إيميلي أحبَّت أختها إليزابيث وأرادت أن تُخلِّد ذكرها عندما اختارت اسم إيليس اسمًا مستعارًا لكتاباتها المنشورة. خلال هذه المدَّة ابتدأتِ الأخوات الثلاثة وأخوهن برانويل بالكتابة الإبداعية لقصص ومجلات وحكايات وحتى أشعار، تولَّى تدوين معظمها شارلوت وبرانويل. لم تسلك إيميلي طريقها الخاص في الكتابة مع أختها آن إلا بعد ذهاب شارلوت للدراسة في مدرسة رو هيد الداخلية في عام 1830، فكتبت مع آن حكايات ويوميات لم ينجُ منها إلا القليل وأشهر ما كتبت إيميلي وضاع هو حكايات الغوندال، الجزيرة الخيالية في المحيط الهادئ، وما زال بين يدينا ثلاثون ونيّف من قصائدها غوندال. كما أن بقاء إيميلي وآن وحدهما عزَّز العلاقة بين الأختين وكما تصفهما إيلين نوسي فكانتا مثل توأم غير متماثل لقربهما الشديد وعلاقتهما الوطيدة، ولإيميلي تأثير ملموس في حبِّ آن للطبيعة كما يميل بعض الدارسون.
بعدما عادت شارلوت إلى المنزل إثر إكمال الدراسة في عام 1832 درَّستْ أخواتها ووجَّهتهن واستمررن بالكتابة الإبداعية دون انقطاع، وأخذتْ إيميلي معها للدراسة في عام 1835 حين رجعتْ إلى مدرسة رو هيد لتعملَ معلمةً هذه المرة. كشفَ هذه الابتعاد الجديد، عن المنزل للمرة الثانية بعد نحوٍ عشر سنوات عن الأول الذي شهد وفاة أختيها، عن طبيعة إيميلي المتعلِّقة بالبيت وعدم القدرة على الحياة بعيدًا عنه، ومن المحتمل أنَّه مرتبط بشعورها بالأمان وخروجها منه ابتعاد عن الأمان الذي يكتنفها بين جنباته تولَّد لديها بعد وفاة أختيها. لكن المثير في الأمر أنَّ إيميلي بسبب سلوكها الصامت وغير التعبيريّ لم تبيِّن هذا كلاميًا فانعكس في اعتلالها صحيًّا؛ تعلل شارلوت في رسالة لها عن أسباب ما حدث: ’تُحب أختي إيميلي البراري. تتفتَّح أزهار أزهى من الورد في سويداء قلبها، وبإمكان عقلها أن يُنشئ جنةَ عدنٍ في أكثر بقعة جوفاء متجهِّمة في جانب التل الشاحب. تجد في العزلة الكئيبة أعزَّ مباهجها وأكثرها، وليس آخرها وأحبَّها إلى قلبها- الحرية. فالحرية النَّفَسُ الخارج من منخريْ إيميلي، وتفنى من دونها. فشلت إيميلي في تحمَّل الانتقال من منزلها إلى المدرسة، ومن عالمها الهادئ جدًا والمنعزل، لكن بطبيعة حياته غير المقيَّدة والفطريّة، إلى عالم الانضباط اليوميّ (مع أنه تحت أكيسَ رعاية). وأثبتت فطرتها هنا أنها أقوى من أن تتجلَّد بتطويعها. يندفع إليها كل صباحٍ بعد أن تستيقظ مرأى المنزل والبريّة، فيُظلم عليها نهارها ويُكَّدر عليها يومها الذي ينتظرها. لا أحد يعلم ما يُوعكها هنا سواي. عرفتُ وَحْدي هذا تماما. لقد تدهورت صحَّتها في هذا الصراع بسرعة، وهددها انتكاس جسيم. شعرت من أعماق قلبي أنها ستموتُ إذا لم تعد إلى البيت، وبهذه القناعة حظيت بعودتها. قضت ثلاثة أشهر فحسب في المدرسة، وانسلخت عدة سنوات أُخر قبل أن تتكرر تجربة الابتعاد عن المنزل مجددًا‘.
أقفلت إيميلي راجعةً إلى منزلها في هاورث وبراريها وأخذت آن مقعدها الدراسي. ثم وبعد سنة تقريبًا أُمِّن لإيميلي وظيفة في مدرسة في لوو هِل بالقرب من هاليفكس، لكنها تجربة مريرة فيها لطول ساعات العمل والتعب الدائم وشدَّة الحال فلم تستمر طويلا. تقول في رسالة لشارلوت بتاريخ 2-10-1836 ’إنني أعمل من السادسة صباحا وحتى الحادية عشر ليلا، يتخللها نصف ساعة استراحة فحسب. هذه عبودية. أشعر أني لا يمكنني مجاراتها أبدًا‘. لتتركَ العمل بعد ستَّة أشهر وتعود مجددًا إلى هاورث بيد أن هذه التجربة لم تكن بلا ثمار تماما فيُرجَّح أنها ألهمتها جزءًا من قصة روايتها من حياة عائلة حقيقية كانت تدعمُ المدرسة في لوو هِل.
أول صفحة من دفتر قصائد غوندال يتضمن قصيدة "هناك يطلعُ القمر There shines the moon"
مرَّتْ على إيميلي سنواتٌ لا يُعرفُ عنها الكثيرُ إلا ما دوِّنَ في رسائل شارلوت والقصائد المدوَّن عليها تاريخُ كتابتها في هذه المدة، مما يكشف أن إيميلي لم تنقطع عن الكتابة حتى سنة 1841 حين بدأت تتبلور فكرة مشروع المدرسة الداخلية عند شارلوت فأقنعت خالتها به وقررت السفر لزيادة كفايتها وأختها من الأدب واللغتين الفرنسية والألمانية والفنون نظرًا لحدة التنافسية بين المدارس الداخلية حينها. سافرت إيميلي في شباط/ فبراير 1842 مع أختها وأبيها إلى بروكسل واستمرَّت هناك حتى شهر تشرين الأول/ أكتوبر من ذات السنة حين وصلت رسالة بوفاة خالتهما، فعادت الأختان إلى هاورث مجددًا. لم يُعرفْ عن إيميلي على وجه الدقة أنها اشتاقت إلى هاورث أو أثَّر ذلك في دراستها التي أبدت تقدمًا ملحوظًا فيها على شارلوت لا سيما في الفرنسية والألمانية ولها مقالات محتفظٌ بها كالقطة والفراشة كتبتها في درس الأدب لقسطنطين هيغر الذي أُعجبَ بعقلها واختلفتْ معه بشأن طريقة تدريسه القائمة على المحاكاة مفضِّلةً الأصالة في الكتابة الإبداعية. رفضتْ إيميلي مرافقة شارلوت في العودة إلى بروكسل مجددًا وآثرتْ البقاء في المنزل لأسباب عديدة منها تعلُّقها بالبيت وبريّة هاورث، والاعتناء بوالدها الذي بدأت تتضح عليه معالم التعب والمرض، ولتدبير شؤون المنزل لأن الخادم، تابي، كانت مسنة. أقفلت شارلوت وحيدة في كانون الثاني عام 1843 إلى بروكسيل لإكمال دراستها وعملها معلمة للغة الإنجليزية في مدرسة البنات الداخلية حتى عودتها مكلومةً بحبٍ لم يندمل في مطلع السنة التالية.
حلَّتْ الصدفة التاريخيّة في خريف عام 1846 بعثور شارلوت على دفتر أشعار إيميلي فأُعْجِبتْ به وأقنعتها بنشره، فكان ذلك في ديوان مشترك تحت أسماء مستعارة، اتَّخذَتْ فيه إيميلي اسم إيليس. كان لفشل الديوان تجاريًا وفنيًّا أثره في خطوة أكثر جرأة في التحول نحو الكتابة الروائية، مع أن إيميلي كانت الوحيدة تقريبًا من نالتِ الإشادة في شعرها بين الأخوات، واعتُرِفَ بها شاعرةً بعد قرنٍ من وفاتها تقريبًا وصدرت أعمالها الشعرية كاملة في عام 1908 بطبعة حققها كليمينت شورتر، ضمَّت كلَّ قصائد إيميلي حتى تلك الخاصة بجزيرة غوندال المتبقيّة. بيد أنَّ شارلوت لم تتركْ عددًا من قصائد أختها دون تحرير فحررت عددًا منها، ووفقًا للوكاستا ميلر فإن هذه التحريرات كانت تعبِّر عن شارلوت وشوقها إلى أختها أكثر من تجويد النص. ومن الواردِ جدًا أنَّ شارلوت غيَّرت بعض المفردات التي ترى فيها تجديفا أو حوَّرت بعض المقاطع بما يتناسب دينيًا مع الشريحة الكبرى لقراء المجتمع الفيكتوري الذي لم تتجرأ شارلوت الاصطدام بهم كثيرًا عكس أختيها إيميلي وآن.
صدرتْ رواية إيميلي "مرتفعات وذرينغ" في نهاية عام 1847 في طبعة مشتركة من ثلاثة أجزاء من الناشر Newby، شغلتْ روايتها الجزءان الأول والثاني وخُصص الجزء الأخير لرواية آن "أغنيس غَرَي". لا يُمكن القول قطعًا بفشل الرواية تجاريًا لكنها لم تكن بنجاح رواية "جين إير" التي استحوذت على الأضواء كلها قبل شهرين. نالتْ رواية "مرتفعات وذرينغ" إشادةً وهجومًا على حدٍ سواء نظرًا لطبيعة موضوعها وعنف شخصية هيثكليف الساديّة الشريرة لكنه شرُّ ممزوج بإيميلي بالطبيعة فتشعر بأصالته وقد قدمته جليا وزاهيًا وهو ليس بحالٍ من الأحوال عَرَضَي أو وليدَ الصدفة. في الرسالة التي كتبها باتريك يتحدث فيها عن اكتشافه موهبة أطفاله وامتلاكهم عقلًا متميزًا فيذكر إيميلي ’وحين سألت التالية [إيميلي]: ما أفضل ما يجب أن أفعله لأخيها برانويل الذي كان أحيانًا شقيًا؟ أجابت: تُحدِّثه بالعقل، وحين لا يستجيب للعقل تجلده‘. هذا الفكرُ لطفلةٍ يرى في الجلدَ وسيلة للتأديب تطوَّر كثيرًا بشدَّته خلال السنوات، لا سيما تلك الحادثة حين أخبرت تلميذاتها بأن كلبها أعزُّ عليها من هنَّ، أنتجَ رواية قلَّتْ نظائرها لا لعنفها بل لطبيعة شخصياتها وسؤال الهُوية ولغتها وحتى تجديفها وأبدعت حبًا كما تصورته فجمحت فيه متجاوزة كل الحدود.
يسأل فالنتين كونينغهام ’كيف أمكن العوانس الثلاث، اللائي نشأن في بيت خوري صارم في هاورث الكئيبة، أن يكتبن أعمالًا مثل هذه‘. سؤال ما زال مطروحًا للإجابة عنه.
يبدو أنَّ إيميلي قد قالت كل ما أرداتْ قوله في روايتها، فشهدت حالتها الصحية تدهورًا تدريجيًا تفاقم بعد وفاة أخيها، وتدوِّنُ شارلوت حالتها برسالة في تشرين الأول/ أكتوبر 1848 أوردتها غاسكل في كتاب السيرة ’تبدو نحيفة وشاحبة. تُسبب لي طبيعتها المتحفِّظة اضطرابا عقليّا. فمن غير المجدي سؤالها عن صحتها؛ لن تحظى بجواب. وما زالت الكمادات بلا نفع لأنها لم تُستخدم قط. ولا يمكنني أن أغمضَ عينيّ عن هشاشة بُنية آن الجسمانية، ما حدث مؤخرا زاد من قلقي أكثر من المعتاد… انحدرتْ صحة أختي إيميلي، لم تكن طوال حياتها قط متريِّثة في أي عمل يقع على عاتقها، ولم تتريث في هذا الحال أيضا. لقد غادرت بسرعة خاطفة. وحثَّتِ الخطى في مغادرتنا… يومًا تلو آخر حينما رأيتها قُبالة عينيّ تعاني تطلَّعتُ إليها بكربٍ ممزوجٍ بالعُجب والحب. لم أرَ شيئًا مثيلًا لذلك، لكن في الحقيقة لم أرَ قطَ ما يوازيها في أي شيء. أقوى من رجل، أبرأ من طفل، متفرِّدة في ذاتها. وأبشع ما في الأمر أنها في الوقت الذي فاضتْ فيه رحمة على الآخرين لم تُظهر على نفسها أيَّ شفقة، كانت روحها متصلبة حتى جرثومتها، من يديها الراعشتين، وقدميها المتوترين، وعينيها الغائرتين، وكل شيء في صحتها يُنتزع وأن تقف وتشاهد ذلك ولا تتجرأ أن تعترض لهو أمر مُوجع لا تُعبِّر عنه الكلمات‘. تُعلِّق غاسكل إثر إيرادها الرسالة قائلة ’في الحقيقة لم تُغادر إيميلي المنزل بعد الأسبوع التالي لوفاة برانويل، ولم تشتكِ ولم تتحمل أن تُسأل، ورفضتْ أي تعاطف ومساعدة. وكثيرا ما تركت شارلوت وآن الحياكة أو توقفن عن القراءة للاستماع بقلبٍ مُعذَّب إلى الخطوات الواهنة والتنفُّسِ العصيب والتوقف المتكرر أثناء الخطو لأختهن أثناء صعودها السلالم، ولم تتجرآ على الإشارة لما لاحظتاه بوخزٍ معاناةٍ أقسى مما عانته أختهما. رفضتْ إيميلي رؤية الطبيب بإصرار عندما ارتفع نبضها ليصل إلى 115 دقة في الدقيقة، وعندما استُدعي الطبيب ووصل إلى البيت رفضت مجددًا مقابلته، ووصفت له أختاها أعراضَ ما لاحظتاه، ووُصفَ لها الدواء الذي لم تتناوله مُنكرةً أنها مريضة. وفي صباح التاسع عشر من شهر كانون الأول/ ديسمبر 1848 تفاقم وضع إيميلي سوءًا حتى الظهيرة وهمست لاهثة لشارلوت "إذا استدعيتِ الطبيب فسأراه" لكن بعد فوات الأوان إذ وافتها المنية في الثانية ظهرًا‘. ماتت إيميلي واقفة كشجرة ضاربة جذورها في الطبيعة كما عاشت حياةً ممزوجة بالقوة والغموض ولم تحنِ رأسها قط لمصيبة أو تثنِ عزمًا في عيش حياةٍ أرادتها أو مغادرتها حين رفضتها.
المصادر:
- Wuthering Heights by Emily Bronte
- The complete poems of Emily Brontë, Edited by Clement Shorter
المراجع:
- The life of Charlotte Brontë by Elizabeth Gaskell
- The Brontë Myth by Lucasta Miller
- Anne Brontë by Winifred Gerin
- Emily Brontë: Heretic by Stevie Davies
- The Brontë in Brussels by Helen MacEwan
- Anne Brontë at 200 by Nick Holland
صيرورة الأسطورة من الحقيقة إلى الخرافة
The Brontë Myth - Lucasta Miller
انجذبتُ إلى الأخوات برونتي منذ أول مرة تعرَّفت عليهن في إحدى المقالات الأدبية التي ترجمتها عن الأخوات، ومع أن المقال ركَّز أساسا على الأختين الكبريين شارلوت وإيميلي، فإن ما جذبتني إليها بقوَّة كانت آن، الأخت الصغرى، وما تعرَّضت له من إقصاء وتهميش على حساب أختيها المُقدَّمتين أدبًا وشهرة، وأنَّ آن ليس سوى ظلٍ لأختيْها. من حسن حظي وقتها أني كنت أتجول في أحد متاجر الكتب ووصلت إلى قسم خاص بكتب السير الذاتية لأقع على سيرة حياة آن برونتي، لوينفريد جيرن -من أشهر من كتب عن آل برونتي-، فاشتريته دون تردد أو حتى تفحُّص وشرعت بقراءته فلم أنهِه حتى ذهبتُ واشتريت روايتيها الوحيدتين، أغنيس غري ونزيلة قصر ويلدفيل وما وجدته من روايات شارلوت. قررت أن أقرأ روايات الأخوات تصاعديًا من الصغرى إلى الكبرى حتى لا يؤثر فيَّ أي حكم سابق على روايتي آن، مع أني لا أستبعد تأثير سيرة وينفريد جيرن العاطفي فيَّ تجاه آن. اكتشفت بعد قراءة روايتيها كاتبةً حسنة الأسلوب جريئة الفكر لا تقل عن أختيها في شيء بل أنَّ روايتها الثانية لا تقل عن رواية جين إير أشهر روايات شارلوت الأربع في حين تتربع رواية إيميلي، مرتفعات وذرينغ، على عرش الصدارة بين إنتاج الأخوات برونتي الأدبي، فهي رواية حصينة وجسورة ومفعمة بقوى لا تُسبر كأنها جزءٌ من شخصٍ إيميلي، التي تصفها شارلوت بأنها ’لم ترَ قطَ ما يوازيها في أي شيء. أقوى من رجل، أبرأ من طفل، متفرِّدة في ذاتها‘.
قررت بعدها الغوص أكثر في عالم الأخوات برونتي، حياة الأخوات برونتي، كيف نشأت الأسطورة، التي ما زالت تتكشَّف وتتفتَّح قُبالتي ببطء وعمق، فعدت إلى ذات المتجر السابق واتجهت مباشرة إلى قسم السير الذاتية وبدأت بتكويم كل كتاب يحمل اسمهن في حِجْري وخرجت بسبعة أو ثمانية كتب، وطلبت ما عرفته من مشهور الكتب ولم أجده هناك، وكان من بينها كتابين لوينفريد جيرن، عن حياة شارلوت والآخر سيرة إيميلي، وكتاب "حياة شارلوت برونتي" للروائية البريطانية وصديقة شارلوت، إليزابيث غاكسل. لم يتوقف هذا الهوس بالأخوات برونتي وما زلتُ محمومًا برغبة شراء ما أجده عنهن من كتب، وتعريف القارئ العربي بهن قدرَ الإمكان وما يتيحه الجهد والوقت. وهو ما يدفعني لأسطِّر هذه الكلمات وأكتب بحبٍ عن الأخوات.
إنَّ السر في الاهتمام بحياتهن يكمن عندي في محاولة الولوج إلى أسباب تشكُّل هذه الأسطورة الأدبية، ولا أعلم عائلة ضمَّت ثلاث أخوات أدبيات عاصرن بعضًا في بيت واحد، فما هو السرُّ في هذا النبوغ الأدبي؟ جواب يتعذَّر التأكد من إجابة أكيدة عنه لكن محاولة الإجابة تُشرع أمام القارئ أبوابًا كثيرة لا تُحصى. ولا أجانب الصواب لو قلتُ أن قراءة ودرس حياة الأخوات برونتي لا يقل متعة عن قراءة أدبهن بل ولن يُفهم أدبهن تماما من دون الاطلاع ولو يسيرًا على حياتهن وما واجهنه من يُتْمٍ مبكر فعشن حياة بلا أم -يلاحظ القارئ غياب الأم في رواياتهن أو وجودها الهامشي في روايتين فقط من أصل سبع- ووالدٍ عملَ خوريًا طوال حياته وعُرف بالشدَّة والصلابة لكن بقلبٍ طيّب وسلوك صارم وأسلوب حياة رواقيّ، وانعزال في قرية هاورث عن عالم المدينة والحضر، وتعليم تنوَّع ما بين مدرسيّ وذاتيّ، وغلب التعليم الذاتيّ عليه، تقول إليزابيث جاي في تقديمها لكتاب غاسكيل ’قامت أسطورة شارلوت على عنصريين جذَّابين الأول هو الجهود غير المنقطعة في التعليم الذاتي، وطبيعة العبقرية الاستثنائية المتعذِّر كبحها‘، ويمكننا كذلك معرفة دور شارلوت في تعليم أختيها الصُغريين بما تعرفه وتعلَّمته لا سيما بعد عودتها من مدرسة الآنسة وولر في سنة 1832 أو ما تذكره في رسالة إلى أختيها تنصحهما بأن يقرأوا في الشعر لكومبيل، وساوثي، وسكوت، وثومسون، وغولدسميث، وكذلك شيكسبير، وميلتون، وبوب، وبايرون. وتحثهما على قراءات مسرحيات شيكسبير الهزلية و"دون جوان" لبايرون. ولا تنتهي أهمية القراءة عن حياتهن في هذه الأسباب بل لا بد من التعريج أيضًا على وظيفة التعليم التي عملت فيها شارلوت وإيميلي فكانت سببًا لانعطافة مهمة في حياة شارلوت والمربيّة Governess التي عملت فيها شارلوت وآن وهي الوظيفة المؤثرة في أدبهن وحياتهن بل وحياة أخيهن برانويل ونهايته المأساوية. كانت وظيفة المربية شائعة لدى الشابات في إنجلترا الفيكتورية وظروفها القاسية، فتعمل المربية بأجور زهيدة في تعليم الأطفال ساعات طويلة بمنزلة أعلى من الخادم وأقل من فرد في العائلة.
وهكذا تكون متذبذبة القدر والمكانة والتعامل معها. اضطرَّت الأخوات برونتي على العمل فيها وتظهر تفاصيل هذه المهنة في رواية أغنيس غري لآن، وكانت بيانَ دفاعٍ عن المربيات كونهن بشرًا وسلَّطت الضوء على معاناتهن من معاملة سيئة وامتهان مُذلٍ. وتكتب السيدة أمبيرلي (واحدة من أوائل النسويات الإنجليزيات المطالبات بحق الاقتراع والمدافعة عن حق التحكم بحبل المرأة) في يومياتها: "أقرأ أغنيس غري، وعلى كل عائلة تملك مربية أن تقرأها، وسأقرأها مجددا إذا حظيت بمربية لتذكرني أن أكونَ إنسانًا"،
وتشتكي شارلوت في رسائلها من هذه المهنة فتقول في إحداها لإيميلي: "مربية خاصة ليس لها كيان، ولا تُعدُّ كائنا ذات وجود عقلي وحياتي إلا فيما يتعلق بواجبات متعبة عليها أن تنفذها". أما إيميلي فلم تعمل في هذه المهنة حتى إنها لم تكمل دراستها واستبدل مقعدها الدراسي بآن لذلك نرى غيابا تاما لهذه المهنة في روايتها الوحيدة مرتفعات وذرينغ. أثرت هذه الوظيفة في المنظور السردي لدى شارلوت أكثر من آن فنجد أن الساردة الداخلية سواء في جين إير أو فيليت، تسرد كأنها موجودة وغير مرئية، وهنا تمتزج الآلية السردية بقدر الوظيفة فاختفاء السارد رغم وجوده يعكس اختفاء المربية الإنسانة في حياة الأسرة التي تعمل لديها. ويكمن الفرق بين شارلوت وآن في تركيز شارلوت في روايتها على المحيط انطلاقا من الخارج إلى الداخل، في حين ركزت آن في روايتها على الذات فكان الانطلاق من الداخل إلى الخارج.
إنَّ حياة الأخوات برونتي متاهة يحلو الضياع فيها، ورغم أنَّ متاهة غير معقَّدة المسالك ظاهريًا فإنك تلتمس خطوة إثر خطوة بأنَّ ما يظهر لك عكس الحقيقة، وكيف يمكن الوصول إلى هذه الحقيقة، ففهمها هي فهم الذوات والرابطة الأسرية التي جمعتهن لكنه جمع مفصول بحفظ ممكلة كل واحدة على حدة دون خلط أو عزل.
لم تتوقف حياة الأخوات برونتي بوفاتهن في حيواتهن القصيرة إذ انتقلت هذه الحياة إلى العالم الأدبي، وشيئًا فشيئًا تشكَّلت صدَّفة كبيرة حول الأخوات ضمَّت كتبًا ودراسات وبحوثا وقصصا وروايات لينتهي بها المطاف أسطورةً أدبيةً. ولهذه النهاية جانب مظلم يكمن في كون كل ما يتعلَّق بالأخوات برونتي قد يطاله التغيير البطيء والتحوُّل فيصعب على القارئ أن يميزه صحيحه من خطأه ويفرض على الباحث أن يتفحَّص كل ما كُتبَ عنهن ويقابل الحوادث مع بعضٍ، ولا يتعجَّب القارئ حين يعلم أن أول سيرة نُشرت عن الأخوات، كان كتاب "حياة شارلوت برونتي" لإليزابيث غاسكل بعد سنتين من وفاة شارلوت عام 1855، ضمَّت هذه السيرة قصصًا وحوداثَ مشكوك بصحتها منها ما يتعلَّق بشارلوت نفسها وأخرى بإيميلي وعلاقتها مع الحيوانات، وبرانويل، وباتريك الأب الذي قال بعد نشر هذه السيرة ’لم أعلم أنَّ لي عدوًا في هذا العالم، يريد أن يُشهِّر بي قبل موتي. كل ما ذُكر في ذلك الكتاب [حياة شارلوت برونتي] ويتعلَّق بسلوكي تجاه أسرتي إما مزيُّف وإما مُحرَّف. لم أرتكب أيًَّا مما نُسب إليَّ. بيَّنتُ ذلك في رسالة إلى السيدة غاسكل طالبًا منها حذف هذه الأقاويل الزائفة المكتوبة عني في طبعة كتابها التالية. وحتى الآن لم أتلقَّ أيَّ جواب من السيدة غاسكل التي يبدو أنها غير راغبة ولا قادرة على الكتابة‘. وما تجاهل غاسكل لباتريك برونتي عن قناعة بما كتبته بل لأنه رجل محترم مسكين أحبَّ أن يخرج كتابٌ عن ابنته الأديبة، كما أنه لم يُرد تصعيد الأمر ضد غاسكل ويرفع عليها قضية كما فعل آخرون ذُكروا في الكتاب منهم ليديا سكوت، التي أحبها برانويل وكانت سببًا في هلاكه، فأجبرت غاسكل أن تعيدَ كتابة كل ما كُتب عنها وحذف أيَّ اتهامات تجاهها.
بداية التحول إلى أسطورة لفَّها الخطأ من أناس عاينوا آل برونتي واختلطوا بهم وتراسلوا معهم كما هو غاسكل، فكيف بالذين أتوا من بعدهم، وبمرور كل سنة وحقبة يزداد عالم برونتي تشعُّبًا وتوسعا وتختلف الطرائق والمناهج والأساليب في قراءة حيواتهم ورواياتهم وسيرهم والتعامل معها دون أي زيغ. ولأجد من الصعوبة بمكان أن نمضي في هذا السبيل دون أن يخدش ذراعنا خطأ أو ندوس على صواب أو نمرَّ بفكرة غامضة أو نرى تهمةً جائرة أو نلحظ قصة مختلقة مُحلِّقة، ولا ينتهي بنا المطاف إلا وبجَعبتنا من المزيَّف أكثر من الأصيل. لكن السؤال كيف سنعرف هذا، فالرحّالة بين متون الكتب بحاجة إلى الحِذْقِ والدقةِ والتيقُّظ، ليس ثمة إلا الحظ لتخرجَ برؤية صحيحة تمامًا لا يشوبها خطأ.
كل ما نعرفه عن حياة الأخوات برونتي لا بد أن يؤدي بنا إلى حقيقة واحدة فحسب أننا لا نعرفهن إلا من رواياتهن وشعرهن ورسائلهن والناجي من كتاباتهن. إنَّ أدب برونتي هو ما يحكي للقراء عن الأخوات، وما سوى ذلك هو الهامش على المتن. ويعلِّق هنري جيمس عن حياة الأخوات ’لا يزال الإرث الرومانسي لآل برونتي للأجيال اللاحقة مُساعدًا بقوة مستقلِّة عن قدراتهن المستخدمة- بالصورة الشاخصة لحياتهن الكئيبة والفقيرة ووَحدتها، وتاريخها المأساوي. عُلقت هذه الصورة قُبالتنا بإصرارٍ وحيوية كأي صفحة من رواية جين إير أو مرتفعات وذرينغ. وإذا كانت هذه الأمور "قصصا" كما نقول، وقصصًا ذات فائدة زاهية، فإن الوسط الذي انبثقت منه في المقام الأول قصةً في ذاته، وقصة كهذه ستنال بإنصافٍ أحقيَّةَ تقديرنا. إنها تغطي وتدعم مادَّتهن، وأرواحهن، وأساليبهن، وموهبتهن، وذوقهن؛ إنها تجسِّد في الواقع الأحجية الفكرية الأكمل، إنْ لم أبالغ في القول، التي حققها جمهورنا الرائع في سؤال الأدب‘.
*
كل ما كُتب عن برونتي فهو ناقص في تمامه وقاصر في كماله، وليس كتاب أسطورة برونتي لـلوكاستا ميلر بمنأى عن هذا. تكتب في مقدمتها أنَّها ستقتصر على الأختين شارلوت وإيميلي في دراسة صيرورة أسطورة برونتي على حساب آن لأنها كانت في الظل ولم تطلها الدراسات وما كان لها من تأثير وظهور إلا مؤخرًا. فهي وإن كانت مصيبة في اقتصارها على شارلوت وإيميلي في مراحل معيَّنة من تشكُّل الأسطورة فإنَّ آن جزء لا يتجزَّأ منها وما إقصاؤها إلا اسثناء خاطئ ما يزال يقع به الباحثون. فلا يمكن أن تُقصى آن بحجة عدم ذيوع صيتها وإلا ما دَورُ كتب السيرة والنقد والدراسات إن لم تُعطِ للكاتب حقه لا سيما وأنَّه جزءٌ من حلقة أكبر تضمُّه وآخرين هم جزءٌ منه كذلك. كان يُمكن لهذا الكتاب بدراسته المعتبرة ومنهجيته شبه الشاملة أن يكون أكثر تميُّزًا لو سُلط الضوء ولو بفصل وحيد على آن هي الأخرى لا تجاهلها تمامًا كأنها غير موجود مع أن الكاتبة تذكر في إحدى فصولها أن روايتها "نزيلة قصر ويلدفيل" قد أثارت جدلًا اجتماعيًا لأنها تعاملت مع مواضيع لم تتطرق لها شارلوت وإيميلي، وأنها من أوائل الروايات النسوية بموضوعها الجدلي في المجتمع الفيكتوري، ولا نغفل أنَّ شارلوت لم تكُ راضيةً عن موضوع هذه الرواية ووصفت العمل بالغلطة الكاملة ومنعتْ إعادة نشره بعد وفاة أختها. هذه الأسباب وغيرها تجعل من آن برونتي جزءًا من هذه الأسطورة. وفي الوقت الذي نرى حضورًا كبيرًا لبرانويل مع أنه لم يكن روائيًا فإن حياته ومأساته الشخصية كان لها دورها وتأثيرها في أدب الأخوات وتشكُّل الأسطورة بل ودخوله منافسًا، كما ذهب بعضهم، لإيميلي منازعًا إياها على ملكية تأليف رواية مرتفعات وذرينغ. في النهاية فإن النقاط الإيجابية في هذا الكتاب أكثر من سلبياته وتقديمه صيرورة هذه الأسطورة وسيرورتها تستحق الإشادة والثناء.
ارتكز الكتاب في نصفه الأول على شارلوت برونتي ورواياتها ورسائلها في تكوُّن الأسطورة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر إثر وفاتها بفضل سيرة إليزابيث غاسكل. ثم لحقت إيميلي بركب أختها في النصف الثاني من الكتاب في تعزيز هذه الأسطورة على نحوٍ طفيف في نهاية القرن التاسع عشر ثم صعود نجمها في القرن العشرين لا سيما مع تطور علم النفس وفروعه وتطبيقاته والمناهج البحثية والأدوات التي ساعدت الكتَّاب والباحثين في إعادة اكتشاف إيميلي برونتي وروايتها مجددًا. مرَّت هذه الأسطورة بمراحل نتبيَّنها تباعًا.
*
لا بد من صيرورة كل أسطورة من بداية حقيقية بعيدة عن كل التضخيم والمبالغة والتأويل والتوسُّع الذي يطالها لاحقًا، وأسطورة الأخوات برونتي ليست استثناءً. لعبت حياة الأخوات برونتي القصيرة نسبيًا دورًا مهما في تلقِّي قصَّتهن الحياتية، وينطبق هذا تمامًا على نوع الحياة الانعزالية في هاورث، والانغماس في الطبيعة المحيطة بهن لا سيما آن وإيميلي، فالطبيعة لدى إيميلي مصدر رئيس للإلهام والإبداع وهي تكاد تتوحَّد معها كصوفيّ آمن من صميمه بوحدة الوجود وجُذبَ بعيدًا عن عقله، وكذا هي إيميلي بانجذابها إلى الطبيعة لتغيبَ عن نفسها وهي في ذات الوقت تغرف من نبع الطبيعة الأصلي. ثم كان لمأساة حياة آل برونتي من وفاة الأم مبكرًا ثم وفاة الأختين الكبريين ماريا وإليزابيث في صغرهما دورٌ في إضافة صبغة من الحزن والكآبة على قصة الأخوات. ولا تنفرد عما سبقَ طفولةُ الأخوات وتعاملُ باتريك الأب الرواقيّ المتَّسم بالشدة نوعا ما (يُصوَّر بغلظة شديدة أنكرها هو نفسه ابتدأت مع سيرة غاسكل وبقيت لصيقة به حتى لا يُمكن إثباتها أو نفيها) والفاقةُ التي عانت منها الأخوات، وفي خضمِّ كل هذه الأسباب المكوِّنة لتربة آخر ما يتوقَّع فيها الإبداع الأدبي، ورغم كل شيء، بزغت نبتةُ الإبداعِ في هذه التربة العصيبة والشديدة التكوين. جاءت البداية غير مبشرة بخير بفشل ديوان الأخوات المشترك في عام 1846 بيد أنَّ الأخوات كنَّ أذكى من يحبطهن هذا الفشل فاتَّجهن نحو الرواية التي كانت ذات سوق رائج وفي بداية صعودها واستحواذها على مشهد الأدب العالمي لاحقًا. حالف النجاح رواية جين إير في أول الأمر دون أختيها، فوصفتْ بأنها رواية الموسم وانهالت عليها المراجعات ما بين إشادة وذم فوصفها الفريق الآخر بأنها أبذأ الكتب التي طالعناها على الإطلاق.
أثار الاسمُ الذكوري المجهول الهوية والحسُّ الأنثوي بلبلةً في التعامل مع روايات الكتَّاب الثلاث كورير وإيليس وأكتون، انتهت قصة الأخيرين بعد وفاتهما في عامي 1848 و1849 وكشف شارلوت عن هويتهما في عام 1850 في بيان سيرة لمقدمة روايتهما "أغنيس غري" و"مرتفعات وذرينغ"، لكنها حافظت أمام جمهور القراء على اسم كورير. أما في دوائر لندن التي كشفت فيها هويتها بعد عام 1849 فحاولت الفصل بين هُويات شارلوت وكورير وجين إير، والفصل بين شارلوت الإنسانة وشارلوت الكاتبة، وهذا ما أوقعها في مواقف مُحرجة مع ثاكري الذي سعى لمضايقتها بدمجه بين شخصيتها وشخصية جين إير حتى إنه تواقحَ في إحدى المرات حين ادَّعى أن جين إير حاضرة معهم، مع أن شارلوت كانت تقدُّره كثيرًا وأهدت إليه رواية جين إير في طبعتها الثانية ووصفته بأنه مصلح مجتمعنا الأول، وكان هذا قبل أن تتعرف عليه وتلتقي به وجهًا لوجه. بقيت شارلوت في مسعى دائم لأن يحكمَ النقاد عليها بكونها كاتبةً لا امرأة. شهدت سنوات شارلوت الأخيرة نشر روايتي شيرلي وفيليت ثم حلَّت وفاتها في عام 1855.
تمثَّلتْ المرحلة الثانية في أسطورة برونتي مع كتاب إليزابيث غاسكل "سيرة شارلوت برونتي" وهو كتاب له الفضل الأول في تبلور الأسطورة لأسباب عديدة منها أنها جاءت كاشفة لجمهور القراء هوية كورير بيل، الكاتب الذي أثار الجدل كثيرا بروايته الأولى، ولأنها أول سيرة ذاتية طويلة تكتبها امرأة عن امرأة، ومنها ما يخص غاسكل نفسها وأسلوبها في كتابة السيرة الذي أضفت عليها الطابع التخييلي وافتتحتْ الكتاب واصفةً الطريق إلى هاورث ومنزل شارلوت والكنيسة القريبة من البيت والتلال كأنها بداية رواية قوطية منهية الفصل الأول التقديمي بوصف قبور المُتوفينَ من آل برونتي والموجودين داخل الكنيسة. ركَّزت السيرة على مأساة ومعاناة شارلوت برونتي في حياتها فكان للكاتب دافع استعطاف القراء مع شارلوت لذا فالكتاب يكاد يكون سيرة حزن وأنشَّأ صورة "الآنسة برونتي المسكينة" وعززها فحياة الألم والمشَّقة والفاقة والموت التي عاشتها شارلوت برونتي جعلتْ منها، كما ذهبت السيرة في عرضها، صنيعة العذاب، وأن خلف هذه الروايات روحٌ معذَّبة لا سيما رواية شيرلي التي كتبتها شارلوت مقاومةً بالكتابة مشاعر الأسى على فقدان أختيها وأخيها. بيد أن الدور الأكبر لسيرة غاسكل هو في تحويل حياة شارلوت برونتي إلى قصة أدبية ونقلها إلى عالم الأدب. وما عادتْ تُقرأ روايتها بمعزلٍ عن حياتها، فأصبحت السيرة هي الأخرى كأنها رواية من روايات شارلوت، وبدأ التداخل ما بين حياة شارلوت الحقيقية وحياة شارلوت التخييلية والمتخيَّلة، وولجتْ عالم الأدب في من أوسع أبوابه. إن هذا الولوج لعالم الأدب جعل من حياتها الشخصية هي الأخرى مفتوحة على كل التأويلات والإضافات والتفسيرات التي قد لا تكون بالضرورة حقيقية أو حتى صحيحة. لكن أن تصبح حياتها رواية فهذا يعني أنَّ من حق الكاتب أن يضيف عليها والقارئ أن يفسرها حسب هواه. ساهمت هذه النقلة إلى الأدب في زيادة التعاطف مع شارلوت المعانية في حياتها وتحول إلى آيقونة "الملاك المنزلي"، وعلى الرغم من أن علاقة شارلوت ليست جيدة سواء برغبة المكوث في المنزل أو الطبخ أو تدبير شؤونه، على العكس من إيميلي الملازمة للبيت والمهتمة بشؤونه، فقد استحوذت شارلوت على هذه صورة الملاك الساكن في المنزل. وأدَّى تصوير منزل الأخوات الكئيب والموت الذي ما فارقه وموقعه في قرية هاورث المنعزلة بل وحتى تصويره أنه وسط بريّة لا جيران من حوله (وهي معلومة غير صحيحة إذ كانت هاورث قرية طالها التمدد الصناعي في القرن التاسع عشر) في سيرة غاسكل إلى جذب الزوّار والفضولين وحجيج الأدب من داخل إنجلترا وخارجها لا سيما أمريكا.
لم يبدأ ’وباء برونتي‘ بالانتشار حتى العقد الأخير من القرن التاسع عشر. واقتصرت زيارة هاورث في العقود التي تلت نشر غاسكل لسيرة شارلوت على قرَّاء السيرة ومحبي رواياتها وأصبح خلال هذه المرحلة منزل هاورث محجًا، وذكر أحد الحجيج إلى منزل هاورث في عام 1874 ’بأن سجل زائري الكنيسة مدوَّن فيه 3000 اسم في السنوات الخمس عشرة الأخيرة‘. وفي صيف عام 1895 جذبت هاورث 10 آلاف زائر سنويًا. ثم تزايدت الأعداد في القرن العشرين وجاءت النقلة الكبرى بافتتاح المنزل للعامة في عام 1928 حين اشترى المنزل ثري مُحسن محليّ ومنحه لمجتمع برونتي (آل برونتي) ليكون متحفًا ومكتبة وضمَّ مقتنيات وآثار للأخوات برونتي.
تصف إحدى الصحف شارلوت قائلة ’للآنسة أوستين وثاكري معجبون، ولشارلوت برونتي عِبَاد‘.
أما المرحلة الثالثة والمفصلية في أسطورة برونتي التي أشرعتْ الباب على مصراعيه تجاه شارلوت والأخوات عموما فتمثَّلتْ في ظهور رسائل شارلوت برونتي إلى أستاذها قسطنطين هيغر، كانت قد أحبته أثناء دراستها وعملها في بروكسل في سني 1842-1844. أرسلت شارلوت هذه الرسائل الأربعة المتبقية من أصل خمسة ما بين سني 1844-1845، وهي رسائل تجنَّبتْ غاسكل ذكرهن أو حتى التطرق إليهن ولا مشاعر شارلوت تجاه قسطنطين لداعٍ متباينة أن الكشف عن هذه الرسائل، التي اطلعت عليهن حين زارت بروكسل لجمع مواد كتاب السيرة، لا تخدم الهدف الموضوع في كتابها في توريد صورة مثالية لشارلوت، ولأنَّ قسطنطين ما يزال على قيد الحياة وزوجته كذلك، وكذا الحال مع زوجٍ شارلوت، آرثر نيكولاس، إضافة والأهم أن إيراد هذه القصة سيشكِّل فضيحة لو ظهرت في حينها في المجتمع الفيكتوري المتحيِّز تجاه المرأة. احتفظت هذه الفضيحة بجلجلتها عند نشر الرسائل في عام 1913 وكانت هذه الأسرار الفاضحة مأخذًا مناسبًا لمناوئيها لمهاجمتها، وأصبحتْ مادة للدراسة النفسية ظهرت في كتابين مهمين الأول: كتاب ليوناردو دافينشي وذاكرة الطفولة لسيجموند فرويد في عام 1910، وكتاب شخصيات فيكتورية بارزة (Eminent Victorians) في عام 1918 لليتون ستراتشي. غذَّى هذان الكتابان على نحو غير مباشر في استيعاب شارلوت، وهيَّآ الأرضية لبداية نوعٍ جديد من المناهج النفسية في عشرينات القرن الماضي هو: السيرة الذاتية النفسية Psychobiography. انْفسحَ المجال بعد ذلك بنوع جديد من الدراسات النفسية حول شارلوت برونتي وكتبها فوصفتها لوسيل دولي في مقالة سيريّة نفسية طويلة بأنها ’نموذج المرأة العبقرية... لديها مشاعر جنسيّة قويّة ونرى موضوع الجنس يلعب دورًا في رواياتها‘. ورأى آخرون أنها من أوائل رواد التحليل الفكري النفسيّ، وكان لكتَّاب السير نزعةٌ على التعامل معها ’ضحيةً فوضاها العقليّة كما لو أن كتاباتها أعراضٌ مرضيّة فحسب أكثر من كونها أعمالًا فنيّة مرموقة‘. وبدلًا من تُقدَّر لنشاطها الفكري فقد أُقعِدت على إريكة التحليل النفسي بدون فائدة أن يكون المريض الحيّ قادرًا على الإجابة.
تموضعت قصة الأخوات برونتي على حد قول هنري جيمس ما بين الواقع والخيال. وانتقلت بفضل قوة تكرارها الحادة من المستوى التاريخي إلى المستوى الأسطوري. وتحولت إلى الرواية والشعر والمسرحية والتلفاز والسينما في سلسلة من عشرات الأعمال ظهرت على مدى عقود ساهمت كلها في تعزيز هذه الأسطورة وزيادة هوس محبيها بها، حتى ليترآى لبعضهم أنَّ الأخوات برونتي شخصياتٌ خيالية وليست حقيقة مثل تلك التي تظن أن شخصية شيرلوك هولمز حقيقيّة وليست خيالية. هذا التموضع بين الواقعي والخيالي على حد وصف هنري جيمس، مكَّن الأخوات برونتي من حجزٍ مكانٍ في الذاكرة الجمعيّة والشعبيّة للقرّاء وارتسام صورًا هي مزيج من الحقيقي والخيالي والتخييلي والمُتمنَّى والمتوقع والجامح. وهذا في الأخير يُبيّن المدى الكبير الذي وصلتْ إليه أسطورة الأخوات برونتي وحققته في الذاكرة الأدبية والقراءيّة على حد سواء.
*
كانت إيميلي الرافد الثاني لأسطورة برونتي وتجمَّعت فيها العديد من السمات جذبت الأنظار نحوها بعد ذيوع صيت شارلوت كالانطوائية ومحافظتها الدؤوبة على مجهولية كتاباتها وهُويتها الأدبية التي ظهرت في الديوان المشترك أو روايتها الوحيدة "مرتفعات وذرينغ". لم تُكتب سيرة حياتية عن إيميلي إلا بحلول عام 1883 لماري روبنسون إلا إنها كانت كافية لتسليط الضوء بقوَّة على إيميلي في السنوات اللاحقة لا سيما في القرن العشرين حين أُعيد قراءة رواية مرتفعات وذرينغ وتهاطلت عليها الدراسات والقراءات والاستقصاء عن هذه الكاتبة. ووصفتها ماري سينكلير عام 1912 بأنها أيقونة النقاء والروحانية، وبدأت في الربع الأول من القرن العشرين تتحول في بعض الدوائر الأدبية إلى بؤرة عبادة البطل، لكنها عبادة ذاتية فإيميلي آمنت أن القوة تكمن في داخلها، وملكوت السماء بين جوانحها وبدا أنها مقتنعة عبر أشدَّ إحساس وجودي ممكن أنَّ القوة الإلهية ملازمةٌ إياها حقًا. وقالت عنها شارلوت في رسالة إلى ناشرها سميث "تبدو لي منظِّرة أكثر من روائية".
ارتكزت صورة سيرة إيميلي على فرعين الأول القراءات الغامضة لرؤيتها الشعرية جعلت منها مخلوقًا من عالم آخر إذ تغلب على قصائدها النظرة السوداوية ذات الفيضِ الحيوي المتَّسم بالشجاعة والكآبة واليأس المُعلن للصمود وحين يعلو صوت الأمل في قصائدها سرعان ما يخبو تاركًا المجال لرؤية ظلامية تنبع من داخلها وتسيطر على فكرها وكلماتها وتمدَّها بالطاقة لتستمر في الحياة بجرأة وجَلَد منكرةً ضعفها وتعاسة حياتها فثمة دافعٌ خفي يتحفَّز في قصائدها ليفكَّ قيده ويعمَّ جو شعرها فتخلط الأمل واليأس والحياة والموت والسعادة والتعاسة في مزيج شعري ذي غنائية جنائزية هادئة وإحساس كنائسي مستحضر للإيمان. وتتلاعب بالحاضر المتفائل في افتتاح بعض قصائدها لتنقل القارئ بعدها إلى بيئة ظلامية تشاؤمية ما كان بريقُ شمسها ودف مناخها إلا ذكرى سريعة التلاشي من ماضٍ غابر لن يعود لتستحوذ على مشاعر القارئ وتجرُّه معها إلى النهاية. تلعب كلمات كالأمل والخوف والخلود والقبر والموت والأبدية والقيد والوجود والسماوي دورًا مفتاحيًا في قصائدها لتكشف عن فلسفة خاصة بها ومشروع فكريّ أقرب إلى الهوسي في سؤال الوجود والحياة والعبادة في فضاء طبيعيّ مفتوح. فإيميلي ابنة الطبيعة المحضة والوفيّة فهي كما تعلِّق وينفريد جيرن ترى الطبيعة منتهية في ذاتها. وهي الأخرى منتهية في ذاتها متمركزة حول الأنا، لكن ما هي هذه الأنا إنها الهُويات المتعددة أو الهُوية السائلة التي لا يمكن أن نحدد قوامها. وهنا هو العامل الثاني في قراءة إيميلي المستند إلى روايتها "مرتفعات وذرينغ"، وهي رواية في قمَّة الإبداع الأدبي ومنتهى ما يُمكن أن تصل إليه إيميلي وكما تكتب ستيفي دافيس "لقد قالت إيميلي كل ما تريد قوله في هذه الرواية" في بحثها المُفصَّل عن هذه الرواية المتمحور حول دراسة ذات إيميلي ومعتقدها وشخصيات الرواية وسؤال الهوية الذي يتبعثر في أشهر جملة في الرواية على لسان كاثرين إيرنشاو "أنا هيثكليف". أثارت الرواية جدلًا فور صدورها لعنفها وقوتها وصخبها وجرأتها كانت سببا فيما بعد لإنكار أن تكون إيميلي كاتبة هذا النص ونشأة حكاياتٍ خرافية وقصص مختلقة عن كون برانويل هو الكاتب أو ساهم في الكتابة أو أنه باختصار صاحب الفكرة فلا يمكن لامرأة أن تكتب مثل هذه الرواية في حين رأى آخرون ’أن الرواية صنيعة التخييلية الرومانسية المتأثرة بالأدب الألماني والممزوجة بنحوٍ مذهل بالمعرفة المحليّة والقوة الواقعيّة التي نادرًا ما بُزَّتْ في نطاقها الخاص‘. وتعلِّق لوكاستا يُمكن للمعجزة الإلهية فحسب أن تفسِّر كيف لامرأة متملِّصة ترعرعت في قرية غامضة أن تُحقق كل هذا في الأدب. أما المسرحيّ البلجيكي موريس ماترلينك فيعلِّق "نشعر بأن على المرء أن يعيش ثلاثين عامًا تحت القيود الحارقة للقُبلات الملتهبة حتى يتعلم ما تعلمته إيميلي".
ساهمت غاسكل في سيرة شارلوت على منح إيميلي هذه الصورة الغامضة العنيفة والعنيدة حتى أصبحت إيميلي طاغيةً في أسلوب حياتها وبدت كما تصوِّرها شارلوت في آخر حياتها وقُبيل احتضارها كأنها رجلٌ أبويّ صارم يخشى منه أفراد عائلته ولا يقوون على الوقوف بوجهه بل ولا يتجرأون على ذلك لأنها ستنفي ما يقولون وتأنف أن تظهر ضعيفة وتمقت أن يُشفقَ عليها لدرجة إنكارها مرضها المُهلِك ولم تعترف به إلا سويعات قبل وفاتها.
عاشت إيميلي حياة قصيرة لكنها كانت كافية لجعلها شاعرة قويّة وروائية نحتت لنفسها مقعدًا في قرطاس الأدب الإنجليزي والعالمي برواية، هي من الروائع الأدبية التي لا تزال محتفظة ببريقها وقوتها وهذا كما تكتب ستيفي دافيس من عناصر قوتها أنها لا تسمح للقارئ بالخروج بخلاصة محددة ومُقنعة. وكذا حال حياة إيميلي ضبابية ومتملصة من أقلام كتَّاب السيّرة فلا يستطيعون تحديد موقعها ولا تثبيتها في مكانٍ مراوغةً في حركتها وما خلَّفت وراءها من أثر يشي بما يُقرِّ شيئًا أو ينفيه. هكذا كانت إيميلي صامتة وانطوائية لكن الكون يدور بداخلها ولم تهدأ قطُ أمواج بحار فكرها العاصف حتى وفاتها. ولعلها كانت تصف نفسها حين قالت:
لإنْ اختفتْ الأراضي والأقمار
وتلاشت الشموس والأكوان
وخُلِّفتْ وَحدكَ في الوجود
فكونُكَ في داخلكَ موجود
قصة الأخوات برونتي والأسماء المستعارة
فرضت الحياة المنعزلة في قرية هاورث النائية، كما يبدو، على الأخوات برونتي نمطًا حياتيًا سريًا وغامضًا تارة وخاصًا وانطوائيًا في أخرى. وتسرَّبت الحياة المنعزلة إلى الأخوات برونتي خلال سنوات ترعرعهن فحثَّتهن على الكتابة في صباهن بعيدًا عن أنظار حتى أقرب الناس إليهن في المنزل، والدهن وخالتهن إليزابيث.
لفَّت السرية حياة الأخوات الكتابية منذ الانطلاقة الأولى حين كانت شارلوت وبرانويل يكتبان قصص مملكة أنغريا نيابة عن الأربعة، ثم بدأت بعدها إيميلي وآن بشق طريقهن الكتابي بعيدًا عن شارلوت لكنه أيضًا طريقٌ سريٌ. وبعد أن تفرقت السُبل بالأخوات في الحياة وشقَّت كل واحدة منهن طريقها الحياتي المهني أو الكتابي، بقيت السريّة جزءًا لا يتجزأ لا سيما من إيميلي وآن، على العكس من شارلوت التي بدت أكثر انفتاحًا في هذا الجانب وإبانة في سلوكها.
جاءت سنة 1845 بمنطعف مهم في حياة الأخوات برونتي وفي مسار الأدب الإنجليزي حين وقعت شارلوت بالمصادفة على أشعار إيميلي برونتي، ومع أنها كانت تُدرك نظم أختها للشهر فإن ما قرأته لم يكن كما توقَّعت أن أختها بما وصلت إليه من مستوى شعري وفكري على حد سواء. حثَّتها بعد ذلك على نشر شعرها مؤكدةً لها استحقاقية نشره واطلاع العامة عليه فلعله يكون ذا أثر في الشارع الأدبي الإنجليزي. متحمسةً لهذا النقاش الدائر بين شارلوت وإيميلي لم تجد آن بُدًا من أن تُعلن هي الأخرى عن كتابتها غلشعر وأظهرت أشعارها لأختيها وعرضتها على شارلوت، وكانت الأخيرة في خضمِّ هذا الجو الشعري الذي ولَّدته أختاها مضطرة أن تُخرجَ أشعارها وتكتب غيرها. جمعت الأخوات نحو ستين قصيدة وقررن نشره في ديوان مشترك وتوصلن في الأخير إلى اتفاق مع الناشر Aylott and Jones وعلى حسابهن الخاص بكلفة قدرها 31.10 جنيه إسترليني (لم يكن وقتها يعانين عوزًا ماليًا بفضل إرث خالتهن الذي تركته لهن بعد وفاتها دون أخيهن). بزغ سؤال مُلحٌ وجوهري في انطلاقة الأخوات الأدبية وهو بأي اسم سينشرن أشعارهن، استُبعدَ مباشرة الإفصاح عن أسمائهن الحقيقية لأسباب عديدة منها طباع الأخوات المتحفظة لا سيما إيميلي، التي كانت لا ترغب أن تُطلع أختها شارلوت على شِعرها بل وأخفته حتى عن أختها القريبة منها جدًا (وصفت الأختان بأنهما كالتوأم على لسان إيلين نوسي، صديقة شارلوت)، وعدم رغبتهن بمعرفة والدهن بمشروعهن الأدبي الذي سيعارضه لأسباب مادية في المقام الأول ولأنه لا يريد لبناته معاناةً وفشلًا في مجال سبق وفشل به هو الآخر، كما أخفين الأمر عن برانويل حين كان يمرُّ بحالة نفسية سيئة بعد سلسلة طويلة من الفشل المهني والحياتي، هذه أسباب داخل البيت. أما أسباب خارج البيت فلم تروادهن رغبة أن يطلع مجتمع هاورث القروي الصغير على هذا المشروع الأدبي بكل ما يحمل في جَعبته من خفايا، وحتى إن اطلعوا فهم أبعد ما يكونوا وقتها عن الاكتراث. أما السبب الرئيس والمفصلي في عدم الرغبة عن الإفصاح تذكره شارلوت حين كتبت في عام 1850 قائلة:
’كان هذا الخيار الغامض خَلْجَةً من خلجات الضمير باستخدام أسماء مسيحيّة رجوليّة، ولم نرغب بالكشف عن هُوياتنا النسائية لأنه -دون الافتراض في حينها أن يُعامل نمط كتابتنا وتُظنُّ أنها كتابات "نسائية"- انتابنا انطباع مبهم بأنَّ المؤلفات عرْضة ليُعاملن بتحيّز فقد لاحظنا بأنَّ النقاد أحيانا يستعملون في عقابهم سلاحَ الشخصنة، وفي جزائهم إطراءً وهو ليس بالإشادة الصادقة‘.
لم تكن الأخوات برونتي بِدعًا من المؤلفات من قبلهن ولا بعدهن لا سيما في المجتمع الفيكتوري بعاداته المتشددة تجاه المرأة الكاتبة، ومع أنهن لسن أول إنجليزيات من استخدم اسم قلم مستعار (الأولى أفرا بن 1640-1689 حين كتبت قلم أنثى فحسب) فقد كنَّ من بين الأشهر سواء في أوروبا أو إنجلترا على غرار جورج ساند (أورو لوسيل دوبين) وجورج إليوت (ماري آن إيفانس). بيد أن العقبات لم تنتهِ هنا إذ بزغت عقبة أخرى في طريقهن نحو عالم النشر أيَّ أسماء يخترن؟ وقع اختيار الأخوات على ثلاثة أسماء ذكورية مسيحية هي كورير وإيليس وأكتون بيل فقد أوهمن القراء أنهن إخوة. (الحرف الأول من كل اسم هو الحرف الأول من اسم كل منهن، كورير Currer شارلوت Charlotte، إيليس Ellis إيميلي Emily، آكتون Acton آن Anne، وبيل Bell برونتي Bronte.)
تساءل القرَّاء مطولا عن هذه الأسماء ولمَ اختيرت بالتحديد، وبلا شكٍ فما من تأويل مؤكد ومتفق عليه لكن الكاتب الإنجليزي نيك هولاند يعلل اختيار هذه الأسماء في كتابه Anne Bronte At 200 الصادر في عام 2020 فيقول إن اختيار شارلوت لاسم كورير كان امتنانًا للسيدة فرانسيس ماري ريتشاردسون كورير، المحسنة الثرية التي منحت باتريك برونتي مبلغ 50 جنيهًا بعد وفاة زوجته ماريا، وكان قد أنفق كل ماله على علاجها الذي لم يكن له أيَّ فائدة في إنقاذ زوجته، ومن المحتمل أنه سيفلس تمامًا لولا هذه اليد المعينة الكريمة. ولا بد أن أسرة كانت برونتي ممتنة وذاكرة هذه المعونة من السيدة كورير طويلًا مما جعل شارلوت تختار اسمها تكريمًا لها. أما إيميلي فرغم الاختلاف في التأويلات فإن نيك هولاند يرى أنها اختارت اسم إيليس إشارةً إلى أختها إليزابيث التي أحبتها وحفظت حبها في قلبها إلى الأبد. أما آن برونتي فإن اختيار اسم أكتون بيل له تأويلان الأول أنها اختارته على اسم الكاتبة الشهيرة إليزا أكتون التي نُشرت أعمالها في بواكير القرن التاسع عشر، والثاني، وهو ما يميل إليه نيك، فهو على اسم قلعة أكتون في ضواحي بينزانس في كورنوول، مسقط رأس أمها وخالتها إليزابيث، ومن الوارد أنها اختارته بعد أن شكَّل الاسم جزءًا من ذكريات طفولتها وذكَّرها بأصول أمها الكورنيّة.
*
ظهرت أول طبعة من الديوان المشترك في الثامن والعشرين من شهر كانون الثاني/ يناير 1846 إلا إنه لم يحظَ بصيت ولا شهرة ولم يحقق أي مبيعات تُذكر، وجاءت أول مراجعة للديوان المشترك في شهر تموز/ يوليو في ذات السنة واستحوذت قصائد إيليس (إيميلي) على الإشادة فوصفت بأنها "تمنح انطباع الأصالة في مساهمته في هذا الديوان، وهو حسن السبك طريف الروح، وينطلق من قوى واضحة ذات أجنحة قد تصل إلى عُلوٍ لم يُحاول الوصول إليه هنا". وتقول شارلوت عن القصائد في رسالة بعثتها إلى غاسكل مع نسخة من الديوان بعد سنوات من نشره بأن قصائد إيليس جيدة وحيويّة، وقصائد أكتون تمتلك بهجة الحقيقة والوضوح، وأما قصائدها فهي كتابات مراحلها المبكِّرة.
في ظل هذا الفشل التجاري والنقدي للديوان كان لا بد للأخوات برونتي أن يأخذن خطوة أجرأ فقررن كتابة رواية، وهذا ما تمَّ في آخر المطاف بثلاثة روايات منشورة في عام 1847 هي أغنيس غري ومرتفعات وذرينغ وجين إير، وحملت الروايات أسماء أكتون وإيليس وكورير بيل كما في الديوان المشترك. وبعد أن اشتهرت رواية جين إير وذاع صيتها بدأت التكهنات بهُوية كاتب هذا العمل، وإن لم تلقَ روايتا أغنيس ومرتفعات وذرينغ مراجعات كثيرة فإن الحديث عن الهُوية قد طالهما أيضًا، وذكرت بعض المراجعات أنَّ هذه الروايات كُتبت بقلم واحد، وأن أغنيس غري ومرتفعات وذرينغ أعمال أوليّة لكورير بيل.
استمرَّ تحفُّظ الأخوات على مغامرتهن الأدبية وعدم إخبار والدهنَّ تجنُّبًا لزيادة توترتهن، ولم يعلم أيَّ شيء على الرغم من شكوكه من حدوث شيء مريب في بيته، ولم يقطع الشك باليقين حتى جاءت تلك اللحظة حين حثَّت آن وإيميلي شارلوتَ لتخبرَ والدهن عن نشرها رواية "جين إير" بعد النجاح الذي لاقته فذهبت إليه بعد الظهيرة وبيدها نسخة من الرواية فقالت له كما تذكر غاسكل أن شارلوت أخبرتها بهذه الحادثة:
- بابا، لقد ألَّفتُ كتابا.
- حقًا عزيزتي؟
- نعم، وأريدك أن تقرأه.
- أخشى أن يُتعب عينيَّ ذلك كثيرا.
- لكنه ليس مخطوطة بل كتاب مطبوع.
- عزيزتي! ألم تفكري قط بما سيكلَّفه! وسيكون خسارة بلا ريب، فكيف بمقدورك أن تبيعيه؟ لا يوجد من يعرفك.
- لكن بابا، لا أظنه سيخسر، ولا يجب أن تظن أنتَ أيضا إذا سمحتَ لي أن أقرأ لك الآن مراجعةً أو اثنتين، وأن أخبركَ المزيدَ عنه.
ثم قعدت بعدها إلى جانبه تقرأ عليه بعض المراجعات وأعطته نسخة من رواية جين إير التي خصَّتها له وتركته ليقرأها. وحين أتى وقت الشاي قال ’يا بنات أتدرين أن شارلوت قد ألَّفت كتابًا، وفي الغالب أنه كتاب ممتاز؟‘.
بقيت شارلوت قلقة جدًا من يُفتضح سر حقيقة مزاولتها الكتابة وسبب ذلك أنها قطعت عهدًا على أختيها ألا تكشف السر أبدًا، حتى إنها حين وصلتها رسالة من صديقتها إيلين نوسي تتساءل فيه عن شائعة نشرها كتابًا أنكرت عليها هذا بشدة وطلبت منها عدم تصديق شائعات كهذه. وحتى أخيهن برانويل (1817-1848) أبقينه على مبعدة من معرفة أي شيء عن نشرهن لا سيما بعد تدهور حالته في سنوات حياته الأخيرة التي زامنت سنوات نشرهن (1846-1848). تكشف شارلوت هذا في رسالة: ’لم يعلم أخي التعيس قط ما الذي فعلته أخواته في الأدب- لم يعرفْ قطْ أنهن نشرن سطرًا واحدًا؛ لم نستطع إخباره شيئًا عما بذلناه خشيةً أن يسبب له ذلك ندمًا على وقته الذي بدده بلا طائل ومواهبه التي أساء استخدامها. والآن لن يعرف أبدًا. لا يمكنني الإطالة في هذا الموضوع أكثر، لهو موجع جدًا‘.
*
ارتبطَ على نحوٍ أشد في عام 1848 اسم كورير بيل برواية مرتفعات وذرينغ مما اضطر شارلوت كتابة ملاحظة في مقدمة طبعة رواية "جين إير" الثالثة: ’أود أن انتهز الفرصة التي منحتها لي الطبعة الثالثة لرواية جين إير، وأوجِّه كلمة مجددًا لجمهور القرَّاء، لأوضِّح بأنَّ لقب الروائي الذي يُخلع عليَّ مقترن بهذا العمل فحسب. وإذا ما عُزيَت ملكية تأليف روايات أخرى إليَّ، وهذا التشريف جائزة لا أستحقها، لذلك، أنكره تمامًا حيثما كان. عسى أن يخدم هذا التوضيح في تدارك الأخطاء المرتكبة سلفًا ولمنعِ أخرى مستقبلية‘. كورير بيل 13 نيسان 1848.
ثم تفاقم الأمر بصدور رواية آن برونتي الثانية "نزيلة قصر ويلدفيل" المنشورة باسم مؤلفها أكتون بيل عند ناشرها نيوبي. كان هذا صاحب هذه الددار ناشرًا وتارجًا وله حيله التسويقية التي أَدرجها في عالم النشر، ومنها تلك التي طالت آن وشارلوت حين أخبر ناشرًا أمريكيًا -هو هاربر الذي اشترى حقوق رواية "جين إير" لنشرها في أمريكا- أن كاتب رواية "نزيلة قصر ويلدفيل" هو ذاته كاتب رواية "جين إير" لمضاعفة مبيعات رواية "نزيلة قصر ويلدفيل. وكان هذا الناشر الأمريكي صديق ناشر شارلوت، جورج سميث، فأخطرَه بالخبر، فما كان من سميث إلا أن بعث برسالة إلى كورير ليستعلمَ منه الأمر، ووصلت الرسالة في السابع من تموز/ يوليو 1848، لينزل الخبر كالصاعقة على رأس الأخوات، فاضطرت شارلوت وآن أن تذهبا إلى لندن لتوضيح الأمر بنفسيهما، ورفضتْ إيميلي مرافقتهما وكشف هويتها بما أن الأمر لا يطال هُوية اسمها.
سافرت شارلوت وآن في ذات اليوم إلى لندن في رحلة طويلة ووصلتا في صباح السبت وذهبتا إلى عنوان الناشر في شارع كورنهيل 65، وغاب عن ذهن الغرَّتين أن يكون المكتب مقفل في يوم السبت لكن لحسن حظهما كان جورج سميث في مكتبه ويروي جورج سميث هذه الحادثة: كنت في صباح ذلك السبت في مكتبي منشغل ببعض مراسلاتي حين أتى مساعدي مخطرًا إياي بوجود سيدتين يريدان مقابلتي، طلبتُ منه أن يسألهما ما الذي يريدانه، فذهب ثم عاد قائلًا بأن الأمر خاص بيني وبينهن فطلبت منه أن يُستدعيهما. وأنا في خضمِّ المراسلات، ولم يكن في خاطري شيء عن "كورير بيل" و"جين إير" دخلت عليَّ سيدتان بثياب غريبة، ووجه شاحب قلق، تقدمت إحداهما إليّ وضعت على مكتبي رسالتي المعنونة إلى "س. كورير بيل" ولاحظت أن الرسالة كانت مفتوحة وقلت لها ببعض الحدِّة "من أين حصلتي على هذه؟" "من مكتب البريد" كان جوابها، "كانت موجَّهة إليَّ".
استدعى بعدها جورج سميث زميله وليم سميث الذي كان أول من قرأ مخطوطة "جين إير" وأعجب بها مدركًا عبقريتها. وهكذا نشأت علاقة ما بين جورج سميث وشارلوت وجمعتهما مراسلات استمرت طويلا، وزيارات متعددة منها زيارة مكثت فيها شارلوت عنده في البيت مع والدته. واستلهمت منهما شخصيتي السيدة بريتون وابنها الطبيب جون بريتون في رواية فيليت. كُشفت إثر هذه الحادثة هُوية شارلوت في دوائر لندن الأدبية وتعرَّفت خلال السنوات اللاحقة على روائيين وروائيات ونقَّاد لكنها بقيت محافظة على هُويتها أمام جمهور القراء. أماطت شارلوت اللثام عن هوية أختها إيميلي أثناء زيارتها، وحنقت إيميلي بشدَّة حين علمتْ أن شارلوت قد أعلنت عن هويتها الحقيقية، لذا وتفاديًا لغضب أختها طلبت شارلوت من وليم سميث عدم ذكر أختيها في رسائلها مستخدمًا ضمائر الجمع، وألا يشير إلى [إيليس بيل] إلا باسمه المستعار تحت أي ظرف وبغض النظر عن أي سبب. وتقرُّ في رسالة له بأنها ارتكبت موبقةً حين كشفت هوية إيليس.
كتبت آن برونتي بعدها بأيام توضيحًا في مقدمة الطبعة الثانية من رواية "نزيلة قصر ويلدفيل‘ لتبدد هذه الخلط بين أكتون وكورير وإيليس بيل في الثاني والعشرين من تموز/ يوليو 1848: ’أرغب أن يُدرك تمامًا بأن أكتون بيل ليس كورير ولا إيليس بيل، لذا فلا يجب عزوَ عيوب هذا العمل إليهما. وإذا ما كان هذا الاسم حقيقيًا أو خياليًا، وليس في هذا من فائدة تُذكر لمن يَعرفَه بكتبِه فقط. وأراني مجبورٌ بالتفكير قليلًا أيَهمُّ حقًا لو كان الكاتب المعني رجلا أو امرأة، كما صرَّح ناقد أو اثنين بأنهما اكتشفا هويته. وسآخذ هذا العَزو على محمل جيد بأنه اطراءٌ لتصويري العادل لشخصياتي الأنثوية في العمل، ومع أني مجبرٌ على عَزو هذا الاشتباه إلى الشدة المفرطة لرقباء روايتي فلا أعبأ بدحضه، لأني مقتنع إذا كان الكتاب جيدًا بغض النظر عن نوع مؤلفه. كُتبتْ جميع الروايات، أو يجب أن تُكتب، من الرجال والنساء على حد سواء لتُقرأ، وإني لفي حيرة من أمري أن أتصور كيف يسمح رجلٌ لنفسه بكتابة أيَّ شيء قد يكون مُخِجَلًا للمرأة حقًا، أو لماذا يجب أن تُراقب كتابات امرأةٍ حتى تكون لائقة وملائمة للرجل‘.
*
انطوى بعد ذلك فصل هذه التصريحات بوفاة إيميلي وآن تواليا في كانون الأول/ ديسمبر 1848 وأيار/ مايو 1849، وألقت هذه الوفيات بحملها الثقيل على كاهلي شارلوت التي استطاعت عبر الكتابة أن تنقذ نفسها. تكتب في رسالة ’رفعتني مقدرة التخيل عندما كنت أغرق في الأشهر الثلاثة الماضية، وأبقت ممارستها الفعّالة رأسي فوق الماء، ولقد أبهجتني النتيجة الآن لأني شعرت بأنها منحتني القدرة على إبهاج الآخرين. أحمدُ اللهَ على منحي هذه المقدرة، ولهو جزء من مُعتقدي أن أدافع عن هذه الهبة وأبرهن على حيازتها‘. نُشرت رواية شيرلي في السادس والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر 1849. كانت شارلوت لا تزال قلقة كالسابق من أجل المحافظة على الاسم المستعار في هذه الرواية. حتى إنها توهَّمت وجود بعض الخيوط التي تشي بقلم أنثوي في رواية "شيرلي" وذكرت المراجعات الأولى لرواية "جين إير" بعد النشر بأن الكاتب المجهول لا بد أن يكون امرأة، وخيَّب هذا ظنها كثيرًا، فلم يعجبها على وجه الخصوص تدني المعايير التي يُحكم بها على الرواية إذا كُتبت من قلم نسائيّ، واختلاط الأشادة بتلمحيات غزل زائفة لأنوثتها؛ الفعل الذي يُشعرها بالخزي أكثر من اللوم الحاد كما تذكر غاسكل في سيرة شارلوت، وتُكمل، لكن هذا السر الذي رُوعي بحماسٍ اكتُشف في آخر المطاف حين قرأ أحد رجال هاورث الأذكياء، وكان مقيما في ليفربول، روايةَ شيرلي وصُدم بأسماء الأماكن المذكورة فيها وعرف لهجة أهل هاورث التي كُتبت بها بعض حوارات الرواية، وتيقَّن تماما بأن العمل مكتوب من أحد سكّان هاورث ولم يتصوَّر وجود أحد في القرية قادر على كتابة رواية باستثناء الآنسة برونتي. ومزهوَّا باكتشافه كتب عن هذا في عمود مقاليّ في إحد صحف ليفربول. وزحف هذا الاكتشاف إلى لندن الذي حافظت عليه شارلوت حتى خواتيم نهاية سنة 1849 قبل أن يصبح مُشاعا فيها.
ما عاد بإمكان شارلوت الاستمرار بالمحافظة على اسم كورير بيل في معزل عن هُويتها لكنها مع ذلك حاولت جهد إمكانها أن تبقي اسم كورير مجهولَ الهُوية حتى آخر المطاف.
*
بدافعٍ من شعور الواجب تجاه أختيها وروايتيهما كتبت شارلوت "بيان سيرة إيليس وأكتون بيل" في مقدمة روايتي أختيها مرتفعات وذرينغ لإيميلي وأغنيس غري لآن بعد وفاتهما في طبعة خاصة صدرت في عام 1850 من ناشر رواياتها جورج سميث بعد أن أقنعته بإصدارهما. كان لهذه المقدمة التعريفية بالكاتبتين اللتين صدرت أعمالهما باسمي مستعارين أسبابٍ كثيرة منها: أنها أرادت التعريف بأختيها بمعلوماتٍ صحيحة وكشف هُويتهما الحقيقية لجمهور، ولإزالة اللبس حول الأقوال المتضاربة عن كون الإخوة بيل كاتبًا واحدًا، وأرادت وهو الأهم الدفاع عن أختيها مما تعرضَّتا له في مراجعاتِ روايتيهما فقد اتُّهمت رواية إيميلي بالكفر والفسوق والتجديف، ورواية آن برونتي الثانية (نزيلة قصر ويلدفيل) بأنها غير محافظة وخارجة على أعراف المجتمع الفيكتوريّ بموضوعها الذي عرَّى المجتمع والزيجات التي لا انفصام لها وما يرافق بعضها من سوء معاملة الزوج لزوجته واضطرارها لتحمُّله والعنف الزوجي والتهتُّك والخيانة الزوجية والزنى، بيد أن دفاعها عن أختيها كما سنقرأ لم يكن بالدفاع الحقيقيّ بعرضها إيميلي وآن على أنهما فتاتين قرويتين لم يحظيا بقدرٍ كافٍ من التعليم وأنهما عاشتا حياتهما وكتبتا رواياتهما بدافعٍ بديهة ومخزون مشاهدات. أيّ أنهما لم تكونا بالواعيتين لما كتبتا الوعي التام، وجانبت الصواب شارلوت في هذا ولم يكن لبيانها التعريفي هذا أثره الذي رغبت به ولم يُغيِّر النظرة العامة تجاه الروايتين التي استمرَّت مدة ليست بالقصيرة.
وهنا ترجمتي للبيان كاملًا
*
جرى اعتقاد على أن الأعمال المنشورة تحت أسماء كورير، وإيليس، وأكتون بيل، في الحقيقة لكاتبٍ واحد. الخطأ الذي سعيتُ إلى تداركه بكلماتٍ نافية قليلة في مقدمة الطبعة الثالثة من رواية "جين إير". ويبدو أن هذه المحاولة أيضًا باءت بفشل نيل تصديقٍ عامٍ، والآن، في مناسبة إعادة طباعة "مرتفعات وذرينغ" و"أغنيس غري" نُصحتُ لأبيِّن بوضوح كيف انبثقت هذه القضية برمتها في الواقع.
أشعرُ في قرارة نفسي بأنَّ الوقت أزف لتبديد هالة الغموض التي لفَّت هذين الاسمين -إيليس وأكتون-. فقدَ اللغز الصغير، الذي تركَ في السابق بعضَ المتعة البريئة، أهميتَه، وتغيَّرت الظروف الخاصة به. وأصبحَ من واجبي أن أوضِّح بإيجاز أصل وملكية تأليف الروايات المكتوبة من كورير وإيليس وأكتون بيل.
قبل نحو خمس سنوات، التمَّ شملي بأختيَّ بعد مدة انفصال طويلة، واجتمعنا مجددًا في المنزل، الذي كان في ضاحية نائية، حيث لم يُحرزُ التعليمُ تقدُّما يُذكر، ونتيجة لذلك لم يكن أيَّ محفِّز للبحث عن اتصالات مجتمعية خارج دائرتنا المنزلية، واعتمدنا بالكامل على أنفسنا وعلى بعضنا، وعلى الكتب والدراسة من أجل الاستمتاع بالحياة وشغل فراغها. وكمُنَ أسمى واعزٍ، بالإضافة إلى أكثر المُتع حيويةً التي عرفناها منذ طفولتها فصاعدًا، في محاولات تأليف أدبية؛ اعتدنا في السابق على إطلاع بعضنا على ما خطَّته أناملنا، لكن شهدت السنوات اللاحقة انقطاعَ عادة التواصل والمشاورة، وترتَّب على إثر هذا، غفلتنا عن التقدُّم الذي كان يُحرزه كلُّ منا تواليًا.
في أحد أيام خريف 1845 وقعت بالمصادفة على مجلد أشعار أختي إيميلي بخط يدها. وبالطبع لم أكن متفاجئًا وعارفًا بأنها كانت قادرة على نظم الشعر: تفحصته جيدا، وتملكني شيء ما أكثر من الدهشة- إيمان عميق بأن ما كُتب كان أكثر من مجرد إراقة شائعة ولا بشعر يشبه ما تكتبه النساء عموما. رأيته شعرًا مكثَّفًا وموجزًا، وقويًا وحقيقيًا. وكان له وقع في أذني بموسيقى جامحة مميزة، وسوداوية، ورفيعة. لم تكن أختي إيميلي امرأة مُجاهرةً في سماتها، ولا تكشف خبايا عقلها وخفايا قلبها حتى لأعز وأقرب الناس إليها، مُحصِّنةً إياها، وغير مرخِّص التطفل عليها؛ استغرق استرضاؤها مني ساعاتٍ بشأن عثوري على أشعارها، وقضيتُ أياما في إقناعها بأنَّ قصائدها تستحق النشر. علمتُ، على أي حال، أن من يملك مثل عقلها لن يكون بلا شرارة باطنية من طموح استحقاق التشريف، ورفضتْ أن تكون متثبّطة أمام محاولات نفخي على تلك الشرارة لتلتهب. في غضون ذلك عرضت أختي الصغرى قصائد من نظمها طالبةً مني الاطلاع عليها بما أنَّ قصائد إيميلي قد أبهجتني. ولم أتمكن إلا أن أكون جائرًا في حكمي، ومع ذلك ظننتُ بأنَّ في شِعرها، أيضًا، عاطفة حلوة صادقة في ثناياه.
طالما تعلَّقنا بشغف بحلم أن نصبح يومًا مؤلِّفين، ولم يتلاشَ هذا الحلم قط حتى حين باعدت بيننا المسافات وانشغلنا بالمهامٍ المُستغرِقةِ لأوقاتنا، بيد أننا امتلكنا الآن وعلى حين غرَّة القوة والانسجام: وشرعنا في الخطو في الاتجاه الصحيح. اتفقنا على ترتيب ديوان قصائد صغير، وطبعه إذا أمكن ذلك. ولنفورنا من إطلاع العامة على هُوياتنا ارتأينا النشر تحت أسماء كورير، إيليس، آكتون بيل، وكان هذا الخيار الغامض خَلْجَةً من خلجات الضمير باستخدام أسماء مسيحيّة رجوليّة، ولم نرغب بالكشف عن هُوياتنا النسائية -دون الافتراض في حينها أن يُعامل نمط كتابتنا وتُظنُّ أنها كتابات "نسائية"- فقد انتابنا انطباع مبهم بأنَّ المؤلفات عرْضة ليُعاملن بتحيّز فلاحظنا بأنَّ النقَّاد أحيانا يستعملون في عقابهم سلاحَ الشخصنة، وفي جزائهم إطراءً وهو ليس بالإشادة الصادقة.
ما أصعبَ ما كان عليه إصدار كتابنا المشترك الصغير. وكما كان متوقعًا فلم نحظَ نحنُ ولا قصائدنا بالانتباه الذي رغبنا به لكننا كنا على أهبة الاستعداد لهذه الانطلاقة. ومع أننا بلا خبرة شخصيّة فقد قرأنا تجارب الآخرين. كَمُنتْ المعضلة الكبرى في صعوبة نيل أجوبة من أي نوعٍ من الناشرين الذين ناشدناهم. ولشدَّة تضايقي من هذا العائق فقد أقدمتُ على خطوة جريئة بسؤال الناشر تشامبرز وناشر أدنبره، طالبًا النصحَ ولربما قد نسيا تلك الأحداث بيد أنني لم أنسَها فقد استلمت منهما رسالة ذات طابعٍ تجاريّ لكنها بردٍّ مُهذَّب ورقيق اتَّبعنا ما جاء فيها، وفي آخر المطاف شققنا طريقنا.
طُبعَ الكتاب لكنه بالكاد عُرِفَ، وما نالتْ قصائده استحقاق أن تشتهر خلا قصائد إيليس بيل. خامرني اقتناع حازمٍ بأني لا بد أن أحافظ على أملي بصرف النظر عن أن مجموعة كبيرة من هذه القصائد لم تنل في الواقع مقبولية الكثير من المراجعات النقدية المُبشرة بالنجاح.
فشلت البداية البائسة في تحطيمنا، ومنحَتْنا محاولةُ النجاح المحضة حيويّةً رائعة للعيش وهذا ما يجب أن نسعى وراءه. بدأ كل منا بكتابة حكاية نثرية؛ ألَّفت إيليس بيل "مرتفعات وذرينغ" وأكتون بيل "أغنيس غري" وكتبَ كورير بيل أيضًا رواية من مجلد واحد1. عُرضت هذه الحكايات بمثابرةٍ على ناشرين مختلفين في نحو سنة ونصف؛ عادة ما كانت النتيجة رفضًا مخزيًا وقاطعًا.
قُبلتْ في آخر المطاف "مرتفعات وذرينغ" و"أغنيس غري" بشروطٍ مُفقِرةً المؤلفتين بنحوٍ ما؛ لم يجد كتاب كورير بيل المقبولية في أي مكان ولا أي اعتراف باستحقاقه النشر، وبدأ يغزو قلبه شيء مثل ارتجافة يأس. وبأملٍ لا طائل منها، حاولَ مرة أخرى مع الناشر Smith, Elder and Co ومضى وقت طويل، أقصر بكثير من المدة التي تعلَّم أن يحسبها في تجاربه السابقة، قبل وصول رسالة فتحها، بتوقُّعٍ مريع بوجودٍ سطرين قاسيين مُقنطين، لامحًا بأن السيدين سميث وإيلدر "لم يستبعدا نشر الحكاية" وأخرجَ من الظرف رسالةً من صفحتين. قرأها بارتعاشٍ. رفضتْ الرسالة في الحقيقة نشرَ الحكاية لأسباب تجارية، لكنها ناقشتْ جدارة نشرها ولا جدارتها بكياسة كبيرة، وباعتبارٍ محض، وبروحٍ عقلانيةٍ جدًا، وبحصافةٍ متنوِّرة جدًا، أبهجَ هذا الرفضُ اللطيف الكاتبَ أكثر مما قد يفعله قبولٌ ذو تعبيرٍ دارجٍ. أضافتْ الرسالة بأنَّ عملًا من ثلاثة مجلدات سيحظى باهتمامٍ لافت.
بدأت وقتها فحسب إكمالَ "جين إير" التي عملتُ عليها حين كانت الرواية ذات المجلد الواحد تكدحُ في جولتها الشاقة في لندن: أرسلتها في غضون ثلاثة أسابيع؛ تولَّت ذلك يدٌ ودودة وماهرة. كان هذا في مستهل أيلول 1847، ونُشرت الرواية قبل نهاية تشرين الأول التالي، في حين لا تزال روايتا أختيّ "مرتفعات وذرينغ" و"أغنيس غري"، اللتان أرسلتا سلفا إلى المطبعة قبل أشهر، تنتظران بذرائع إدارية مختلفة.
ثم ظهرتا في الأخير. فشل النقَّاد في التعامل معهما بعدلٍ. أبانت "مرتفعات وذرينغ" عن قوى غضَّة بيد أنها حقيقيّة جدًا بالكاد مُيَّزت، وأُسيئ فهمُ فحواها وطبيعتها، وأُخطئ شرحُ هُوية مؤلفتها؛ قيل إنها محاولة أوليّة وفظَّة لذات القلم الذي أنتج "جين إير". خطأ مُجحف ومُحزن! ضحكنا عليه في أول الأمر، بيد أني أنحبُ عليه من صميم قلبي الآن. أخشى من الآن فصاعدًا أن أستثيرَ التحيَّزَ ضدَّ الكتاب. والكاتب الذي بمقدوره أن يحاول التخلص من إنتاجٍ وضيع وغير ناضجٍ تحت غطاء عملٍ واحدٍ ناجحٍ لا بد أن يكون في الواقع متحمسًا بإفراطٍ للمحصلة الثانوية والحقيرة لملكية التأليف، ولا مباليًا على نحو مثير للشفقة للجزاء الذي يستحقه عن حقٍ وحقيق. إذا آمن كتَّاب المراجعات والعامة حقًا بهذا، فلا عجبَ في أنهم نظروا إلى المحتال بتجهُّم. مع ذلك لا يجب أن أُفهم بأني أبيِّن هذه الأمور لتكون عرضة لتوبيخ أو مديح؛ لا أجرؤ على ذلك احترامًا لذكرى أختي التي تمنعي من هذا. ومن جانبها فإن أي توضيحٍ مُتشكٍّ من هذا النوع كان ليعدُّ ضعفًا مُهينًا وخسيسًا.
لهو واجبي كما هو سعادتي أن أقرَّ باستثناء واحد للقاعدة النقدية العامة. عرفَ كاتب واحد، ذو رؤية ألمعية وتعاطف حسن مع العبقرية، الطبيعةَ الحقيقيةَ لـ"مرتفعات وذرينغ" ولاحظَ بدقة منصِفة جمالياتها والتمسَ هنَّاتها. وغالبا ما ذكَّرنا المراجعون كثيرًا بفوضى المنجِّمون، والكلدان، والعرَّافون بعد أن يتجمَّعوا ويتفوَّهوا "بالنُذر الغيبية"، وتعذَّر علينا قراءة الأمارات أو تمييز التأويلات. من حقِّنا أن نبتهج فعلا حين يأتي عرَّافٌ حقيقيٌ في الأخير، رجل بين جوانحه روحٌ بديعة، مَنُ مُنحَ نورًا وحكمةً وإدراكًا؛ يستطيع بدقةٍ قراءة "خلجات وخواطر" العقل الأصلي (بغض النظر عن مدى تفرُّد هذا العقل أو تعلُّمه غير الكافي واطلاعه الجزئي)، ومن يقول بكل ثقة "هذا هو التفسير المعنيّ".
مع ذلك، فإن الكاتب الذي أشير إليه يشاركني الخطأ بشأن ملكية التأليف، ولمن الإجحاف بحقي افتراضُ أن ثمةَ غموضًا في إنكاري السابق لهذا الشرف (شرَّف أُكْبِرُه في نفسي). هل لي أن أوكِّدَ له بأني سأكون عرضة للازدراء في هذه المسألة وفي أي واحدة أخرى تتعلق بالغموض؛ أومن أن اللغة التي مُنحتْ لنا لنبيّن مقاصدنا بوضوح، لا أن نلفُّها بشكٍ خدّاع.
حظيت "نزيلة قصر ويلدفيل" لأكتون بيل، على غرار تلك باستقبال غير مؤاتٍ. ولا يخامرني عجبٌ في هذا. كان اختيار الموضوع غلطة برمته. ولا يمكن تصوُّر أيَّ شيء فيه منسجم مع طبيعة الكاتبة. لقد كانت مُحرِّكات هذا الاختيار نقية لكنها، حسبما أرى، سقيمة قليلا. استُحثَّتْ في حياتها على التأمل والتفكير2، وتحمَّلت مدةً طويلة وعلى نحوٍ مباشر التأثيرات الرهيبة للمواهب التي أسيء استخدامها والإمكانيات التي عُبث بها3؛ كانت بالفطرة مرهفة الحسِّ، ومتحفِّظة، وذات سجيّة محزونة؛ ما شهدته أثرَّ عميقًا في عقليتها وسبَّب لها الأذية. تغذَّتْ على هذا حتى اعتقدت أن من واجبها أن تروي كلَّ تفاصيله (بالطبع بشخصياتٍ متخيّلة وأحداث ومواقف) ليكون إنذارًا للآخرين. كرهَتْ عملها لكنها استمرَّت به. عندما تفكَّرتْ في الموضوع رأتْ في استدلالته إغواءً للانغماس في الذات. لا بد أن تكون صادقة؛ لا يجب أن تكون مُزيِّنة ولا مرقِقة أو مُطمطِمة. جلبتْ عليها هذه النتيجة المعنية تماما سوءَ الفهم، وتحمّلت بعض الإهانات -كما هي عادتها- في تحمُّل أيّ شيء مُهين بصبر راسخ وحليم. لقد كانت صادقة جدًا ومسيحية تقيّة لكنَّ مسحة السوداوية الدينية ألقتْ بظلٍ تعيس على حياتها القصيرة النزيهة.
لم تسمح كلا من إيليس وأكتون لنفسها أن تغرقَ لحظةً واحدة في طلبِ التشجيع؛ قوَّت الهمَّة الأولى، وأيَّد التجلُّد الأخرى. كانت الاثنتان على أهبة الاستعداد للمحاولة مجددًا؛ ولن أجانبَ الصوابَ لو ظننتُ بأنَّ الأملَ وإحساسَ القوَّة كانا مُعْتملين في جوانحهما بثباتٍ.
لكن أزِفَ تغيير مهول: أتى ابتلاء لمن الفظيع توقُّع نمط قدومه ذاك؛ لا أرى شيئًا خلا الأسى عند النظر إلى الوراء. في حرارة النهار الشديدة وعنائه فشلَ العاملان في عمليهما. انتكست حالة أختي إيميلي أولا. لتفاصيل مرضها في ذاكرتي وَسْمٌ غائر وأن يكون لها موضعٍ في فكري أو نثري لهو يفوق قدرتي. لم تكن طوال حياتها قط متريِّثة في أي عمل يقع على عاتقها، ولم تتريث في هذا الحال أيضا. لقد غادرت بسرعة خاطفة. وحثَّتْ الخطى في مغادرتنا. وفي الوقت الذي انمحقتْ جسديًا كانت تقوى عقليًا على نحوٍ لم نعهده منها قط. يومًا تلو آخر حينما رأيتها قُبالة عينيّ تعاني تطلَّعت إليها بكربٍ ممزوجٍ بالعُجب والحب. لم أرَ شيئًا مثيلًا لذلك، في الحقيقة لم أرَ قطَ ما يوازيها في أيّ شيء. أقوى من رجل، أبرأ من طفل، متفرِّدة في ذاتها. وأبشع ما في الأمر أنها في الوقت الذي فاضتْ فيه رحمة على الآخرين لم تُظهر على نفسها أيَّ شفقة، كانت روحها متصلبة حتى جرثومتها، من يديها الراعشتين، وقدميها المتوترين، وعينيها الغائرتين، وكل شيء في صحتها يُنتزع وأن تقف وتشاهد ذلك ولا تتجرأ أن تعترض لهو أمر مُوجع لا تُعبِّر عنه الكلمات. مرَّ بألمٍ شهران قاسيان من الأمل والخوف، ثم حلَّ في آخر المطاف اليوم حين قاسى هذا الكنز أهوال الموت وآلامه، وأضحتْ أعزَّ فأعزَّ على قلوبنا وهي تهزلُ قُبالة أعيننا. في نهاية ذلك اليوم، لم نملك من إيميلي سوى بقاياها الفانية، قد خلَّفها ما استهلكها. وافتها المنية في التاسع عشر من كانون الأول 1848.
ظننا أن هذا كافٍ لكننا كنا مخطئين تماما وبتمادٍ. لم ننتهِ من دفنها حتى تهاوت آن مريضةً. ما كان مرضها الذي يودي بحياتها طوال إسبوعين، قبل أن نفهمَ الإلماحة البيّنة بأن علينا تحضير أنفسنا لرؤية أختي الصغيرة تحلقها بأختها الكبيرة. وهكذا اقتفتْ مسار أختها نفسه لكن بخطًى أبطأ، وبصبرٍ يعادلُ تجلَّد الأخرى.
ذكرتُ آنفا أنها كانت متديِّنة لذا، واستقتْ من انكبابها على التعاليم المسيحية التي آمنت بها برسوخٍ المؤازرةَ في رحلتها العصيبة جدًا. شهدتُ تأثير هذه التعاليم في ساعتها الأخيرة ومحنتها العصيبة، ولا بد أن أدلي بشهادتي على هذا النصر الهادئ الذي جُلبه إليها إيمانها. تُوفيت في الثامن والعشرين من أيار 1849.
ما الذي يسعني أن أقول أكثر عنهما؟ لا يمكنني قول المزيد ولستُ بحاجة لقول الكثير. كانتا في حياتهما الخارجية امرأتين متواريتين عن الأنظار؛ منحتهما حياةُ عزلةٍ مثاليةٌ عاداتٍ وسماتٍ منكفئة. اجتمعَ في سجيّة إيميلي الحيويّةُ المفرطة والسهولةُ. وكمنُت تحت غطاءَ ثقافة غِرَّة ونزعاتٍ غير مصطعنة وسَمْت غير متكلِّف- قوةٌ سريّة ونارٌ بصَّرت الدماغَ وأوقدتْ عروقَ بطلٍ: بيد أنها لم تُحنَّك بحكمةٍ خبيرة، وما شقتْ قواها طريقها في الحياة العملية الفعليّة، وكانت لتفشلَ في أن تدافعَ عن أكثر حقوقها وضوحًا وفي أن تشاورَ في أكثر مزياتها أصالة. لا بد من مؤِّول دائما بينها وبين العالم. لم تتمتع برغبة مرنة جدًا، وعادةً ما وقفتْ بوجه ما تهتمُّ به. كان لها طبع متَّسمٌ برحابة الصدر لكنه حميميّ وغير متوقَّع، وروحها مستقيمة تماما.
أما آن فكانت ذات طبعٍ أكثر دماثة وكبتًا؛ رغبتْ بقوة، ونار، وأصالة أختها، بيد أنَّها موهوبة جدًا بخصال هادئة تميِّزها. تمتَّعتْ بالأناة، والإيثار، والتأمُّل، والنجابة، والتحفُّظ الجسماني، وقلَّة الكلام، ووضعها كل هذا في الظل، وغطَّى عقلها ولا سيما مشاعرها حجابُ راهبة نادرًا ما رفعته.
لم تكن إيميلي ولا آن متعلمة، وليس لديهما أدنى فكرة عن ملء أباريقهما من نبع عقول الآخرين الفوَّار؛ دائما ما كتبتا بدافعٍ الفطرة، وبإملاء البديهة، وبخزَّان مشاهداتٍ مُلءَ بما أتاحته لهما تجربتهما المحدودة. هل لي أن أختصرَ كل هذا بقولي إنهما في نظر الغرباء كانتا نكراتٍ، لكنَّهما في نظر من عرفهما طوال حياتهما وجمعته بهما عَلاقة حميمية قريبة طيبتان حقًا وعظيمتان صدقًا.
كُتب هذا البيان لأني شعرت بأنه واجب مقدَّس أن أزيلَ الغبارَ عن شاهديْ قبريهما، وأخلِّفَ اسميهما الحبيبين نظيفين من التراب.
كورير بيل
19 أيلول 1850
*
بهذا البيان عُرفت هوية إيليس وأكتون الحقيقية وطوي صفحة هذا الفصل إلى الأبد، لكن شارلوت بقيت محافظةً على اسم كورير بيل ولم تكشف عنه قط في حياتها، وكما نلاحظ في بيانها الآنف أنها تكلمت عن نفسها بصيغة المذكر. ونشرت رواياتها الأخيرة فيليت في عام 1853 باسم كورير بيل، وبقي اسم كورير بيل على غلاف رواياتها حتى وفاتها في عام 1855 بعد أشهر قليلة من زواجها.
في آخر المطاف كان لا بُدَّ أن يُكشف عن هُوية كورير بيل الحقيقية لعامة القراء وهذا ما تمَّ لكنه على نحوٍ خارق ومدوٍّ ساهم لا في تعريف العامة على شارلوت برونتي فحسب بل ونقلها إلى مقام القديسة ثم الأسطورة بعدما نشرت إليزابيث غاسكل أول وأشهر سيرة حياتية عن شارلوت والأخوات برونتي، كتاب "حياة شارلوت برونتي" في عام 1857. عرَّفت بهذه السيرة الحقيقة الخفيّة لمؤلفة الروايات الشهيرة "جين إير وشيرلي وفيليت".
الهوامش:
1- تقصد رواية "الأستاذ"، وكانت أول رواية تكتبها ولم تُنشر إلا بعد وفاتها في عام 1857. المترجم
2- تقصد تربية والدها الخوري لهن، وتأثير خالتها إليزابيث الديني ومعتقدها الميثودي المباشر في آن على نحو خاص، لأنها كانت أصغر الأخوات فحظيت برعاية خالتها المطلقة. المترجم
3- تقصد مأساة أخيها برانويل وتدهور حياته بعد علاقته الغرامية السقيمة مع السيدة روبنسون المتزوجة. كانت شارلوت تظن أن شخصية هنتغتون في رواية "قصر ويلدفيل هال" استمدَّت من حياة أخيها برانويل وهذا سبب شجبها العمل ورفض منح حقوق الاستمرار بنشره بعد وفاة آن برونتي. لكن ما غاب عن شارلوت برونتي أنَّ شخصية هنتغتون لم تكن مستمدَّة بأكلمها من برانويل فهي مزيج بين برانويل وما عايشته آن عندما عملت مربية لدى أسرة روبنسون وحياة مجتمع هذه الأسرة الفاسق والمتهتك. المترجم
المراجع:
1- Anne Brontë at 200 by Nick Holland.
2- The life of Charlotte Brontë by Elizabeth Gaskell.
3- Introduction for The tenant of Wildfell Hall by Anne Brontë.
4- The Bronte Myth by Lucasta Miller.
5- Biographical Notice by Currer Bell (Charlotte Brontë).
مذكرات عوليس ١ أكتوبر . عوليس الرواية التي فصلت تاريخ الرواية إلى جزئين ما قبل عوليس وما بعد عوليس كما يصفها م...