العمى- جوزيه ساراماغو.
الرواية الكابوس أو الخوف، حين يكون الإنسان كائنا متمدنا ومتحضرا يأتي ساراماغو بكل بساطة وبروايته يُثبت أن هذا المخلوق المتحضر الذي يعيش في ناطحات السحاب ويستخدم العلوم في تيسير أمور حياته قادر على أن يتحول إلى وحش كاسر، ضاربا كل ما تعلمه وعرفه من أخلاقيات وتطور ومبادئ عرض الحائط.
بعد أن يتفشى المرض الأبيض، وحين يسود الرعب من مصير مجهول لا تُعرف عواقبه، يقوم البشر بالبحث عن طريق يحميهم من الخطر، على مبدأ (الوقاية خير من العلاج)، فيترجم الواقع هذه المقولة (الوقاية أسوأ من العلاج)، حين تتعامل مع مجهول لا تعرف ماهيته، تتخبط، تضيع، تتردى، تتدهور، في حياتك.
كيف يُمكن لحاسة واحدة أن تعري الإنسان، وتجعله يعيش في عالم الأموات هكذا بكل بساطة، دفعتني الرواية في التفكير لتجريب أن أعيش يومًا دون نظر، بدون عينين أميز بهما حمامي من مطبخي، ليلي من نهاري، طعامي الناضج من آخر لم ينضج بعد، لكن الرعب الذي بثته هذه الرواية دفعتني إلى عدم تكرار الحديث مع نفسي، بل بِتُّ خائفا أن أصحى دون أن أرى وأضيع في عالم ضبابي.
لأول مرة تصادفني رواية تبثُ الرعب في ذاتي، الخوف من شيء أملكه لكنّي لم أعره أهميةً عند مراجعة الذات. واستحضارا لكل ما فات، البصر، هل هو مجرد وسيلة للنظر، هذه الرواية تعطيك جوابا آخر، البصر هو السيد الحاكم لباقي حواسك، هو صولجان الدماغ، وعرش الإنسان.
حين يتغير مفهوم الموت لديك، ويرتبط بصلات وثيقة بحقائق أخرى، ويصبح له أنواعٌ أخرى، الأمر لا يتعلق بفقدان البصر، بل بكل وسائلنا الحسية التي نتواصل بها مع العالم الخارجي، السمع النظر اللمس، فقدانها يكون موتًا آخر، لكن للأسف نادرًا ما نتفكر بهذه الموجودات لأنها ملكنا، وإن فقدها غيرنا تبقى أمرا عرضيًا لا يستحق التفاتة بسيطة منا، حين يموت من حولنا موتا جزئيًا، نبقى غافلين عن معنى الموت الحقيقي، وهنا بالضبط، يجب أن نقف ونعرف ما الموت؟ وكيف يموت الإنسان؟ ومتى يموت؟
- إننا ما زلنا قادرين على البكاء، فالدموع هي خلاصنا، في الأغلب، إذ إن هناك أوقاتا إن لم نستطع البكاء فيها، فسوف نموت. (العمى)
ما الذي يدفع الإنسان لينحدر إلى الحيوانية المقيتة التي تقبع في ذاته، ويحرر حيوانه من قيوده، ذاك الحيوان الذي شذبت أظافره الإنسانية، القالب والأسلوب الذي جعله يسلك مسلكا متحضرا تارة وأخلاقيًا تارة أخرى، لكنه لم ينتبه إلى أن تواصله مع العالم هو طوق إنساني آخر يحكم حيوانه بقيود، نظرة ثاقبة لساراماغو جعلته يسبر غور نفسه وغور البشرية في عالمه؛ ليخرج لنا برواية بثوب سينمائي جذّاب -رغم عدم نجاحها في عالم السينما- ودوافع وأهداف إنسانية وأخلاقية، تحمل الكثير من وسائل التوعية بذاتنا، فهو يخاطب القارئ من خلال شخوصه، هذا أنت إن فقدت ما تملك، فحضر نفسك لعالم ما بعد الفقدان قبل أن تلجه.
- إن كنا غير قادرين على العيش ككائنات بشرية، فدعونا على الأقل نفعل ما بوسعنا كي لا نعيش كالحيوانات تماما. (العمى).
في هذه الرواية لا توجد أسماء وكل شخصية تُعرف بصفةٍ أو لقب أو مهنة، وكثيرا ما يتناول موضوع الاسم بطريقة ساخرة مع مصابهم، ما نفع الاسم، وأنا لا أستطيع أن أميز الوجوه، صوتك هو اسمك، وما إلى ذلك من تعليقات ساخرة أحيانا وذات مغزًى أحيانا أخرى، أسماؤنا هي علامات تميزنا، ومن خلالها نستطيع أن نُعطي لكل شخص صفاته وحالاته، فحين نذكر اسما ما، تتسارع إلى أذهاننا صفات وشكل صاحب هذا الاسم، فكيف عرفنا هذه الصفات وميزناها عن غيرها من دون البصر، ولا ريب أن يكون البصر من خلال الأعين والبصيرة من القلب، والكلمتين (بصر، وبصيرة) يشتركان بآلية النظر، مع اختلاف وظائفهما وعملهما، وحين نفقد البصر تفقد أسماؤنا أهميتها وتبقى البصيرة هي وسيلة التعرف على إنسان ولا يمكنك أن تراه، فما يخلد في بصيرتك ومخيلتك هو صوته، وليس شكله، ثم يكون الاسم شريك الصورة بلا أي منفعة، فغايته التمييزية أضحت بلا قيمة.
لم تصادفني رواية جعلتني أشمئزُّ من الوصف للمكان والأفعال أكثر من هذه الرواية، حين تطأ الأقدام غوط الآخرين، وحين يفقدون أدميتهم، وتنهش الكلاب جثث الموتى، حين يموت الآخر ولا يمكنك إنقاذه، حين تُغتصب زوجتك، وترضى بهذا فقط لأجل أن تعيش، حين تُمتهن كرامة الإنسان، سيصيبك القرف وتبرز دوافع القيء وتهاجمك حتى يكاد تجاوز قراءة بعض الأسطر خيارك الوحيد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق